نقوس المهدي
كاتب
جمعية الطب النفسى التطورى
بالإِشتراك مع
دار المقطم للصحة النفسية
(المكتبة العلمية)
1980
إهــــداء
إلى أصدقائى المجانين، الكرام الضائعين، الذين رأوا الحقيقة، فعجزوا عن التعبير عنها، فصرعتهم ..، فهاموا على وجوههم يضربون، لايرجعون، أهدى بعض ما علمونى إياه:
اعترافا بفضلهم .
ورفضا لحلهم .
وأملا فى غدهم .
... وغدنا أجمعين.
يحيى الرخاوى
باسم الحق العدل العليم
. . . . . . . . . .
باسم فلك الذرة ومدار الكون الأعظم
باسم نبض الحياة وتفتح البراعم وبسط العقول
باسم المحاولة النغم الألم الصحوة
. . . . . . . . . .
باسم الله الرحمن الرحيم
أصل الحكاية
بعد هذه الرحلة طوال عشرين عاما، مع المرضى وبينهم ومن خلالهم .. لابد وأن أقف لأصارح نفسى، فإن أردت الصدق معها فعلى أن أختار: إما أن أترك هذه المهنة فورا مثل بعض الزملاء الصادقين الذين فعلوها بشجاعة حين أدركوا طبيعة عجزهم البشرى إذ يواجهون مضاعفات مشاكل الوجود الإنسانى عارية متحدية، وإما أن استمر فى تحمل مسئوليتى حين يتعرى أمامى هؤلاء الذين تسمونهم "المجانين" .. فيلقون فى وجهى تساؤلاتهم الصادقة .. يتحدونى بها، ويخفون عنى ألمهم العميق .. يحافظون عليه من احتمال عماى أو شفقتى أو فرحتى، فإذا أنا غامرت بالغوص إليه .. تضاعفت مسئوليتى تجاههم وتجاه نفسى وتجاه الناس، .. وهى مسئولية تلزمنى أن أتشبث أكثر فأكثر بأرض الواقع .. مع الإصرار على مواصلة المسيرة إلى ما بعد الحدود، أعمل ذلك لنفسى أولا كما قلت، ثم لهم إن أمكن، ثم للناس إن أرادوا ..، وهى مسئولية - لو علمتم - فوق طاقة الإنسان الفرد بعجزه وتلكئه وقصوره، أو على الأقل، هى فوق طاقتى أنا فى معظم الأحيان، وحين كان ظهرى ينوء بحملى كنت ألتمس الهرب بكل وسيلة، وفعلتها على فترات بوعى وبنصف وعى .. فمارست دور الطبيب والحكيم والأرزقى والواعظ والأستاذ، و "التليفزيونجي" ... الخ، ولكنى كنت أنفض هذه الأثواب عنى فى كل مرة - أو هى تسقط ممزقة بلا استئذان - لأواجه الحقيقة معهم (أصدقائى المجانين) بحجمها المرعب وصدقها المتحدى، وحينئذ .. لم يكن يستوعب ألم المواجهة هذه إلا الفن .. حيث يتحول الألم إلى طاقة تتحايل على الرمز لتصيغه فيما يستطيع أن يحمله منها (الحقيقة) .. وقد ينجح حينا، ويفشل أحيانا ..، فكتبت الحكمة من أفواههم مرة فى ثوب شبه روائى (عندما يتعرى الانسان) ثم رسمت آلامهم فى رواية طويلة من جزءين (المشى على الصراط: (ا) الواقعة (2) مدرسة العراة) ثم ذهبت أنظم شعرا علميا أعرض به علما شديد التعقيد هو علم السيكوباثولوجى، (ديوان: سر اللعبة)[1] ثم رحت أهدل بالعامية أصف خبرة خاصة من واقع معايشتى لهم: (أغوار النفس: نظما: بالعامية المصرية)، إلا أن كل هذا لم يكفنى أو يوصل ما رأيته وما أحسست به لأصحابه .. (عامة الناس) فقصور التعبير وصعوبة النشر حالا دون أن أصل إلى الناس بالدرجة التى أطمئن بها أنى أديت بعض ما على بما يعفينى من بعض تلك المسئولية الهائلة التى منيت بها من خلال رؤيتى .. أو يبرر مواصلتى لمواجهة حياتى بهذا القدر العنيف من التفاعل والانفعال .
وفى كل حال، كنت أرجع إليهم - أصدقائى المجانين - فأجدهم مازالوا يقذفون بالحمم فى كل اتجاه .. وأخشى عليهم من الخائفين والعميان، وأخشى عليهم أكثر من أنفسهم .. وأحيانا أخشى عليهم من نفسى حين أعجز عن تحمل صدقهم .. أو تحقيق ما أطالبهم بتحقيقه من تحمل عبء الرؤية مع الاصرار على الاستمرار على أرض الواقع .. وذهبت أحاول هذه المحاولة الأخيرة فى "تجربة خاصة" مع تلاميذى وبعض أهلي: نجرب أن الانسان كائن متفوق .. إذ يحتمل تطور وعيه مع قدرته على استمرار تقدمه على الأرض المليئة بالأشواك والأشلاء وقصص الهزيمة .. واستجاب لى البعض .. وتركنى آخرون وأنا لا أكل ولا أتراجع .. حيث كان تراجعى يعنى مباشرة أن أتخلى عن مهنتى فورا ... وقد أصبحت جزاء من وجودى إن لم تكن هى وجودى، ويدفعنى حماسى وإصرارى إلى الاستمرار فى هذه المحاولة بضع سنين لأكون - كما تصورت - صادقا فى زعمى للمرضى الأصدقاء أن "هذا" ممكن، ولكن أفاجأ بعد هذه السنوات القليلة أن هذه التجربة - إن ذهبت أو جاءت - ليست إلا تجربة فردية محدودة ... وبالتالى فهى مضروبة لامحالة، ولا أنكر ما عادت على به هذه التجربة من ثراء وإيمان ووعى وطمأنينة وقدرة على الاستمرار رغم كل الألم وكل الإحباط المصاحبان، ولكنى لا أستطيع أيضا أن أدعى أنى وجدت الحل القابل للاستمرار أو للانتشار ..، على المدى القصير ..، بل كانت مجرد "عينة" تثبت أنه "ممكن"، شريطة أن نوائم بين كمية الجرعة، وحسن التوقيت وطريقة التعبير.
وبين كل حين وحين، كنت أعرج على "معمل" العلماء "العلماء"، فأجدهم مستغرقين فى روائع التفاصيل، ينتقلون من نجاح، إلى نجاح حتى كادوا ينتقلون بين الكواكب ويحطمون العالم فى آن واحد ... وكنت أحسدهم (كما فعل دائما أستاذنا توفيق الحكيم وأحيانا فناننا الرائد نجيب محفوظ)، وحين كنت أصل إلى "ركن الطب النفسى وعلم النفس" .. فى هذا المعمل الحديث، كنت أجد زملائى يحسدونهم مثل حسدى لهم .. ويذهبون من خلال ذلك يقلدونهم فى أساليبهم ..، ويكادون يعلنون نتائجهم العاجزة بنفس الحسم والثقة، تشبها بزملائهم الماديين القح ... فأنزعج وأتراجع لأنى واحد منهم ... أعرف فى أى حقل نجرب .. وأمام أى حقيقة مرعبة نحاول ... وهى الإنسان فى قمة صراعه التطورى إذ يتعرى ويتناثر ... فكيف تستوعيه آنذاك هذه الأساليب (العلمية !!) المحدودة ؟ وكنت أضطر طبعا - طالما أنا أسير على الأرض - أن أفعل أحيانا مثلما يفعلون .. وأواصل تقدمى العلمى والأكاديمى (!) حتى نهايته الوظيفية (الأستاذية بالجامعة) .. وأنا أعلم تماما أى قصور أعانيه وأى سجن أسير فيه ...، فما كان يمكن أن أتصور يوما أن يكون ذلك الأسلوب السائد الذى أسميه هنا "تقليد العلم" - وليس العلم - سوف يعينتى فى مهمتى الخاصة أثناء رحلة حياتى، وهى إبلاغ الناس ما رأيت بأسلوب يمكن استيعابه.
وأعود إليهم (أصدقائى المجانين) ألتمس منهم العون والنصح فأجدهم وقد اكتفوا بنصب سيرك الرفض .. وإطلاق صواريخهم العبثية .. مثل الألعاب النارية .. وقد أخفوا آلام وجودهم تحت أرض اليأس الساحق .. فأحاول أن أدمغهم فى نفسى بالعجز والفشل والكذب والخداع .. وأطمئن إلى ذلك حينا، ولكن ذلك لايعفينى من العودة إلى نفسى متسائلا .. إذا كانواهم قد عجزوا عما أتصوره لزاما على كل كائن بشرى حى .. فماذا فعلت أنا ... لهم ..
ومن خلالهم ؟
فلا الفن أغنانى وخفف عن كاهلي
ولا قشور العلم أقنعتنى .. ونجحت فى تعميتي
ولا التجربة الشخصية الفردية نجحت بالمعنى الصادق المسئول .. ثم القابل للانتشار ولا أصدقائى المجانين كفوا عن قذف صواريخهم النارية رغم فشلهم قبل خط النهاية فى أغلب الأحوال، ولا عن تجاربهم فى التفجير النووى البشرى ...
وأعود إلى مأزقى الأول: إن أردت الصدق مع نفسى فعلى أن أختار: إما أن أترك هذه المهنة فورا ... أو أن أغامر فأتحمل مسئولية المواجهة، ومواجهة المسئولية ..
وحين كنت أكف عن ممارسة مهنتى هذه بالصدفة - فى أجازة مثلا - كنت أجد نفسى أعيش الرؤية التى وصلتنى من خلالها مكثفة فى صحوى ونومى .. فأيقنت أنه لاسبيلى إلى الهرب منها إلا إليها ... بمعنى أو بآخر ..، ويقفل فى وجهى باب التراجع بغير هوادة، وأعود لأواصل سعى أطرق كل باب ممكن بأى درجة متاحة من القدرة، كل جرعة ممكنة من الإصرار .. وأترك تقييم نتاج ذلك أو فائدته .. للزمن..، وما على إلا المحاولة المستمرة، وهذا العمل بعض أشكال هذه المحاولة المستمرة.
***
فالجنون خبرة إنسانية شديدة الثراء شديدة الخطورة، فالرؤية التى يراها المجنون هى على ما تحمل من صدق وإثارة وتحد ليست شرف الوجود ولا هى نهاية المطاف، حيث أنها - وإن أعلنت جزءا من الحقيقة .. فإن ذلك صادر من مثل سيء لوجود مبتذل، وفشل صريح .. وتشويه لكل شئ حتى لهذا الجزء من الحقيقة الذى أعلنوه، رغم صدقه فى ذاته .
فإنكار التجربة تماما ولفظها و صمها بالسلبية والتخريف والعبثية والهزيمة (رغم صدق كل ذلك) .. وحتى وضع لافتة أكاديمية عليها تحمل اسما لاتينيا رشيقا (هو التشخيص) كل ذلك لايلغى أنها جزء من حقيقة وجودنا.
كما أن الإعلاء من شأنها .. والانبهار أمامها .. والدفاع عنها، كما هى (كما تفعل الحركة المناهضة للطب النفسي) هو "عبث فني" .. لم ينجح فى إقناعى بفاعليته أو إيجابيته ..
وقديما قالوا "خذو الحكمة من أفواه المجانين"، وقد وقفت أمام هذا القول طويلا، واستلهمته وأنا أكتب تجربتى الأولى فى العمل شبه القصصى "عندما يتعرى الانسان" .. ثم عدت إليه - أو عاد إلى - هذه المرة يتحداني: أنى لم أوصلها لأصحابها بالقدر الكافى ..، وعدت أتأمل هذا القول وتعجبت لدقته وحكمته أيضا:
فهو قول لم يشر إلى أن المجنون حكيم أبدا .
فهو لم يعل من قدر الجنون ذاته، وإنما حملنا مسئولية عدم الاستهانة بما يقول المجنون، فكأنه يدمغ الجنون فى نفس الوقت الذى يحرص فيه على الاستفادة من "المعني" الذى يكمن وراءه .
وإذا كان المجنون يقول أحيانا "كلاما" هو الصدق ذاته، إلا أنه لايتحمل مسئولية صدقه هذا ... ولا هو يلتزم بتحقيقه، كما أنه إذا كان المجنون يعلن بتناثره الذى يحتج به فشل الحياة العادية أو عجز التنويم الشائع الخادع، فهو لايعطى بديلا، ولا مثلا يحتذى، بل بالعكس إنه يشوه الصدق ويخيف من الحقيقة .
وإذا كان الطبيب النفسى يرى هذا التناقض الصارخ بين ما يخرج من "أفواه المجانين" من حكمة وصدق، وبين ما يؤكده سلوكهم اليومى العاجز من فشل وعبث، فهو فى تصورى مسئول بشكل ما عن القيام بترجمة هذا الجنون المخيف إلى "معنى" حكيم يفيد المجنون فى تجربته المرعبه، (فى إطار حدود مهنته الضيق) ثم يفيد الناس (من خلال التزامه بوجود اجتماعى أوسع، ووجود إنسانى أعمق)، والطبيب النفسى عادة ما يقوم للمجنون بعمل "المترجم" فى أزمة وحدته وعزلته، فحين تعجز قدرته عن فهم الواقع، وحين يحول ألمه دون إتقان "لغة" عامة الناس، يقوم الطبيب بهذا الدور الصعب إذ يحاول أولا أن يدرك معنى أعراض المريض، ثم أن يترجمها لنفسه بشفرة خاصة، ثم يتفاهم بها مع المريض، ثم يكسب ثقته، ثم يهديه إلى هذه الشفرة التى تسهل عليه فهم ما يعنيه من مرضه، وبالتالى مسئوليته تجاهه، ويظل يصحبه إلى عالم الواقع خطوة خطوة، مثل المترجم الخاص .. حتى يصل إلى مرحلة استعادة فهم لغة الحياة العادية دون التخلى عن رؤيته أثناء خبرة الجنون، وهنا يكون المجنون قد ارتقى بوجوده من خلال هذه الخبرة الثرية الخطيرة فى آن.
ولكن .. ألا ينبغى على الطبيب النفسى أن يقوم بمهمة الترجمة فى عكس الاتجاه ؟ أى أن يبلغ الناس العاديين معنى الجنون .. وأن يفهمهم لغته .. وما وراءه من "حكمة" لم يتحملها قائلها ؟ ألا يفيد ذلك كافة الناس فى أن يستوعبوا هذه الخبرة الرائعة دون أن يجنوا ؟ ألا يحتمل أن تصل هذه "الحكمة" إلى أصحابها .. القادرين على حمل مسئوليتها والنمو من خلالها دون حاجة إلى التناثر والصراخ والهرب والبعد عن الواقع ؟ ألا يدفعهم ذلك إلى التطور دون حاجة إلى تجربة اختلال التوازن بدرجة تطرحهم أرضا وتعوق مسيرتهم ؟ .
وحين وجدت أن إجابات هذه التساؤلات كلها بالإيجاب، أمسكت بالقلم وقلت لنفسي: هذا باب آخر، يكمل المحاولات السابقة .. ويختلف عنها لأنه ليس بالفن بالمعنى الشائع، ولا هو بالعلم بالمعنى الملتزم بأسلوب معين، ولاهو بالنظرية بالمعنى المتسلسل المنظم .
أمسكت بالقلم وتركته ينقل الحكمة المركزة وكأنها تصدر عنهم، فذهب يشطح وينطح - كما يقولون -، ويطلق قذائفه مدوية منذرة .. وأحيانا محطمة، لم يهتم بأن يشرح مايريد .. بل ربما مال إلى إرادة الغموض، حتى يحمل اللفظ من شحنات المعنى المتنوعة ما يصلح لأكثر من غرض .. فيأخذه مختلف الناس كيفما شاؤوا لما شاؤوا ...، وقد تصورت أنها لعبة لفظية جديدة تحاول أن تحترق قوالب اللفظ الجامدة فتعيد شحنها بشكل جديد .. يصل إلى الحس مباشرة كخطوة أولى نحو إعادة الحياة إلى موات اللفظ ... وعجز الفعل .
وحين انتهيت من أغلبها فى بضعة أسابيع وجدتنى أمام "عمل خاص" له طبعه الذى لا أستطيع وصفه أنا حاليا، وتراجعت أمام نشره .. وتوقفت ..
وذهبت أعرضه على بعض الخاصة، وكانوا فريقين: أما فريق الصغار: الشباب ومتوسطى الاطلاع، فكانوا يتقبلونه بفرحة وصمت ... وأحيانا بطمأنينة وامتنان، وأما فريق الكبار، من المفكرين والمنظرين، فكانوا يقابلونه بالرفض والامتعاض ..، وأحيانا بالاستهانة واللامبالاة، وزاد ترددى ..
وتوقفت طويلا (أكثر من عاملين) .
ثم رجعت إليه ثانية أقرؤه لنفسى هذه الأيام وتصادف ذلك مع انتهاء مرحلة من حياتى حين اتممت صعود السلم الوظيفى حتى نهايته ... (وهو سلم شبه علمى حسب ما هو شائع !!) ووجدت أن جبنى وإحجامى لم يعد لهما مبرر واقعى .. وتساءلت: لمصلحة من أكتم ما عرفت عن أصحابه (ممن لا أعرف)؟
وبأى حساب على الأرض أو فى السماء أحبس خبرة عشتها بما تصورت من صدق، ورؤية وعيتها بما وهبت من أدراك، حتى ولو كان مهبط وحيها هو أفواه المجانين شخصيا ؟
وحين تذكرت أن هذا لايعدو أن يكون طلقات خاطفة صدرت من بوتقة الألم الانسانى فى عمق صراعه مع الأشكال الجامدة فى الحياة، قلت ما على إلا أن أبلغ الرسالة التى عجز أصحابها عن تبليغها حتى بشكلها الفج المتناثر أحيانا، المرعب أحيانا، الغامض أحيانا .. الموقظ إن شاء الله ! وقلت فى نفسى إن هؤلاء الناس - المجانين - دفعوا ثمن رؤيتهم غاليا ..، وأنه قد يخفف عنهم بعض الشيء أن يصل صوتهم إلى من يستطيع مواصلة الحياة خيرا منهم، ومن خلال حكمتهم العاجزة ..
كما أن عامة الناس - الذين أنشر لهم هذا الكلام - من حقهم أن يعرفوا الجانب الآخر من الوجود، حتى لو صدر ممن عجز عن مواجهة مشكلة الوجود .
وما على إلا البلاغ ..
إذا فأنا حامل هذه الحقيقة مباشرة، وهى .. حتى فى صورتها المبعثرة لاينبغى أن تخفى، إذ ليس من حقى أن أحجبها عن أصحابها ..، فلأ نقلها لمن شاء، وما أنا إلا موصل يحاول أن يكون موصلا جيدا بين فريقين من الناس .. وكل ما على أن أحاول بقدر جهدى المتواضع أن أوفى الترجمة حقها من أمانة، وأن أقوم بما تصورت أنه جزء من رسالتى فى رحلتى فى هذه الحياة ..
***
وضد كل الحسابات، خرج هذا الكلام إليكم "هكذا"، ولكم أن تقبلوه أو أن تلعنوه .. هذه مسئوليتكم، ولكن لى أن أرجو ألا تحتقروه أو تستهينوا به لمجرد أنه أكبر من اللحظة أو أعنف من القدرة، كما أن غموضه أحيانا إنما يعلن التحدى ويسمح بالإسقاط ! ثم دعونى أصطنع موقف الاعتذار ... متخابثا، وأنا أحاول فى كل آن، وبكل لغة أن أبلغ كل واحد ما أتصور أنه ينبغى أن يبلغه..، اللهم فاشهد .
يحيى الرخاوى
إبريل - مايو 1974
**
وفى تراجع جديد .. لم أستطع أن أدع الحكمة تصل إلى أصحابها مباشرة .. وسال لعابى العلمى فى أن ألحق بهذا العمل - أيضا - شرح على المتن، مخاطراً بكل ما يمكن أن يلحق بالعمل الأصلى من تشويه، وقد جاء هذا القرار مؤكداً لالتزامى فى العشر سنين القادمة، - إن ظللت على هذه الأرض - بأن أقول ما عرفت بلغة أقرب ما تكون إلى العلم، وهكذا عجز أى عمل فنى أن يخرج خالصا من الوصاية العلمية التى فرضتها عليه، فلا الرواية، ولا الشعر العربى، ولا العامى، ولا هذه الطلقات الفجة .. استطاع أى منها أى منها أن يستقل وينطلق .
فإذا ثار ثائر على هذه الوصاية .. (الشرح على المتن) فليكن أشجع منى .. ولا يقرأ إلا المتن .. وأكرر اعتذارى .
يحيى الرخاوى
المقطم 9 / 3 / 1976
ولكن لا ..
فلتنطلق الطلقات .. مستقله ولتصب من تشاء ... وتخطيء من تشاء، ولتلحقها الحيثيات والشرح، أولا تلحقها، فى عمل مستقل أقوم به أنا، أو يقوم به غيرى .
المقطم فى 15 / 12 / 1977
وأخيرا وفى ظروف خاصة ومصادفة، خرجت هذه الطلقات إلى القاريء، وقد التزمت ألا أحاول أى تغيير جوهرى فى أى منها فى إعدادها للمطبعة حتى لاتشوه "الصناعة" ما فرضته جرعة الاندافاع الأولى، إلا أنى اضطررت إلى محاولة تبويبها كما يلاحظ القاريء، ولم أنجح (كما يلاحظ القاريء أيضا) فالتداخل شديد، والتكرار محتمل، والمواضيع شتى بحيث يستحيل تبويبها بالمعنى الملتزم التقليدى، ولنا أن نرضى بقصور هذه المحاولة متذكرين عنوان الكتاب، وطبيعة إطلاق هذه الطلقات الحكيمة والمضيئة والقاتلة والمندرة فى كل اتجاه ومن مصادر متعددة ..
ألا ما أسخف الاعتذار إذ يتكرر ..
وما ألزمه ..
شكرا ..
يحيى الرخاوى
الاسكندرية فى 15 / 8 / 1979
قــبل العـد:
مثل البرق بين الغيوم السوداء،
سوف تخترق كلماتى ظلام فكرك،
لتصل إلى إحساسك - وجدانك - مباشرة،
فلا تحاول أن تفهمها جدا جدا ! ....
ولسوف تشرق فى فكرك بعد حين
. .. .. .. .. ! ! !
[1] - كتبت بعد ذلك (1979) شرحاً علميا لهذا الديوان هو "دراسة فى علم السيكوباثولوجى" وهو دراسة علمية مفصلة ابعاد نظرتى ونظريتى فى الإنسان ومسيرته التطورية ومضاعفاتها المرضية، وقد تم نشر هذا الكتاب مؤخرا ( دار الغد القاهرة 1979)
أ. د. يحيى الرخاوى
بالإِشتراك مع
دار المقطم للصحة النفسية
(المكتبة العلمية)
1980
إهــــداء
إلى أصدقائى المجانين، الكرام الضائعين، الذين رأوا الحقيقة، فعجزوا عن التعبير عنها، فصرعتهم ..، فهاموا على وجوههم يضربون، لايرجعون، أهدى بعض ما علمونى إياه:
اعترافا بفضلهم .
ورفضا لحلهم .
وأملا فى غدهم .
... وغدنا أجمعين.
يحيى الرخاوى
باسم الحق العدل العليم
. . . . . . . . . .
باسم فلك الذرة ومدار الكون الأعظم
باسم نبض الحياة وتفتح البراعم وبسط العقول
باسم المحاولة النغم الألم الصحوة
. . . . . . . . . .
باسم الله الرحمن الرحيم
أصل الحكاية
بعد هذه الرحلة طوال عشرين عاما، مع المرضى وبينهم ومن خلالهم .. لابد وأن أقف لأصارح نفسى، فإن أردت الصدق معها فعلى أن أختار: إما أن أترك هذه المهنة فورا مثل بعض الزملاء الصادقين الذين فعلوها بشجاعة حين أدركوا طبيعة عجزهم البشرى إذ يواجهون مضاعفات مشاكل الوجود الإنسانى عارية متحدية، وإما أن استمر فى تحمل مسئوليتى حين يتعرى أمامى هؤلاء الذين تسمونهم "المجانين" .. فيلقون فى وجهى تساؤلاتهم الصادقة .. يتحدونى بها، ويخفون عنى ألمهم العميق .. يحافظون عليه من احتمال عماى أو شفقتى أو فرحتى، فإذا أنا غامرت بالغوص إليه .. تضاعفت مسئوليتى تجاههم وتجاه نفسى وتجاه الناس، .. وهى مسئولية تلزمنى أن أتشبث أكثر فأكثر بأرض الواقع .. مع الإصرار على مواصلة المسيرة إلى ما بعد الحدود، أعمل ذلك لنفسى أولا كما قلت، ثم لهم إن أمكن، ثم للناس إن أرادوا ..، وهى مسئولية - لو علمتم - فوق طاقة الإنسان الفرد بعجزه وتلكئه وقصوره، أو على الأقل، هى فوق طاقتى أنا فى معظم الأحيان، وحين كان ظهرى ينوء بحملى كنت ألتمس الهرب بكل وسيلة، وفعلتها على فترات بوعى وبنصف وعى .. فمارست دور الطبيب والحكيم والأرزقى والواعظ والأستاذ، و "التليفزيونجي" ... الخ، ولكنى كنت أنفض هذه الأثواب عنى فى كل مرة - أو هى تسقط ممزقة بلا استئذان - لأواجه الحقيقة معهم (أصدقائى المجانين) بحجمها المرعب وصدقها المتحدى، وحينئذ .. لم يكن يستوعب ألم المواجهة هذه إلا الفن .. حيث يتحول الألم إلى طاقة تتحايل على الرمز لتصيغه فيما يستطيع أن يحمله منها (الحقيقة) .. وقد ينجح حينا، ويفشل أحيانا ..، فكتبت الحكمة من أفواههم مرة فى ثوب شبه روائى (عندما يتعرى الانسان) ثم رسمت آلامهم فى رواية طويلة من جزءين (المشى على الصراط: (ا) الواقعة (2) مدرسة العراة) ثم ذهبت أنظم شعرا علميا أعرض به علما شديد التعقيد هو علم السيكوباثولوجى، (ديوان: سر اللعبة)[1] ثم رحت أهدل بالعامية أصف خبرة خاصة من واقع معايشتى لهم: (أغوار النفس: نظما: بالعامية المصرية)، إلا أن كل هذا لم يكفنى أو يوصل ما رأيته وما أحسست به لأصحابه .. (عامة الناس) فقصور التعبير وصعوبة النشر حالا دون أن أصل إلى الناس بالدرجة التى أطمئن بها أنى أديت بعض ما على بما يعفينى من بعض تلك المسئولية الهائلة التى منيت بها من خلال رؤيتى .. أو يبرر مواصلتى لمواجهة حياتى بهذا القدر العنيف من التفاعل والانفعال .
وفى كل حال، كنت أرجع إليهم - أصدقائى المجانين - فأجدهم مازالوا يقذفون بالحمم فى كل اتجاه .. وأخشى عليهم من الخائفين والعميان، وأخشى عليهم أكثر من أنفسهم .. وأحيانا أخشى عليهم من نفسى حين أعجز عن تحمل صدقهم .. أو تحقيق ما أطالبهم بتحقيقه من تحمل عبء الرؤية مع الاصرار على الاستمرار على أرض الواقع .. وذهبت أحاول هذه المحاولة الأخيرة فى "تجربة خاصة" مع تلاميذى وبعض أهلي: نجرب أن الانسان كائن متفوق .. إذ يحتمل تطور وعيه مع قدرته على استمرار تقدمه على الأرض المليئة بالأشواك والأشلاء وقصص الهزيمة .. واستجاب لى البعض .. وتركنى آخرون وأنا لا أكل ولا أتراجع .. حيث كان تراجعى يعنى مباشرة أن أتخلى عن مهنتى فورا ... وقد أصبحت جزاء من وجودى إن لم تكن هى وجودى، ويدفعنى حماسى وإصرارى إلى الاستمرار فى هذه المحاولة بضع سنين لأكون - كما تصورت - صادقا فى زعمى للمرضى الأصدقاء أن "هذا" ممكن، ولكن أفاجأ بعد هذه السنوات القليلة أن هذه التجربة - إن ذهبت أو جاءت - ليست إلا تجربة فردية محدودة ... وبالتالى فهى مضروبة لامحالة، ولا أنكر ما عادت على به هذه التجربة من ثراء وإيمان ووعى وطمأنينة وقدرة على الاستمرار رغم كل الألم وكل الإحباط المصاحبان، ولكنى لا أستطيع أيضا أن أدعى أنى وجدت الحل القابل للاستمرار أو للانتشار ..، على المدى القصير ..، بل كانت مجرد "عينة" تثبت أنه "ممكن"، شريطة أن نوائم بين كمية الجرعة، وحسن التوقيت وطريقة التعبير.
وبين كل حين وحين، كنت أعرج على "معمل" العلماء "العلماء"، فأجدهم مستغرقين فى روائع التفاصيل، ينتقلون من نجاح، إلى نجاح حتى كادوا ينتقلون بين الكواكب ويحطمون العالم فى آن واحد ... وكنت أحسدهم (كما فعل دائما أستاذنا توفيق الحكيم وأحيانا فناننا الرائد نجيب محفوظ)، وحين كنت أصل إلى "ركن الطب النفسى وعلم النفس" .. فى هذا المعمل الحديث، كنت أجد زملائى يحسدونهم مثل حسدى لهم .. ويذهبون من خلال ذلك يقلدونهم فى أساليبهم ..، ويكادون يعلنون نتائجهم العاجزة بنفس الحسم والثقة، تشبها بزملائهم الماديين القح ... فأنزعج وأتراجع لأنى واحد منهم ... أعرف فى أى حقل نجرب .. وأمام أى حقيقة مرعبة نحاول ... وهى الإنسان فى قمة صراعه التطورى إذ يتعرى ويتناثر ... فكيف تستوعيه آنذاك هذه الأساليب (العلمية !!) المحدودة ؟ وكنت أضطر طبعا - طالما أنا أسير على الأرض - أن أفعل أحيانا مثلما يفعلون .. وأواصل تقدمى العلمى والأكاديمى (!) حتى نهايته الوظيفية (الأستاذية بالجامعة) .. وأنا أعلم تماما أى قصور أعانيه وأى سجن أسير فيه ...، فما كان يمكن أن أتصور يوما أن يكون ذلك الأسلوب السائد الذى أسميه هنا "تقليد العلم" - وليس العلم - سوف يعينتى فى مهمتى الخاصة أثناء رحلة حياتى، وهى إبلاغ الناس ما رأيت بأسلوب يمكن استيعابه.
وأعود إليهم (أصدقائى المجانين) ألتمس منهم العون والنصح فأجدهم وقد اكتفوا بنصب سيرك الرفض .. وإطلاق صواريخهم العبثية .. مثل الألعاب النارية .. وقد أخفوا آلام وجودهم تحت أرض اليأس الساحق .. فأحاول أن أدمغهم فى نفسى بالعجز والفشل والكذب والخداع .. وأطمئن إلى ذلك حينا، ولكن ذلك لايعفينى من العودة إلى نفسى متسائلا .. إذا كانواهم قد عجزوا عما أتصوره لزاما على كل كائن بشرى حى .. فماذا فعلت أنا ... لهم ..
ومن خلالهم ؟
فلا الفن أغنانى وخفف عن كاهلي
ولا قشور العلم أقنعتنى .. ونجحت فى تعميتي
ولا التجربة الشخصية الفردية نجحت بالمعنى الصادق المسئول .. ثم القابل للانتشار ولا أصدقائى المجانين كفوا عن قذف صواريخهم النارية رغم فشلهم قبل خط النهاية فى أغلب الأحوال، ولا عن تجاربهم فى التفجير النووى البشرى ...
وأعود إلى مأزقى الأول: إن أردت الصدق مع نفسى فعلى أن أختار: إما أن أترك هذه المهنة فورا ... أو أن أغامر فأتحمل مسئولية المواجهة، ومواجهة المسئولية ..
وحين كنت أكف عن ممارسة مهنتى هذه بالصدفة - فى أجازة مثلا - كنت أجد نفسى أعيش الرؤية التى وصلتنى من خلالها مكثفة فى صحوى ونومى .. فأيقنت أنه لاسبيلى إلى الهرب منها إلا إليها ... بمعنى أو بآخر ..، ويقفل فى وجهى باب التراجع بغير هوادة، وأعود لأواصل سعى أطرق كل باب ممكن بأى درجة متاحة من القدرة، كل جرعة ممكنة من الإصرار .. وأترك تقييم نتاج ذلك أو فائدته .. للزمن..، وما على إلا المحاولة المستمرة، وهذا العمل بعض أشكال هذه المحاولة المستمرة.
***
فالجنون خبرة إنسانية شديدة الثراء شديدة الخطورة، فالرؤية التى يراها المجنون هى على ما تحمل من صدق وإثارة وتحد ليست شرف الوجود ولا هى نهاية المطاف، حيث أنها - وإن أعلنت جزءا من الحقيقة .. فإن ذلك صادر من مثل سيء لوجود مبتذل، وفشل صريح .. وتشويه لكل شئ حتى لهذا الجزء من الحقيقة الذى أعلنوه، رغم صدقه فى ذاته .
فإنكار التجربة تماما ولفظها و صمها بالسلبية والتخريف والعبثية والهزيمة (رغم صدق كل ذلك) .. وحتى وضع لافتة أكاديمية عليها تحمل اسما لاتينيا رشيقا (هو التشخيص) كل ذلك لايلغى أنها جزء من حقيقة وجودنا.
كما أن الإعلاء من شأنها .. والانبهار أمامها .. والدفاع عنها، كما هى (كما تفعل الحركة المناهضة للطب النفسي) هو "عبث فني" .. لم ينجح فى إقناعى بفاعليته أو إيجابيته ..
وقديما قالوا "خذو الحكمة من أفواه المجانين"، وقد وقفت أمام هذا القول طويلا، واستلهمته وأنا أكتب تجربتى الأولى فى العمل شبه القصصى "عندما يتعرى الانسان" .. ثم عدت إليه - أو عاد إلى - هذه المرة يتحداني: أنى لم أوصلها لأصحابها بالقدر الكافى ..، وعدت أتأمل هذا القول وتعجبت لدقته وحكمته أيضا:
فهو قول لم يشر إلى أن المجنون حكيم أبدا .
فهو لم يعل من قدر الجنون ذاته، وإنما حملنا مسئولية عدم الاستهانة بما يقول المجنون، فكأنه يدمغ الجنون فى نفس الوقت الذى يحرص فيه على الاستفادة من "المعني" الذى يكمن وراءه .
وإذا كان المجنون يقول أحيانا "كلاما" هو الصدق ذاته، إلا أنه لايتحمل مسئولية صدقه هذا ... ولا هو يلتزم بتحقيقه، كما أنه إذا كان المجنون يعلن بتناثره الذى يحتج به فشل الحياة العادية أو عجز التنويم الشائع الخادع، فهو لايعطى بديلا، ولا مثلا يحتذى، بل بالعكس إنه يشوه الصدق ويخيف من الحقيقة .
وإذا كان الطبيب النفسى يرى هذا التناقض الصارخ بين ما يخرج من "أفواه المجانين" من حكمة وصدق، وبين ما يؤكده سلوكهم اليومى العاجز من فشل وعبث، فهو فى تصورى مسئول بشكل ما عن القيام بترجمة هذا الجنون المخيف إلى "معنى" حكيم يفيد المجنون فى تجربته المرعبه، (فى إطار حدود مهنته الضيق) ثم يفيد الناس (من خلال التزامه بوجود اجتماعى أوسع، ووجود إنسانى أعمق)، والطبيب النفسى عادة ما يقوم للمجنون بعمل "المترجم" فى أزمة وحدته وعزلته، فحين تعجز قدرته عن فهم الواقع، وحين يحول ألمه دون إتقان "لغة" عامة الناس، يقوم الطبيب بهذا الدور الصعب إذ يحاول أولا أن يدرك معنى أعراض المريض، ثم أن يترجمها لنفسه بشفرة خاصة، ثم يتفاهم بها مع المريض، ثم يكسب ثقته، ثم يهديه إلى هذه الشفرة التى تسهل عليه فهم ما يعنيه من مرضه، وبالتالى مسئوليته تجاهه، ويظل يصحبه إلى عالم الواقع خطوة خطوة، مثل المترجم الخاص .. حتى يصل إلى مرحلة استعادة فهم لغة الحياة العادية دون التخلى عن رؤيته أثناء خبرة الجنون، وهنا يكون المجنون قد ارتقى بوجوده من خلال هذه الخبرة الثرية الخطيرة فى آن.
ولكن .. ألا ينبغى على الطبيب النفسى أن يقوم بمهمة الترجمة فى عكس الاتجاه ؟ أى أن يبلغ الناس العاديين معنى الجنون .. وأن يفهمهم لغته .. وما وراءه من "حكمة" لم يتحملها قائلها ؟ ألا يفيد ذلك كافة الناس فى أن يستوعبوا هذه الخبرة الرائعة دون أن يجنوا ؟ ألا يحتمل أن تصل هذه "الحكمة" إلى أصحابها .. القادرين على حمل مسئوليتها والنمو من خلالها دون حاجة إلى التناثر والصراخ والهرب والبعد عن الواقع ؟ ألا يدفعهم ذلك إلى التطور دون حاجة إلى تجربة اختلال التوازن بدرجة تطرحهم أرضا وتعوق مسيرتهم ؟ .
وحين وجدت أن إجابات هذه التساؤلات كلها بالإيجاب، أمسكت بالقلم وقلت لنفسي: هذا باب آخر، يكمل المحاولات السابقة .. ويختلف عنها لأنه ليس بالفن بالمعنى الشائع، ولا هو بالعلم بالمعنى الملتزم بأسلوب معين، ولاهو بالنظرية بالمعنى المتسلسل المنظم .
أمسكت بالقلم وتركته ينقل الحكمة المركزة وكأنها تصدر عنهم، فذهب يشطح وينطح - كما يقولون -، ويطلق قذائفه مدوية منذرة .. وأحيانا محطمة، لم يهتم بأن يشرح مايريد .. بل ربما مال إلى إرادة الغموض، حتى يحمل اللفظ من شحنات المعنى المتنوعة ما يصلح لأكثر من غرض .. فيأخذه مختلف الناس كيفما شاؤوا لما شاؤوا ...، وقد تصورت أنها لعبة لفظية جديدة تحاول أن تحترق قوالب اللفظ الجامدة فتعيد شحنها بشكل جديد .. يصل إلى الحس مباشرة كخطوة أولى نحو إعادة الحياة إلى موات اللفظ ... وعجز الفعل .
وحين انتهيت من أغلبها فى بضعة أسابيع وجدتنى أمام "عمل خاص" له طبعه الذى لا أستطيع وصفه أنا حاليا، وتراجعت أمام نشره .. وتوقفت ..
وذهبت أعرضه على بعض الخاصة، وكانوا فريقين: أما فريق الصغار: الشباب ومتوسطى الاطلاع، فكانوا يتقبلونه بفرحة وصمت ... وأحيانا بطمأنينة وامتنان، وأما فريق الكبار، من المفكرين والمنظرين، فكانوا يقابلونه بالرفض والامتعاض ..، وأحيانا بالاستهانة واللامبالاة، وزاد ترددى ..
وتوقفت طويلا (أكثر من عاملين) .
ثم رجعت إليه ثانية أقرؤه لنفسى هذه الأيام وتصادف ذلك مع انتهاء مرحلة من حياتى حين اتممت صعود السلم الوظيفى حتى نهايته ... (وهو سلم شبه علمى حسب ما هو شائع !!) ووجدت أن جبنى وإحجامى لم يعد لهما مبرر واقعى .. وتساءلت: لمصلحة من أكتم ما عرفت عن أصحابه (ممن لا أعرف)؟
وبأى حساب على الأرض أو فى السماء أحبس خبرة عشتها بما تصورت من صدق، ورؤية وعيتها بما وهبت من أدراك، حتى ولو كان مهبط وحيها هو أفواه المجانين شخصيا ؟
وحين تذكرت أن هذا لايعدو أن يكون طلقات خاطفة صدرت من بوتقة الألم الانسانى فى عمق صراعه مع الأشكال الجامدة فى الحياة، قلت ما على إلا أن أبلغ الرسالة التى عجز أصحابها عن تبليغها حتى بشكلها الفج المتناثر أحيانا، المرعب أحيانا، الغامض أحيانا .. الموقظ إن شاء الله ! وقلت فى نفسى إن هؤلاء الناس - المجانين - دفعوا ثمن رؤيتهم غاليا ..، وأنه قد يخفف عنهم بعض الشيء أن يصل صوتهم إلى من يستطيع مواصلة الحياة خيرا منهم، ومن خلال حكمتهم العاجزة ..
كما أن عامة الناس - الذين أنشر لهم هذا الكلام - من حقهم أن يعرفوا الجانب الآخر من الوجود، حتى لو صدر ممن عجز عن مواجهة مشكلة الوجود .
وما على إلا البلاغ ..
إذا فأنا حامل هذه الحقيقة مباشرة، وهى .. حتى فى صورتها المبعثرة لاينبغى أن تخفى، إذ ليس من حقى أن أحجبها عن أصحابها ..، فلأ نقلها لمن شاء، وما أنا إلا موصل يحاول أن يكون موصلا جيدا بين فريقين من الناس .. وكل ما على أن أحاول بقدر جهدى المتواضع أن أوفى الترجمة حقها من أمانة، وأن أقوم بما تصورت أنه جزء من رسالتى فى رحلتى فى هذه الحياة ..
***
وضد كل الحسابات، خرج هذا الكلام إليكم "هكذا"، ولكم أن تقبلوه أو أن تلعنوه .. هذه مسئوليتكم، ولكن لى أن أرجو ألا تحتقروه أو تستهينوا به لمجرد أنه أكبر من اللحظة أو أعنف من القدرة، كما أن غموضه أحيانا إنما يعلن التحدى ويسمح بالإسقاط ! ثم دعونى أصطنع موقف الاعتذار ... متخابثا، وأنا أحاول فى كل آن، وبكل لغة أن أبلغ كل واحد ما أتصور أنه ينبغى أن يبلغه..، اللهم فاشهد .
يحيى الرخاوى
إبريل - مايو 1974
**
وفى تراجع جديد .. لم أستطع أن أدع الحكمة تصل إلى أصحابها مباشرة .. وسال لعابى العلمى فى أن ألحق بهذا العمل - أيضا - شرح على المتن، مخاطراً بكل ما يمكن أن يلحق بالعمل الأصلى من تشويه، وقد جاء هذا القرار مؤكداً لالتزامى فى العشر سنين القادمة، - إن ظللت على هذه الأرض - بأن أقول ما عرفت بلغة أقرب ما تكون إلى العلم، وهكذا عجز أى عمل فنى أن يخرج خالصا من الوصاية العلمية التى فرضتها عليه، فلا الرواية، ولا الشعر العربى، ولا العامى، ولا هذه الطلقات الفجة .. استطاع أى منها أى منها أن يستقل وينطلق .
فإذا ثار ثائر على هذه الوصاية .. (الشرح على المتن) فليكن أشجع منى .. ولا يقرأ إلا المتن .. وأكرر اعتذارى .
يحيى الرخاوى
المقطم 9 / 3 / 1976
ولكن لا ..
فلتنطلق الطلقات .. مستقله ولتصب من تشاء ... وتخطيء من تشاء، ولتلحقها الحيثيات والشرح، أولا تلحقها، فى عمل مستقل أقوم به أنا، أو يقوم به غيرى .
المقطم فى 15 / 12 / 1977
وأخيرا وفى ظروف خاصة ومصادفة، خرجت هذه الطلقات إلى القاريء، وقد التزمت ألا أحاول أى تغيير جوهرى فى أى منها فى إعدادها للمطبعة حتى لاتشوه "الصناعة" ما فرضته جرعة الاندافاع الأولى، إلا أنى اضطررت إلى محاولة تبويبها كما يلاحظ القاريء، ولم أنجح (كما يلاحظ القاريء أيضا) فالتداخل شديد، والتكرار محتمل، والمواضيع شتى بحيث يستحيل تبويبها بالمعنى الملتزم التقليدى، ولنا أن نرضى بقصور هذه المحاولة متذكرين عنوان الكتاب، وطبيعة إطلاق هذه الطلقات الحكيمة والمضيئة والقاتلة والمندرة فى كل اتجاه ومن مصادر متعددة ..
ألا ما أسخف الاعتذار إذ يتكرر ..
وما ألزمه ..
شكرا ..
يحيى الرخاوى
الاسكندرية فى 15 / 8 / 1979
قــبل العـد:
مثل البرق بين الغيوم السوداء،
سوف تخترق كلماتى ظلام فكرك،
لتصل إلى إحساسك - وجدانك - مباشرة،
فلا تحاول أن تفهمها جدا جدا ! ....
ولسوف تشرق فى فكرك بعد حين
. .. .. .. .. ! ! !
[1] - كتبت بعد ذلك (1979) شرحاً علميا لهذا الديوان هو "دراسة فى علم السيكوباثولوجى" وهو دراسة علمية مفصلة ابعاد نظرتى ونظريتى فى الإنسان ومسيرته التطورية ومضاعفاتها المرضية، وقد تم نشر هذا الكتاب مؤخرا ( دار الغد القاهرة 1979)
أ. د. يحيى الرخاوى