نقوس المهدي
كاتب
برحيل الطيب صالح في الثامن عشر من فبراير/شباط 2009 خسر العالمان العربي والأفريقي أحد ألمع مثقفي جيل الاستقلال فيهما، كما خسرت الساحتان العالميتان العلمية والثقافية أحد أكثر خادميهما تفانيا وإخلاصا.
بالفعل جاءت حياة الطيب صالح وتأليفه وعمله في حقبة حاسمة اتسمت بتغيرات دولية كبيرة، خاصة على مستوى العالمين العربي والأفريقي اللذين ينتمي إليهما، مما أعطى حياته المهنية والعلمية دلالات خاصة
وما أعمال هذا الرجل الأدبية وحياته المهنية إلا شاهد على تجليات ما عرفته تلك الحقبة من تطورات وتغيرات.
فعند ولادته كان بلده السودان يقبع تحت نير الاستعمار، وعندما بدأ دراسته الجامعية خارج بلاده كان هذا البلد قد تخلص من كل النفوذ الأجنبي تبعا لمنطق تسلسل الأحداث التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي وضعت أوزارها عام 1945 عندما كان الطيب صالح في ربيعه السابع عشر.
لقد ولد الطيب صالح في إقليم النوبة السوداني في الثاني عشر من يوليو/تموز 1928 في مجتمعات سرعان ما يصبح فيها الأطفال بالغين, فكان عليه إذاك أن يختار بين العودة إلى الأرض، بوصفه ينحدر من عالم الريف, أو يقرر أن يصنع لنفسه مصيرا جديدا تتحقق به رغباته، ويستجيب للطموحات التي يريدها لمجتمعه وشعبه.
لقد كان واضحا في تلك الفترة لكثير من الشبان أن النهل من معين الثقافة الحديثة, وإن كان يفتح أمامهم آفاقا جديدة على المستوى الشخصي, يفرض عليهم في الوقت ذاته مسؤوليات تجاه شعوبهم لا يمكنهم, في الغالب, تحديد طبيعتها ولا حجمها.
وبعد إكمال دراسته الابتدائية والإعدادية التحق صالح وعمره آنذاك 17عاما بثانوية وادي سيدنا السودانية, حيث حصل في عام 1948 على شهادة "كامبريدج للثانوية العامة- الدرجة الأولى", ليتابع ما بين العامين 1949 و1951 دراسات علمية بجامعة الخرطوم, ثم بمعهد بخت الرضى التربوي في العام 1951-1952.
ومهد قبوله في هذا المعهد لاختياره ممارسة مهنة التدريس, لكنه سرعان ما هجر تلك المهنة وانتقل إلى إنجلترا حيث تابع دراسات جديدة بين العامي 1956 و1959.
ولا شك أن هذا التغيير يستحق تفسيرا, لكن علينا هنا أن لا ننسى أن هذه الحقبة الهامة من حياة الطيب صالح جرت في سياق جديد كليا, إذ إن المجتمعات, مثل مجتمعي, التي طبعها حتى تلك اللحظة نوع من الجمود الناتج عن عوامل متعددة, أهمها التبعية للخارج, يجتاحها الآن وعي سياسي جديد، وقد بدأت تبحث عن سبل الخروج من الجدب الذي ميز حياة كثير من أفرادها.
أما الشباب فكان أكثرهم يحاولون جاهدين انتشال أنفسهم من براثن الجمود التي تزج بهم فيها أنظمة تربوية موجهة حتى ذلك الحين إلى تكوين يقتصر على المستويات المتدنية.
وعليه أصبحت أنظارهم تتجه نحو الغرب بحثا عن مهارات تخولهم مكانة اجتماعية مرموقة وتمنحهم الوسائل الضرورية للمساهمة بشكل أفضل في تقدم مجتمعاتهم.
فالعالم الغربي الذي طالما مارس نفوذه على بلدانهم, محتكرا لنفسه المعرفة الحديثة والثروة، بهر كثيرا من هؤلاء الشباب بتقدمه وقوته وبمستوى المعيشة العالي بين سكانه.
نعم, لقد غيرت الحرب عقلية الناس, وفتحت آفاقا جديدة للتقارب بين مختلف الشعوب، وأحيت بينهم طموحات جديدة.
فإنشاء نظام هيئة الأمم المتحدة التي ينص ميثاقها على حق الشعوب في تقرير مصيرها والتي تضع ضمن أهدافها تحقيق الرفاهية للإنسانية أثار لديهم آمالا عراضا.
ومن الآن فصاعدا, أصبحت الشعوب, ومن فيها من شباب, تسعى للتخلص من نير الاستعمار ومن كل أنواع التبعية للمستعمر.
فقد شهدت مصر التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسودان ثورة على المملكة عام 1952 وأصبحت بعد ذلك بعامين جمهورية يحكمها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر الذي ألهبت خطاباته العالم العربي، وفي العام 1956 نال السودان استقلاله, والتحق الطيب صالح بجامعة لندن.
وبعد نيله شهادته في العلوم السياسية, كنا نتوقع أن يتجه نحو العمل الدبلوماسي, إلا أن الذي استماله بدلا من ذلك كان الثقافة والتأليف والإعلام, كما لو أن حسه الفطري الدفين لحرية التعبير والكتابة عن ما يعتقده دون قيود هو الذي انتصر في النهاية على كل الاعتبارات الأخرى, خاصة أنه قد نشر آنذاك أول أعماله في العام 1957.
ودشن الطيب صالح في العام 1960 حياته الصحفية والإعلامية عندما تولى تغطية أعمال الجلسة العامة للأمم المتحدة بنيويورك كمراسل لإذاعة بي بي سي البريطانية.
ولا شك أن مقابلته لوفود تنتمي إلى ثقافات شتى، وتعبر بكل حرية عن آراء تتعلق بأكثر القضايا جدلية آنذاك, أثرت تجربته وشحذت فكرته عن ماهية الإعلام, الذي يرى أنه يجب أن يتجلى في نسج علاقة بين المؤلف والقارئ والإعلامي والجمهور سواء عبر الكتابة أو الكلمة أو الصورة.
ومنذ ذلك الحين ظل ميول الطيب صالح لهذا الميدان يتأكد باستمرار, يساعده في التحضير لدوره في ذلك, انفتاحه الفكري ومواهبه الروائية.
ولم يعد إلى بلاده إلا عام 1966 لتولى وظيفة مستشار في الإعلام والإذاعة بوزارة الإعلام السودانية، فينشر في العام ذاته روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي أعلنت بداية ارتفاع صيته.
لكن الطيب صالح ترك تلك الوظيفة بعد سنتين ليعيش منذ ذلك الحين خارج بلاده، وإن ظلت تلك الثقافة الأولى المفعمة بالتقاليد القديمة التي تربط الفرد بمجتمعه الأصلي تقطن وجدانه إلى الأبد، رغم انغماسه في ثقافة مغايرة تماما، كما حدث لعدد كبير من المثقفين الأفارقة الذين تلقوا تكوينهم في الغرب.
وقد تحولت ثنائية الثقافات تلك إلى مصدر خصب للإثراء الفكري بالنسبة لمن استطاعوا على شاكلة الطيب صالح أن يكيفوا أنفسهم مع نماذج معيشية وأنماط فكرية وأحيانا مع مثل مغايرة للمثل المعهودة في وسطهم الأصلي دون أن يؤثر ذلك في شخصياتهم على الإطلاق.
ثم عاد الطيب صالح إلى لندن ليشغل ما بين العامين 1968 و1974 منصب "مساعد رئيسي لمنتج برامج" بهيئة الإذاعة البريطانية, حيث كلف بإعداد النشرات الثقافية وبرمجتها، فكان يرأس فريقا من عشرة إلى خمسة عشر شخصا, ومنذ ذلك الحين كرس حياته كلية للإعلام والاتصالات في إنجلترا ثم قطر ثم باريس فقطر مرة أخرى.
وبالفعل كان الطيب صالح إذا كتب يهدف إلى التواصل, التواصل مع العالم بالطبع, لكن أيضا مع ذويه لكسر جمود العيش بعيدا عن الأهل والإخوان, فأصبحت كل أعماله الفنية تخبئ في طياتها تلك الازدواجية الثقافية، وتلك المسائل التي تطرحها علاقات عالمين أثرا في كيانه وحددا معالم فكره، العالم العربي الإسلامي الأفريقي والغرب.
وعندما غادر بي بي سي عام 1974 كان ذلك لتولي منصب المدير العام لوزارة الإعلام بقطر, وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى 1981، وكان من بين المهام المسندة إليه كذلك شؤون الثقافة والسياحة والآثار القديمة.
وبما أنه كان يضطلع بمسؤوليات إدارة كل خدمات هذا القطاع فإنه كان يتولى تحت إشراف الوزير تخطيط وتحديد إستراتيجيات الإعلام، كما يتولى الإشراف والتنسيق بين كل إدارات التلفزيون والإذاعة والصحافة المكتوبة والثقافة والسياحة فضلا عن الآثار.
وخلال هذه الفترة زاد ثراء تجربته الدولية سواء بمشاركته في المؤتمرات الدولية كممثل لدولة قطر أو كعضو في الوفد القطري إلى جانب وزير الإعلام.
وفي هذه الظروف تعرفت على الطيب صالح الذي انضم إلى اليونسكو في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1981 بصفة مستشار إقليمي للإعلام مختص في شؤون البلدان العربية، وكان مقر عمله في باريس.
وهناك مبررات عدة لاختياره لشغل هذا المنصب, أولها تكوينه ثم تجربته وروابطه الحميمة مع العالم العربي، ناهيك عن معرفته العميقة بالإعلام ومشاكله وأخيرا ما يتحلى به من صفات إنسانية.
فمسيرته الجامعية ونشاطاته المهنية المختلفة خير دليل على انفتاحه الذهني وحسه المهني وقدرته على التكيف مع بيئات مختلفة وظروف معقدة.
ومن المعروف أن عالم الإعلام والاتصالات عالم معقد, وكان هذا التعقيد على أشده وقت انضمام الطيب صالح لليونسكو, إذ إن الدول الآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية كانت في بداية إدراكها للرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمثلها الإعلام والاتصالات التي تسيطر عليها بشكل واسع الدول الصناعية.
وفي إطار الجدل الدائر حول النظام العالمي الجديد الخاص بالإعلام والاتصالات الذي صمم داخل اليونسكو, اكتشفنا من ناحية الأهمية المتزايدة للقطاعات المختلفة للإعلام والاتصالات في تكوين ثروة البلدان الغنية الكبرى, ومن ناحية أخرى في تفاوت انتشار المعلومات عبر العالم.
والواقع أن جل المعلومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذي وسائل إعلام غالبية دول العالم تنشرها في الأساس وكالات أنباء كبيرة توجد مقراتها في دول الشمال.
فاختلال التوازن الكمي وما ينجر عنه ينضاف إليه اختلال كيفي لا يقل خطورة.
نعم لقد ظهر جليا أن المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام المختلفة تعكس في الغالب رؤية ومصالح واهتمامات دول الشمال التي توجد بها هذه الوكالات.
وكانت علامات تطويع المعلومات والتلاعب بها لخدمة مآرب خاصة قد بدأت تصبح جلية، كما لاحظنا تدفق المنتجات الثقافية لدول الشمال باتجاه الجنوب مسببة مخاطر جمة على ثقافات دول العالم الأخرى.
ومن أجل المساهمة في التعاون مع الدول الأعضاء بغية إصلاح هذه الوضعية تم تعيين الطيب صالح مستشارا إقليميا للإعلام والاتصالات مكلفا بالدول العربية.
وقد اضطلع بهذه المسؤولية برزانة وحصافة وبكل الموهبة والفعالية التي عهدناها فيه, وخصوصا عبر مشاركته النشطة في العمل التحضيري، ولاحقا في أعمال مؤتمر الحكومات العربية الأول حول سياسات الإعلام في العالم العربي (آرابكوم) الذي نظمته اليونسكو بالخرطوم في يوليو/تموز 1987.
وتشهد وثائق العمل التي ساهم الطيب صالح بصورة نشطة في صياغتها، والتقرير النهائي الذي صدر عن هذا المؤتمر على أهمية العمل الذي أنجزه الطيب صالح.
فنتائج وتوصيات هذا المؤتمر التي جاءت بعد تشخيص دقيق للوضعية الإعلامية بالعالم العربي ككل سيكون لها تأثير في المراحل اللاحقة على التوجهات السياسية والأعمال المنفذة في هذا الميدان داخل الدول العربية الثماني عشرة التي شاركت في المؤتمر.
والطيب صالح ليس غريبا على تنفيذ هذه السياسات وكذلك كل النشاطات المتعلقة بالتعاون في مجالات التربية والثقافة والعلوم وكذلك الإعلام والاتصالات, وهذا ما برهن عليه عندما عينته في فاتح يوليو/تموز 1987 ممثلا لليونسكو في دول الخليج مقيما بقطر, حيث أثبت أنه الرجل المناسب للمنصب.
لقد كان قبل ذلك في العام 1986 أقنعني بحكمته وتعلقه بالقيم الروحية, المتجذرة في الدول التي يخدم فيها, عندما أدينا معا مناسك الحج بمكة المكرمة عام 1986.
وإذا كانت أعمال الطيب صالح كمؤلف معروفة نسبيا في العالم العربي, فإن عمله باليونسكو والخدمات التي قدمها للدول العربية وللتعاون الثقافي والفكري داخل هذه الدول لا تحظى بنفس المستوى من الشهرة.
وأنا اليوم أنحني أمام روح الفقيد, ولا يسعني في الختام إلا أن أنوه بأخلاقه العالية وتفانيه في الدفاع عن القضايا العادلة وروح الأخوة لديه واحترامه للآخرين وحبه للسلام والعدل.
______________
المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو
بالفعل جاءت حياة الطيب صالح وتأليفه وعمله في حقبة حاسمة اتسمت بتغيرات دولية كبيرة، خاصة على مستوى العالمين العربي والأفريقي اللذين ينتمي إليهما، مما أعطى حياته المهنية والعلمية دلالات خاصة
وما أعمال هذا الرجل الأدبية وحياته المهنية إلا شاهد على تجليات ما عرفته تلك الحقبة من تطورات وتغيرات.
فعند ولادته كان بلده السودان يقبع تحت نير الاستعمار، وعندما بدأ دراسته الجامعية خارج بلاده كان هذا البلد قد تخلص من كل النفوذ الأجنبي تبعا لمنطق تسلسل الأحداث التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي وضعت أوزارها عام 1945 عندما كان الطيب صالح في ربيعه السابع عشر.
لقد ولد الطيب صالح في إقليم النوبة السوداني في الثاني عشر من يوليو/تموز 1928 في مجتمعات سرعان ما يصبح فيها الأطفال بالغين, فكان عليه إذاك أن يختار بين العودة إلى الأرض، بوصفه ينحدر من عالم الريف, أو يقرر أن يصنع لنفسه مصيرا جديدا تتحقق به رغباته، ويستجيب للطموحات التي يريدها لمجتمعه وشعبه.
لقد كان واضحا في تلك الفترة لكثير من الشبان أن النهل من معين الثقافة الحديثة, وإن كان يفتح أمامهم آفاقا جديدة على المستوى الشخصي, يفرض عليهم في الوقت ذاته مسؤوليات تجاه شعوبهم لا يمكنهم, في الغالب, تحديد طبيعتها ولا حجمها.
وبعد إكمال دراسته الابتدائية والإعدادية التحق صالح وعمره آنذاك 17عاما بثانوية وادي سيدنا السودانية, حيث حصل في عام 1948 على شهادة "كامبريدج للثانوية العامة- الدرجة الأولى", ليتابع ما بين العامين 1949 و1951 دراسات علمية بجامعة الخرطوم, ثم بمعهد بخت الرضى التربوي في العام 1951-1952.
ومهد قبوله في هذا المعهد لاختياره ممارسة مهنة التدريس, لكنه سرعان ما هجر تلك المهنة وانتقل إلى إنجلترا حيث تابع دراسات جديدة بين العامي 1956 و1959.
ولا شك أن هذا التغيير يستحق تفسيرا, لكن علينا هنا أن لا ننسى أن هذه الحقبة الهامة من حياة الطيب صالح جرت في سياق جديد كليا, إذ إن المجتمعات, مثل مجتمعي, التي طبعها حتى تلك اللحظة نوع من الجمود الناتج عن عوامل متعددة, أهمها التبعية للخارج, يجتاحها الآن وعي سياسي جديد، وقد بدأت تبحث عن سبل الخروج من الجدب الذي ميز حياة كثير من أفرادها.
أما الشباب فكان أكثرهم يحاولون جاهدين انتشال أنفسهم من براثن الجمود التي تزج بهم فيها أنظمة تربوية موجهة حتى ذلك الحين إلى تكوين يقتصر على المستويات المتدنية.
وعليه أصبحت أنظارهم تتجه نحو الغرب بحثا عن مهارات تخولهم مكانة اجتماعية مرموقة وتمنحهم الوسائل الضرورية للمساهمة بشكل أفضل في تقدم مجتمعاتهم.
فالعالم الغربي الذي طالما مارس نفوذه على بلدانهم, محتكرا لنفسه المعرفة الحديثة والثروة، بهر كثيرا من هؤلاء الشباب بتقدمه وقوته وبمستوى المعيشة العالي بين سكانه.
نعم, لقد غيرت الحرب عقلية الناس, وفتحت آفاقا جديدة للتقارب بين مختلف الشعوب، وأحيت بينهم طموحات جديدة.
فإنشاء نظام هيئة الأمم المتحدة التي ينص ميثاقها على حق الشعوب في تقرير مصيرها والتي تضع ضمن أهدافها تحقيق الرفاهية للإنسانية أثار لديهم آمالا عراضا.
ومن الآن فصاعدا, أصبحت الشعوب, ومن فيها من شباب, تسعى للتخلص من نير الاستعمار ومن كل أنواع التبعية للمستعمر.
فقد شهدت مصر التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسودان ثورة على المملكة عام 1952 وأصبحت بعد ذلك بعامين جمهورية يحكمها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر الذي ألهبت خطاباته العالم العربي، وفي العام 1956 نال السودان استقلاله, والتحق الطيب صالح بجامعة لندن.
وبعد نيله شهادته في العلوم السياسية, كنا نتوقع أن يتجه نحو العمل الدبلوماسي, إلا أن الذي استماله بدلا من ذلك كان الثقافة والتأليف والإعلام, كما لو أن حسه الفطري الدفين لحرية التعبير والكتابة عن ما يعتقده دون قيود هو الذي انتصر في النهاية على كل الاعتبارات الأخرى, خاصة أنه قد نشر آنذاك أول أعماله في العام 1957.
ودشن الطيب صالح في العام 1960 حياته الصحفية والإعلامية عندما تولى تغطية أعمال الجلسة العامة للأمم المتحدة بنيويورك كمراسل لإذاعة بي بي سي البريطانية.
ولا شك أن مقابلته لوفود تنتمي إلى ثقافات شتى، وتعبر بكل حرية عن آراء تتعلق بأكثر القضايا جدلية آنذاك, أثرت تجربته وشحذت فكرته عن ماهية الإعلام, الذي يرى أنه يجب أن يتجلى في نسج علاقة بين المؤلف والقارئ والإعلامي والجمهور سواء عبر الكتابة أو الكلمة أو الصورة.
ومنذ ذلك الحين ظل ميول الطيب صالح لهذا الميدان يتأكد باستمرار, يساعده في التحضير لدوره في ذلك, انفتاحه الفكري ومواهبه الروائية.
ولم يعد إلى بلاده إلا عام 1966 لتولى وظيفة مستشار في الإعلام والإذاعة بوزارة الإعلام السودانية، فينشر في العام ذاته روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي أعلنت بداية ارتفاع صيته.
لكن الطيب صالح ترك تلك الوظيفة بعد سنتين ليعيش منذ ذلك الحين خارج بلاده، وإن ظلت تلك الثقافة الأولى المفعمة بالتقاليد القديمة التي تربط الفرد بمجتمعه الأصلي تقطن وجدانه إلى الأبد، رغم انغماسه في ثقافة مغايرة تماما، كما حدث لعدد كبير من المثقفين الأفارقة الذين تلقوا تكوينهم في الغرب.
وقد تحولت ثنائية الثقافات تلك إلى مصدر خصب للإثراء الفكري بالنسبة لمن استطاعوا على شاكلة الطيب صالح أن يكيفوا أنفسهم مع نماذج معيشية وأنماط فكرية وأحيانا مع مثل مغايرة للمثل المعهودة في وسطهم الأصلي دون أن يؤثر ذلك في شخصياتهم على الإطلاق.
ثم عاد الطيب صالح إلى لندن ليشغل ما بين العامين 1968 و1974 منصب "مساعد رئيسي لمنتج برامج" بهيئة الإذاعة البريطانية, حيث كلف بإعداد النشرات الثقافية وبرمجتها، فكان يرأس فريقا من عشرة إلى خمسة عشر شخصا, ومنذ ذلك الحين كرس حياته كلية للإعلام والاتصالات في إنجلترا ثم قطر ثم باريس فقطر مرة أخرى.
وبالفعل كان الطيب صالح إذا كتب يهدف إلى التواصل, التواصل مع العالم بالطبع, لكن أيضا مع ذويه لكسر جمود العيش بعيدا عن الأهل والإخوان, فأصبحت كل أعماله الفنية تخبئ في طياتها تلك الازدواجية الثقافية، وتلك المسائل التي تطرحها علاقات عالمين أثرا في كيانه وحددا معالم فكره، العالم العربي الإسلامي الأفريقي والغرب.
وعندما غادر بي بي سي عام 1974 كان ذلك لتولي منصب المدير العام لوزارة الإعلام بقطر, وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى 1981، وكان من بين المهام المسندة إليه كذلك شؤون الثقافة والسياحة والآثار القديمة.
وبما أنه كان يضطلع بمسؤوليات إدارة كل خدمات هذا القطاع فإنه كان يتولى تحت إشراف الوزير تخطيط وتحديد إستراتيجيات الإعلام، كما يتولى الإشراف والتنسيق بين كل إدارات التلفزيون والإذاعة والصحافة المكتوبة والثقافة والسياحة فضلا عن الآثار.
وخلال هذه الفترة زاد ثراء تجربته الدولية سواء بمشاركته في المؤتمرات الدولية كممثل لدولة قطر أو كعضو في الوفد القطري إلى جانب وزير الإعلام.
وفي هذه الظروف تعرفت على الطيب صالح الذي انضم إلى اليونسكو في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1981 بصفة مستشار إقليمي للإعلام مختص في شؤون البلدان العربية، وكان مقر عمله في باريس.
وهناك مبررات عدة لاختياره لشغل هذا المنصب, أولها تكوينه ثم تجربته وروابطه الحميمة مع العالم العربي، ناهيك عن معرفته العميقة بالإعلام ومشاكله وأخيرا ما يتحلى به من صفات إنسانية.
فمسيرته الجامعية ونشاطاته المهنية المختلفة خير دليل على انفتاحه الذهني وحسه المهني وقدرته على التكيف مع بيئات مختلفة وظروف معقدة.
ومن المعروف أن عالم الإعلام والاتصالات عالم معقد, وكان هذا التعقيد على أشده وقت انضمام الطيب صالح لليونسكو, إذ إن الدول الآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية كانت في بداية إدراكها للرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمثلها الإعلام والاتصالات التي تسيطر عليها بشكل واسع الدول الصناعية.
وفي إطار الجدل الدائر حول النظام العالمي الجديد الخاص بالإعلام والاتصالات الذي صمم داخل اليونسكو, اكتشفنا من ناحية الأهمية المتزايدة للقطاعات المختلفة للإعلام والاتصالات في تكوين ثروة البلدان الغنية الكبرى, ومن ناحية أخرى في تفاوت انتشار المعلومات عبر العالم.
والواقع أن جل المعلومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذي وسائل إعلام غالبية دول العالم تنشرها في الأساس وكالات أنباء كبيرة توجد مقراتها في دول الشمال.
فاختلال التوازن الكمي وما ينجر عنه ينضاف إليه اختلال كيفي لا يقل خطورة.
نعم لقد ظهر جليا أن المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام المختلفة تعكس في الغالب رؤية ومصالح واهتمامات دول الشمال التي توجد بها هذه الوكالات.
وكانت علامات تطويع المعلومات والتلاعب بها لخدمة مآرب خاصة قد بدأت تصبح جلية، كما لاحظنا تدفق المنتجات الثقافية لدول الشمال باتجاه الجنوب مسببة مخاطر جمة على ثقافات دول العالم الأخرى.
ومن أجل المساهمة في التعاون مع الدول الأعضاء بغية إصلاح هذه الوضعية تم تعيين الطيب صالح مستشارا إقليميا للإعلام والاتصالات مكلفا بالدول العربية.
وقد اضطلع بهذه المسؤولية برزانة وحصافة وبكل الموهبة والفعالية التي عهدناها فيه, وخصوصا عبر مشاركته النشطة في العمل التحضيري، ولاحقا في أعمال مؤتمر الحكومات العربية الأول حول سياسات الإعلام في العالم العربي (آرابكوم) الذي نظمته اليونسكو بالخرطوم في يوليو/تموز 1987.
وتشهد وثائق العمل التي ساهم الطيب صالح بصورة نشطة في صياغتها، والتقرير النهائي الذي صدر عن هذا المؤتمر على أهمية العمل الذي أنجزه الطيب صالح.
فنتائج وتوصيات هذا المؤتمر التي جاءت بعد تشخيص دقيق للوضعية الإعلامية بالعالم العربي ككل سيكون لها تأثير في المراحل اللاحقة على التوجهات السياسية والأعمال المنفذة في هذا الميدان داخل الدول العربية الثماني عشرة التي شاركت في المؤتمر.
والطيب صالح ليس غريبا على تنفيذ هذه السياسات وكذلك كل النشاطات المتعلقة بالتعاون في مجالات التربية والثقافة والعلوم وكذلك الإعلام والاتصالات, وهذا ما برهن عليه عندما عينته في فاتح يوليو/تموز 1987 ممثلا لليونسكو في دول الخليج مقيما بقطر, حيث أثبت أنه الرجل المناسب للمنصب.
لقد كان قبل ذلك في العام 1986 أقنعني بحكمته وتعلقه بالقيم الروحية, المتجذرة في الدول التي يخدم فيها, عندما أدينا معا مناسك الحج بمكة المكرمة عام 1986.
وإذا كانت أعمال الطيب صالح كمؤلف معروفة نسبيا في العالم العربي, فإن عمله باليونسكو والخدمات التي قدمها للدول العربية وللتعاون الثقافي والفكري داخل هذه الدول لا تحظى بنفس المستوى من الشهرة.
وأنا اليوم أنحني أمام روح الفقيد, ولا يسعني في الختام إلا أن أنوه بأخلاقه العالية وتفانيه في الدفاع عن القضايا العادلة وروح الأخوة لديه واحترامه للآخرين وحبه للسلام والعدل.
______________
المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو