نقوس المهدي
كاتب
كلمة عن الشاي :
يعتقد بعض المؤرخين أن أول من عرف الشاي هم الصينيون قبل مولد المسيح، وقيل إن أحد أباطرة القدماء كان يشاهد إبريقا من الماء يغلي تحت إحدى الأشجار، وكانت فوهة الإبريق مفتوحة، وإذا ببعض الأوراق تسقط في الإبريق وتفوح منه رائحة طيبة ويتغير لون الماء.
وما إن تذوق الإمبراطور شيئا من هذا السائل حتى استطاب مذاقه، فأوصى المقربين استعمال هذه "العملية"، حتى شاع الصين بشرب الشاي.
وقيل إن أحد الكهنة البوذيين في الهند هو الذي اكتشفه، وأخذ يستخدمه باستمرار، ليبقى يقظا على الدوام، لأن الإكثار منه يحول دون النوم.
ودخل الشاي إلى أوربا في القرن السابع عشر عندما حمله الهولنديون إلى ابريطانيا، ومنها إلى فرنسا.
وقد عرفه العرب منذ القرن التاسع، وحمل أخباره إلى أوربا تاجر عربي، و"أحب العرب هذا المشروب، ووجدوا أنه يطفئ عطش الصحراء وأدخلوه في تقاليد الضيافة عندهم".Z
وحين وصل العرب في غزوهم إلى بلاد الفرس تعرفوا على "السماور" الذي كان وصل الفرس عن طريق روسيا.
ومن خلال اتصال البشر بعضهم ببعض عن طريق الرحلات والسفارات، انتشر استعمال الشاي في جميع أنحاء العالم، وأخذت بلدان عديدة تزرعه مثل إيران والهند والسيلان، فتعددت أنواعه وأدواته، وظلت الصين البلد المنتج الأساسي له في العالم.
وقد مهر الناس في تحضيره، وتباينت من قطر إلى قطر وسائل هذا التحضير.
الشاي في المغرب:
اتفق جل المؤرخين أن المغرب عرف الشاي في القرن الثامن عشر، وبدأ انتشاره عبر المغرب في منتصف القرن التاسع عشر لما صار المغرب يتعاطى للتجارة مع أوروبا.
وهكذا يبدو أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عصر السلطان المولى إسماعيل، حيث تلقى أبو النصر المولى إسماعيل "أكياسا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوروبيين للسلطان العلوي"، تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين، مما يدل على ندرته في البلاد المغربية.
وكان دخول مشروب الشاي إلى المغرب على يد التجار الإنجليز من جبل طارق، " ومنه انتشر بالمناطق الصحراوية والسودان الغربي، ووصل إلى "تمبوكتو".
واحتل الشاي منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبح له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصناع حرفة جديدة أبدعها أصحابها في صنع أدوات تحضير الشاي من "صينية" و"براد" وإبريق وبابور و"ربايع"، والتصق الشاي بحياة الشعب المغربي، وفرضت "جلساته" حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاته. وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون.
الشاي في الأدب المغربي :
ولما كان الأدباء المغاربة يعنون بنظم الأراجيز في مختلف العلوم والفنون تسهيلا على الطلبة والدارسين باستظهارها، والتمكن من قواعدها، جادت قريحة أديب فاس الشارع عبد السلام الأزموري – وهو من الأدباء المغاربة المغمورين – بأرجوزة مفيدة عن الشاي المغربي، وطرق تهييئه وأوانيه ومجالسه، وقد قام بشرح هذه الأرجوزة "الرائقة، العذبة المستملحة الفائقة" شيخ جماعة الرباط العلامة سيدي المكي البطاوري الرباطي رحمه الله، تحت عنوان:"شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة فيما يحتاج الأتاي إليه، ويتوقف شربه وإقامته عليه"،، وهي لا تخلو من نوادر طريفة، وأخبار أدبية، وفوائد تاريخية، واستطرادات قيمة، وفوائد مفيدة ومستملحات رقيقة، لها مكانتها في الأدب المغربي ومزيتها الخاصة.
ويعد سيدي المكي البطاوري من طبقة العلماء الأجلاء الموسوعيين الذين تكلفوا – كما قال العلامة المرحوم عبد الله الجراري – "بحفظ تراثنا الغالي على اختلاف أصنافه وفنونه، تشريعا وأدبا، تدريسا وتلقينا، تصنيفا وتأليفا، لتبسيط المسائل ووضعها في إطار سهل يجعل التلميذ والدارس يقبلان في انشراح ونشاط على التلقي والأخذ...".
وهكذا انكب شيخ جماعتنا على شرح المتون – النثرية والمنظومة – في مختلف العلوم والفنون الفقهية واللغوية، نذكر من شروحاته ومنظوماته المفيدة النيرة :
شرحه على "مقصورة المكودي" في السيرة النبوية.
وشرحه لقافية ابن الونان (الشمقمقية) :"اقتطاف زهرات الأفنان من دوحة قافية ابن الونان" ومطلعها :
مهلا على رسلك حادي الأينق = ولا تكلفها بما لم تطــق
و"للمؤرخ أحمد بن خالد الناصري صاحب "الاستقصا" شرح آخر عنوان "زهر الأفنان" للعلامة الكبير سيدي عبد الله بن كنون شرح ثالث "للشمقمقية".
وشرح لجوهرة التوحيد:" الحلل المجوهرة في شرح الجوهرة".
ونظمه "لأجرومية ابن أجروم" في مبادئ النحو.
يقول في باب "الكلام أقسامه" :
كلامهم لفظ مركب مفيد = بالوضع نحو جاء زيد ويزيد
وشرحه" للبيوقونية" نظم للشيخ البيوقوني في اصطلاح الحديث.
وشرحه "للكواكب" نظم جلال الدين السيوطي لجميع الجوامع في علم الأصول :"القمر الطالع على الكوكب الساطع".
وشرحه "لمتن التوحيد" المشهور "بالسنوسية" للشيخ السنوسي.
وشرحه "للامية العرب" للشنفري التي مطلعها :
أقيموا بني أمي صدور مطيكــم = فإني إلى قوم سواكم لأميل
وشرحه "للامية العجم" للطغرائي "شافية الدجم على لامية العجم" التي مطلعها :
أصالة الرأي صانتني عن الخطل = وحلية الفضل زانتني لدى العطل
وقد نظم الشيخ محمد خالد الأنصاري على منوال هاتين اللاميتين لامية ثالثة سماها :"لامية الأدب" ومطلعها :
دع التعلل في القوال والعمل = فإن ذلك حقا علة العلل
- وشرحه لمنظومة "الجوهر المكنون" للأخضر، في علم المعاني والبيان والبديع.
- وشرحه ألفية ابن مالك في النحو:"أقرب المسالك إلى لامية ابن مالك"، ولاميته في الأفعال :"تسهيل الاشتغال بلامية الأفعال".
- وشرحه "لقصيدة" الصحابي كعب بن زهير ابن أبي سلمى :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول = متيم إثرها لم يفد مكبول
وسماه :"مختصر الاستسعاد في شرح بانت سعاد".
- وشرحه "للامية الزقاق" في الفقه ونوازله: "مرشد الزقاق إلى لامية الزقاق". إلى غير ذلك من الشروحات للمصنفات الفقهية والأدبية والحديثية والأصولية التي بلغت حوالي الستين، والتي تعد من خير لإنتاج الثقافي المغربي نظرا لما اشتهرت به ممن جودة التحرير، وبلاغة الأسلوب، وكثرة اللطائف الأدبية والفوائد العلمية.
ونعود إلى أرجوزة عبد السلام الأزموري في الأتاي المغربي، وشرح الأرجوزة الشافي لشيخ الجماعة المكي البطاوري.
قال الراجز في مطلعها :
الحمد لله الذي أطعمنا = من كل مطعوم به أكرمنا
وبعد أن حمد الله مرة ثانية على نعمة الماء الصافي "كالغمام الصيب" استطرد قائلا :
مثل الأتـاي "اللنـدريزي" الجيد = صفرته مثل مذاب العسجد
إشارة إلى مصدره : وهي العاصمة البريطانية : "لندريز" (لندرة) كما كان المغاربة يسمونها.
ثم تعرض لذكر منافع الشاي عند شربه كتطاير الهم عن النفس، وانشراح الصدر، وجلب الفرح والسرور.
إن صب في كاساته مذهبة = على صفا صينية ملتهبة
تطاير الهم لديها وانشرح = صدر الذي يشربه من الفرح
وقد قدم الشاعر سليمان الحوات الشفشاوني في بضع أبيات شعرية نصيحة الإدمان على الشاي لما فيه من المنافع الصحية لكل سقم من الأسقام منها :
وكونوا عليه مدمنين لأنه = شفاء النفوس إن عراها سقام
إلى أن يقول :
ويكسو الوجوه حمرة في نعومة = كأن بها وردا سقاه غمام
ويبطء للإنزال في الوطء باعثا = على لذة هي المنى والمرام
وأشار الناظم إلى جواز إضافة العنبر – دون غيره – إلى الأتاي لأن العنبر تكسبه طيبة ولذة وحسنا:
وإن يكن معنبرا فذاك في = مذهبنا المختار خير ما اصطفى
وعلى هذا المذهب ذهب شاعر آخر :
ومذهبنا ألا يضاف لغيره = سوى العنبر الشحري فهو تمام
وتحدث الناظم عن عدد الأحبة الذين يستحسن في مجلس شراب الأتاي، وذكر أن المطلوب في مجلس شراب الأتاي، وذكر أن المطلوب هو :"التقليل"، وما زاد عنه فهو غير نافع :
وذا إلــى ثلاثــة أو أربــع = من الأحبة وما زاد ادفع
لأن الكثرة تذهب رونق الجلسة، وتعكر صفوها.
ولكن إذا كان "الزائد" مطربا ومغنيا يشنف أسماع الشاربين بصوته العذب وبنغمات عوده، أو كان "مقيما" ومهيئا للأتاي وهو ذو عذوبة وملحة وجهه حسن، فذلك هو تمام الأرب ونهاية الاستحسان، وقد صادفت الزيادة محلها :
ما لم يكن مغنيا أو مطربا = أو ذا ملاحة يرى محببا
فهو الذي "يقيمه" ويحسنه = وكلنا من يده نستحسنه
وقد قارن بعض الشعراء المغاربة "مقيم" الأتاي بساقي الخمرة عند الشعراء العرب، وأتوا بنفس الأوصاف له من ذلك قول بعضهم :
وقام يسعى بأتــاي يميـس بها = كأنه غصن أثقلته أثمار
وقول شيخ جماعتنا البطاوري في إحدى نزه الطلبة :
وساق بديع الشمائل قد = تهذب طبعا وحاز الأدب
غنينـا بطلعتـــه والغنـــا = ورشف الأتاي ولقط الذهب
وكقوله أيضا :
اليوم يوم الأحد = وما نرى من أحد
فاقدم إلينا عاجلا = نغنم بلوغ المقصد
من كـأس أتـــاي غـــدا = ويحكي مذاب العسجد
يدار من كف رشا = ظبي كحيل أغيد
وترك الناظم لشارب الأتاي الحرية في شربه قبل الطعام أو بعده، إذ لا ملامة عليه :
خذه فدتك النفس من قبل الطعام = أو بعده فما عليك من ملام
وهذا ما ذهب إليه ناظم آخر في أرجوزته :
يستعملونه بعد الأكل إن عسرت = هضومهم وقبيل الأكل إن باحا
إلا أن سليمان الحوات السالف الذكر رجح تقديم شرب الأتاي على "طيبات الأقوات":
وكونه قبل الطعام يحتمل = وهو الشهير وبه جرى العمل
أما إذ كان الطعام كسكسا فشربه بعده يعد إساءة ما بعدها إساءة :
إلا إذا كان الطعام كسكسا = فكل من أخره فقد أسا
وقد أجمع الناظمون على منعه كقول الحوات :
وضعف التأخير عنه ومنع = بعد الكساكس بإجماع سمع
أما وقت شرب الأتاي فقد حدده الناظم بقوله :
ووقته وقت سرور وانبساط = وحيثما دعا لشربه النشاط
ووقت الصباح عندهم مستحسن = لكنه بعد العشاء أحسن
مشيرا ذك إلى الصبوح (شرب الصباح)، وإلى الغبوق (شرب العشي) عند العرب، وهو المفضل عندهم.
وقد أنشد شاعر أندلسي ذكره المقري في نفح الطيب في قصيدة :
وعشية كم كنـت أرقــب وقتها = سمحت به الأيام بعد تعذر
وقد ذيلها شيخ جماعتنا المكي البطاوري بقوله :
نلنا لها الأمال ما بين الظبا = من كل غصن يزدري بالمسهري
وكؤوس أتاي بكف ملاحة
تسقى ما بين منعنع ومعنبر
وقد وضح الناظر وجه أحسنيته لشرب الشاي بعد العشاء بقوله :
تأمن فيه مع غلق الباب = وسدل ما يستر من حجاب
والأمن من كل ثقيل يدخل = أو خبر على النفوس يثقل
ولكن :
إذا حل الثقيل بأرض قوم = فما للساكنين سوى الرحيل
ولا شك أن ناظمنا يعني بالثقيل ما يسمى بالطفيلي، ويدعى الطفيلي على مجالس الشراب في الأدب العربي "بالواغل" وعلى مجالس الطعام" بالوارش"، كما ذكر شارح الأرجوزة المكي البطاوري.
وإذا كان شرب الشاي بعد العشاء، فلا بد له من إضاءة الشموع القائمة على الحسك النحاسية.
يقول الناظم:
واختر له من الشموع الأبيضا = كألسن الأفعى إذا تنضنضا
على قوام حسك "التنباك" = من فوقها طول الدياجي باك
فهو لا يبيح أن يعقد مجلس شراب الأتاي في ضوء القناديل "الوسخة"، إذ النظافة شرط أساسي بالنسبة لأداة الإضاءة، والساقي، وكؤوس الشراب.
ولا أرى الأتاي بالقنديل = والزيت والمنخاس والمنديل
إذ كل أمره على النظافة = وقد انبنى وشرطه اللطافة
لاسيما الساقي الذي يناوله = كذلك الكأس الذي نستعمله
ثم تطرق الشاعر لمزج الأتاي بالنعناع، واعتبر ذلك غير لائق إلا إذا كان الأتاي شراب الجماعات من الشاربين (من غير ذكر مستنده في ذلك)، أو إذا كان الأتاي من أرذل الأنواع (الحناوي)، أو كان شاربه يشتكي ضرا في بطنه :
وإن يكن منعنا فذاك لا = وحقكم يصلح إلا في الملا
أو الذي أولع "بالحناوي" = أو اشتكى ضرا فللتداوي
وما ذكره الناظم مخالف لما يعرفه الخاص والعام من مزايا النعناع الصحية، وقد جمعها الناظم"عبد الوهاب أدراق " في قصيدة طويلة التى بها شارح الأرجوزة المكي البطاوري ومطلعها :
الأهل من الأعشاب نبت يوافق = موافقة النعناع بل ويطابق
فكم من خصال حازها وفوائد = وكم من مزايا لا يفي بها ناطق
إلى أن يقول :
له في علال الصدر سهم موفق = وفي خفقان القلب سيفه بارق
وفي المعد التي تفاقم ضعفها = له الحجة العظمى على الغير فائق
ولا يعزب عن البال أن النعناع من الأعشاب "الكثيرة المنافع والبالغة المفعول" وهو المستعمل كثيرا في العلاجات الطبية وصناعة الأدوية.
وأول من عرف به هم اليونانيون واليهود الذين كانوا يستعملونه في العديد من الحالات الهضمية، وقد أثبت أطباء العصور الوسطى صلاحيته في علاج أمراض الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، واستعملوه كمضاد للقروح والدمل.
وقد أبرز بعض الأطباء الاختصاصيين في العصر الحاضر بعض استعمالاته في العلاج ضد التسممات المعدية، وفي تقوية الدورة الدموية، وفي علاج آلام الأسنان والورماتيزم.
وأجاز الناظم شرب الأتاي على خلاء المعدة قبل الشروع في تناول الطعام:
وشربه على خلاء المعدة = جاز على شرط حضور مائدة
تأكل منها لقمة أو لقمتين = من قبل أن تشرب منه حلقتين
ومن فوائد الشاي أنه يفتح الشهية:
وشربه على الشواء والكباب = يفتح للشهوة منه ألف باب
ويستحسن الشاعر شربه على أنواع من الأطعمة المغربية دون أن يذكر علله في ذلك :
وشربه على اللحوم جيد = لكنه على الدجاج أجود
وشربه على رؤوس الضان = مشوية شان وأي شأن
وشربه على الكفوت المعجبة = أحبب به من اشتهى ما أطيبه
وشربه على الرغائف التي = بالزبد والعسل قد أعملت
أحسن شيء نلته صباحا = وإن تدوامه تنل صلاحا
وغالبا ما يرافق شرب الشاي تناول "الحلويات المغربية" التي عددها الناظم في قوله :
وشاع "بالكعب الغزالي" وما = أشبهه في سلكه قد نظما
كالكعك" والغريبة" المكرمة = محشوة طيبة منعمة
وجوزوا "البشكـوت" وهو صوره = كذا "القاشيل" لدى الضرورة
وتخلص الناظم لوصف الأواني التي تستعمل لتهيء الأتاي "كالبابور" (السماور) والبقراج و"البراد" و"الصينية" (الطبق) والكؤوس :
يختار للأتاي بابور غدا = بلونه الأصفر يحكي العسجدا
ورجح البقراج عنه إلا = لعدم من يأتي به وإلا
إذ المقام يقتضي البابورا = كأن ترد أن ترخي الستورا
إلا أنه رجح "البقراج" على "البابور" لأسباب أتى بها :
واختير للبقراج ما يحمله = من مجمر الصفر يكون مثله
ذا الرجل غدا عليها واقفا = فيه من الماء الزلال ما كفى
ولا تثــق صوتــه إذ غــلا = حتى ترى البخار للجو علا
ويذكر بعض المؤرخين : أنه في سنة 1854 م أغلق بحر البلطيق لأجل الحرب، وحال هذا الإغلاق دون وصول الشاي الإنجليزي إلى الأسواق، فأزم أصحاب السفن التجارية بإفراغ سفنهم في طنجة والصويرة، ووزعت حمولتهما من الشاي في المغرب. ومن ثم ابتلى المغاربة كثيرا بشرب الشاي.
وقدم عندهم الإنجليزي "ريتشارد رايت" من مدينة "منشستير" لعرض أوانيه الفضية الخاصة بالشاي أمامهم، فاستحسنوا صنعه، وبدأوا يستوردون هذه الأواني الفضية من "منشستير" حتى شاع أمرها في المغرب، ودخلت البيوتات المغربية، وأصبحت تدعى أواني "الرايط" (أي الأواني الفضية نسبة إلى السيد "رايت") وهي على الخصوص :"الصواني" و"الربايع" و"البراد" و"البابور" والمبخرة" و"المراش" إلى غير ذلك.
ثم قال الناظم في الختام واصفا هيئة "الصينية" المخصصة للشاي :
وانتخب الصينية السنية = من الكؤوس قد غدت ملية
وقد جرى العمل في الكؤوس = بأن تكون عدد الرؤوس
برادها كأنه شيخ غدا = يملي على الكؤوس منه سندا
وقد جادت قريحة شيخ جماعتنا المكي البطاوري، وشارح أرجوزة "الأتاي" هذه ، بأبيات ذيل بها قصيدة من الرجز المجزو لعبد الله بن الأزرق – نشرها المقري في "نفح الطيب" - مشتملة على جملة من أنواع المأكولات والمشروبات دون ذكر "الأتاي المحبوب"، "أفضل مشروب" فقال شارعنا متمما ما نقص قصيدة الأزرق :
أمــا الأتـــاي المنتقـــى = فهو شريف حسني
لكن إذا ما كان من النوع الرفيع الأحسن
وإن يك منعنعا = فهو جليل وسني
وإن يكن معنبرا = ففيه خلع سني
اشرب منه أكؤسا = تزيل عني وسني
لاسيما إن كان من = يد مدير حسن
ولم يكن الناظم عبد السلام الزموري فارس الميدان الذي نظم وحده الشعر في الأتاي، فقد قال آخرون قريضا في هذا المشروب المشهور.
من ذلك الشاعر المكي بن عبد الله بناني الرباطي، الذي أنشد قصيدة في الأتاي "نحى فيها إلى اللطافة وتجنب الكثافة" منها :
بالله أبد جواب من يناجيكا = وطوقنه جمانا من لآليكا
فهل رأيت مدى الحياة في طرب = شربا كشرب أتاي عز ناديكا
الراح يسأم والأتاي إلفك لن = تراه إلا صديقا لا يعاديكا
عبير عرف بخستم المسك طاب له = لسان حال إلى الإجلال داعيكا
كفى الأتاي علا على الطلاء بأن = ما فيه غول وأن الراح ينسيكا
إلى أن يقول :
واختر لدى شربه حزبا ذوي كرم = تنال من علمهم دينا ينجيكا
ومن قول العارف بالله أبي المواهب سيدي العربي بن السائح الشرقي رحمه الله في وصف الأتاي ومدحه:
واصل شراب حليفة الأمجاد = واترك مقال أخي هوى وعناد
صفراء تسطع في الكؤوس كأنها= شمس تبدت في ذرى الأطواد
وكأنها في حسنها وصفائها = من عسجد عصرت بأعصر عاد
ما إن بدت في محفل إلا بدا = منه السرور يناط بالإسعاد
إلى أن يقول :
تدعى الأتاي وذلـك رمز ظاهر = يدريه من يدري من الأمجاد
ومما ينسب أيضا للعلامة الشاعر حمدون بن الحاج الفاسي في الأتاي قوله :
إن الأتاي لنعم ما فوقها = ما يشتهي إلا نعيم الجنة
إني رايته للسرور جالبا = يجلي الهموم عن الفؤاد بسرعة
وله أيضا في وصف "الصينية" و"البراد" :
بصينية تزهو بروض زاهر = خلع الجمال عليها أحسن خلعة
برادها ملك تبرز وسطها = ولذا الكؤوس أمامه قد صفت
نلت المنى زال العنا فلك الهنايا = شاربا كأس الأتاي بدلجة
وهكذا كما أدمن المغاربة على شرب الشاي (المنعنع المعنبر) – منذ انتشاره في مجتمعهم الحضري والبدوي – في جلسات مغربية أصيلة، لم يفت شعرائهم أن ينشدوا قريضهم في هذا المشروب المنشط الذي يذهب عنهم الحزن، ويبعث في نفوسهم البهجة والانشراح.
الرباط – عبد الحق المريني
مراجـع :
سيدي المكي البطاوري :"شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة" دار النشر – الباب 1365 هـ/1946م.
محمد بن علي دينية الأندلسي : "كتاب النسمات الندية من نشر ترجمة الإمام أبي العباس السيد أحمد دينية" المطبعة الاقتصادية 1355 هـ.
عبد الله الجراري : "شيخ الجماعة العلامة محمد المكي البطاوري الرباطي" – سلسلة شخصيات مغربية رقم 3 – 1978 م.
A. Leriche : « De l’origine du thé au Maroc et au Sahara » Bulletin de l’institut français T. V Avril 1953 (n°2).
رشا الأمير : " من جفون الناسك إلى قلب الصحراء : الشاي" مجلة الوطن العربي عدد 305.
محمد المهناوي : قصة المغاربة مع الأتاي (الشاي) (جريدة العلم).
يعتقد بعض المؤرخين أن أول من عرف الشاي هم الصينيون قبل مولد المسيح، وقيل إن أحد أباطرة القدماء كان يشاهد إبريقا من الماء يغلي تحت إحدى الأشجار، وكانت فوهة الإبريق مفتوحة، وإذا ببعض الأوراق تسقط في الإبريق وتفوح منه رائحة طيبة ويتغير لون الماء.
وما إن تذوق الإمبراطور شيئا من هذا السائل حتى استطاب مذاقه، فأوصى المقربين استعمال هذه "العملية"، حتى شاع الصين بشرب الشاي.
وقيل إن أحد الكهنة البوذيين في الهند هو الذي اكتشفه، وأخذ يستخدمه باستمرار، ليبقى يقظا على الدوام، لأن الإكثار منه يحول دون النوم.
ودخل الشاي إلى أوربا في القرن السابع عشر عندما حمله الهولنديون إلى ابريطانيا، ومنها إلى فرنسا.
وقد عرفه العرب منذ القرن التاسع، وحمل أخباره إلى أوربا تاجر عربي، و"أحب العرب هذا المشروب، ووجدوا أنه يطفئ عطش الصحراء وأدخلوه في تقاليد الضيافة عندهم".Z
وحين وصل العرب في غزوهم إلى بلاد الفرس تعرفوا على "السماور" الذي كان وصل الفرس عن طريق روسيا.
ومن خلال اتصال البشر بعضهم ببعض عن طريق الرحلات والسفارات، انتشر استعمال الشاي في جميع أنحاء العالم، وأخذت بلدان عديدة تزرعه مثل إيران والهند والسيلان، فتعددت أنواعه وأدواته، وظلت الصين البلد المنتج الأساسي له في العالم.
وقد مهر الناس في تحضيره، وتباينت من قطر إلى قطر وسائل هذا التحضير.
الشاي في المغرب:
اتفق جل المؤرخين أن المغرب عرف الشاي في القرن الثامن عشر، وبدأ انتشاره عبر المغرب في منتصف القرن التاسع عشر لما صار المغرب يتعاطى للتجارة مع أوروبا.
وهكذا يبدو أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عصر السلطان المولى إسماعيل، حيث تلقى أبو النصر المولى إسماعيل "أكياسا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوروبيين للسلطان العلوي"، تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين، مما يدل على ندرته في البلاد المغربية.
وكان دخول مشروب الشاي إلى المغرب على يد التجار الإنجليز من جبل طارق، " ومنه انتشر بالمناطق الصحراوية والسودان الغربي، ووصل إلى "تمبوكتو".
واحتل الشاي منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبح له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصناع حرفة جديدة أبدعها أصحابها في صنع أدوات تحضير الشاي من "صينية" و"براد" وإبريق وبابور و"ربايع"، والتصق الشاي بحياة الشعب المغربي، وفرضت "جلساته" حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاته. وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون.
الشاي في الأدب المغربي :
ولما كان الأدباء المغاربة يعنون بنظم الأراجيز في مختلف العلوم والفنون تسهيلا على الطلبة والدارسين باستظهارها، والتمكن من قواعدها، جادت قريحة أديب فاس الشارع عبد السلام الأزموري – وهو من الأدباء المغاربة المغمورين – بأرجوزة مفيدة عن الشاي المغربي، وطرق تهييئه وأوانيه ومجالسه، وقد قام بشرح هذه الأرجوزة "الرائقة، العذبة المستملحة الفائقة" شيخ جماعة الرباط العلامة سيدي المكي البطاوري الرباطي رحمه الله، تحت عنوان:"شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة فيما يحتاج الأتاي إليه، ويتوقف شربه وإقامته عليه"،، وهي لا تخلو من نوادر طريفة، وأخبار أدبية، وفوائد تاريخية، واستطرادات قيمة، وفوائد مفيدة ومستملحات رقيقة، لها مكانتها في الأدب المغربي ومزيتها الخاصة.
ويعد سيدي المكي البطاوري من طبقة العلماء الأجلاء الموسوعيين الذين تكلفوا – كما قال العلامة المرحوم عبد الله الجراري – "بحفظ تراثنا الغالي على اختلاف أصنافه وفنونه، تشريعا وأدبا، تدريسا وتلقينا، تصنيفا وتأليفا، لتبسيط المسائل ووضعها في إطار سهل يجعل التلميذ والدارس يقبلان في انشراح ونشاط على التلقي والأخذ...".
وهكذا انكب شيخ جماعتنا على شرح المتون – النثرية والمنظومة – في مختلف العلوم والفنون الفقهية واللغوية، نذكر من شروحاته ومنظوماته المفيدة النيرة :
شرحه على "مقصورة المكودي" في السيرة النبوية.
وشرحه لقافية ابن الونان (الشمقمقية) :"اقتطاف زهرات الأفنان من دوحة قافية ابن الونان" ومطلعها :
مهلا على رسلك حادي الأينق = ولا تكلفها بما لم تطــق
و"للمؤرخ أحمد بن خالد الناصري صاحب "الاستقصا" شرح آخر عنوان "زهر الأفنان" للعلامة الكبير سيدي عبد الله بن كنون شرح ثالث "للشمقمقية".
وشرح لجوهرة التوحيد:" الحلل المجوهرة في شرح الجوهرة".
ونظمه "لأجرومية ابن أجروم" في مبادئ النحو.
يقول في باب "الكلام أقسامه" :
كلامهم لفظ مركب مفيد = بالوضع نحو جاء زيد ويزيد
وشرحه" للبيوقونية" نظم للشيخ البيوقوني في اصطلاح الحديث.
وشرحه "للكواكب" نظم جلال الدين السيوطي لجميع الجوامع في علم الأصول :"القمر الطالع على الكوكب الساطع".
وشرحه "لمتن التوحيد" المشهور "بالسنوسية" للشيخ السنوسي.
وشرحه "للامية العرب" للشنفري التي مطلعها :
أقيموا بني أمي صدور مطيكــم = فإني إلى قوم سواكم لأميل
وشرحه "للامية العجم" للطغرائي "شافية الدجم على لامية العجم" التي مطلعها :
أصالة الرأي صانتني عن الخطل = وحلية الفضل زانتني لدى العطل
وقد نظم الشيخ محمد خالد الأنصاري على منوال هاتين اللاميتين لامية ثالثة سماها :"لامية الأدب" ومطلعها :
دع التعلل في القوال والعمل = فإن ذلك حقا علة العلل
- وشرحه لمنظومة "الجوهر المكنون" للأخضر، في علم المعاني والبيان والبديع.
- وشرحه ألفية ابن مالك في النحو:"أقرب المسالك إلى لامية ابن مالك"، ولاميته في الأفعال :"تسهيل الاشتغال بلامية الأفعال".
- وشرحه "لقصيدة" الصحابي كعب بن زهير ابن أبي سلمى :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول = متيم إثرها لم يفد مكبول
وسماه :"مختصر الاستسعاد في شرح بانت سعاد".
- وشرحه "للامية الزقاق" في الفقه ونوازله: "مرشد الزقاق إلى لامية الزقاق". إلى غير ذلك من الشروحات للمصنفات الفقهية والأدبية والحديثية والأصولية التي بلغت حوالي الستين، والتي تعد من خير لإنتاج الثقافي المغربي نظرا لما اشتهرت به ممن جودة التحرير، وبلاغة الأسلوب، وكثرة اللطائف الأدبية والفوائد العلمية.
ونعود إلى أرجوزة عبد السلام الأزموري في الأتاي المغربي، وشرح الأرجوزة الشافي لشيخ الجماعة المكي البطاوري.
قال الراجز في مطلعها :
الحمد لله الذي أطعمنا = من كل مطعوم به أكرمنا
وبعد أن حمد الله مرة ثانية على نعمة الماء الصافي "كالغمام الصيب" استطرد قائلا :
مثل الأتـاي "اللنـدريزي" الجيد = صفرته مثل مذاب العسجد
إشارة إلى مصدره : وهي العاصمة البريطانية : "لندريز" (لندرة) كما كان المغاربة يسمونها.
ثم تعرض لذكر منافع الشاي عند شربه كتطاير الهم عن النفس، وانشراح الصدر، وجلب الفرح والسرور.
إن صب في كاساته مذهبة = على صفا صينية ملتهبة
تطاير الهم لديها وانشرح = صدر الذي يشربه من الفرح
وقد قدم الشاعر سليمان الحوات الشفشاوني في بضع أبيات شعرية نصيحة الإدمان على الشاي لما فيه من المنافع الصحية لكل سقم من الأسقام منها :
وكونوا عليه مدمنين لأنه = شفاء النفوس إن عراها سقام
إلى أن يقول :
ويكسو الوجوه حمرة في نعومة = كأن بها وردا سقاه غمام
ويبطء للإنزال في الوطء باعثا = على لذة هي المنى والمرام
وأشار الناظم إلى جواز إضافة العنبر – دون غيره – إلى الأتاي لأن العنبر تكسبه طيبة ولذة وحسنا:
وإن يكن معنبرا فذاك في = مذهبنا المختار خير ما اصطفى
وعلى هذا المذهب ذهب شاعر آخر :
ومذهبنا ألا يضاف لغيره = سوى العنبر الشحري فهو تمام
وتحدث الناظم عن عدد الأحبة الذين يستحسن في مجلس شراب الأتاي، وذكر أن المطلوب في مجلس شراب الأتاي، وذكر أن المطلوب هو :"التقليل"، وما زاد عنه فهو غير نافع :
وذا إلــى ثلاثــة أو أربــع = من الأحبة وما زاد ادفع
لأن الكثرة تذهب رونق الجلسة، وتعكر صفوها.
ولكن إذا كان "الزائد" مطربا ومغنيا يشنف أسماع الشاربين بصوته العذب وبنغمات عوده، أو كان "مقيما" ومهيئا للأتاي وهو ذو عذوبة وملحة وجهه حسن، فذلك هو تمام الأرب ونهاية الاستحسان، وقد صادفت الزيادة محلها :
ما لم يكن مغنيا أو مطربا = أو ذا ملاحة يرى محببا
فهو الذي "يقيمه" ويحسنه = وكلنا من يده نستحسنه
وقد قارن بعض الشعراء المغاربة "مقيم" الأتاي بساقي الخمرة عند الشعراء العرب، وأتوا بنفس الأوصاف له من ذلك قول بعضهم :
وقام يسعى بأتــاي يميـس بها = كأنه غصن أثقلته أثمار
وقول شيخ جماعتنا البطاوري في إحدى نزه الطلبة :
وساق بديع الشمائل قد = تهذب طبعا وحاز الأدب
غنينـا بطلعتـــه والغنـــا = ورشف الأتاي ولقط الذهب
وكقوله أيضا :
اليوم يوم الأحد = وما نرى من أحد
فاقدم إلينا عاجلا = نغنم بلوغ المقصد
من كـأس أتـــاي غـــدا = ويحكي مذاب العسجد
يدار من كف رشا = ظبي كحيل أغيد
وترك الناظم لشارب الأتاي الحرية في شربه قبل الطعام أو بعده، إذ لا ملامة عليه :
خذه فدتك النفس من قبل الطعام = أو بعده فما عليك من ملام
وهذا ما ذهب إليه ناظم آخر في أرجوزته :
يستعملونه بعد الأكل إن عسرت = هضومهم وقبيل الأكل إن باحا
إلا أن سليمان الحوات السالف الذكر رجح تقديم شرب الأتاي على "طيبات الأقوات":
وكونه قبل الطعام يحتمل = وهو الشهير وبه جرى العمل
أما إذ كان الطعام كسكسا فشربه بعده يعد إساءة ما بعدها إساءة :
إلا إذا كان الطعام كسكسا = فكل من أخره فقد أسا
وقد أجمع الناظمون على منعه كقول الحوات :
وضعف التأخير عنه ومنع = بعد الكساكس بإجماع سمع
أما وقت شرب الأتاي فقد حدده الناظم بقوله :
ووقته وقت سرور وانبساط = وحيثما دعا لشربه النشاط
ووقت الصباح عندهم مستحسن = لكنه بعد العشاء أحسن
مشيرا ذك إلى الصبوح (شرب الصباح)، وإلى الغبوق (شرب العشي) عند العرب، وهو المفضل عندهم.
وقد أنشد شاعر أندلسي ذكره المقري في نفح الطيب في قصيدة :
وعشية كم كنـت أرقــب وقتها = سمحت به الأيام بعد تعذر
وقد ذيلها شيخ جماعتنا المكي البطاوري بقوله :
نلنا لها الأمال ما بين الظبا = من كل غصن يزدري بالمسهري
وكؤوس أتاي بكف ملاحة
تسقى ما بين منعنع ومعنبر
وقد وضح الناظر وجه أحسنيته لشرب الشاي بعد العشاء بقوله :
تأمن فيه مع غلق الباب = وسدل ما يستر من حجاب
والأمن من كل ثقيل يدخل = أو خبر على النفوس يثقل
ولكن :
إذا حل الثقيل بأرض قوم = فما للساكنين سوى الرحيل
ولا شك أن ناظمنا يعني بالثقيل ما يسمى بالطفيلي، ويدعى الطفيلي على مجالس الشراب في الأدب العربي "بالواغل" وعلى مجالس الطعام" بالوارش"، كما ذكر شارح الأرجوزة المكي البطاوري.
وإذا كان شرب الشاي بعد العشاء، فلا بد له من إضاءة الشموع القائمة على الحسك النحاسية.
يقول الناظم:
واختر له من الشموع الأبيضا = كألسن الأفعى إذا تنضنضا
على قوام حسك "التنباك" = من فوقها طول الدياجي باك
فهو لا يبيح أن يعقد مجلس شراب الأتاي في ضوء القناديل "الوسخة"، إذ النظافة شرط أساسي بالنسبة لأداة الإضاءة، والساقي، وكؤوس الشراب.
ولا أرى الأتاي بالقنديل = والزيت والمنخاس والمنديل
إذ كل أمره على النظافة = وقد انبنى وشرطه اللطافة
لاسيما الساقي الذي يناوله = كذلك الكأس الذي نستعمله
ثم تطرق الشاعر لمزج الأتاي بالنعناع، واعتبر ذلك غير لائق إلا إذا كان الأتاي شراب الجماعات من الشاربين (من غير ذكر مستنده في ذلك)، أو إذا كان الأتاي من أرذل الأنواع (الحناوي)، أو كان شاربه يشتكي ضرا في بطنه :
وإن يكن منعنا فذاك لا = وحقكم يصلح إلا في الملا
أو الذي أولع "بالحناوي" = أو اشتكى ضرا فللتداوي
وما ذكره الناظم مخالف لما يعرفه الخاص والعام من مزايا النعناع الصحية، وقد جمعها الناظم"عبد الوهاب أدراق " في قصيدة طويلة التى بها شارح الأرجوزة المكي البطاوري ومطلعها :
الأهل من الأعشاب نبت يوافق = موافقة النعناع بل ويطابق
فكم من خصال حازها وفوائد = وكم من مزايا لا يفي بها ناطق
إلى أن يقول :
له في علال الصدر سهم موفق = وفي خفقان القلب سيفه بارق
وفي المعد التي تفاقم ضعفها = له الحجة العظمى على الغير فائق
ولا يعزب عن البال أن النعناع من الأعشاب "الكثيرة المنافع والبالغة المفعول" وهو المستعمل كثيرا في العلاجات الطبية وصناعة الأدوية.
وأول من عرف به هم اليونانيون واليهود الذين كانوا يستعملونه في العديد من الحالات الهضمية، وقد أثبت أطباء العصور الوسطى صلاحيته في علاج أمراض الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، واستعملوه كمضاد للقروح والدمل.
وقد أبرز بعض الأطباء الاختصاصيين في العصر الحاضر بعض استعمالاته في العلاج ضد التسممات المعدية، وفي تقوية الدورة الدموية، وفي علاج آلام الأسنان والورماتيزم.
وأجاز الناظم شرب الأتاي على خلاء المعدة قبل الشروع في تناول الطعام:
وشربه على خلاء المعدة = جاز على شرط حضور مائدة
تأكل منها لقمة أو لقمتين = من قبل أن تشرب منه حلقتين
ومن فوائد الشاي أنه يفتح الشهية:
وشربه على الشواء والكباب = يفتح للشهوة منه ألف باب
ويستحسن الشاعر شربه على أنواع من الأطعمة المغربية دون أن يذكر علله في ذلك :
وشربه على اللحوم جيد = لكنه على الدجاج أجود
وشربه على رؤوس الضان = مشوية شان وأي شأن
وشربه على الكفوت المعجبة = أحبب به من اشتهى ما أطيبه
وشربه على الرغائف التي = بالزبد والعسل قد أعملت
أحسن شيء نلته صباحا = وإن تدوامه تنل صلاحا
وغالبا ما يرافق شرب الشاي تناول "الحلويات المغربية" التي عددها الناظم في قوله :
وشاع "بالكعب الغزالي" وما = أشبهه في سلكه قد نظما
كالكعك" والغريبة" المكرمة = محشوة طيبة منعمة
وجوزوا "البشكـوت" وهو صوره = كذا "القاشيل" لدى الضرورة
وتخلص الناظم لوصف الأواني التي تستعمل لتهيء الأتاي "كالبابور" (السماور) والبقراج و"البراد" و"الصينية" (الطبق) والكؤوس :
يختار للأتاي بابور غدا = بلونه الأصفر يحكي العسجدا
ورجح البقراج عنه إلا = لعدم من يأتي به وإلا
إذ المقام يقتضي البابورا = كأن ترد أن ترخي الستورا
إلا أنه رجح "البقراج" على "البابور" لأسباب أتى بها :
واختير للبقراج ما يحمله = من مجمر الصفر يكون مثله
ذا الرجل غدا عليها واقفا = فيه من الماء الزلال ما كفى
ولا تثــق صوتــه إذ غــلا = حتى ترى البخار للجو علا
ويذكر بعض المؤرخين : أنه في سنة 1854 م أغلق بحر البلطيق لأجل الحرب، وحال هذا الإغلاق دون وصول الشاي الإنجليزي إلى الأسواق، فأزم أصحاب السفن التجارية بإفراغ سفنهم في طنجة والصويرة، ووزعت حمولتهما من الشاي في المغرب. ومن ثم ابتلى المغاربة كثيرا بشرب الشاي.
وقدم عندهم الإنجليزي "ريتشارد رايت" من مدينة "منشستير" لعرض أوانيه الفضية الخاصة بالشاي أمامهم، فاستحسنوا صنعه، وبدأوا يستوردون هذه الأواني الفضية من "منشستير" حتى شاع أمرها في المغرب، ودخلت البيوتات المغربية، وأصبحت تدعى أواني "الرايط" (أي الأواني الفضية نسبة إلى السيد "رايت") وهي على الخصوص :"الصواني" و"الربايع" و"البراد" و"البابور" والمبخرة" و"المراش" إلى غير ذلك.
ثم قال الناظم في الختام واصفا هيئة "الصينية" المخصصة للشاي :
وانتخب الصينية السنية = من الكؤوس قد غدت ملية
وقد جرى العمل في الكؤوس = بأن تكون عدد الرؤوس
برادها كأنه شيخ غدا = يملي على الكؤوس منه سندا
وقد جادت قريحة شيخ جماعتنا المكي البطاوري، وشارح أرجوزة "الأتاي" هذه ، بأبيات ذيل بها قصيدة من الرجز المجزو لعبد الله بن الأزرق – نشرها المقري في "نفح الطيب" - مشتملة على جملة من أنواع المأكولات والمشروبات دون ذكر "الأتاي المحبوب"، "أفضل مشروب" فقال شارعنا متمما ما نقص قصيدة الأزرق :
أمــا الأتـــاي المنتقـــى = فهو شريف حسني
لكن إذا ما كان من النوع الرفيع الأحسن
وإن يك منعنعا = فهو جليل وسني
وإن يكن معنبرا = ففيه خلع سني
اشرب منه أكؤسا = تزيل عني وسني
لاسيما إن كان من = يد مدير حسن
ولم يكن الناظم عبد السلام الزموري فارس الميدان الذي نظم وحده الشعر في الأتاي، فقد قال آخرون قريضا في هذا المشروب المشهور.
من ذلك الشاعر المكي بن عبد الله بناني الرباطي، الذي أنشد قصيدة في الأتاي "نحى فيها إلى اللطافة وتجنب الكثافة" منها :
بالله أبد جواب من يناجيكا = وطوقنه جمانا من لآليكا
فهل رأيت مدى الحياة في طرب = شربا كشرب أتاي عز ناديكا
الراح يسأم والأتاي إلفك لن = تراه إلا صديقا لا يعاديكا
عبير عرف بخستم المسك طاب له = لسان حال إلى الإجلال داعيكا
كفى الأتاي علا على الطلاء بأن = ما فيه غول وأن الراح ينسيكا
إلى أن يقول :
واختر لدى شربه حزبا ذوي كرم = تنال من علمهم دينا ينجيكا
ومن قول العارف بالله أبي المواهب سيدي العربي بن السائح الشرقي رحمه الله في وصف الأتاي ومدحه:
واصل شراب حليفة الأمجاد = واترك مقال أخي هوى وعناد
صفراء تسطع في الكؤوس كأنها= شمس تبدت في ذرى الأطواد
وكأنها في حسنها وصفائها = من عسجد عصرت بأعصر عاد
ما إن بدت في محفل إلا بدا = منه السرور يناط بالإسعاد
إلى أن يقول :
تدعى الأتاي وذلـك رمز ظاهر = يدريه من يدري من الأمجاد
ومما ينسب أيضا للعلامة الشاعر حمدون بن الحاج الفاسي في الأتاي قوله :
إن الأتاي لنعم ما فوقها = ما يشتهي إلا نعيم الجنة
إني رايته للسرور جالبا = يجلي الهموم عن الفؤاد بسرعة
وله أيضا في وصف "الصينية" و"البراد" :
بصينية تزهو بروض زاهر = خلع الجمال عليها أحسن خلعة
برادها ملك تبرز وسطها = ولذا الكؤوس أمامه قد صفت
نلت المنى زال العنا فلك الهنايا = شاربا كأس الأتاي بدلجة
وهكذا كما أدمن المغاربة على شرب الشاي (المنعنع المعنبر) – منذ انتشاره في مجتمعهم الحضري والبدوي – في جلسات مغربية أصيلة، لم يفت شعرائهم أن ينشدوا قريضهم في هذا المشروب المنشط الذي يذهب عنهم الحزن، ويبعث في نفوسهم البهجة والانشراح.
الرباط – عبد الحق المريني
مراجـع :
سيدي المكي البطاوري :"شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة" دار النشر – الباب 1365 هـ/1946م.
محمد بن علي دينية الأندلسي : "كتاب النسمات الندية من نشر ترجمة الإمام أبي العباس السيد أحمد دينية" المطبعة الاقتصادية 1355 هـ.
عبد الله الجراري : "شيخ الجماعة العلامة محمد المكي البطاوري الرباطي" – سلسلة شخصيات مغربية رقم 3 – 1978 م.
A. Leriche : « De l’origine du thé au Maroc et au Sahara » Bulletin de l’institut français T. V Avril 1953 (n°2).
رشا الأمير : " من جفون الناسك إلى قلب الصحراء : الشاي" مجلة الوطن العربي عدد 305.
محمد المهناوي : قصة المغاربة مع الأتاي (الشاي) (جريدة العلم).