نقوس المهدي
كاتب
كتاب المحبوب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي الحمد لله على أفضاله، والصلاة على النبي محمد وآله.
الألفاظ للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأجمعها لأقسام الجودة، وأنظمها لأحكام الإصابة، وأمشاها في طريق البلاغة والبراعة، وآخذها بحسن السياق ولطف الافتنان في الخطابة، ما شفع إلى المخرج السهل محاسن اللفظ الجزل، وقرن بدقة المعنى واقتضاب البديع، غموض المسلك ولطافة المدخل، وكان متناسباً في الرقة والسهولة، متشابهاً في حلاوة النسج والعذوبة، بكسوة رشيقة، ودماثة تامة وخلابة تسحر القلب، ورشاقة تملك الأذن، متصل المبادئ بالخواتم لدن المعاطف، فصل من قائله برونق القريحة، ووشي الغريزة، وديباج الطبيعة، يترقرق على أعطافه ماء السلاسة، وتشرق بأطرافه بهجة الطلاوة، فهتك حجاب السمع؛ وسكن سواد القلب غير مستعان عليه بالفكرة، ولا مستخرج الرؤية، ولا مستنبط باعتساف الخاطر ومجاهدة الطبع، وغوص الهواجس، وغور الأفكار، واقتسار أبيه الممتنع، واقتياد عويصه المتوعر، بعيداً من صنعة التكلف، نزيهاً عن سماجة الاستكراه، سليماً من وحشة التعقيد. أوله دال على آخره، ومختتمه معرب عن مفتتحه، وأوسطه كطرفه؛ لا اللفظ زائد على معناه فيعد فضولاً وهذراً، ولا المراد قاصر عنه فيحسب انغلاقاً وحصراً. بل هما توأمان في وضوح الدلالة، وصواب الإشارة. وردا مورداً واحداً، وخرجا، في حسن النحت وسلامة السبك وكثرة الماء، مخرجاً فذاً كأنهما الشمس والظل في التقارب، والماء والهواء في التناسب، فعمرا الصدر الخراب بالفائدة؛ وألقحا الطبع العقيم بنتاج الأدب وشحذا الأفكار الكليلة؛ وشفيا الأذهان العليلة؛ وعودا اللسان اعتياد البديهة واللسن! وقدحا في القلب بزناد الفطانة واللقن. وتهجا له التأني لوجوه المنطق. وسهلا له جوانب الكلام والتأنق في اختراع لطيفه وابتداع دقيقه، والتقلب في أفانينه، واستمالة القلوب الشاردة، واستصراف الآذان العازبة بموقعه، واستنجاح المطلب البعيد، واستسهال المغزى الشريد بمسموعه.
وبعد، فأعلق الحديث بالألباب والقرائح، وأليقه بالفطن والطبائع، حتى تفتح الأذن لسماعه باباً، ويرفع القلب لدخوله حجاباً، ما كان عبارة عن العشق والنسيب، وترجمة عن الهوى والتشبيب، لميل النفوس بأعناقها إليه، وإلقاء القلوب في أزمتها عليه، على تباين النعم والبلدان، وتفاوت الأمزجة والإنسان؛ من ذي جد متورع، وذي خلاعة متبطل، وعامي متبذل، وخاصي متصون، وثكلان بلده كمود الغم، وغضبان أحرقه لهيب الغيط، وأسوان دلهه فوت المطلوب، وبعد المحبوب.
كما افتتحنا به الكتاب، وصدرنا بذكر مقطعات الغزل وأبيات الشعر الشوارد التي تكون في المحافل أجول، وعلى المسامع أدخل، في أوصاف المناظر الحسنة، والوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، وحسن الخلق، ووسامة التصوير، وصباحة سنة الغرة، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر، وجثالة الفروع، وجعودة الغدائر واسترسالها على المتون كالأشطان، ووحوفتها وانفتالها في الأصداغ كالصولجان، ونجل العيون، وحور الأحداق وبرج المقل، وكثافة نسج الأهداب، وخلوصها من المره وانغماسها في الكحل، وأسالة الخدود، وبهجة الصفحات كأن الماء يقطر منها، وامتزاج أحمرها بأبيضها، وتورد الوجنات بصبغة الخجل، وتصوب مائها بصفرة الوجل، وتقويس الحواجب، وحلوكة نبات الشعر، وسبوغها إلى مؤخرة الآماق، ودقة تخطيطها كأنها قوادم الخطاف، وانعطاف طرفي القسي الموترة والحنايا المأطورة؛ وتردد الأجفان بين الدلال والتفتير، والغنج والتكسير، كأنها حور الظباء بابليات النظر، أو ربائب الوحش من سرب البقر، وسواد نقط الخيلان على وضح بشرة الوجه، كأنها النكتة السوداء في صفحة البدر، أو بدد تفاريق الغسق على بلج الفجر، أو نقطة الزاج في صفيحة العاج؛ وحمرة العوارض ملونة بخضرة التعذير، كأنها طرار البنفسج على ورقات الورد الجني، أو يورد زهر الربيع الباكر على الغصن الروي، أو آثار المسك على خد الكاعب الرود، أو برد الدجى لاح في الخطوط السود؛ ولعس الشفاه، وصغر تقطيع الأفواه، وأشر الثنايا، وشنب اللثات، وبرد الريق، وعذوبة المذاق، وسلامة النكهة من الخلوف، ورخامة الصوت، ودلال الحديث، وإشراف الأرانب، وقنا القصبات، ولين الأعطاف، وتمايل القدود والقامات، كأنما مالت بها سورة الشراب، وسقاها ربعي الشباب، أو انخنثت من السكر، أو عبثت بها نشوة الخمر؛ واندماج الخصور، ورقة الأوساط، حتى تكاد تنقد هيفاً، وتنبت قضفاً، وعبالة الأكفال، وامتلاء المآزر، وخدالة السوق، وشطانة الأبدان، وري العظام، واكتناز القصب، ودماثة الأكعب، وغموض المرافق وغوص حجمها في ري المعاصم، والمأكمة الرابية، والعجيزة الوثيرة، وثقل تكيفها كالكثيب الرجراج، أو كمتلطم الأمواج، مختومة هذه النعوت بالمختار من فوارد الشعر ومنتخبه الذي يعب فيه الذهن ويلتهمه السمع وتعتزيه النفس في أسباب الهوى، وأحوال الحب، ودواعي العشق، وتباريح الوجد، ولاعج الشجو، والوداد الدائم والمحافظة اللازمة، وعلائق الخلة ونوازع المقة التي تلتحم بها الأحشاء، وتلتبس الأعضاء، وتجري مجرى الدم، وتسري مسرى السم، لا تحول مدى الأيام، ولا تزول طوال الليالي، مخبرة عن صحة العهد، ودوام الوفاء، وصدق المودة، وشدة المحبة، وعزوب الصبر، وتمادي الوله، ولجاج القلب، ومطال الشوق، واستسلام الجوانح لسلطانه، وانقياد الشديد الشكيمة، الأباء للهضيمة، ومبتدأ القلق الذي أوله نظرة، وأوسطه خطرة، وآخره فكرة، وتنوع جنس الحب: من لجاج مكب، وعرض متفق، كما تجلب الشيء البعيد جوالبه، ومستفاد بالنشد والإلف، وكيف يجنيه الطرف، ويتشبث به القلب، ويمتزج بعلائقه الكبد؛ إلى ما يتفرع عليه من وصل وصدود، وإقبال وإدبار، وفرقة وألفة، وقلق وسكون، وتواصل الأحباء، ومراصدة الرقباء، متفننة في جميع جهاتها، ومتفرقة في كل طرقاتها، مستصلحة للحفظ والمذاكرة؛ مرتضاة للملاقاة والمحاضرة، ملتقطة من لفظ الأفواه. فالناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وينشدون أحسن ما يحفظون. فهي عريقة في الاختيار مرات، عائدة من جهات بإيناس المستوحش، وعمارة المجلس، وتلهية القلب، ونفي الوحدة، وتعلة النفس، وتسلية العزب الوحيد، والمستهام العميد.
وعقيبها الفصل الثالث في أوصاف الربيع، وإيماض برقه، ونشر سحائبه، وجلجلة رعده، وسقوط قطره، وفترة نسيمه، وسجسج هوائه، وانعطاف قوسه وسط الغمام أخضر بجنب أحمر إلى أصفر، كما تظاهرت العروس بين جلابيبها وبعض الذيل أصر من بعض، أو كما عقدت الكاعب الرود أسورتها على معصمها من مصوغ ذهب إلى منظوم زبرجد بينهما معقود ياقوت؛ وهبوب الرياح على وجوه الغدران ومسحها أقذاءها كأنها ماوية مصقولة، أو مرآة مجلوة، وعصفة الشمال بالسواقي ممتدة على استواء كأنها حية تسعى أو صفيحة الحسام المسلول؛ وتدريجها متونها حزوزاً كمتون المبارد، أو حلقاً كمراقد الأساود؛ وأنواع الأزاهير وصنوف الرياحين، وكيف يتضمخ الجو من عرفها، وتتضوع المسارب بأرجها؛ وانفتاق الأنوار من أكمامها، وخروجها من أغطيتها إلى مسرى هيجها على ظواهر الأرض، وأوان جفوفها بضواحي الجلد، وحين يبسها بأشراف الجبال ومتون الأقبال؛ وذبول نضارتها، وتصوح بهجتها، وعودها هشيماً تذروه الرياح، وتنسفه الأرجل مختوماً بمشموم الطيب من المسوك والعنابر والكوافير والأعواد والغوالي، وذكر حقائق اشتقاقها وشواهدها من العربية، وحصر أسمائها وإيراد ما صرفته الشعراء من معانيها.
وبعده الفصل الرابع في نعت الخمور وعد أساميها وتحقيق اشتقاقها وموضوعاتها وأبنيتها ولغاتها، والأمثال المضروبة بها، وصفات أحوالها من مبتكر الأمثال، وتوريق كرومها وتعريشها على الدعائم وشدها بالقوائم، ثم اخضرار أوراقها، وتهدل أفنانها، وتفنن شعبها، وانعقاد حباتها، وإيناع ثمراتها، وتدلي أعنابها، وتساقط قضبانها، موقرة دوالح بأحمالها مكتنزة عناقيدها، هوادل بأثقالها كما احتبى الزنج في الأزر الخضر، أو تعرض الثريا في أزرق الفجر؛ إلى أن تنبذ في الخوابي، وتسلم إلى الظروف، وتودع الأوعية، نصب عين الشمس، فيطبخها حمي الهواجر، ويصفيها لفح السمائم بالظهائر، فتستوعب قوتها، وتستوفي حولها وشدتها، حتى يجتليها السقاة في معارض الأقداح، وتحثها ركباً على مطايا الراح، قهوة حمراء في زجاجة بيضاء عذراء من حلب الأعناب بمزاج حلب السحاب، فينتظم بها شمل السرور ويتجنب حماها طوارق المحذور.
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي الحمد لله على أفضاله، والصلاة على النبي محمد وآله.
الألفاظ للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأجمعها لأقسام الجودة، وأنظمها لأحكام الإصابة، وأمشاها في طريق البلاغة والبراعة، وآخذها بحسن السياق ولطف الافتنان في الخطابة، ما شفع إلى المخرج السهل محاسن اللفظ الجزل، وقرن بدقة المعنى واقتضاب البديع، غموض المسلك ولطافة المدخل، وكان متناسباً في الرقة والسهولة، متشابهاً في حلاوة النسج والعذوبة، بكسوة رشيقة، ودماثة تامة وخلابة تسحر القلب، ورشاقة تملك الأذن، متصل المبادئ بالخواتم لدن المعاطف، فصل من قائله برونق القريحة، ووشي الغريزة، وديباج الطبيعة، يترقرق على أعطافه ماء السلاسة، وتشرق بأطرافه بهجة الطلاوة، فهتك حجاب السمع؛ وسكن سواد القلب غير مستعان عليه بالفكرة، ولا مستخرج الرؤية، ولا مستنبط باعتساف الخاطر ومجاهدة الطبع، وغوص الهواجس، وغور الأفكار، واقتسار أبيه الممتنع، واقتياد عويصه المتوعر، بعيداً من صنعة التكلف، نزيهاً عن سماجة الاستكراه، سليماً من وحشة التعقيد. أوله دال على آخره، ومختتمه معرب عن مفتتحه، وأوسطه كطرفه؛ لا اللفظ زائد على معناه فيعد فضولاً وهذراً، ولا المراد قاصر عنه فيحسب انغلاقاً وحصراً. بل هما توأمان في وضوح الدلالة، وصواب الإشارة. وردا مورداً واحداً، وخرجا، في حسن النحت وسلامة السبك وكثرة الماء، مخرجاً فذاً كأنهما الشمس والظل في التقارب، والماء والهواء في التناسب، فعمرا الصدر الخراب بالفائدة؛ وألقحا الطبع العقيم بنتاج الأدب وشحذا الأفكار الكليلة؛ وشفيا الأذهان العليلة؛ وعودا اللسان اعتياد البديهة واللسن! وقدحا في القلب بزناد الفطانة واللقن. وتهجا له التأني لوجوه المنطق. وسهلا له جوانب الكلام والتأنق في اختراع لطيفه وابتداع دقيقه، والتقلب في أفانينه، واستمالة القلوب الشاردة، واستصراف الآذان العازبة بموقعه، واستنجاح المطلب البعيد، واستسهال المغزى الشريد بمسموعه.
وبعد، فأعلق الحديث بالألباب والقرائح، وأليقه بالفطن والطبائع، حتى تفتح الأذن لسماعه باباً، ويرفع القلب لدخوله حجاباً، ما كان عبارة عن العشق والنسيب، وترجمة عن الهوى والتشبيب، لميل النفوس بأعناقها إليه، وإلقاء القلوب في أزمتها عليه، على تباين النعم والبلدان، وتفاوت الأمزجة والإنسان؛ من ذي جد متورع، وذي خلاعة متبطل، وعامي متبذل، وخاصي متصون، وثكلان بلده كمود الغم، وغضبان أحرقه لهيب الغيط، وأسوان دلهه فوت المطلوب، وبعد المحبوب.
كما افتتحنا به الكتاب، وصدرنا بذكر مقطعات الغزل وأبيات الشعر الشوارد التي تكون في المحافل أجول، وعلى المسامع أدخل، في أوصاف المناظر الحسنة، والوجوه النيرة، والمحاسن الرائعة المعجبة، والصور المليحة الأنيقة، وحسن الخلق، ووسامة التصوير، وصباحة سنة الغرة، واعتدال التركيب، واستقامة التدوير، وسبوطة الشعر، وجثالة الفروع، وجعودة الغدائر واسترسالها على المتون كالأشطان، ووحوفتها وانفتالها في الأصداغ كالصولجان، ونجل العيون، وحور الأحداق وبرج المقل، وكثافة نسج الأهداب، وخلوصها من المره وانغماسها في الكحل، وأسالة الخدود، وبهجة الصفحات كأن الماء يقطر منها، وامتزاج أحمرها بأبيضها، وتورد الوجنات بصبغة الخجل، وتصوب مائها بصفرة الوجل، وتقويس الحواجب، وحلوكة نبات الشعر، وسبوغها إلى مؤخرة الآماق، ودقة تخطيطها كأنها قوادم الخطاف، وانعطاف طرفي القسي الموترة والحنايا المأطورة؛ وتردد الأجفان بين الدلال والتفتير، والغنج والتكسير، كأنها حور الظباء بابليات النظر، أو ربائب الوحش من سرب البقر، وسواد نقط الخيلان على وضح بشرة الوجه، كأنها النكتة السوداء في صفحة البدر، أو بدد تفاريق الغسق على بلج الفجر، أو نقطة الزاج في صفيحة العاج؛ وحمرة العوارض ملونة بخضرة التعذير، كأنها طرار البنفسج على ورقات الورد الجني، أو يورد زهر الربيع الباكر على الغصن الروي، أو آثار المسك على خد الكاعب الرود، أو برد الدجى لاح في الخطوط السود؛ ولعس الشفاه، وصغر تقطيع الأفواه، وأشر الثنايا، وشنب اللثات، وبرد الريق، وعذوبة المذاق، وسلامة النكهة من الخلوف، ورخامة الصوت، ودلال الحديث، وإشراف الأرانب، وقنا القصبات، ولين الأعطاف، وتمايل القدود والقامات، كأنما مالت بها سورة الشراب، وسقاها ربعي الشباب، أو انخنثت من السكر، أو عبثت بها نشوة الخمر؛ واندماج الخصور، ورقة الأوساط، حتى تكاد تنقد هيفاً، وتنبت قضفاً، وعبالة الأكفال، وامتلاء المآزر، وخدالة السوق، وشطانة الأبدان، وري العظام، واكتناز القصب، ودماثة الأكعب، وغموض المرافق وغوص حجمها في ري المعاصم، والمأكمة الرابية، والعجيزة الوثيرة، وثقل تكيفها كالكثيب الرجراج، أو كمتلطم الأمواج، مختومة هذه النعوت بالمختار من فوارد الشعر ومنتخبه الذي يعب فيه الذهن ويلتهمه السمع وتعتزيه النفس في أسباب الهوى، وأحوال الحب، ودواعي العشق، وتباريح الوجد، ولاعج الشجو، والوداد الدائم والمحافظة اللازمة، وعلائق الخلة ونوازع المقة التي تلتحم بها الأحشاء، وتلتبس الأعضاء، وتجري مجرى الدم، وتسري مسرى السم، لا تحول مدى الأيام، ولا تزول طوال الليالي، مخبرة عن صحة العهد، ودوام الوفاء، وصدق المودة، وشدة المحبة، وعزوب الصبر، وتمادي الوله، ولجاج القلب، ومطال الشوق، واستسلام الجوانح لسلطانه، وانقياد الشديد الشكيمة، الأباء للهضيمة، ومبتدأ القلق الذي أوله نظرة، وأوسطه خطرة، وآخره فكرة، وتنوع جنس الحب: من لجاج مكب، وعرض متفق، كما تجلب الشيء البعيد جوالبه، ومستفاد بالنشد والإلف، وكيف يجنيه الطرف، ويتشبث به القلب، ويمتزج بعلائقه الكبد؛ إلى ما يتفرع عليه من وصل وصدود، وإقبال وإدبار، وفرقة وألفة، وقلق وسكون، وتواصل الأحباء، ومراصدة الرقباء، متفننة في جميع جهاتها، ومتفرقة في كل طرقاتها، مستصلحة للحفظ والمذاكرة؛ مرتضاة للملاقاة والمحاضرة، ملتقطة من لفظ الأفواه. فالناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، وينشدون أحسن ما يحفظون. فهي عريقة في الاختيار مرات، عائدة من جهات بإيناس المستوحش، وعمارة المجلس، وتلهية القلب، ونفي الوحدة، وتعلة النفس، وتسلية العزب الوحيد، والمستهام العميد.
وعقيبها الفصل الثالث في أوصاف الربيع، وإيماض برقه، ونشر سحائبه، وجلجلة رعده، وسقوط قطره، وفترة نسيمه، وسجسج هوائه، وانعطاف قوسه وسط الغمام أخضر بجنب أحمر إلى أصفر، كما تظاهرت العروس بين جلابيبها وبعض الذيل أصر من بعض، أو كما عقدت الكاعب الرود أسورتها على معصمها من مصوغ ذهب إلى منظوم زبرجد بينهما معقود ياقوت؛ وهبوب الرياح على وجوه الغدران ومسحها أقذاءها كأنها ماوية مصقولة، أو مرآة مجلوة، وعصفة الشمال بالسواقي ممتدة على استواء كأنها حية تسعى أو صفيحة الحسام المسلول؛ وتدريجها متونها حزوزاً كمتون المبارد، أو حلقاً كمراقد الأساود؛ وأنواع الأزاهير وصنوف الرياحين، وكيف يتضمخ الجو من عرفها، وتتضوع المسارب بأرجها؛ وانفتاق الأنوار من أكمامها، وخروجها من أغطيتها إلى مسرى هيجها على ظواهر الأرض، وأوان جفوفها بضواحي الجلد، وحين يبسها بأشراف الجبال ومتون الأقبال؛ وذبول نضارتها، وتصوح بهجتها، وعودها هشيماً تذروه الرياح، وتنسفه الأرجل مختوماً بمشموم الطيب من المسوك والعنابر والكوافير والأعواد والغوالي، وذكر حقائق اشتقاقها وشواهدها من العربية، وحصر أسمائها وإيراد ما صرفته الشعراء من معانيها.
وبعده الفصل الرابع في نعت الخمور وعد أساميها وتحقيق اشتقاقها وموضوعاتها وأبنيتها ولغاتها، والأمثال المضروبة بها، وصفات أحوالها من مبتكر الأمثال، وتوريق كرومها وتعريشها على الدعائم وشدها بالقوائم، ثم اخضرار أوراقها، وتهدل أفنانها، وتفنن شعبها، وانعقاد حباتها، وإيناع ثمراتها، وتدلي أعنابها، وتساقط قضبانها، موقرة دوالح بأحمالها مكتنزة عناقيدها، هوادل بأثقالها كما احتبى الزنج في الأزر الخضر، أو تعرض الثريا في أزرق الفجر؛ إلى أن تنبذ في الخوابي، وتسلم إلى الظروف، وتودع الأوعية، نصب عين الشمس، فيطبخها حمي الهواجر، ويصفيها لفح السمائم بالظهائر، فتستوعب قوتها، وتستوفي حولها وشدتها، حتى يجتليها السقاة في معارض الأقداح، وتحثها ركباً على مطايا الراح، قهوة حمراء في زجاجة بيضاء عذراء من حلب الأعناب بمزاج حلب السحاب، فينتظم بها شمل السرور ويتجنب حماها طوارق المحذور.