نقوس المهدي
كاتب
يتغيى هذا المقال معالجة سؤال مهم يتعلق بكينونة الأدب المغربي فيما قبل عهد الأدارسة، ويرتبط هذا السؤال بحظ الفتوح لبلاد المغرب الأقصى في مجال الأدب الإسلامي بعامة وفن النثر المغربي على وجه الخصوص، من حيث مواكبة الأحداث والانفعال بها.
قد تصعب الإجابة عن السؤال الذي يتسع مداه كلما تقدم الدارس في قراءة مصادره. والواقع إن المبادرة بأي إجابة عن كينونة الأدب الجهادي بالمغرب وحجم حضوره في هذه الفترة –سواء بالنفي أو بالإيجاب- ستظل فاقدة لعنصر الحقيقة التي تعتمد في مثل هذا السياق على تقصي كل المصادر المتعلقة بالموضوع، وهو أمرلا أدعيه وذلك بحكم أن هذه المصادر ليست من المظان التي يسهل الوصول إليها، غير أنه إذا كان لي من حكم أسوقه هنا، فإنه حكم مستوحى من المادة المصدرية([2]) المتوافرة لدي، حيث وجدت عددا من رسائل الخلفاء الراشدين، وأمراء المسلمين، وولاتهم، وقادة جيوشهم حول معارك الفتوح([3]) بالمشرق (فارس والشام والعراق)، ولكنني في المقابل لم أعثر على شيء ذي بال يخص تجليات فتح المغرب الأدبية، إذ لم يقع بين يدي سوى نصوص قليلة تجنح إلى الشعر أكثر من النثر. وقد تساءلت عن الأسباب المعللة لهذا الضمور المفترض لأدب الفتح ورسائله بالمغرب لأول عهده بالإسلام فوجدتها تتصل بتأخر ظهور الأدب العربي بالمغرب بصفة عامة. ويمكننا إجمال هذه الأسباب في النقط الآتية:[4]
-بعد المسافة بين المشرق والمغرب:
إن مسوغ هذا البعد في نظري هو اتساع رقعة الفتوحات وطول المسافة، مما يجعل الإحاطة بكافة ما كتب حول هذه الفترة أمرا متعذرا بالنسبة للمعنيين بتاريخ الفتوح الإسلامية.
- تأخر المراسلات أو فقدانها:
كانت مراسلات قادة الفتح لأمرائهم وخلفائهم تعتمد مسلكا غير مباشر، حيث تتم على يد الولاة مما يؤدي إلى تأخيرها أو ضياعها أو امتناع الوالي عن إرسالها، وقد ساهم ذلك في ضمور رسائل الفتوح بالمغرب.
-تأخر عملية الفتوح بالمغرب:
من المعلوم أن فتح المغرب وإفريقيا عموما قد تأخر بالمقارنة مع الأصقاع الإسلامية الأخرى إلى ما بعد منتصف المائة الأولى للهجرة، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها –حسب ما يرويه المؤرخون- هو تهيب بعض الخلفاء من فتح هذه الجهات الإفريقية، وقد أفادتنا بعض المصادر([5]) بأن "عمرو بن العاص" أراد فتح إفريقيا، فاستأذن عمر بن الخطاب بذلك، ولكن هذا رفض، وكتب إليه يقول : "لا. إنها ليست بإفريقيا ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت"([6]).
-الصراع حول الخلافة والحكم بالمشرق:
تعد الفتن والحروب التي جرت بين أبناء الأمة الإسلامية منذ عهد عثمان بن عفان حتى عهد الأمويين حول المؤهل لقيادة الأمة، من أسباب التأخير أيضا التي أثرت سلبا على العناية بهذا الفتح وبالأدب المتصل به.
-استقرار الفاتحين بالمغرب:
كان لاستقرار عدد من الفاتحين بالمغرب وعدم عودتهم إلى المشرق الأثر الواضح في قلة المعلومات التي تخص الفتح وشؤونه.
- ضعف التكوين الأدبي لجنود الفتح:
ذهب الدكتور عباس الجراري إلى أن جل الجيوش المشاركة في فتح المغرب "مكونة من عرب الجنوب ومن أهل اليمن خاصة، ومعروف أن حظهم من الشعر قليل وربما لا يذكر"([7]).
وقريب من هذا الرأي ما ذكره آنخل بالنثيا في تعليله لسبب غياب الآثار الفكرية والأدبية بالأندلس في عهد الفتح الإسلامي، حيث عزاه إلى أن الفاتحين جميعا –كانوا من المحاربين- واعتـبر هذا دليلا كافيا وحده لتعليل انصرافهم عن الأدب وشؤون الفكر"([8]) . وبالقياس نقول: إذا كان حظ هؤلاء الجنود من الشعر على هذه الصورة، فكيف سيكون حظهم من النثر؟ !
-أولوية الانشغال بالفتح:
لقد انشغل الفاتحون في أول الأمر بالجهاد لفتح المغرب وتسكين فتنه قبل انشغالهم بأي شيء آخر، حيث إن غزواتهم وحروبهم كانت محط عناية المؤرخين في المقام الأول.
-إشكالية المادة المصدرية للأدب المغربي:
ربما ماتزال بعض الآثار الأدبية المغربية محجوبة عنا من مخطوطات أو نصوص غميسة لم تصل إليها أيدي الباحثين.
- نظرة المشرق إلى أدب المغرب:
يخيل إلى أن نظرة المشرق إلى المغرب جعلتهم يقللون –ربما- من مكانة هذا الأدب وشأنه وقيمة ما يعكسه من فتوح، ولذلك لم يبذلوا جهدا في العناية به.
ومهما يكن من أمر، فإني أجد في هذه الأسباب مجتمعة ما يدعوني إلى تفسير قضية ضمور أدب الفتح وما تعرض له من تأخير وإهمال أو تبخيس مفترض من حقه. غير أني –في الوقت ذاته- أميل إلى الاعتقاد بكينونة هذا الأدب رغم ضموره ؛ لأنه من غير المستساغ أن لا يكون في نشاط هؤلاء المجاهدين بالمغرب ما يستدعي الكتابة أو الانفعال نظما أو ترسلا، بدليل ما نصادفه من نماذج نثرية ( أو شعرية ) منسوبة إلى هذا العهد ، ومن إشارات إلى نشاط الكتابة المواكبة لفتوح المغرب والأندلس . ومن أمثلة ذلك، النص الذي حرره فرسان "قيس عيلان" الذين رافقوا الفاتح "حسان بن النعمان" إلى المغرب ( وهو فتح مبكر يعود إلى العقد السابع من القرن الهجري الأول)، ويكشف مضمونه عن حسن معاملة المجاهدين للبلاد المفتوحة. وقد جاء فيه ما يلي:
" بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أشهد به أنجاد قيس عيلان ، إننا قررنا لكم وشهدنا على أنفسنا ، وعلى آبائنا أنكم معشر زناتة من ولد بر بن قيس عيلان . فلكم ما لنا وعليكم ما علينا "([9]) .
يتناول النص قضية أساسية من القضايا التي طالما استغلها بعض المستشرقين لوصف الفاتحين بالغلظة، وقسوة السلوك، وسوء معاملة البلاد المفتوحة والتي ترد عادة من خلال إشـارات عـامـة (أو عائمة) إلى سلوك الولاة المسلمين تجعل القارئ يفهم منها أن كل هؤلاء كانوا على شاكلة واحدة، وهو أمر غير صحيح كما تبين ذلك من النص. وهناك إشارة إلى قضية أخرى أساسية وتتعلق بنسب زناتة. فإذا صح النص، ولم تحم حوله شكوك، فهو شهادة قوية على ما ذهب إليه عدد من المؤرخين حول نسب زناتة العربي.
هذا وقد احتفظ الضبي بنص نفيس([10]) في الموضوع ذاته، يلمح إلى نشاط الكتابة المواكبة لفتوح المغرب والأندلس، ويتعلق الأمر بنص الصلح الذي جرى بين عبد العزيز بن موسى بن نصير وطرف مسيحي متمثل في زعيم منطقة "مرسية"([11])، والذي يؤكد حسن معاملة الفاتحين العرب لأهل العدوة الأندلسية، وتسامح المسلمين واحترامهم لعقيدة الآخر الدينية (أقول الدينية وليس الوثنية). ومما جاء في النص قوله :
"بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد العزيز بن موسى بن نصير لتدمير بن عبدوش أنه نزل على الصلح وأن له عهد الله وذمته، وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا يقدم له ولا لأحد من أصحابه ولا يؤخر، ولا ينزع عن ملكه، وإنهم لا يقتلون ولا يسبون، ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا تحرق كنائسهم"([12]).
هذا وورد في كتاب رياض النفوس([13]) أن الفقهاء الدعاة إلى الإسلام الذين استقروا بإفريقية بأمر من عمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون برسائلهم إلى أهل طنجة المغربية([14]) قصد استمالتهم إلى الإسلام والتقرب إليهم. ولا شك في أن هذه الرسائل كانت مكتوبة باللغة العربية، وربما كانت هناك ردود مغربية محتملة عنها. ولكننا مع ذلك نرى أن الحديث عن كتابة مغربية في هذه الفترة سيبقى محل نقاش محفوف بالشك والتردد، وذلك بسبب عدم وجود دولة مغربية مستقرة، ولها ديوان رسمي في ذلك الوقت. ومن المعلوم أن مثل هذا الأمر لم يتأت حصوله إلا مع مجيء الأدارسة الذين شكلوا أول دولة عربية في المغرب. هذا فضلا عن العوائق الأخرى التي حالت دون نشر الدين واللغة العربية بأسرع ما يمكن.
تلك إذن صور مجملة عن أول حلقة مفقودة في تاريخ الكتابة المغربية بصفة عامة، والكتابة الجهادية على وجه الخصوص، إلا أن هذا لا يعني تجريد هذه المرحلة (أي ما قبل الأدارسة) من بعض مؤشرات الكتابة المغربية أو إرهاصات الأدب في المغرب، كتلك الخطبة المشهورة المنسوبة إلى طارق بن زياد في التحريض على الجهاد لفتح الأندلس؛ والتي تشكل أول تراث أدبي([15]) مغربي حول الكتابة الجهادية بهذا الصقع الإسلامي على عهد الفتوح. وصحيح أن الخطبة تعرضت للتشكيك في صحة وجودها من جهة ثانية. وكان مدار اختلاف الباحثين وشكوكهم مرتبطا بمصادر الخطبة، ومستواها الفني، وعلاقتها بانتشار اللغة العربية، واستقرار البلاد، وهي أمور ليس هنا مجال للتفصيل في عرضها ومناقتشتهـا، ولذلك سأكتـفي بالإشارة إلـى الخطوط العـامة المساعدة على توضيح بعض ملابسات هذه القضية. ولعـل أول ملاحظة تعن لي هنا هي تلك المتعلقة بذرائع المتشككين أو القائلين بوضع الخطبة (وهم بالمناسبة من المشارقة)([16])، ومنهـا قولهم مثلا بقلة المصـادر المشـيرة إليهـا أو تأخرها. وقد بادر عدد من البـاحثين المغاربـة إلى الرد على هذه الذريعة من خلال استعـراض نص الخطبة كما جاء فـي معظـم المصــادر، وأخـص بالــذكـر هنــا الدكتـور عبد الســلام الهـراس([17])، والأستــاذ عبـد الله كنـون([18])، والدكتور عباس الجراري([19])، والأستاذ عبد العزيز الساوري([20]). وقد تبين من خلال هذه الجهود ثبات نص الخطبة ومبالغة المتشككين فيها ؛ كالأستاذ محمد عبد الله عنان الذي حاول إيهام القارئ([21]) بورود الخطبة في مصدر جد متأخر أي "بنفح الطيب" للمقري (ت 1041هـ). في حين هي واردة في مصادر تعود إلى القرن الثالث الهجري. ومعنى هذا أن حجم مبالغة الأستاذ عنان تمتد زمنيا مسافة سبعة قرون، وهي المدة التي ساهم بها في المزيد من تأخير الخطبة وتعميق الشك حولها. هذا الشك الذي ظل يراود الدارسين ردحا من الزمن، إلى أن أتى الباحثون المغاربة بما يعيد اليقين بصحة ثبوت الخطبة وصحة نسبتها إلى طارق بن زياد.
وإذا كان ثبوت مغربية الخطبة([22]) قد أوقف الشك الذي ساور الباحثين بفعل قوة المصادر المشار إليها، فإن نسبة الخطبة إلى طارق بن زياد ظلت موضع جدل عند بعض المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور الجراري الذي أقر بثبوت نص الخطبة، إلا أنه شك في نسبتها إلى طارق. وكان مبعث شكه هو اختلاف نصوصها([23]) في المصادر، وقد رجح أن تكون الخطبة الجهادية قد كتبت له "وليس هذا بغريب، فقد كان مألوفا أن تكتب للأمراء والوزراء خطبهم ورسائلهم، بل مازلنا اليوم نرى المسؤولين على مختلف طبقاتهم يكتب لهم حين يريدون أن يخطبوا أو يراسلوا سواء منهم من يعرف اللغة أو يجهلها"([24]). وقد علل د. الجراري شكه هذا بضعف حركة التعريب التي رافقت الفتح، وعدم استقرار البلاد المغربية، وغياب آثارها الأدبية، مما لا يعقل –في رأيه- "أن يكون لسان البربر قد تعرب لدرجة إنشاء الخطب البليغة، وليس غير طارق متعربا خطيبا"([25]). ثم قال فيما يشبه الاستنكار: "أيعقل ذلك في هذا الوقت –في أواخر القرن الأول- ونحن لن نعثر بين المغاربة بعد ذلك على من ينشىء أدبا إلا في القرن الرابع"([26]).
والواقع، إن ما يطرحه د. الجراري لا يخالف المنطق العقلي، غير أن البحث عن بعد في البدايات ذات الصلة بقضايا تاريخية (تاريخ الأدب المغربي) قد لا يخلو من التباس باعتباره بحثا عن حلقة مفقودة، وصحيح تماما أن التسليم بخطبة طارق يجب أن ينبني على أسس وبدايات لأشكال نثرية مغربية أقل نضجا أو مساوية لها على الأقل. وهذا غير حاصل الآن، والجزم بنفيه أو إثباته أمر بالغ الصعوبة، وإن كان نفيه أقرب إلى العقل في غياب وسائل إثباته.
أما قضية الاختلاف في نصوص الخطبة فهي تكاد تكون ظاهرة في العهود القديمة ؛ وذلك لعدة أسباب، منها ظروف التدوين، وبعد المسافة، فضلا عن الأسباب السياسية أو الدينية التي قد تدفع المؤلف إلى التصرف بالزيادة أو الحذف([27]) أو الإهمال أو التبديل والتعديل. ولهذه الأسباب أيضا فإن غياب الآثار الدالة على قضية رائجة في التاريخ قد لا يقوى، على نفيها وذلك بسبب ما اعترى المادة المصدرية بعامة والمغربية([28]) بخاصة من نقص وإهمال أو تلف ونهب. ومع ذلك أغامر بترجيح نسبة الخطبة إلى طارق في ذلك العهد (سنة 92هـ)، وسندي في ذلك اقتناعي بجملة أمور ذكرها الأستاذ كنون ؛ منها احتمال أن يكون طارق من نسب عربي مما يوحي به اللفظ العربي "زياد"، أو أنه نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق.
والأمر الثاني اعتبار الخطبة ثمرة لتعليم اللغة العربية.
والأمر الثالث أنه ليس في الخطبة من صناعة البيان والبلاغة ما يمنع نسبتها إلى طارق بن زياد.
وفي كل الأحوال، فالبحث في هذه الخطبة هو بحث في البدايات، وهو أمر محفوف بالمصاعب، و لذلك قال العسكري : "البداية مزلة".
والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذا المقال هي أن المغاربة قد عرفوا مفهوم الجهاد وانفعلوا به وتفاعلوا معه عن طريق احتكاكهم بحركة الفتوح بالمغرب، وأن هذا الجهاد لم يواكب بما يستحق من نتاج أدبي، وذلك لأسباب مختلفة([29]) تخص الفاتحين والمغاربة على السواء.[30]
[1]
([2]) أكد الدكتور الجراري بدوره قلة الشعر الذي يصور انتصار المسلمين بالشمال الإفريقي. انظر كتابه : "من أدب الدعوة الإسلامية" : 84-85.
([3]) انظر كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري (ت 279هـ): 59، تح : عبد الله الطباع وعمر الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت 1957م.
[4]
([5]) انظر فتوح إفريقية والأندلس، لابن عبد الحكم :33
([6]) نفسه : ص.ن. وكان لفظ "إفريقيا" يطلق على البلاد التي تلي طرابلس الغرب اليوم (أي ابتداء من تونس حتى أقصى المغرب) من هامش المحقق: 33.
([7] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه : 75.
([8]) انظر : تاريخ الفكر الأندلسي لأنخل جنثالث بالنثيا :45. وبالطبع أتحفظ على رأي بالنثيا على الرغم من اتفاقي معه حول قلة الكتاب والشعراء من المجاهدين (الذي يسميهم بالنثيا بالمحاربين)، ومسوغ تحفظي هو قلة احتراس الدارس المتمثل في أحكامه القطعية كقوله مثلا : "إن الفاتحين جميعا" أو قوله: "وهذا وحده يكفي"، وحصره للأسباب في عامل واحد. وهو ما لا يصح في نظري أن يكون وحده دليلا على غياب هذه الآثار الأدبية. والظاهر أن هناك عوامل أخرى لهذا الغياب كتلك التي ذكرتها عن الوضع المشابه لها بالمغرب.
([9]) انظر : المغرب ومكانه من العالم الإسلامي لمحمد العربي الخطابي ، مجلة المناهل ،ع : 18 ، السنة 1980، ص: 87.
([10]) انظر : بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، لأحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي (ت 599هـ): 21، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م.
([11]) من مدن الأندلـس وهي قاعدة تدميـر (انظر : الـروض المعطـار في خبـر الأقطـار لأبي عبد الله الحميري (ت 866هـ)، تح: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت: 539، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين البغدادي (ت 739هـ): 3/1258، تحقيق وتعليق: علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1955م).
([12] ) بغية الملتمس: 21.
([13]) انظر كتاب "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهادهم لأبي بكر المالكي (عاش في القرن الثامن الهجري): 1/39، نشر حسين مؤنس، القاهرة 1951م.
([14]) كانت طنجة مركز عمليات استراتيجي للدعاة المسلمين في فتوحاتهم للمغرب والأندلس، كموسى بن نصير وعبد الرحمان الداخل، وإدريس الأول وغيرهم. (انظر : موسى بن نصير مؤسس المغرب العربي: 64).
([15] ) هناك أديب آخر من أوائل الشعراء الذين وردت الإشارة إليهم في عدد من المصادر كالكامل للمبرد، والعبر لابن خلدون والبداية والنهاية لابن كثير، ويتعلق الأمر بسابق البربري.
([16]) هذا ما استنتجته من قراءة "الأدب المغربي" ويتعلق الأمر بالأستاذين محمد عبد الله عنان وأحمد هيكل. وكان الأمير شكيب أرسلان يبدي بعض الشك في الخطبة قبل أن يتراجع عنه في مقدمته لكتاب النبوغ المغربي : 22 و 23.
أما المغاربة فقد دافعوا عنها كما فعل الأستاذ عبد الله الجراري في كتابة "تاريخ الأدب الناثر والشاعر بالمغرب قديما وحديثا" نقلا عن الأدب المغربي لعباس الجراري : 54.
ودافع ذ. عبد الله كنون عن الخطبة في كتابة : النبوغ المغربي : 1/23، وانظر نص الخطبة بالمرجع نفسه : 2/347.
([17]) يعد الدكتور عبد السلام الهراس أول من بادر إلى ذكر جملة من المصادر التي أوردت هذه الخطبة؛ إذ كان الشائع المعروف منها مصدرين هما، تحفة الأنفس (القرن 8هـ) ونفح الطيب (القرن 11هـ)، وأتى الدكتور الهراس بمصادر أخرى جد متقدمة "كاستفتاح الأندلس" لعبد الملك بن حبيب الإلبيري (ت 238هـ)، و"الإمامة والسياسة" المنسوب لابن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، و"ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب" لأبي محمد بن إبراهيم بن خيرة المواعيني الإشبيلي ( ت564هـ)، حققه مصطفى الحيا، رسالة لنيل دبلوم د. العليا بكلية الآداب بالرباط، نوقشت 1989م، و وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان (ت 681هـ)، فضلا عـن تحفـة الأنفـس لابن هذيـل (ت 763هـ)، نشر: لويس مارسي، باريس. وانظر تعليق الدكتور الهراس على هذه المصادر وتعقيبه على المتشككين في الخطبة ضمن مقال :خطبة طارق بن زياد من جديد" مجلة دعوة الحق، ع : 5، السنة 11 أبريل 1968م.
([18]) أضاف ذ. كنون مصدرا آخر للخطبة هو سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي المالكي (ت 520هـ)، انظر مقاله الذي عقب به على الدكتور الهراس بعنوان "حول خطبة طارق" مجلة دعوة الحق، ع : 6و7، السنة : 1 ماي 1968م.
([19]) أعاد د. الجراري إثباث نص الخطبة كما وردت في المصادر التي أسلفت الإشارة إليها (انظر الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه من ص: 59 إلى ص: 65).
([20]) أضاف الأستاذ الساوري مصدرا آخر إلى هذه المصادر لا يقل عن مصدر ابن خلكان تثبتا وتحريا وثقة، وهو كتاب "صلة السمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمدي" للمؤرخ التونسي محمد علي بن محمد بن الشباط المصري التوزري (ت 681هـ) (انظر مقالة "عودة إلى خطبة طارق بن زياد" مجلة دعوة الحق ع : 225، محرم 1403هـ/أكتوبر نونبر 1982، ص : 100-101
([21] ) انظر الأدب المغربي : 65.
([22]) رجح الأستاذ علي لغزيوي صحة نسبة الخطبة إلى طارق بن زياد اقتناعا بحجج الأستاذين الهراس وكنون. (انظر عن ذلك كتابه "أدب السياسة والحرب في الأندلس من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن الرابع الهجري": 412، مكتبة المعارف، الرباط 1987م (والكتاب في الأصل رسالة لنيل دبلوم د. العليا نوقشت بكلية الأدب، ظهر المهراز، فاس).
([23]) وهي العلة نفسها التي احتج بها الأستاذ محمد بن تاويت في رفضه نسبة إلى طارق بن زياد. (انظر الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى 1/10، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط. 2، 1998م).
([24] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه: 66.
([25] ) نفسه: 66-67.
([26] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه: 67.
([27]) قد تكون الأسباب منهجية إذ يجنح المؤلف إلى الحذف من أجل الاختصار، وهكذا نجد إشارات إلى رسائل دون نصوصها كما هو الأمر بالنسبة إلى رسالة طارق بن زياد التي وجهها إلى موسى بن نصير طلبا للمدد والعون في فتحه للأندلس. (انظر الإشارة إليها في الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ت 276هـ) 2/74، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1957، وتاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية ( ت 367هـ): 140، تح: عبد الإله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت، 1957م.
([28]) كثيرا ما تحيل المصادر المتوافرة في تاريخ المغرب على أسماء كتب ومؤلفات عفا عنها الزمن، ولم تصل إلينا ؛ مثل كتاب "ميزان العمل في أيام الدول" لابن رشيق، و"النبذ المحتاجة في أخبار ملوك صنهاجة" و"المقباس في أخبار المغرب وفاس" للوراق، وغيرها كثير.
([29]) ذهب الأستاذ محمد بن تاويت إلى اعتبار فتح الأندلس سببا في خسارة المغرب من الناحية الأدبية "ففتح الأندلس سد على بواكير الأدب العربي الأبواب، وعاق سيرها في طريقها المستقيم نحو النشوء والارتقاء" انظر "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى" : 1/9، وقد سبق للأستاذ ابن تاويت أن عبر عن هذا الرأي في بداية الستينات في تأليف مشترك بينه وبين محمد الصادق عفيفي بعنوان "الأدب المغربي": 121، دار الكتاب اللبناني بيروت، ط 2، 1969م.
وانظر تعقيب د. الجراري الذي ذهب إلى عكس هذا الرأي منوها بفضل الأندلس على المغرب ودورها في استقرار الإسلام فيه الأدب المغربي : 52-53.
قد تصعب الإجابة عن السؤال الذي يتسع مداه كلما تقدم الدارس في قراءة مصادره. والواقع إن المبادرة بأي إجابة عن كينونة الأدب الجهادي بالمغرب وحجم حضوره في هذه الفترة –سواء بالنفي أو بالإيجاب- ستظل فاقدة لعنصر الحقيقة التي تعتمد في مثل هذا السياق على تقصي كل المصادر المتعلقة بالموضوع، وهو أمرلا أدعيه وذلك بحكم أن هذه المصادر ليست من المظان التي يسهل الوصول إليها، غير أنه إذا كان لي من حكم أسوقه هنا، فإنه حكم مستوحى من المادة المصدرية([2]) المتوافرة لدي، حيث وجدت عددا من رسائل الخلفاء الراشدين، وأمراء المسلمين، وولاتهم، وقادة جيوشهم حول معارك الفتوح([3]) بالمشرق (فارس والشام والعراق)، ولكنني في المقابل لم أعثر على شيء ذي بال يخص تجليات فتح المغرب الأدبية، إذ لم يقع بين يدي سوى نصوص قليلة تجنح إلى الشعر أكثر من النثر. وقد تساءلت عن الأسباب المعللة لهذا الضمور المفترض لأدب الفتح ورسائله بالمغرب لأول عهده بالإسلام فوجدتها تتصل بتأخر ظهور الأدب العربي بالمغرب بصفة عامة. ويمكننا إجمال هذه الأسباب في النقط الآتية:[4]
-بعد المسافة بين المشرق والمغرب:
إن مسوغ هذا البعد في نظري هو اتساع رقعة الفتوحات وطول المسافة، مما يجعل الإحاطة بكافة ما كتب حول هذه الفترة أمرا متعذرا بالنسبة للمعنيين بتاريخ الفتوح الإسلامية.
- تأخر المراسلات أو فقدانها:
كانت مراسلات قادة الفتح لأمرائهم وخلفائهم تعتمد مسلكا غير مباشر، حيث تتم على يد الولاة مما يؤدي إلى تأخيرها أو ضياعها أو امتناع الوالي عن إرسالها، وقد ساهم ذلك في ضمور رسائل الفتوح بالمغرب.
-تأخر عملية الفتوح بالمغرب:
من المعلوم أن فتح المغرب وإفريقيا عموما قد تأخر بالمقارنة مع الأصقاع الإسلامية الأخرى إلى ما بعد منتصف المائة الأولى للهجرة، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها –حسب ما يرويه المؤرخون- هو تهيب بعض الخلفاء من فتح هذه الجهات الإفريقية، وقد أفادتنا بعض المصادر([5]) بأن "عمرو بن العاص" أراد فتح إفريقيا، فاستأذن عمر بن الخطاب بذلك، ولكن هذا رفض، وكتب إليه يقول : "لا. إنها ليست بإفريقيا ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت"([6]).
-الصراع حول الخلافة والحكم بالمشرق:
تعد الفتن والحروب التي جرت بين أبناء الأمة الإسلامية منذ عهد عثمان بن عفان حتى عهد الأمويين حول المؤهل لقيادة الأمة، من أسباب التأخير أيضا التي أثرت سلبا على العناية بهذا الفتح وبالأدب المتصل به.
-استقرار الفاتحين بالمغرب:
كان لاستقرار عدد من الفاتحين بالمغرب وعدم عودتهم إلى المشرق الأثر الواضح في قلة المعلومات التي تخص الفتح وشؤونه.
- ضعف التكوين الأدبي لجنود الفتح:
ذهب الدكتور عباس الجراري إلى أن جل الجيوش المشاركة في فتح المغرب "مكونة من عرب الجنوب ومن أهل اليمن خاصة، ومعروف أن حظهم من الشعر قليل وربما لا يذكر"([7]).
وقريب من هذا الرأي ما ذكره آنخل بالنثيا في تعليله لسبب غياب الآثار الفكرية والأدبية بالأندلس في عهد الفتح الإسلامي، حيث عزاه إلى أن الفاتحين جميعا –كانوا من المحاربين- واعتـبر هذا دليلا كافيا وحده لتعليل انصرافهم عن الأدب وشؤون الفكر"([8]) . وبالقياس نقول: إذا كان حظ هؤلاء الجنود من الشعر على هذه الصورة، فكيف سيكون حظهم من النثر؟ !
-أولوية الانشغال بالفتح:
لقد انشغل الفاتحون في أول الأمر بالجهاد لفتح المغرب وتسكين فتنه قبل انشغالهم بأي شيء آخر، حيث إن غزواتهم وحروبهم كانت محط عناية المؤرخين في المقام الأول.
-إشكالية المادة المصدرية للأدب المغربي:
ربما ماتزال بعض الآثار الأدبية المغربية محجوبة عنا من مخطوطات أو نصوص غميسة لم تصل إليها أيدي الباحثين.
- نظرة المشرق إلى أدب المغرب:
يخيل إلى أن نظرة المشرق إلى المغرب جعلتهم يقللون –ربما- من مكانة هذا الأدب وشأنه وقيمة ما يعكسه من فتوح، ولذلك لم يبذلوا جهدا في العناية به.
ومهما يكن من أمر، فإني أجد في هذه الأسباب مجتمعة ما يدعوني إلى تفسير قضية ضمور أدب الفتح وما تعرض له من تأخير وإهمال أو تبخيس مفترض من حقه. غير أني –في الوقت ذاته- أميل إلى الاعتقاد بكينونة هذا الأدب رغم ضموره ؛ لأنه من غير المستساغ أن لا يكون في نشاط هؤلاء المجاهدين بالمغرب ما يستدعي الكتابة أو الانفعال نظما أو ترسلا، بدليل ما نصادفه من نماذج نثرية ( أو شعرية ) منسوبة إلى هذا العهد ، ومن إشارات إلى نشاط الكتابة المواكبة لفتوح المغرب والأندلس . ومن أمثلة ذلك، النص الذي حرره فرسان "قيس عيلان" الذين رافقوا الفاتح "حسان بن النعمان" إلى المغرب ( وهو فتح مبكر يعود إلى العقد السابع من القرن الهجري الأول)، ويكشف مضمونه عن حسن معاملة المجاهدين للبلاد المفتوحة. وقد جاء فيه ما يلي:
" بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أشهد به أنجاد قيس عيلان ، إننا قررنا لكم وشهدنا على أنفسنا ، وعلى آبائنا أنكم معشر زناتة من ولد بر بن قيس عيلان . فلكم ما لنا وعليكم ما علينا "([9]) .
يتناول النص قضية أساسية من القضايا التي طالما استغلها بعض المستشرقين لوصف الفاتحين بالغلظة، وقسوة السلوك، وسوء معاملة البلاد المفتوحة والتي ترد عادة من خلال إشـارات عـامـة (أو عائمة) إلى سلوك الولاة المسلمين تجعل القارئ يفهم منها أن كل هؤلاء كانوا على شاكلة واحدة، وهو أمر غير صحيح كما تبين ذلك من النص. وهناك إشارة إلى قضية أخرى أساسية وتتعلق بنسب زناتة. فإذا صح النص، ولم تحم حوله شكوك، فهو شهادة قوية على ما ذهب إليه عدد من المؤرخين حول نسب زناتة العربي.
هذا وقد احتفظ الضبي بنص نفيس([10]) في الموضوع ذاته، يلمح إلى نشاط الكتابة المواكبة لفتوح المغرب والأندلس، ويتعلق الأمر بنص الصلح الذي جرى بين عبد العزيز بن موسى بن نصير وطرف مسيحي متمثل في زعيم منطقة "مرسية"([11])، والذي يؤكد حسن معاملة الفاتحين العرب لأهل العدوة الأندلسية، وتسامح المسلمين واحترامهم لعقيدة الآخر الدينية (أقول الدينية وليس الوثنية). ومما جاء في النص قوله :
"بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من عبد العزيز بن موسى بن نصير لتدمير بن عبدوش أنه نزل على الصلح وأن له عهد الله وذمته، وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا يقدم له ولا لأحد من أصحابه ولا يؤخر، ولا ينزع عن ملكه، وإنهم لا يقتلون ولا يسبون، ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا تحرق كنائسهم"([12]).
هذا وورد في كتاب رياض النفوس([13]) أن الفقهاء الدعاة إلى الإسلام الذين استقروا بإفريقية بأمر من عمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون برسائلهم إلى أهل طنجة المغربية([14]) قصد استمالتهم إلى الإسلام والتقرب إليهم. ولا شك في أن هذه الرسائل كانت مكتوبة باللغة العربية، وربما كانت هناك ردود مغربية محتملة عنها. ولكننا مع ذلك نرى أن الحديث عن كتابة مغربية في هذه الفترة سيبقى محل نقاش محفوف بالشك والتردد، وذلك بسبب عدم وجود دولة مغربية مستقرة، ولها ديوان رسمي في ذلك الوقت. ومن المعلوم أن مثل هذا الأمر لم يتأت حصوله إلا مع مجيء الأدارسة الذين شكلوا أول دولة عربية في المغرب. هذا فضلا عن العوائق الأخرى التي حالت دون نشر الدين واللغة العربية بأسرع ما يمكن.
تلك إذن صور مجملة عن أول حلقة مفقودة في تاريخ الكتابة المغربية بصفة عامة، والكتابة الجهادية على وجه الخصوص، إلا أن هذا لا يعني تجريد هذه المرحلة (أي ما قبل الأدارسة) من بعض مؤشرات الكتابة المغربية أو إرهاصات الأدب في المغرب، كتلك الخطبة المشهورة المنسوبة إلى طارق بن زياد في التحريض على الجهاد لفتح الأندلس؛ والتي تشكل أول تراث أدبي([15]) مغربي حول الكتابة الجهادية بهذا الصقع الإسلامي على عهد الفتوح. وصحيح أن الخطبة تعرضت للتشكيك في صحة وجودها من جهة ثانية. وكان مدار اختلاف الباحثين وشكوكهم مرتبطا بمصادر الخطبة، ومستواها الفني، وعلاقتها بانتشار اللغة العربية، واستقرار البلاد، وهي أمور ليس هنا مجال للتفصيل في عرضها ومناقتشتهـا، ولذلك سأكتـفي بالإشارة إلـى الخطوط العـامة المساعدة على توضيح بعض ملابسات هذه القضية. ولعـل أول ملاحظة تعن لي هنا هي تلك المتعلقة بذرائع المتشككين أو القائلين بوضع الخطبة (وهم بالمناسبة من المشارقة)([16])، ومنهـا قولهم مثلا بقلة المصـادر المشـيرة إليهـا أو تأخرها. وقد بادر عدد من البـاحثين المغاربـة إلى الرد على هذه الذريعة من خلال استعـراض نص الخطبة كما جاء فـي معظـم المصــادر، وأخـص بالــذكـر هنــا الدكتـور عبد الســلام الهـراس([17])، والأستــاذ عبـد الله كنـون([18])، والدكتور عباس الجراري([19])، والأستاذ عبد العزيز الساوري([20]). وقد تبين من خلال هذه الجهود ثبات نص الخطبة ومبالغة المتشككين فيها ؛ كالأستاذ محمد عبد الله عنان الذي حاول إيهام القارئ([21]) بورود الخطبة في مصدر جد متأخر أي "بنفح الطيب" للمقري (ت 1041هـ). في حين هي واردة في مصادر تعود إلى القرن الثالث الهجري. ومعنى هذا أن حجم مبالغة الأستاذ عنان تمتد زمنيا مسافة سبعة قرون، وهي المدة التي ساهم بها في المزيد من تأخير الخطبة وتعميق الشك حولها. هذا الشك الذي ظل يراود الدارسين ردحا من الزمن، إلى أن أتى الباحثون المغاربة بما يعيد اليقين بصحة ثبوت الخطبة وصحة نسبتها إلى طارق بن زياد.
وإذا كان ثبوت مغربية الخطبة([22]) قد أوقف الشك الذي ساور الباحثين بفعل قوة المصادر المشار إليها، فإن نسبة الخطبة إلى طارق بن زياد ظلت موضع جدل عند بعض المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور الجراري الذي أقر بثبوت نص الخطبة، إلا أنه شك في نسبتها إلى طارق. وكان مبعث شكه هو اختلاف نصوصها([23]) في المصادر، وقد رجح أن تكون الخطبة الجهادية قد كتبت له "وليس هذا بغريب، فقد كان مألوفا أن تكتب للأمراء والوزراء خطبهم ورسائلهم، بل مازلنا اليوم نرى المسؤولين على مختلف طبقاتهم يكتب لهم حين يريدون أن يخطبوا أو يراسلوا سواء منهم من يعرف اللغة أو يجهلها"([24]). وقد علل د. الجراري شكه هذا بضعف حركة التعريب التي رافقت الفتح، وعدم استقرار البلاد المغربية، وغياب آثارها الأدبية، مما لا يعقل –في رأيه- "أن يكون لسان البربر قد تعرب لدرجة إنشاء الخطب البليغة، وليس غير طارق متعربا خطيبا"([25]). ثم قال فيما يشبه الاستنكار: "أيعقل ذلك في هذا الوقت –في أواخر القرن الأول- ونحن لن نعثر بين المغاربة بعد ذلك على من ينشىء أدبا إلا في القرن الرابع"([26]).
والواقع، إن ما يطرحه د. الجراري لا يخالف المنطق العقلي، غير أن البحث عن بعد في البدايات ذات الصلة بقضايا تاريخية (تاريخ الأدب المغربي) قد لا يخلو من التباس باعتباره بحثا عن حلقة مفقودة، وصحيح تماما أن التسليم بخطبة طارق يجب أن ينبني على أسس وبدايات لأشكال نثرية مغربية أقل نضجا أو مساوية لها على الأقل. وهذا غير حاصل الآن، والجزم بنفيه أو إثباته أمر بالغ الصعوبة، وإن كان نفيه أقرب إلى العقل في غياب وسائل إثباته.
أما قضية الاختلاف في نصوص الخطبة فهي تكاد تكون ظاهرة في العهود القديمة ؛ وذلك لعدة أسباب، منها ظروف التدوين، وبعد المسافة، فضلا عن الأسباب السياسية أو الدينية التي قد تدفع المؤلف إلى التصرف بالزيادة أو الحذف([27]) أو الإهمال أو التبديل والتعديل. ولهذه الأسباب أيضا فإن غياب الآثار الدالة على قضية رائجة في التاريخ قد لا يقوى، على نفيها وذلك بسبب ما اعترى المادة المصدرية بعامة والمغربية([28]) بخاصة من نقص وإهمال أو تلف ونهب. ومع ذلك أغامر بترجيح نسبة الخطبة إلى طارق في ذلك العهد (سنة 92هـ)، وسندي في ذلك اقتناعي بجملة أمور ذكرها الأستاذ كنون ؛ منها احتمال أن يكون طارق من نسب عربي مما يوحي به اللفظ العربي "زياد"، أو أنه نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق.
والأمر الثاني اعتبار الخطبة ثمرة لتعليم اللغة العربية.
والأمر الثالث أنه ليس في الخطبة من صناعة البيان والبلاغة ما يمنع نسبتها إلى طارق بن زياد.
وفي كل الأحوال، فالبحث في هذه الخطبة هو بحث في البدايات، وهو أمر محفوف بالمصاعب، و لذلك قال العسكري : "البداية مزلة".
والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذا المقال هي أن المغاربة قد عرفوا مفهوم الجهاد وانفعلوا به وتفاعلوا معه عن طريق احتكاكهم بحركة الفتوح بالمغرب، وأن هذا الجهاد لم يواكب بما يستحق من نتاج أدبي، وذلك لأسباب مختلفة([29]) تخص الفاتحين والمغاربة على السواء.[30]
[1]
([2]) أكد الدكتور الجراري بدوره قلة الشعر الذي يصور انتصار المسلمين بالشمال الإفريقي. انظر كتابه : "من أدب الدعوة الإسلامية" : 84-85.
([3]) انظر كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري (ت 279هـ): 59، تح : عبد الله الطباع وعمر الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت 1957م.
[4]
([5]) انظر فتوح إفريقية والأندلس، لابن عبد الحكم :33
([6]) نفسه : ص.ن. وكان لفظ "إفريقيا" يطلق على البلاد التي تلي طرابلس الغرب اليوم (أي ابتداء من تونس حتى أقصى المغرب) من هامش المحقق: 33.
([7] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه : 75.
([8]) انظر : تاريخ الفكر الأندلسي لأنخل جنثالث بالنثيا :45. وبالطبع أتحفظ على رأي بالنثيا على الرغم من اتفاقي معه حول قلة الكتاب والشعراء من المجاهدين (الذي يسميهم بالنثيا بالمحاربين)، ومسوغ تحفظي هو قلة احتراس الدارس المتمثل في أحكامه القطعية كقوله مثلا : "إن الفاتحين جميعا" أو قوله: "وهذا وحده يكفي"، وحصره للأسباب في عامل واحد. وهو ما لا يصح في نظري أن يكون وحده دليلا على غياب هذه الآثار الأدبية. والظاهر أن هناك عوامل أخرى لهذا الغياب كتلك التي ذكرتها عن الوضع المشابه لها بالمغرب.
([9]) انظر : المغرب ومكانه من العالم الإسلامي لمحمد العربي الخطابي ، مجلة المناهل ،ع : 18 ، السنة 1980، ص: 87.
([10]) انظر : بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، لأحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي (ت 599هـ): 21، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967م.
([11]) من مدن الأندلـس وهي قاعدة تدميـر (انظر : الـروض المعطـار في خبـر الأقطـار لأبي عبد الله الحميري (ت 866هـ)، تح: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت: 539، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين البغدادي (ت 739هـ): 3/1258، تحقيق وتعليق: علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1955م).
([12] ) بغية الملتمس: 21.
([13]) انظر كتاب "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهادهم لأبي بكر المالكي (عاش في القرن الثامن الهجري): 1/39، نشر حسين مؤنس، القاهرة 1951م.
([14]) كانت طنجة مركز عمليات استراتيجي للدعاة المسلمين في فتوحاتهم للمغرب والأندلس، كموسى بن نصير وعبد الرحمان الداخل، وإدريس الأول وغيرهم. (انظر : موسى بن نصير مؤسس المغرب العربي: 64).
([15] ) هناك أديب آخر من أوائل الشعراء الذين وردت الإشارة إليهم في عدد من المصادر كالكامل للمبرد، والعبر لابن خلدون والبداية والنهاية لابن كثير، ويتعلق الأمر بسابق البربري.
([16]) هذا ما استنتجته من قراءة "الأدب المغربي" ويتعلق الأمر بالأستاذين محمد عبد الله عنان وأحمد هيكل. وكان الأمير شكيب أرسلان يبدي بعض الشك في الخطبة قبل أن يتراجع عنه في مقدمته لكتاب النبوغ المغربي : 22 و 23.
أما المغاربة فقد دافعوا عنها كما فعل الأستاذ عبد الله الجراري في كتابة "تاريخ الأدب الناثر والشاعر بالمغرب قديما وحديثا" نقلا عن الأدب المغربي لعباس الجراري : 54.
ودافع ذ. عبد الله كنون عن الخطبة في كتابة : النبوغ المغربي : 1/23، وانظر نص الخطبة بالمرجع نفسه : 2/347.
([17]) يعد الدكتور عبد السلام الهراس أول من بادر إلى ذكر جملة من المصادر التي أوردت هذه الخطبة؛ إذ كان الشائع المعروف منها مصدرين هما، تحفة الأنفس (القرن 8هـ) ونفح الطيب (القرن 11هـ)، وأتى الدكتور الهراس بمصادر أخرى جد متقدمة "كاستفتاح الأندلس" لعبد الملك بن حبيب الإلبيري (ت 238هـ)، و"الإمامة والسياسة" المنسوب لابن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، و"ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب" لأبي محمد بن إبراهيم بن خيرة المواعيني الإشبيلي ( ت564هـ)، حققه مصطفى الحيا، رسالة لنيل دبلوم د. العليا بكلية الآداب بالرباط، نوقشت 1989م، و وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان (ت 681هـ)، فضلا عـن تحفـة الأنفـس لابن هذيـل (ت 763هـ)، نشر: لويس مارسي، باريس. وانظر تعليق الدكتور الهراس على هذه المصادر وتعقيبه على المتشككين في الخطبة ضمن مقال :خطبة طارق بن زياد من جديد" مجلة دعوة الحق، ع : 5، السنة 11 أبريل 1968م.
([18]) أضاف ذ. كنون مصدرا آخر للخطبة هو سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي المالكي (ت 520هـ)، انظر مقاله الذي عقب به على الدكتور الهراس بعنوان "حول خطبة طارق" مجلة دعوة الحق، ع : 6و7، السنة : 1 ماي 1968م.
([19]) أعاد د. الجراري إثباث نص الخطبة كما وردت في المصادر التي أسلفت الإشارة إليها (انظر الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه من ص: 59 إلى ص: 65).
([20]) أضاف الأستاذ الساوري مصدرا آخر إلى هذه المصادر لا يقل عن مصدر ابن خلكان تثبتا وتحريا وثقة، وهو كتاب "صلة السمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمدي" للمؤرخ التونسي محمد علي بن محمد بن الشباط المصري التوزري (ت 681هـ) (انظر مقالة "عودة إلى خطبة طارق بن زياد" مجلة دعوة الحق ع : 225، محرم 1403هـ/أكتوبر نونبر 1982، ص : 100-101
([21] ) انظر الأدب المغربي : 65.
([22]) رجح الأستاذ علي لغزيوي صحة نسبة الخطبة إلى طارق بن زياد اقتناعا بحجج الأستاذين الهراس وكنون. (انظر عن ذلك كتابه "أدب السياسة والحرب في الأندلس من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن الرابع الهجري": 412، مكتبة المعارف، الرباط 1987م (والكتاب في الأصل رسالة لنيل دبلوم د. العليا نوقشت بكلية الأدب، ظهر المهراز، فاس).
([23]) وهي العلة نفسها التي احتج بها الأستاذ محمد بن تاويت في رفضه نسبة إلى طارق بن زياد. (انظر الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى 1/10، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط. 2، 1998م).
([24] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه: 66.
([25] ) نفسه: 66-67.
([26] ) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه: 67.
([27]) قد تكون الأسباب منهجية إذ يجنح المؤلف إلى الحذف من أجل الاختصار، وهكذا نجد إشارات إلى رسائل دون نصوصها كما هو الأمر بالنسبة إلى رسالة طارق بن زياد التي وجهها إلى موسى بن نصير طلبا للمدد والعون في فتحه للأندلس. (انظر الإشارة إليها في الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ت 276هـ) 2/74، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1957، وتاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية ( ت 367هـ): 140، تح: عبد الإله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت، 1957م.
([28]) كثيرا ما تحيل المصادر المتوافرة في تاريخ المغرب على أسماء كتب ومؤلفات عفا عنها الزمن، ولم تصل إلينا ؛ مثل كتاب "ميزان العمل في أيام الدول" لابن رشيق، و"النبذ المحتاجة في أخبار ملوك صنهاجة" و"المقباس في أخبار المغرب وفاس" للوراق، وغيرها كثير.
([29]) ذهب الأستاذ محمد بن تاويت إلى اعتبار فتح الأندلس سببا في خسارة المغرب من الناحية الأدبية "ففتح الأندلس سد على بواكير الأدب العربي الأبواب، وعاق سيرها في طريقها المستقيم نحو النشوء والارتقاء" انظر "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى" : 1/9، وقد سبق للأستاذ ابن تاويت أن عبر عن هذا الرأي في بداية الستينات في تأليف مشترك بينه وبين محمد الصادق عفيفي بعنوان "الأدب المغربي": 121، دار الكتاب اللبناني بيروت، ط 2، 1969م.
وانظر تعقيب د. الجراري الذي ذهب إلى عكس هذا الرأي منوها بفضل الأندلس على المغرب ودورها في استقرار الإسلام فيه الأدب المغربي : 52-53.