نقوس المهدي
كاتب
لا يمكن أن نفصل التجارب الشعرية التي ارتبطت بالزوايا المغربية خلال القرنين الحادي عشر و الثاني عشر الهجريين عن السياق الثقافي العام، وعن طبيعة الاختيارات والتصورات التي كانت تحكم الممارسة الإبداعية وتحدد ضوابطها وحدودها الفنية والمعرفية. ولذلك فإن التركيز على حركة الشعر والإبداع في إطار الزاوية لا يعني أن ثمة تميزا فرض نفسه على الساحة الشعرية، أو استطاع أن يجعل العملية الإبداعية تختلف، تصورا وإبداعا وتذوقا، عما كان سائدا في المجتمع ومتداولا بين الناس. فمفهوم الشعر عند شعراء الزوايا هو نفسه ما درج عليه غيرهم من الشعراء، خصوصا في العصور المتأخرة.ولعل هناك عوامل كثيرة جغرافية وتاريخية وثقافية وذهنية واجتماعية كانت وراء هذا التوجه ومتحكمة في العقلية المنتجة للأدب بوجه عام، ولفن الشعر على وجه الخصوص. فاختيارات المغرب المرجعية العقدية والمذهبية و الفكرية[1] فرضت علية نمطا ثقافيا متميزا عن الأنماط الثقافية في المشرق. لم يكن من حق الممارسة الشعرية أن تستقل بنفسها، أو تسلك اتجاها معاكسا للتيار الثقافي العام. فقد ساهمت الطرق التعليمية والمقررات الدراسية والخطابات العلمية في تشكيل عقلية المثقف المغربي وفي تحديد ذوقه واختياراته، وجعلت منه مكرسا للتصور العام السائد وملتزما به وخاضعا لمقاييسه. كما ساهمت مواقف العلماء والفقهاء من أشكال الممارسة الثقافية والإبداعية في تنشيط هذا النوع أو في تعطيل غيره. فقد كان الإبداع يتم تحت أعين الرقيب وبإشراف الوصاية الفقهية. ونتيجة لذلك وجد الشعر صعوبة في التنفس بحرية، ووجد الشاعر حصارا كبيرا حال دون انطلاقه في مجال التفكير والتعبير والخيال.عاش الشعر غريبا ،وكان صاحبه هو أيضا كائنا يحس بالغربة في مجتمعه. فقد ظل في الهامش و في المواقع الخلفية، لم يتصدر المجالس ولم يحتل المواقع الأمامية عند ذوي الجاه والسلطان،لأن الفقهاء و العلماء عرفوا كيف يحتكرون السيادة والريادة في مجتمع جعل منهم عدولا و سادة، ونصبهم في مراكز القرار، وخفض لهم أجنحة الذل، ونفخ فيهم روح التميز و القيادة.
لم يكن الشعر يمتلك استقلاله الذاتي داخل المنظومة الثقافية ولم تكن النظرة إليه أو المواقف منه مشجعة على العطاء والإبداع. فقد صنف العمل الشعري في خانة هامشية، وتعامل معه المجتمع الثقافي تعاملا انتهازيا منفعيا، فجعله أداة ووسيلة لخدمة العلوم والمعارف الدينية واللغوية بعد تجريده من بعده الفني والجمالي. تحول الشعر إلى آلية خادمة لغيره من المعارف، وكان هذا هو الشرط الصعب الذي وضعه الفقهاء لكل من سولت له نفسه قرض الشعر أو الركض في حلبته .
ظل الشعر المغربي يبحث لنفسه عن حضور مهما كانت درجته، ويريد إثبات وجوده في حظيرة الثقافة المغربية، ولو كان ذلك على حساب جماليته. فقدم الشعر الكثير من التنازلات حتى يحافظ على هذا الوجود في مجتمع لا يعترف بالشعر، بل يعتبره مدعاة لفساد النفوس، وينظر إليه "بعين الاستخفاف و الازدراء والشك"[2]. وكان مبرر هذه النظرة الدونية إلى الشعر أنه "يشغل عن القرآن ويصرف عن الاهتمام بأمور الدين، ومن ثم يكون الابتعاد عنه صوابا، والتوقف عن قرضه فضيلة"[3].
هذه المواقف الصارمة المعادية للممارسة الشعرية والساعية إلى إقصاء القول الشعري من الواقع الثقافي شكلت تيارا قويا يقوده كبار العلماء والفقهاء، أمثال الشيخ عبد القادر الفاسي(ت1091) وغيره. فلم يكن أمام صاحب الكلمة الشعرية سوى أن ينساق مع الشروط التقليدية التي وضعت للقول الشعري، وأهمها الخضوع المطلق للرؤية الدينية وخدمة المعارف والعلوم الشرعية واللغوية، وجعل الكلمة الشعرية "مجرد أداة للعلوم الفقهية واللغوية، ووسيلة لحفظ الشاهد في معرض علم النحو وعلم البلاغة وأيضا في رواية المثل السائر"[4]. وهذا التوظيف النفعي البراغماتي جعل الشعر "يخرج عن حقله الإبداعي إلى حقل آخر يكتسب فيه نوعا من البراعة... فالشعر يتحول إلى معرض لاختبار القدرة النظمية، ولا أقول الملكة الشعرية، والتفوق بها على الأنداد والأقران"[5].
فلم يعد الشعر- عند بعض النقاد- محددا لملامح التميز الثقافي أو عنصرا أساسيا في بناء الشخصية العلمية والثقافية وإنما أصبح "عنصرا مكملا لثقافة العالم، ووسيلة لإظهار القدرة التعبيرية، وباعتبار دوره لا يتعدى الترويح عن النفس، وتبادل العواطف مع الآخرين"[6].
ونتيجة لهذه التوجيهات الصارمة والقيود القاسية التي وضعت على يد الشاعر، ظلت المحاولات الشعرية تدور في فلك الرؤية الدينية، وتلبس رداء الفقهاء، وتحتضن أصواتهم ورؤاهم. بل أصبحت القيم الخلقية شرطا أساسيا في عملية الإبداع، بحيث لا يجوز للشاعر إطلاق العنان لخياله أو لسانه، ولا يسمح له بالمناورة في محيط المسكوت عنه. وقد التزم أغلب الأدباء بهذا الإطار القيمي، واعتمدوه كمرجعية فكرية للقول الشعري. إذ لم يكن نضالهم الطويل من أجل ترسيخ الممارسة الشعرية في البيئة الثقافية تمردا على قيم المجتمع و منطلقاته المرجعية،بقدر ما كان كفاحا من أجل تحرير الشعر من حالة الاحتجاز و الحصار التي فرضها الفكر الفقهي المتزمت.. وهكذا وضع أبو علي اليوسي ، وهو أحد رموز هذه الفترة، ضوابط أخلاقية و قيمية للقول الشعري وحدد الإطار العام للممارسة الشعرية معتمدا على مرجعيته الدينية وثقافته الصوفية قائلا : "... فقد بان بهذا فضل الشعر، وأن لا بأس به أصلا. غير أنه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فإن هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى، أو لمدح النبي صلى عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه فهو مندوب إليه مرغب فيه. وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضا. وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب الموذى، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء. وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة. إلا أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يحرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القائل والمخاطب"[7].
وقد استند اليوسي في هذه الضوابط إلى المنطق الفقهي الخالص، واعتمد في الأساس على موقف النبي (ص) من القول الشعري فأورد بعض الأحاديث النبوية مثل قوله (ص) {إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه} وقوله (ص) {إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب}[8].
لقد كان لهذه الرؤية النقدية المعتمدة على الخلفية الدينية تأثير واضح على التجارب الشعرية المغربية، ودور كبير في توجيه الممارسة الإبداعية و تأطيرها في حدود دينية وأخلاقية، وهذا ما ساهم في ظهور "صنف خاص من الشعر أطلق عليه لقب (شعر الفقهاء) وأصبح هذا اللقب صفة تميز أغلب الإنتاج الشعري المغربي... وإن عبارة (شعر الفقهاء) لتعكس بحق أبعاد هذا الواقع الثقافي. فالفقهاء الذين تعاطوا للنظم الشعري، لم يكن يعنيهم صوره أو عوالمه التخييلية بقدر ما كانت مقصديتهم من النظم توسيع مجالات إدراكهم وتنويع وسائل تعبيرهم. ولهذا قل أن تجد عالما أو فقيها لم يجرب حظه في مسألة النظم الشعري. وبالرغم من أن الشعر لم يكن يشكل بؤرة نشاط المثقفين في البيئة المغربية إلا أنه احتل مكانا مميزا في النسيج الثقافي"[9].و قد رفض هذا الطرح بعض النقاد المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى الشليح، بحيث يذهب إلى أن هذه المقولة أساءت إلى الشعر المغربي فنزعت عنه أدبية القول، وصنفته في خانة النظم المستهلك والمتهالك، ويرى"أن هذه المقولة، منطوقا ومفهوما،غير ثابتة في تاريخ الأدب المغربي، وغير ملزمة له حتى في أدب المرابطين."[10]
إن التلقي الساذج لمقولة (شعر الفقهاء) يجعل القارئ يجنح بفكره عن مجال الإبداع الحق، ويدفعه إلى امتلاك تصور قاصر أو خاطئ عن هذا النوع من الشعر. وهذا ما ساهم في تدفق الاتهامات القاسية المبنية على تصورات ظنية و أحكام متسرعة مجانية. فمن تواصل مع الشعر المغربي تواصلا نصيا، و احتك بنماذجه ودرر نصوصه احتكاكا تذوقيا، وتجرد من كل خلفية سابقة،لا يمكن أن يقتنع بالحمولة القدحية لمقولة (شعر الفقهاء)، وسيتعرف عن قرب على تجارب شعرية لا تقل فنية عن نماذج الشعر العربي المشرقي و الأندلسي. وإذا كنا نقول بأن شخصية الشاعر قد ظلت متوارية خلف شخصية الفقيه، فهذا لا يعني ذوبان البعد الفني وانسحاب الشعري من دائرة المنافسة على احتلال الواجهة والمواقع الأمامية، لأن شخصية الفقيه لم تستطع أن تلغي شخصية الشاعر أو أن تمنعه من ممارسة طقوسه الفنية معاناة وخيالا وإبداعا.فقد ظل الشاعر يمارس حضوره الفني من تحت عباءة الفقيه، وظل يغازل تمثال الجمال ويركب صهوة الخيال في إطار من الوقار، و في جو من الالتزام بالمعايير الأخلاقية التي ارتضاها العقل والقلب و الذوق، و أقرها الدين وقيم المجتمع.
وقد كان للزوايا الصوفية دور كبير في تكريس هذا التصور الأخلاقي وتوجيه الممارسة الشعرية نحو المسار القيمي / الديني. بل إن هذه الزوايا قد احتضنت أغلب التجارب وطبعتها بطابعها الصوفي الروحي، وجعلت من الشعر قناة فنية لخدمة التجارب الصوفية. ففي رحاب الزوايا التقت الحساسية الفنية بالحساسية الدينية واندمجتا في لحمة تمخضت عنها القصيدة الشعرية الصوفية ذات الخصوصية الفنية والمعرفية، والتي أكسبت الممارسة الشعرية بعضا من التميز، وجعلت منها إضافة نوعية في تراثنا الأدبي المنظوم.
فالاتجاه الديني الذي أطر الممارسة الأدبية المغربية "هو الذي حفظ للمغرب تميز أدبه عن المشرق الذي أثر فيه غزو التتر والمغول واحتلال الترك ... وسلامة المغرب من ذلك أتاح للعربية أن تنمو في بيئة عرفت بكثرة مراعيها العلمية، فكان هذا الاتجاه الديني مبلورا للرؤية الإبداعية"[11].
لقد أنشأت الزوايا للشعر فضاء روحيا واجتماعيا يتحرك فيه تلقيا ورواية وإبداعا وتذوقا وتنظيرا، اعتمادا على المرجعية الصوفية. وظلت القصيدة الشعرية تدور في المدار الذي رسمته هذه المرجعية، تعزز القيم الروحية في النفوس، وتكرس التدين في المجتمع.
وليس غريبا أن يتأسس القول الشعري على الدعامة الدينية والخلقية. وليس ذلك منقصة ولا مدعاة للنيل من هذا النوع من الشعر، لأن في تراثنا النقدي مواقف نقدية ربطت الإبداع بالقيم، وجعلت من العنصر الأخلاقي مطلبا أساسيا في القول الشعري. فكثير من نقادنا القدامى أكدوا على البعد الأخلاقي للشعر، وجعلوه مما يعطي للنص قيمته. فمنهم من وجد الجمال والمتعة في قصائد بسيطة من حيث التقنيات الفنية والآليات التعبيرية، ولكنها كانت حاملة لمشروع إصلاحي أو مكرسة لقيم الخير، من ذلك موقف أبي عمرو بن العلاء من قصيدة المثقب العبدي التي يقول فيها :
فـإما أن تكــون أخي بحـــق * فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحنــي واتخذنـــــي * عــدوا أتـقـيك وتتقيـني
فما أدري إذا مــت أرضــــا * أريد الخير أيهمــا يليــني
أ الخير الذي أنــا أبتـــغيــه * أم الشر الذي هـو يبتغــيني
فكان موقف أبي عمرو منطلقا من مرجعية خلقية خالصة، حينما علق على النص بقوله "لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه"[12].
وعلى هذا الأساس، فإن جمالية الشعر ليست دائما مقرونة بحصول اللذة الفنية، بل قد تتغلب جمالية المعنى فتكسب الشعر فرادته وتميزه. وقد شكل هذا المنطلق النقدي أساس التصنيف للمختارات الشعرية، فقد كان العامل الخلقي يراعى فيها قبل أن يراعى العامل الفني. وذلك باعتبار الشعر ذا وظيفة تربوية وحاملا لقيم يتربى عليها الراغبون في صناعة الأدب.
وعلى الرغم مما يمكن أن يحمله الشعر من معان سامية وقيم وتوجيهات أخلاقية وسلوكية، فإن المجتمع الثقافي قد انقسم في موقفه من الشعر ومن أصحابه ومتعاطيه.فظهر اتجاهان مختلفان[13] ؛ اتجاه متطرف يرفض الشعر ويحارب أصحابه وينعتهم بالبعد عن الفطرة باعتبار أن" الشعر يشغل عن القرآن"[14].واتجاه معتدل، حاول تكييف فن الشعر مع النزعة الدينية، وبحث عن المبررات والأصول الشرعية التي تجيزه وتتقبله. وهذا الاتجاه الأخير هو الذي تبنته الزوايا -وخاصة الدلائية والناصرية-. فكان المكون الأخلاقي جزءا من بنية الشعر، وعلامة بارزة في معظم التجارب الشعرية.
ومن هنا نستطيع أن نعدل نظرتنا إلى شعر الزوايا الذي يندرج ضمن هذا الإطار الأخلاقي، ونركز على خصوصيته ووظائفه المتعددة دون أن نسقط الالتفات إلى جماليته الفنية. فهذا النوع من الشعر يتقاطع فيه البعدان الرسالي والفني، ويتصل فيه الهاجس الإبداعي بالهاجس الفكري والديني. ولذلك كانت القصيدة الشعرية التي أنجبتها الزوايا المغربية قصيدة مركبة وغير بسيطة، قصيدة تنصهر فيها عناصر شتى، ولها أبعاد مختلفة ومتنوعة مرجعية ووظيفية وجمالية.
والغالب على شعر الزوايا أن ولادته - في أكثر نماذجه- لم تنزح عن الأجواء الدينية والطقوس الصوفية التي خلقتها الزوايا وساهمت في تكرسيها في المجتمع. كما أن هذا الشعر ظل مرتبطا بالخطاب الديني الصوفي وبرموزه. فلم يكن الشعر صناعة أدبية مقصودة لذاتها[15]، وإنما كان إنتاجا فنيا وظيفيا استجابة لما يفرضه منطق الانتماء و الالتزام، ولما تتطلبه الحياة الصوفية من أذكار وأوراد وابتهالات، و لما يقتضيه الولاء الطرقي من مدح للشيوخ والأولياء وتشوق إلى المقدس بكل عناصره وما يصاحب ذلك من بكائيات و اعترافات و زهديات وتوسلات. فلم تكن الخلفية الفنية أساس هذا الشعر أو منطلقه الأول، وهذا ما يجعل كثيرا من نماذجه لا ترقى إلى مستوى الإحسان الفني.
ومع ذلك يبقى الشعر المرتبط بالزوايا من أكثر النصوص التباسا، وأكثرها تعبيرا عن الخصوصية الفكرية وعن نوع خاص من الفهم للقول الشعري ولوظائفه. فلم يكن الخطاب الديني سمة لصيقة به بشكل عام، ولم يكن هاجس الانتماء الإيديولوجي / الطرقي المحرك الوحيد للقول الشعري. بل إننا نجد ،في تراثنا الشعري الذي أبدعه رجال الزوايا وأدباؤها، تجارب شعرية دارت مع الحياة الوجدانية والاجتماعية والسياسية، وعبرت عن هموم الإنسان و عن إحباطاته ونزواته وتطلعاته، بعيدا عن الخطاب الديني. وكأن الشاعر- من حين لآخر- كان ينفلت من مغناطيس التصوف، ويتحرر من التوجيه الديني ليمنح لنفسه الحق في أن يفكر خارج الإطار الفكري الذي ينتمي إليه، وأن يستمع إلى صوت النفس وثرثرة القلوب وهدير المجتمع.
ولعل أبرز نموذج لشعر الزوايا في العصور المتأخرة، التجارب الشعرية التي احتضنتها الزاوية الدلائية. فقد كانت تمثل الصورة الناصعة لهذا النوع من الشعر من حيث أبعاده الوظيفية والجمالية. كان لهذه الزاوية أثر كبير على الشعر المغربي بصفة عامة. وكان لها امتداد واضح ظهرت معالمه في تجارب شعرية خارج إطار الزاوية. لأن الحركة الشعرية الدلائية لم تكن حركة منغلقة على نفسها، ولم تكن محدودة الآفاق، بل انفتحت على الحياة بكل مكوناتها، وتركت بصماتها في كثير من الواجهات. ولعل النتائج الطيبة التي انتهى إليها الأستاذ السقاط في بحثه عن شعر الدلائيين[16] تؤكد قيمة شعر الزوايا المغربية وتبرز أهميته. فهو شعر استوعب التجارب الشعرية العربية الموروثة، مشرقية وأندلسية، واستطاع أن يحافظ على تميزه واستقلاله دون أن ينجرف مع تيار التقليد انجرافا تاما.شعر استفاد أصحابه من القدامى، وأضافوا إلى القول الشعري نكهة مغربية خالصة كشفت عن شخصية الشاعر وعن درجة تفاعله مع الواقع.ولعل مثل هذا العنفوان الشعري الذي يبرز في بعض التجارب الشعرية المغربية هو الذي يجعلنا" ملزمين بنخل ما تدوول من شيوع الفقه وشحوب الشعر في الحياة الأدبية المغربية. ومجبرين على تشذيب بعضها غير المؤسس على تعامل نصي، لنملك ، بعد ذلك، تصورا حقيقيا لذلك الشعر يمكن من تقويم خالص له. ثم موضعته في دائرة الشعر العربي."[17]
وإذا قمنا باستقراء للتراث الشعري المنتمي للعصور المتأخرة نجد أن أغلب نماذجه ولدت من رحم الزوايا، ودارت في مدارها وعبرت عن الواقع الديني والعلمي الذي ميز تلك الفترة. وكان أعلام الشعر المغربي من كبار شيوخ الزوايا ورجالها وأتباعها. فتكاد لا تجد زاوية إلا ولها من الشعراء والأدباء من ذاع صيته وطال كعبه في مجال القريض. وكان الاختلاف بينا بين زاوية وأخرى بحسب التيار الغالب فيها. ففي الزاوية الدلائية لمعت كوكبة من الشعراء المرموقين الذين توارثوا الشعر أبا عن جد، وجمعوا في شخصياتهم بين الشاعرية و الفروسية. وقد شكل الشعر في هذه الزاوية إحدى العلامات المميزة لنشاطها العلمي والأدبي، وذلك بالنظر إلى ما خلفه شعراؤها من تراث شعري زاخر تحفل به التاريخ و التراجم و الشروح و الرحلات و المختارات الأدبية[18]. وكان للتجارب الشعرية الدلائية صدى واسع وممتد في كل البلاد المغربية وفي الزاوية العياشية لمع نجم أبي سالم العياشي(ت1090) الذي تحول بعد ذلك إلى شاعر مكثر له أكثر من انتماء وكانت أشعاره تمثل جانبا مهما من شخصيته العلمية[19]. وفي الزاوية الناصرية ظهرت حركة شعرية نشيطة يمكن اعتبارها امتدادا للنشاط الشعري الذي عرفته الزوايا الأخرى السابقة. فقد تجمع في هذه الزاوية زمرة من كبار الأدباء ، وتوافد عليها كل ذي قريحة أدبية وملكة شعرية وحساسية فنية، و تلاقحت فيها العقول والمواهب، وتحاورت فيها الرؤى والمواقف والتصورات. فأصبحت محضنا طبيعيا لنشاط شعري قوي، أعلن عن نفسه من خلال المطولات الشعرية الناصرية التي أبدعها كل من العياشي(ت1090) واليوسي(ت1102) والتجموعتي(ت1118) وأحمد الحلبي(ت1120) وأحمد التستاوتي(ت1127) ومحمد العلمي الحوات(ت1161) وغيرهم من أعلام العصر. فلقد فتحت هذه الزاوية أمام الأدباء باب الانتماء وباب العطاء، فكانت حصيلة هذا الانفتاح تراثا شعريا ناصريا يحمل تواقيع النخبة المثقفة في ذلك العصر. وهذا ما شكل دافعا للتميز والجودة والمنافسة. فالدالية اليوسية الناصرية كانت بمثابة منبه قوي امتد صوته إلى كل الآفاق،حيث جعلت القرائح الشعرية تلتفت إلى الزاوية وإلى شيوخها، و دفعت الشعراء إلى المنافسة في القول الشعري و إلى الإجادة فيه. فتم الإعلان عن ميلاد زمن شعري جديد، إنه الزمن الشعري الناصري الذي كان له امتداد إلى أواخر القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر للهجرة.
[1] - تتحدد اختيارات المغرب المرجعية في: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي و التصوف السني(تصوف الجنيد)
[2] ـ أحمد الطريسي : الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية، ص : 15.منشورات كلية الآداب بحوث: 4، جامعة محمد الخامس الرباط.
[3] ـ عبد الجواد السقاط ، بناء القصيدة المغربية في فجر الدولة العلوية ( 1045-1139): ص : 51.منشورات كلية الآداب- المحمدية،) ط 1( ،2004
[4] ـ أحمد الطريسي : الإبداع الشعري...، ص : 15.
[5] ـ م. نفسه، ص : 17.
[6] ـ عباس الجراري : الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه ج1 / ص : 200. مكتبة المعارف ،الرباط 1970، يرفض الأستاذ مصطفى الشليح تعميم هذا الطرح ويعتبره غير منصف للشعر المغربي في العصور المتأخرة .فبالنسبة إليه:"ليس الشاعر المغربي فقيها، وما كان الشعر ملحقا لتكملة معرفة"- في بلاغة القصيدة المغربية،ص:465 ، مطبعة المعارف الجديدة - الرباط، الطبعة الأولى، 1999
[7] ـ الحسن بن مسعود اليوسي(أبو علي) : زهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقيق محمد حجي محمد الأخضر، ج1 /ص: 48. دار الثقافة البيضاء ط1-1401-1981
[8] ـ م. نفسه، ص : 48.
[9] ـ محمد شداد الحراق : محمد المكي بن ناصر : تراثه العلمي والأدبي: تصنيف و دراسة، ج 2 / 410 ـ 411، رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب، تطوان. 1998.
[10] - في بلاغة القصيدة المغربية،ص:52
[11] ـ عبد الله بنصر العلوي : أبو سالم العياشي المتصوف الأديب ،ص : 151 ـ 152، منشورات وزارة الأوقاف المغربية 1419-1998 .
[12] ـ عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري : الشعر والشعراء، حققه وضبطه مفيد قميحة، مراجعة نعيم زرزور، ص : 250،دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان،ط 2- 1405 / 1985
[13] - انظر: السقاط ، بناء القصيدة المغربية...ص:51-52
[14] -م نفسه،ص:51 نقلا عن "ابتهاج القلوب" لعبد القادر الفاسي.
[15] - انظر: مبحث :الشعر علم وصناعة :عبد الجواد السقاط: بناء القصيدة المغربية...،ص:42-46
[16] ـ انظر الشعر الدلائي ، ص : 305 ـ 326. مكتبة المعارف، ط1، 1985
[17] - مصطفى الشليح، في بلاغة القصيدة المغربية،ص:54
[18] - انظر :السقاط، الشعر الدلائي
[19] - انظر: عبد الله بنصر العلوي: أبو سالم العياشي المتصوف الأديب
د. محمد شداد الحراق
لم يكن الشعر يمتلك استقلاله الذاتي داخل المنظومة الثقافية ولم تكن النظرة إليه أو المواقف منه مشجعة على العطاء والإبداع. فقد صنف العمل الشعري في خانة هامشية، وتعامل معه المجتمع الثقافي تعاملا انتهازيا منفعيا، فجعله أداة ووسيلة لخدمة العلوم والمعارف الدينية واللغوية بعد تجريده من بعده الفني والجمالي. تحول الشعر إلى آلية خادمة لغيره من المعارف، وكان هذا هو الشرط الصعب الذي وضعه الفقهاء لكل من سولت له نفسه قرض الشعر أو الركض في حلبته .
ظل الشعر المغربي يبحث لنفسه عن حضور مهما كانت درجته، ويريد إثبات وجوده في حظيرة الثقافة المغربية، ولو كان ذلك على حساب جماليته. فقدم الشعر الكثير من التنازلات حتى يحافظ على هذا الوجود في مجتمع لا يعترف بالشعر، بل يعتبره مدعاة لفساد النفوس، وينظر إليه "بعين الاستخفاف و الازدراء والشك"[2]. وكان مبرر هذه النظرة الدونية إلى الشعر أنه "يشغل عن القرآن ويصرف عن الاهتمام بأمور الدين، ومن ثم يكون الابتعاد عنه صوابا، والتوقف عن قرضه فضيلة"[3].
هذه المواقف الصارمة المعادية للممارسة الشعرية والساعية إلى إقصاء القول الشعري من الواقع الثقافي شكلت تيارا قويا يقوده كبار العلماء والفقهاء، أمثال الشيخ عبد القادر الفاسي(ت1091) وغيره. فلم يكن أمام صاحب الكلمة الشعرية سوى أن ينساق مع الشروط التقليدية التي وضعت للقول الشعري، وأهمها الخضوع المطلق للرؤية الدينية وخدمة المعارف والعلوم الشرعية واللغوية، وجعل الكلمة الشعرية "مجرد أداة للعلوم الفقهية واللغوية، ووسيلة لحفظ الشاهد في معرض علم النحو وعلم البلاغة وأيضا في رواية المثل السائر"[4]. وهذا التوظيف النفعي البراغماتي جعل الشعر "يخرج عن حقله الإبداعي إلى حقل آخر يكتسب فيه نوعا من البراعة... فالشعر يتحول إلى معرض لاختبار القدرة النظمية، ولا أقول الملكة الشعرية، والتفوق بها على الأنداد والأقران"[5].
فلم يعد الشعر- عند بعض النقاد- محددا لملامح التميز الثقافي أو عنصرا أساسيا في بناء الشخصية العلمية والثقافية وإنما أصبح "عنصرا مكملا لثقافة العالم، ووسيلة لإظهار القدرة التعبيرية، وباعتبار دوره لا يتعدى الترويح عن النفس، وتبادل العواطف مع الآخرين"[6].
ونتيجة لهذه التوجيهات الصارمة والقيود القاسية التي وضعت على يد الشاعر، ظلت المحاولات الشعرية تدور في فلك الرؤية الدينية، وتلبس رداء الفقهاء، وتحتضن أصواتهم ورؤاهم. بل أصبحت القيم الخلقية شرطا أساسيا في عملية الإبداع، بحيث لا يجوز للشاعر إطلاق العنان لخياله أو لسانه، ولا يسمح له بالمناورة في محيط المسكوت عنه. وقد التزم أغلب الأدباء بهذا الإطار القيمي، واعتمدوه كمرجعية فكرية للقول الشعري. إذ لم يكن نضالهم الطويل من أجل ترسيخ الممارسة الشعرية في البيئة الثقافية تمردا على قيم المجتمع و منطلقاته المرجعية،بقدر ما كان كفاحا من أجل تحرير الشعر من حالة الاحتجاز و الحصار التي فرضها الفكر الفقهي المتزمت.. وهكذا وضع أبو علي اليوسي ، وهو أحد رموز هذه الفترة، ضوابط أخلاقية و قيمية للقول الشعري وحدد الإطار العام للممارسة الشعرية معتمدا على مرجعيته الدينية وثقافته الصوفية قائلا : "... فقد بان بهذا فضل الشعر، وأن لا بأس به أصلا. غير أنه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فإن هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى، أو لمدح النبي صلى عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه فهو مندوب إليه مرغب فيه. وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضا. وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب الموذى، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء. وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة. إلا أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يحرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القائل والمخاطب"[7].
وقد استند اليوسي في هذه الضوابط إلى المنطق الفقهي الخالص، واعتمد في الأساس على موقف النبي (ص) من القول الشعري فأورد بعض الأحاديث النبوية مثل قوله (ص) {إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق فلا خير فيه} وقوله (ص) {إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب}[8].
لقد كان لهذه الرؤية النقدية المعتمدة على الخلفية الدينية تأثير واضح على التجارب الشعرية المغربية، ودور كبير في توجيه الممارسة الإبداعية و تأطيرها في حدود دينية وأخلاقية، وهذا ما ساهم في ظهور "صنف خاص من الشعر أطلق عليه لقب (شعر الفقهاء) وأصبح هذا اللقب صفة تميز أغلب الإنتاج الشعري المغربي... وإن عبارة (شعر الفقهاء) لتعكس بحق أبعاد هذا الواقع الثقافي. فالفقهاء الذين تعاطوا للنظم الشعري، لم يكن يعنيهم صوره أو عوالمه التخييلية بقدر ما كانت مقصديتهم من النظم توسيع مجالات إدراكهم وتنويع وسائل تعبيرهم. ولهذا قل أن تجد عالما أو فقيها لم يجرب حظه في مسألة النظم الشعري. وبالرغم من أن الشعر لم يكن يشكل بؤرة نشاط المثقفين في البيئة المغربية إلا أنه احتل مكانا مميزا في النسيج الثقافي"[9].و قد رفض هذا الطرح بعض النقاد المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى الشليح، بحيث يذهب إلى أن هذه المقولة أساءت إلى الشعر المغربي فنزعت عنه أدبية القول، وصنفته في خانة النظم المستهلك والمتهالك، ويرى"أن هذه المقولة، منطوقا ومفهوما،غير ثابتة في تاريخ الأدب المغربي، وغير ملزمة له حتى في أدب المرابطين."[10]
إن التلقي الساذج لمقولة (شعر الفقهاء) يجعل القارئ يجنح بفكره عن مجال الإبداع الحق، ويدفعه إلى امتلاك تصور قاصر أو خاطئ عن هذا النوع من الشعر. وهذا ما ساهم في تدفق الاتهامات القاسية المبنية على تصورات ظنية و أحكام متسرعة مجانية. فمن تواصل مع الشعر المغربي تواصلا نصيا، و احتك بنماذجه ودرر نصوصه احتكاكا تذوقيا، وتجرد من كل خلفية سابقة،لا يمكن أن يقتنع بالحمولة القدحية لمقولة (شعر الفقهاء)، وسيتعرف عن قرب على تجارب شعرية لا تقل فنية عن نماذج الشعر العربي المشرقي و الأندلسي. وإذا كنا نقول بأن شخصية الشاعر قد ظلت متوارية خلف شخصية الفقيه، فهذا لا يعني ذوبان البعد الفني وانسحاب الشعري من دائرة المنافسة على احتلال الواجهة والمواقع الأمامية، لأن شخصية الفقيه لم تستطع أن تلغي شخصية الشاعر أو أن تمنعه من ممارسة طقوسه الفنية معاناة وخيالا وإبداعا.فقد ظل الشاعر يمارس حضوره الفني من تحت عباءة الفقيه، وظل يغازل تمثال الجمال ويركب صهوة الخيال في إطار من الوقار، و في جو من الالتزام بالمعايير الأخلاقية التي ارتضاها العقل والقلب و الذوق، و أقرها الدين وقيم المجتمع.
وقد كان للزوايا الصوفية دور كبير في تكريس هذا التصور الأخلاقي وتوجيه الممارسة الشعرية نحو المسار القيمي / الديني. بل إن هذه الزوايا قد احتضنت أغلب التجارب وطبعتها بطابعها الصوفي الروحي، وجعلت من الشعر قناة فنية لخدمة التجارب الصوفية. ففي رحاب الزوايا التقت الحساسية الفنية بالحساسية الدينية واندمجتا في لحمة تمخضت عنها القصيدة الشعرية الصوفية ذات الخصوصية الفنية والمعرفية، والتي أكسبت الممارسة الشعرية بعضا من التميز، وجعلت منها إضافة نوعية في تراثنا الأدبي المنظوم.
فالاتجاه الديني الذي أطر الممارسة الأدبية المغربية "هو الذي حفظ للمغرب تميز أدبه عن المشرق الذي أثر فيه غزو التتر والمغول واحتلال الترك ... وسلامة المغرب من ذلك أتاح للعربية أن تنمو في بيئة عرفت بكثرة مراعيها العلمية، فكان هذا الاتجاه الديني مبلورا للرؤية الإبداعية"[11].
لقد أنشأت الزوايا للشعر فضاء روحيا واجتماعيا يتحرك فيه تلقيا ورواية وإبداعا وتذوقا وتنظيرا، اعتمادا على المرجعية الصوفية. وظلت القصيدة الشعرية تدور في المدار الذي رسمته هذه المرجعية، تعزز القيم الروحية في النفوس، وتكرس التدين في المجتمع.
وليس غريبا أن يتأسس القول الشعري على الدعامة الدينية والخلقية. وليس ذلك منقصة ولا مدعاة للنيل من هذا النوع من الشعر، لأن في تراثنا النقدي مواقف نقدية ربطت الإبداع بالقيم، وجعلت من العنصر الأخلاقي مطلبا أساسيا في القول الشعري. فكثير من نقادنا القدامى أكدوا على البعد الأخلاقي للشعر، وجعلوه مما يعطي للنص قيمته. فمنهم من وجد الجمال والمتعة في قصائد بسيطة من حيث التقنيات الفنية والآليات التعبيرية، ولكنها كانت حاملة لمشروع إصلاحي أو مكرسة لقيم الخير، من ذلك موقف أبي عمرو بن العلاء من قصيدة المثقب العبدي التي يقول فيها :
فـإما أن تكــون أخي بحـــق * فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحنــي واتخذنـــــي * عــدوا أتـقـيك وتتقيـني
فما أدري إذا مــت أرضــــا * أريد الخير أيهمــا يليــني
أ الخير الذي أنــا أبتـــغيــه * أم الشر الذي هـو يبتغــيني
فكان موقف أبي عمرو منطلقا من مرجعية خلقية خالصة، حينما علق على النص بقوله "لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه"[12].
وعلى هذا الأساس، فإن جمالية الشعر ليست دائما مقرونة بحصول اللذة الفنية، بل قد تتغلب جمالية المعنى فتكسب الشعر فرادته وتميزه. وقد شكل هذا المنطلق النقدي أساس التصنيف للمختارات الشعرية، فقد كان العامل الخلقي يراعى فيها قبل أن يراعى العامل الفني. وذلك باعتبار الشعر ذا وظيفة تربوية وحاملا لقيم يتربى عليها الراغبون في صناعة الأدب.
وعلى الرغم مما يمكن أن يحمله الشعر من معان سامية وقيم وتوجيهات أخلاقية وسلوكية، فإن المجتمع الثقافي قد انقسم في موقفه من الشعر ومن أصحابه ومتعاطيه.فظهر اتجاهان مختلفان[13] ؛ اتجاه متطرف يرفض الشعر ويحارب أصحابه وينعتهم بالبعد عن الفطرة باعتبار أن" الشعر يشغل عن القرآن"[14].واتجاه معتدل، حاول تكييف فن الشعر مع النزعة الدينية، وبحث عن المبررات والأصول الشرعية التي تجيزه وتتقبله. وهذا الاتجاه الأخير هو الذي تبنته الزوايا -وخاصة الدلائية والناصرية-. فكان المكون الأخلاقي جزءا من بنية الشعر، وعلامة بارزة في معظم التجارب الشعرية.
ومن هنا نستطيع أن نعدل نظرتنا إلى شعر الزوايا الذي يندرج ضمن هذا الإطار الأخلاقي، ونركز على خصوصيته ووظائفه المتعددة دون أن نسقط الالتفات إلى جماليته الفنية. فهذا النوع من الشعر يتقاطع فيه البعدان الرسالي والفني، ويتصل فيه الهاجس الإبداعي بالهاجس الفكري والديني. ولذلك كانت القصيدة الشعرية التي أنجبتها الزوايا المغربية قصيدة مركبة وغير بسيطة، قصيدة تنصهر فيها عناصر شتى، ولها أبعاد مختلفة ومتنوعة مرجعية ووظيفية وجمالية.
والغالب على شعر الزوايا أن ولادته - في أكثر نماذجه- لم تنزح عن الأجواء الدينية والطقوس الصوفية التي خلقتها الزوايا وساهمت في تكرسيها في المجتمع. كما أن هذا الشعر ظل مرتبطا بالخطاب الديني الصوفي وبرموزه. فلم يكن الشعر صناعة أدبية مقصودة لذاتها[15]، وإنما كان إنتاجا فنيا وظيفيا استجابة لما يفرضه منطق الانتماء و الالتزام، ولما تتطلبه الحياة الصوفية من أذكار وأوراد وابتهالات، و لما يقتضيه الولاء الطرقي من مدح للشيوخ والأولياء وتشوق إلى المقدس بكل عناصره وما يصاحب ذلك من بكائيات و اعترافات و زهديات وتوسلات. فلم تكن الخلفية الفنية أساس هذا الشعر أو منطلقه الأول، وهذا ما يجعل كثيرا من نماذجه لا ترقى إلى مستوى الإحسان الفني.
ومع ذلك يبقى الشعر المرتبط بالزوايا من أكثر النصوص التباسا، وأكثرها تعبيرا عن الخصوصية الفكرية وعن نوع خاص من الفهم للقول الشعري ولوظائفه. فلم يكن الخطاب الديني سمة لصيقة به بشكل عام، ولم يكن هاجس الانتماء الإيديولوجي / الطرقي المحرك الوحيد للقول الشعري. بل إننا نجد ،في تراثنا الشعري الذي أبدعه رجال الزوايا وأدباؤها، تجارب شعرية دارت مع الحياة الوجدانية والاجتماعية والسياسية، وعبرت عن هموم الإنسان و عن إحباطاته ونزواته وتطلعاته، بعيدا عن الخطاب الديني. وكأن الشاعر- من حين لآخر- كان ينفلت من مغناطيس التصوف، ويتحرر من التوجيه الديني ليمنح لنفسه الحق في أن يفكر خارج الإطار الفكري الذي ينتمي إليه، وأن يستمع إلى صوت النفس وثرثرة القلوب وهدير المجتمع.
ولعل أبرز نموذج لشعر الزوايا في العصور المتأخرة، التجارب الشعرية التي احتضنتها الزاوية الدلائية. فقد كانت تمثل الصورة الناصعة لهذا النوع من الشعر من حيث أبعاده الوظيفية والجمالية. كان لهذه الزاوية أثر كبير على الشعر المغربي بصفة عامة. وكان لها امتداد واضح ظهرت معالمه في تجارب شعرية خارج إطار الزاوية. لأن الحركة الشعرية الدلائية لم تكن حركة منغلقة على نفسها، ولم تكن محدودة الآفاق، بل انفتحت على الحياة بكل مكوناتها، وتركت بصماتها في كثير من الواجهات. ولعل النتائج الطيبة التي انتهى إليها الأستاذ السقاط في بحثه عن شعر الدلائيين[16] تؤكد قيمة شعر الزوايا المغربية وتبرز أهميته. فهو شعر استوعب التجارب الشعرية العربية الموروثة، مشرقية وأندلسية، واستطاع أن يحافظ على تميزه واستقلاله دون أن ينجرف مع تيار التقليد انجرافا تاما.شعر استفاد أصحابه من القدامى، وأضافوا إلى القول الشعري نكهة مغربية خالصة كشفت عن شخصية الشاعر وعن درجة تفاعله مع الواقع.ولعل مثل هذا العنفوان الشعري الذي يبرز في بعض التجارب الشعرية المغربية هو الذي يجعلنا" ملزمين بنخل ما تدوول من شيوع الفقه وشحوب الشعر في الحياة الأدبية المغربية. ومجبرين على تشذيب بعضها غير المؤسس على تعامل نصي، لنملك ، بعد ذلك، تصورا حقيقيا لذلك الشعر يمكن من تقويم خالص له. ثم موضعته في دائرة الشعر العربي."[17]
وإذا قمنا باستقراء للتراث الشعري المنتمي للعصور المتأخرة نجد أن أغلب نماذجه ولدت من رحم الزوايا، ودارت في مدارها وعبرت عن الواقع الديني والعلمي الذي ميز تلك الفترة. وكان أعلام الشعر المغربي من كبار شيوخ الزوايا ورجالها وأتباعها. فتكاد لا تجد زاوية إلا ولها من الشعراء والأدباء من ذاع صيته وطال كعبه في مجال القريض. وكان الاختلاف بينا بين زاوية وأخرى بحسب التيار الغالب فيها. ففي الزاوية الدلائية لمعت كوكبة من الشعراء المرموقين الذين توارثوا الشعر أبا عن جد، وجمعوا في شخصياتهم بين الشاعرية و الفروسية. وقد شكل الشعر في هذه الزاوية إحدى العلامات المميزة لنشاطها العلمي والأدبي، وذلك بالنظر إلى ما خلفه شعراؤها من تراث شعري زاخر تحفل به التاريخ و التراجم و الشروح و الرحلات و المختارات الأدبية[18]. وكان للتجارب الشعرية الدلائية صدى واسع وممتد في كل البلاد المغربية وفي الزاوية العياشية لمع نجم أبي سالم العياشي(ت1090) الذي تحول بعد ذلك إلى شاعر مكثر له أكثر من انتماء وكانت أشعاره تمثل جانبا مهما من شخصيته العلمية[19]. وفي الزاوية الناصرية ظهرت حركة شعرية نشيطة يمكن اعتبارها امتدادا للنشاط الشعري الذي عرفته الزوايا الأخرى السابقة. فقد تجمع في هذه الزاوية زمرة من كبار الأدباء ، وتوافد عليها كل ذي قريحة أدبية وملكة شعرية وحساسية فنية، و تلاقحت فيها العقول والمواهب، وتحاورت فيها الرؤى والمواقف والتصورات. فأصبحت محضنا طبيعيا لنشاط شعري قوي، أعلن عن نفسه من خلال المطولات الشعرية الناصرية التي أبدعها كل من العياشي(ت1090) واليوسي(ت1102) والتجموعتي(ت1118) وأحمد الحلبي(ت1120) وأحمد التستاوتي(ت1127) ومحمد العلمي الحوات(ت1161) وغيرهم من أعلام العصر. فلقد فتحت هذه الزاوية أمام الأدباء باب الانتماء وباب العطاء، فكانت حصيلة هذا الانفتاح تراثا شعريا ناصريا يحمل تواقيع النخبة المثقفة في ذلك العصر. وهذا ما شكل دافعا للتميز والجودة والمنافسة. فالدالية اليوسية الناصرية كانت بمثابة منبه قوي امتد صوته إلى كل الآفاق،حيث جعلت القرائح الشعرية تلتفت إلى الزاوية وإلى شيوخها، و دفعت الشعراء إلى المنافسة في القول الشعري و إلى الإجادة فيه. فتم الإعلان عن ميلاد زمن شعري جديد، إنه الزمن الشعري الناصري الذي كان له امتداد إلى أواخر القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر للهجرة.
[1] - تتحدد اختيارات المغرب المرجعية في: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي و التصوف السني(تصوف الجنيد)
[2] ـ أحمد الطريسي : الإبداع الشعري والتحولات الاجتماعية، ص : 15.منشورات كلية الآداب بحوث: 4، جامعة محمد الخامس الرباط.
[3] ـ عبد الجواد السقاط ، بناء القصيدة المغربية في فجر الدولة العلوية ( 1045-1139): ص : 51.منشورات كلية الآداب- المحمدية،) ط 1( ،2004
[4] ـ أحمد الطريسي : الإبداع الشعري...، ص : 15.
[5] ـ م. نفسه، ص : 17.
[6] ـ عباس الجراري : الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه ج1 / ص : 200. مكتبة المعارف ،الرباط 1970، يرفض الأستاذ مصطفى الشليح تعميم هذا الطرح ويعتبره غير منصف للشعر المغربي في العصور المتأخرة .فبالنسبة إليه:"ليس الشاعر المغربي فقيها، وما كان الشعر ملحقا لتكملة معرفة"- في بلاغة القصيدة المغربية،ص:465 ، مطبعة المعارف الجديدة - الرباط، الطبعة الأولى، 1999
[7] ـ الحسن بن مسعود اليوسي(أبو علي) : زهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقيق محمد حجي محمد الأخضر، ج1 /ص: 48. دار الثقافة البيضاء ط1-1401-1981
[8] ـ م. نفسه، ص : 48.
[9] ـ محمد شداد الحراق : محمد المكي بن ناصر : تراثه العلمي والأدبي: تصنيف و دراسة، ج 2 / 410 ـ 411، رسالة جامعية مرقونة بكلية الآداب، تطوان. 1998.
[10] - في بلاغة القصيدة المغربية،ص:52
[11] ـ عبد الله بنصر العلوي : أبو سالم العياشي المتصوف الأديب ،ص : 151 ـ 152، منشورات وزارة الأوقاف المغربية 1419-1998 .
[12] ـ عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري : الشعر والشعراء، حققه وضبطه مفيد قميحة، مراجعة نعيم زرزور، ص : 250،دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان،ط 2- 1405 / 1985
[13] - انظر: السقاط ، بناء القصيدة المغربية...ص:51-52
[14] -م نفسه،ص:51 نقلا عن "ابتهاج القلوب" لعبد القادر الفاسي.
[15] - انظر: مبحث :الشعر علم وصناعة :عبد الجواد السقاط: بناء القصيدة المغربية...،ص:42-46
[16] ـ انظر الشعر الدلائي ، ص : 305 ـ 326. مكتبة المعارف، ط1، 1985
[17] - مصطفى الشليح، في بلاغة القصيدة المغربية،ص:54
[18] - انظر :السقاط، الشعر الدلائي
[19] - انظر: عبد الله بنصر العلوي: أبو سالم العياشي المتصوف الأديب
د. محمد شداد الحراق