نقوس المهدي
كاتب
التعدد نظام يباح بمقتضاه أن يكون في عصمة الرجل أكثر من زوجة واحدة. وقد أخذ بهذا النظام الكثير من المجتمعات الإنسانية في مختلف العصور. وما يزال مطبقا لذى الكثير منها في عصرنا الحالي. ومن أشهر الشعوب التي أخذت به في العصور القديمة: العبريون والعرب في الجاهلية وشعوب الصقالبة أو السلافيون (روسيا_ ليتوانيا_ ليتونيا_ استونيا_ بولونيا_ تشيكوسلوفاكيا_ يوغوسلافيا). وبعض الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي اليها معظم أهل البلاد المسماة حاليا (ألمانيا_ النمسا_ سويسرا_ بلجيكا_ هولندا_ الدانمارك_ السويد_ النرويج (انجلترا). وما يزال هذا النظام حتى الآن منتشرا عند عدة شعوب لاتدين بالإسلام، كافريقيا والهند والصين. والتعدد ليس مقصورا على الدول التي تدين بالإسلام، ولا علاقة للدين المسيحي بتحريمه. ولم يرد في الإنجيل نص صريح يدل على هذا التحريم، فهو نظام قديم فرضته تقاليد شعوب الرومان واليونان في وثنيتهم الأولى، تلك التقاليد التي تحرم تعدد الزوجات، وسار أهلها بعد اعتناقهم المسيحية على ما وجدوا عليه آباءهم واجدادهم. واستقرت النظم الكنيسية المستحدثة على هذا التحريم، واعتبرته من تعاليم الدين.
يرى علماء الأتنوغرافيا وعلماء الاجتماع أن هذا النظام لم يظهر في صورة واضحة الا عند الشعوب المتقدمة في الحضارة، والتي تجاوزت مرحلة الصيد البدائي الى استئناس الأنعام وتربيتها واستغلالها، والشعوب التي انتقلت الى مرحلة الزراعة، في حين أنه قليل او يكاد يكون منعدم الانتشار عند الشعوب البدائية المتأخرة التي تعيش على الصيد وجمع الثمار التي تجود بها الطبيعة. كما يلاحظ أن الشعوب تربط نظام التعدد بوضع الرجل الاجتماعي، وتعتبره دليلا على قوته وعزته ويسره ورجولته، ويكون له الحق في أن يقترن بأي عدد من النساء، بينما يكون مقيدا عند شعوب أخرى بعدد معين. وحتى داخل مجتمع واحد يجوز لطبقة معينة ما يحظر على الأخرى، فيباح للملوك والأمراء ومن إليهم مثلا أن يتزوجوا بعدد اكبر من العدد الذي يباح الزواج به لغيرهم.
ويختلف وضع الزوجات القانوني داخل الأسرة من مجتمع لاخر، فتعاملن على قدم المساواة في الحقوق والواجبات في هذا المجتمع، ويفرق بينهن في المجتمع الآخر، حيث تكون إحداهن زوجة أصلية اليها ينتسب جميع أولاد الرجل منها ومن ضرائرها، بينما الأخريات يجعلن زوجات من الدرجة الثانية، ولا يلحق بهن أبناءهن.
وفي استراليا كان يجوز لرؤساء العشائر الاستحواذ على عدد كبير من النساء، بعضهن زوجات أصليات، وبعضهن جواري. وشاع التعدد لذى الشعوب البدائية في أوساط افريقيا، حيث يقوم النساء بمعظم أعباء الانتاج ويعتبرن من أجل ذلك ثروة لأزواجهن. وحتى بعد أن سار الصينيون على نظام الزوجة الواحدة، فقد كان يباح لهم شراء فتيات يستمتعون بهن، ويخضعن للزوجة الأصلية الشرعية التي يلحق بها جميع الأولاد، خصوصا عند الطبقات اليسيرة. وكانت الزوجة الأصلية عند العبريين تتنازل أحيانا عن حقها في الاستئثار بفراش زوجها لجارية من جواريها خصوصا في حالة العقم، على أن يلحق بها جميع الأطفال الذين ينتجون عن هذه المعاشرة. أما أمهم الطبيعية فكانت تعتبر أجنبية، ولا تربطها بهم أية رابطة من روابط القرابة، بل تبقى مجرد أداة استخدمت لإنتاجهم. وطبق هذا النظام على سيدنا اسماعيل الذي ولده سيدنا ابراهيم من جاريته هاجر، قبل أن ترزق زوجته سارة بابنها اسحق، وعلى «دان» و «نقتالي» الذين جاء بهما يعقوب من جاريته «بلها». قبل ان ترزق «راشل» زوجته الأصلية بيوسف وبنيامين.
وإذا كانت مسألة تعدد الزوجات في جوهرها لا تعدو أن تكون احدى المسائل الاجتماعية، فقد اعتبرها بعض الفقهاء مسألة ماسة بالخلق، ومنافية تماما لفكرة الحرية والكرامة: «كلما اقترب الانسان من الأقطار التي يباح فيها تعدد الزوجات شعر في نفسه كأنه يبتعد عن القانون الخلقي» بينما رحب بها البعض الاخر واعتبرها «جوستاف لبون» من أسباب توطيد العلاقة، وخلق السعادة، واضافة هالة من الاحترام والوقار على المرأة.
ويلخص الأستاذ «ميو» الأسباب العامة التي أدت الى ظهور التعدد في:-
- أن المناخ الذي تعيش فيه الشعوب العربية يجعل البعض من رجالها بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية، لهم رغبة جنسية جامحة قد لا تشبعهم زوجة واحدة في الحالات العادية، اضافة الى أنه تعتريها حالات تكون اثناءها عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، وتلازمها أياما وشهورا مثل العادة الشهرية، مدة النفاس والولادة، ظروف الحمل والرضاع. والمرأة نتيجة لهذه الوظيفة الطبيعية، تكون معرضة للتعب والإرهاق والشيخوخة أكثر من شقيقها الرجل.
- أن البيت العربي مفتوح على مصراعيه للضيوف، واعتزاز العربي بكرم الضيافة، وسخائه اللامتناهي يجعله في حاجة الى التزوج بأكثر من واحدة، حتى يتم التعاون لتحضير ما يستلزمه الاكرام من كثرة الأطعمة وتنوعها، والاهتمام بشؤون البيت الكثيرة.
- السبب الثالث يكمن في شغف العربي الشديد باستبدال وتغيير ما يكون في ملكه والإكثار منه.
ويقول «مونتسكيو» مؤكدا أن المناخ هو العامل الرئيسي للتعدد: «إن الفتيات يبلغن سن الزواج في الأقطار الحارة وهن لايزلن في الثامن أو التاسع أو العاشر من عمرهن. ومن هنا كانت الطفولة والزواج تسيران جنبا الى جنب، فبتبدو الشيخوخة على النساء في البلاد الحارة، وهن ما زلن في مستهل العمر، وحيث أن القانون لا يرغم الزوج على الطلاق من زوجته الأولى قبل أن يتزوج بغيرها، وحيث أن الشريعة لا تمنعه من التزوج مرة ثانية الا إذا فارق الزوجة السابقة، فقد كان من السهل عليه أن يكثر من الزوجات ويجمع بينهم في داره».
ومهما تضاربت الآراء حول التعدد فهو يبقى نظاما ظارا بالمرأة والأسرة، من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وهو تعاسة لا يقتصر آثارها على الأسرة وحدها، بل يتعداها الى المجتمع الذي سيندمج فيه أعضاء قد تكونوا تكوينا حاقدا على الانسانية كلها، ولم تعط لهم أية أهلية لمواجهة مطالب الحياة وصروفها. ولايستطيع أن يدرك مدى هذه التعاسة والشقاء الا من عاشر وخالط الأسر التي تتعدد فيها الزوجات.
وإذا كانت الفتاة تبلغ سن المراهقة وهي ما تزال في مستهل عمرها، وتعتريها الشيخوخة قبل الرجل فلماذا يميل الشرقي الى جمع عدد من الزوجات في عصمته عوض الا يتزوج الثانية إلا بعد تطليق الأولى، مادام هذا السلاح في يده ووفق رغبته؟ فحالة استبدال زوجة بأخرى أو الجمع بينهما تحمل نفس النتيجة. واذا كانت الحياة صعبة وشاقة في أقطار شمال أوربا كذلك، فلماذا لايعمد رجالها الى الإكثار من الزوجات، ولم يأخذوا بمبدأ التعدد؟!
جاء الإسلام وقد تمركز هذا النظام وتوطدت دعائمه في البلدان العربية، وتغلغل في نفوس أهلها. فلم يعمد الى استئصال هذه العادة التي تمسك بها العرب، بل عمد الى تضييق نطاقها داخل حدود روعيت فيها العدالة والقدرة. عن قيس بن الحارث قال: «اسلمت وعندي ثمان نسوة. فأتيت الرسول (ص) فذكرت له ذلك قال: اختر منهن أربعا».
ولم يجعل الاسلام التعدد واجبا ولا مندوبا، بل هو رخصة أباحها الله عزوجل - مع التحفظ التام - بحيث يجب ان تؤخذ بوضوح وحسم، وتعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها، حتى لايلحق الظلم والجور بالنساء. وربط جل شأنه هذه الرخصة بالعدل: وهو كلمة خفيفة في اللسان ثقيلة في ميزان. فاذا خيف الجور وعدم الوفاء بما يترتب عليها من تبعات حرم على الرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، بل إذا خاف الجور بعجزه عن القيام بحق المرأة الواحدة، يحرم عليه الزواج حتى تتحقق له القدرة عليه.
يقول الله تعالى:
(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة).
والعدل المطالب به الزواج ليس في المحبة القبلية، ولا في الميل النفسي، لأن هذه الأمور لا تخضع لإرادة الانسان، والله هو مقلب القلوب، بل العدل المقصود يتجلى في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والمعاملة والقسمة والنفقة، والعدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه والكلمة الطيبة باللسان. لأن الزوج اذا قصر في هذه الأمور على زوجة لايحبها فمال عنها كل الميل، فانه يتركها كالمعلقة لا هي زوجة تنعم بحقوقها المشروعة، ولا هي مطلقة تنتظر مصيرها، وهذا وضع ظالم لا يقره الإسلام.
فلماذا أباح هذه الرخصة؟!
إن الإسلام نظام واقعي وإيجابي للإنسان، يتوافق مع فطرته وتكوينه، ومع واقعه وضروراته، وملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع، وشتى الأزمات والأحوال. إنه نظام يرعى خلق الإنسان ونظافة المجتمع الإنساني، وانسجام أفراده، فلا يسمح بانشاء واقع مادي من شأنه أن يؤدي الى انحلال الخلق، وتلويث المجتمع تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخى انشاء واقع يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع مع ايسر جهد يبذل.
والرخصة الممنوحة:
* تلبي واقع الفطرة ورغبة الزوج في أداء الوظيفة، مع رغبة الزوجة عنها، لعائق السن أو المرض مع رغبتهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال.
*تحمي المجتمع من الجنوح بانتشار الفساد، والفجور، وشيوع الفسق، وكثرة المواليد من السفاح وازدياد عدد البغايا.
*وتصون رغبة الرجل الجنسية الزائدة حتى لا يلجأ لاشباع هذه الغريزة عن طريق الزنا والتسري.
* تلبي رغبة الانسان الفطرية للنسل متى عجزت الزوجة الأولى نتيجة عقمها دون أن تكون لهما رغبة في هذه المفارقة التي يحكمها عامل هما برئيان منه ولايدلهما فيه، وتفضل أن يتزوج زوجها بثانية عوض أن يطلقها. إضافة الى ان نظام التعدد يؤدي وظائف اجتماعية مهمة في المجتمعات التي يقل فيها عدد الرجال على عدد النساء، والمجتمعات التي تتعرض للحروب التي يذهب ضحيتها العديد من الذكور، فيختل التوازن.
والإسلام لم ينشيء نظام التعدد انما حدده، ولم يامر به انما رخص فيه، ولم يترك الأمر لهوى الرجل بل قيده بقيود جد ضيقة لمواجهة واقعيات الحياة البشرية وضرورات الفطرة الانسانية والا فالرخصة ممنوعة منعا صريحا. يقول الله عزوجل:
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما)
الاية 129 من سورة النساء
وكان رسول الله (ص) يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». وقال كذلك: «من كانت له أمرأتان فمال الى احداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل».
ومعلوم ان السيدة خديجة رضي الله عنها هي أول امرأة تزوجها خير البشرية وعاشرها بالمعروف، ورزق منها الأولاد والبنات، رغم فارق السن بينهما، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، بالرغم من أن العادة جرت في بلاد العرب بأن يتخذ الرجل لنفسه عدة زوجات ضاربا بذلك المثل على أن الزوجة الواحدة هي القاعدة التي يجب ان يسير عليها الإنسان في الحياة العادية وذلك لما يحمله التعدد من مساس بكرامة الأسرة وظلم في حقها.
وما دام جيلنا قد انحرف في استخدام هذه الرخصة التي حولها البعض الى فرصة سانحة لإحالة الحياة الزوجية مسرحا للذة الحيوانية، وذريعة للعودة الى نظام الحريم في صورته الساقطة، وما دام نظام التعدد لم يساعد على القضاء على المفاسد الاجتماعية التي أبيح من أجلها كالزنا والبغاء، بقدر ما ساعد على تكاثرها وانتشارها لدرجة أن الوليد عندنا أصبح يباع بمائة درهم!!! « فقد نشرت جريدة «العلم» في عددها 15344 الصادر 8 غشت 1992 قصة سيدة مغربية لم تتجاوز بعد سن الزهور، التقطت الحمل بطريقة غير شرعية. ووضعت مولودتها بمستشفى ابن طفيل «قسم الولادة» وكان همها الوحيد هو التخلي عن المولود، حتى لا تجلب لها العار، وتعيش على هامش المجتمع، لأنها لقيطة ولا أب يتبناها. وقد مثل أمام المحكمة الابتدائية بمراكش، في مشهد مأساوي، كل من السيدة زهرة أم الوليدة التي لم تسترجع بعد عافيتها بعد عملية الولادة، والسيدة مليكة التي لم تكن تعلم ان رغبتها في تبني مولودة بدون أب ثمنه الاعتقال والمحاكمة ثم السجن، والتي عبرت بصوت مجروح، أنها أرادت بعملها هذا ان تخفف عن طفلة مشردة، لأنه هي بدورها قد ذاقت مرارة التشرد والضياع، لأنها ولدت لقيطة، وعاشت والعار يلاحقها في كل مكان، والممرضة...». فلا بد من العمل على حصر الزواج في زوجة واحدة فقط.
ولايمكن انكار ما آل اليه المجتمع من ضروب المفاسد والمناكر نتيجة الابتعاد عن تعاليم الاسلام السمحة، وعدم تحري الحكمة من رخص الاسلام الممنوحة، وعدم ادراك روحه النظيف الكريم...
فكثيرا ما يقترن الرجل بزوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، من غير سبب ولا مبرر مشروع. ويقدم على استبدال من غير مبالاة ما يضعه الكتاب المقدس من قيود وشروط مادية ومعنوية، استبدال لا يراد به الا التغيير أو التشفي أو الانتقام. فيعتدى على حق الزوجة الأولى المستضعفة التي تكون قد تزوجت على نية التابيد، لتنشىء بيتا وأسرة وبنين وحفده. ويعرضها للاهمال واللامبالاة الكبرى سواء في حالة صحتها أو مرضها وعجزها، ويضار أولاده منها... وقد يفعل بهم مالا يفعله العدو بعدوه، فيحرمهم من الميراث، فتشتعل نار العداوة والبغاء بين الاخوة والاخوات من الضرائر، وتتسرب هذه العداوة الى الأسر، فيشتد الخصام، وتثار الاحقاد والضغائن والدسائس، والغيرة اللامتناهية بجميع أشكالها. وتسعى كل زوجة للانتقام من الأخرى او من الزوج عن طريق اللجوء الى استعمال التمائم والأحراز والرقى، وتكبر هذه المشاكل حتى تصل الى حد القتل أو الأخذ بالثأر.
والزوج اذ يقدم على هذه الخطوة، فأنه لايراعي في الزوجة السابقة ولا في ذريتها، عهدا ولاميثاقا ولا ذمة ولا توصية الهية، فتراها معه في ذلة وهوان وشقاء وتعاسة، هي وأطفالها لأنه يعلم أنه لاتوجد وراء كتاب الله العزيز لا قوة ولاجماعة ولا سلطة تسهر على تطبيق توجيهاته وقوانينه وآدابه ونصوصه التي تحدد الزواج في زوجة واحدة لا غير.
(فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)
-------------------------------------
المصدر : الإسلام والمرأة واقع وآفاق
يرى علماء الأتنوغرافيا وعلماء الاجتماع أن هذا النظام لم يظهر في صورة واضحة الا عند الشعوب المتقدمة في الحضارة، والتي تجاوزت مرحلة الصيد البدائي الى استئناس الأنعام وتربيتها واستغلالها، والشعوب التي انتقلت الى مرحلة الزراعة، في حين أنه قليل او يكاد يكون منعدم الانتشار عند الشعوب البدائية المتأخرة التي تعيش على الصيد وجمع الثمار التي تجود بها الطبيعة. كما يلاحظ أن الشعوب تربط نظام التعدد بوضع الرجل الاجتماعي، وتعتبره دليلا على قوته وعزته ويسره ورجولته، ويكون له الحق في أن يقترن بأي عدد من النساء، بينما يكون مقيدا عند شعوب أخرى بعدد معين. وحتى داخل مجتمع واحد يجوز لطبقة معينة ما يحظر على الأخرى، فيباح للملوك والأمراء ومن إليهم مثلا أن يتزوجوا بعدد اكبر من العدد الذي يباح الزواج به لغيرهم.
ويختلف وضع الزوجات القانوني داخل الأسرة من مجتمع لاخر، فتعاملن على قدم المساواة في الحقوق والواجبات في هذا المجتمع، ويفرق بينهن في المجتمع الآخر، حيث تكون إحداهن زوجة أصلية اليها ينتسب جميع أولاد الرجل منها ومن ضرائرها، بينما الأخريات يجعلن زوجات من الدرجة الثانية، ولا يلحق بهن أبناءهن.
وفي استراليا كان يجوز لرؤساء العشائر الاستحواذ على عدد كبير من النساء، بعضهن زوجات أصليات، وبعضهن جواري. وشاع التعدد لذى الشعوب البدائية في أوساط افريقيا، حيث يقوم النساء بمعظم أعباء الانتاج ويعتبرن من أجل ذلك ثروة لأزواجهن. وحتى بعد أن سار الصينيون على نظام الزوجة الواحدة، فقد كان يباح لهم شراء فتيات يستمتعون بهن، ويخضعن للزوجة الأصلية الشرعية التي يلحق بها جميع الأولاد، خصوصا عند الطبقات اليسيرة. وكانت الزوجة الأصلية عند العبريين تتنازل أحيانا عن حقها في الاستئثار بفراش زوجها لجارية من جواريها خصوصا في حالة العقم، على أن يلحق بها جميع الأطفال الذين ينتجون عن هذه المعاشرة. أما أمهم الطبيعية فكانت تعتبر أجنبية، ولا تربطها بهم أية رابطة من روابط القرابة، بل تبقى مجرد أداة استخدمت لإنتاجهم. وطبق هذا النظام على سيدنا اسماعيل الذي ولده سيدنا ابراهيم من جاريته هاجر، قبل أن ترزق زوجته سارة بابنها اسحق، وعلى «دان» و «نقتالي» الذين جاء بهما يعقوب من جاريته «بلها». قبل ان ترزق «راشل» زوجته الأصلية بيوسف وبنيامين.
وإذا كانت مسألة تعدد الزوجات في جوهرها لا تعدو أن تكون احدى المسائل الاجتماعية، فقد اعتبرها بعض الفقهاء مسألة ماسة بالخلق، ومنافية تماما لفكرة الحرية والكرامة: «كلما اقترب الانسان من الأقطار التي يباح فيها تعدد الزوجات شعر في نفسه كأنه يبتعد عن القانون الخلقي» بينما رحب بها البعض الاخر واعتبرها «جوستاف لبون» من أسباب توطيد العلاقة، وخلق السعادة، واضافة هالة من الاحترام والوقار على المرأة.
ويلخص الأستاذ «ميو» الأسباب العامة التي أدت الى ظهور التعدد في:-
- أن المناخ الذي تعيش فيه الشعوب العربية يجعل البعض من رجالها بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية، لهم رغبة جنسية جامحة قد لا تشبعهم زوجة واحدة في الحالات العادية، اضافة الى أنه تعتريها حالات تكون اثناءها عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، وتلازمها أياما وشهورا مثل العادة الشهرية، مدة النفاس والولادة، ظروف الحمل والرضاع. والمرأة نتيجة لهذه الوظيفة الطبيعية، تكون معرضة للتعب والإرهاق والشيخوخة أكثر من شقيقها الرجل.
- أن البيت العربي مفتوح على مصراعيه للضيوف، واعتزاز العربي بكرم الضيافة، وسخائه اللامتناهي يجعله في حاجة الى التزوج بأكثر من واحدة، حتى يتم التعاون لتحضير ما يستلزمه الاكرام من كثرة الأطعمة وتنوعها، والاهتمام بشؤون البيت الكثيرة.
- السبب الثالث يكمن في شغف العربي الشديد باستبدال وتغيير ما يكون في ملكه والإكثار منه.
ويقول «مونتسكيو» مؤكدا أن المناخ هو العامل الرئيسي للتعدد: «إن الفتيات يبلغن سن الزواج في الأقطار الحارة وهن لايزلن في الثامن أو التاسع أو العاشر من عمرهن. ومن هنا كانت الطفولة والزواج تسيران جنبا الى جنب، فبتبدو الشيخوخة على النساء في البلاد الحارة، وهن ما زلن في مستهل العمر، وحيث أن القانون لا يرغم الزوج على الطلاق من زوجته الأولى قبل أن يتزوج بغيرها، وحيث أن الشريعة لا تمنعه من التزوج مرة ثانية الا إذا فارق الزوجة السابقة، فقد كان من السهل عليه أن يكثر من الزوجات ويجمع بينهم في داره».
ومهما تضاربت الآراء حول التعدد فهو يبقى نظاما ظارا بالمرأة والأسرة، من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وهو تعاسة لا يقتصر آثارها على الأسرة وحدها، بل يتعداها الى المجتمع الذي سيندمج فيه أعضاء قد تكونوا تكوينا حاقدا على الانسانية كلها، ولم تعط لهم أية أهلية لمواجهة مطالب الحياة وصروفها. ولايستطيع أن يدرك مدى هذه التعاسة والشقاء الا من عاشر وخالط الأسر التي تتعدد فيها الزوجات.
وإذا كانت الفتاة تبلغ سن المراهقة وهي ما تزال في مستهل عمرها، وتعتريها الشيخوخة قبل الرجل فلماذا يميل الشرقي الى جمع عدد من الزوجات في عصمته عوض الا يتزوج الثانية إلا بعد تطليق الأولى، مادام هذا السلاح في يده ووفق رغبته؟ فحالة استبدال زوجة بأخرى أو الجمع بينهما تحمل نفس النتيجة. واذا كانت الحياة صعبة وشاقة في أقطار شمال أوربا كذلك، فلماذا لايعمد رجالها الى الإكثار من الزوجات، ولم يأخذوا بمبدأ التعدد؟!
جاء الإسلام وقد تمركز هذا النظام وتوطدت دعائمه في البلدان العربية، وتغلغل في نفوس أهلها. فلم يعمد الى استئصال هذه العادة التي تمسك بها العرب، بل عمد الى تضييق نطاقها داخل حدود روعيت فيها العدالة والقدرة. عن قيس بن الحارث قال: «اسلمت وعندي ثمان نسوة. فأتيت الرسول (ص) فذكرت له ذلك قال: اختر منهن أربعا».
ولم يجعل الاسلام التعدد واجبا ولا مندوبا، بل هو رخصة أباحها الله عزوجل - مع التحفظ التام - بحيث يجب ان تؤخذ بوضوح وحسم، وتعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها، حتى لايلحق الظلم والجور بالنساء. وربط جل شأنه هذه الرخصة بالعدل: وهو كلمة خفيفة في اللسان ثقيلة في ميزان. فاذا خيف الجور وعدم الوفاء بما يترتب عليها من تبعات حرم على الرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، بل إذا خاف الجور بعجزه عن القيام بحق المرأة الواحدة، يحرم عليه الزواج حتى تتحقق له القدرة عليه.
يقول الله تعالى:
(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة).
والعدل المطالب به الزواج ليس في المحبة القبلية، ولا في الميل النفسي، لأن هذه الأمور لا تخضع لإرادة الانسان، والله هو مقلب القلوب، بل العدل المقصود يتجلى في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والمعاملة والقسمة والنفقة، والعدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه والكلمة الطيبة باللسان. لأن الزوج اذا قصر في هذه الأمور على زوجة لايحبها فمال عنها كل الميل، فانه يتركها كالمعلقة لا هي زوجة تنعم بحقوقها المشروعة، ولا هي مطلقة تنتظر مصيرها، وهذا وضع ظالم لا يقره الإسلام.
فلماذا أباح هذه الرخصة؟!
إن الإسلام نظام واقعي وإيجابي للإنسان، يتوافق مع فطرته وتكوينه، ومع واقعه وضروراته، وملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع، وشتى الأزمات والأحوال. إنه نظام يرعى خلق الإنسان ونظافة المجتمع الإنساني، وانسجام أفراده، فلا يسمح بانشاء واقع مادي من شأنه أن يؤدي الى انحلال الخلق، وتلويث المجتمع تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع، بل يتوخى انشاء واقع يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع مع ايسر جهد يبذل.
والرخصة الممنوحة:
* تلبي واقع الفطرة ورغبة الزوج في أداء الوظيفة، مع رغبة الزوجة عنها، لعائق السن أو المرض مع رغبتهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال.
*تحمي المجتمع من الجنوح بانتشار الفساد، والفجور، وشيوع الفسق، وكثرة المواليد من السفاح وازدياد عدد البغايا.
*وتصون رغبة الرجل الجنسية الزائدة حتى لا يلجأ لاشباع هذه الغريزة عن طريق الزنا والتسري.
* تلبي رغبة الانسان الفطرية للنسل متى عجزت الزوجة الأولى نتيجة عقمها دون أن تكون لهما رغبة في هذه المفارقة التي يحكمها عامل هما برئيان منه ولايدلهما فيه، وتفضل أن يتزوج زوجها بثانية عوض أن يطلقها. إضافة الى ان نظام التعدد يؤدي وظائف اجتماعية مهمة في المجتمعات التي يقل فيها عدد الرجال على عدد النساء، والمجتمعات التي تتعرض للحروب التي يذهب ضحيتها العديد من الذكور، فيختل التوازن.
والإسلام لم ينشيء نظام التعدد انما حدده، ولم يامر به انما رخص فيه، ولم يترك الأمر لهوى الرجل بل قيده بقيود جد ضيقة لمواجهة واقعيات الحياة البشرية وضرورات الفطرة الانسانية والا فالرخصة ممنوعة منعا صريحا. يقول الله عزوجل:
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما)
الاية 129 من سورة النساء
وكان رسول الله (ص) يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». وقال كذلك: «من كانت له أمرأتان فمال الى احداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل».
ومعلوم ان السيدة خديجة رضي الله عنها هي أول امرأة تزوجها خير البشرية وعاشرها بالمعروف، ورزق منها الأولاد والبنات، رغم فارق السن بينهما، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، بالرغم من أن العادة جرت في بلاد العرب بأن يتخذ الرجل لنفسه عدة زوجات ضاربا بذلك المثل على أن الزوجة الواحدة هي القاعدة التي يجب ان يسير عليها الإنسان في الحياة العادية وذلك لما يحمله التعدد من مساس بكرامة الأسرة وظلم في حقها.
وما دام جيلنا قد انحرف في استخدام هذه الرخصة التي حولها البعض الى فرصة سانحة لإحالة الحياة الزوجية مسرحا للذة الحيوانية، وذريعة للعودة الى نظام الحريم في صورته الساقطة، وما دام نظام التعدد لم يساعد على القضاء على المفاسد الاجتماعية التي أبيح من أجلها كالزنا والبغاء، بقدر ما ساعد على تكاثرها وانتشارها لدرجة أن الوليد عندنا أصبح يباع بمائة درهم!!! « فقد نشرت جريدة «العلم» في عددها 15344 الصادر 8 غشت 1992 قصة سيدة مغربية لم تتجاوز بعد سن الزهور، التقطت الحمل بطريقة غير شرعية. ووضعت مولودتها بمستشفى ابن طفيل «قسم الولادة» وكان همها الوحيد هو التخلي عن المولود، حتى لا تجلب لها العار، وتعيش على هامش المجتمع، لأنها لقيطة ولا أب يتبناها. وقد مثل أمام المحكمة الابتدائية بمراكش، في مشهد مأساوي، كل من السيدة زهرة أم الوليدة التي لم تسترجع بعد عافيتها بعد عملية الولادة، والسيدة مليكة التي لم تكن تعلم ان رغبتها في تبني مولودة بدون أب ثمنه الاعتقال والمحاكمة ثم السجن، والتي عبرت بصوت مجروح، أنها أرادت بعملها هذا ان تخفف عن طفلة مشردة، لأنه هي بدورها قد ذاقت مرارة التشرد والضياع، لأنها ولدت لقيطة، وعاشت والعار يلاحقها في كل مكان، والممرضة...». فلا بد من العمل على حصر الزواج في زوجة واحدة فقط.
ولايمكن انكار ما آل اليه المجتمع من ضروب المفاسد والمناكر نتيجة الابتعاد عن تعاليم الاسلام السمحة، وعدم تحري الحكمة من رخص الاسلام الممنوحة، وعدم ادراك روحه النظيف الكريم...
فكثيرا ما يقترن الرجل بزوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، من غير سبب ولا مبرر مشروع. ويقدم على استبدال من غير مبالاة ما يضعه الكتاب المقدس من قيود وشروط مادية ومعنوية، استبدال لا يراد به الا التغيير أو التشفي أو الانتقام. فيعتدى على حق الزوجة الأولى المستضعفة التي تكون قد تزوجت على نية التابيد، لتنشىء بيتا وأسرة وبنين وحفده. ويعرضها للاهمال واللامبالاة الكبرى سواء في حالة صحتها أو مرضها وعجزها، ويضار أولاده منها... وقد يفعل بهم مالا يفعله العدو بعدوه، فيحرمهم من الميراث، فتشتعل نار العداوة والبغاء بين الاخوة والاخوات من الضرائر، وتتسرب هذه العداوة الى الأسر، فيشتد الخصام، وتثار الاحقاد والضغائن والدسائس، والغيرة اللامتناهية بجميع أشكالها. وتسعى كل زوجة للانتقام من الأخرى او من الزوج عن طريق اللجوء الى استعمال التمائم والأحراز والرقى، وتكبر هذه المشاكل حتى تصل الى حد القتل أو الأخذ بالثأر.
والزوج اذ يقدم على هذه الخطوة، فأنه لايراعي في الزوجة السابقة ولا في ذريتها، عهدا ولاميثاقا ولا ذمة ولا توصية الهية، فتراها معه في ذلة وهوان وشقاء وتعاسة، هي وأطفالها لأنه يعلم أنه لاتوجد وراء كتاب الله العزيز لا قوة ولاجماعة ولا سلطة تسهر على تطبيق توجيهاته وقوانينه وآدابه ونصوصه التي تحدد الزواج في زوجة واحدة لا غير.
(فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)
-------------------------------------
المصدر : الإسلام والمرأة واقع وآفاق