نقوس المهدي
كاتب
لي صديق وجيه. لم اكن اعرف ما الذي يعنيه الوجيه "على الأرض" قبل توثّق معرفتي به.
الوجيه كان يطلّ برأسه أحياناً بين السطور وتحتها. فهو، في الكتب، ظاهرة تكثر في بلدان البحر المتوسط: بيته مفتوح للضيافة وإطعام الزوّار او الأقارب الكثيرين. وفي البيت دوماً امرأة "وجهها ضحوك" للضيوف، هي إما زوجة الوجيه او أمّه او اخته. وهو كريم، يقدّم لمن يترددون عليه هدايا صغيرة. لنقل انها كرافاتات او مسابح او نوع من الحلوى. فحين يلتقى هؤلاء في مجلس آخر يبدو كأن رابطاً "حزبياً" يجمع بينهم ويدلّ الى انتسابهم اليه.
والوجيه يستمد غالباً ثروته التي ينفقها على الوجاهة من اراضٍ يملكها. وبعض الوجهاء يستثمرون في المدينة التي انتقلوا الى العيش فيها، فيجنون بعض ما هم محتاجون اليه للانفاق على الوجاهة. الا ان المؤكد ان سلوكهم يجمع بين زعامية الريف الذي صدروا عنه واستهلاكية المدن التي حلّوا فيها، من دون ان يوفّقوا دائماً في مزج هذا بذاك. والمؤكد اكثر انهم يرشّحون انفسهم بلا كلل للزعامة، او لزعامة ما. وللهدف هذا لا بد من كسب ودّ زعيم اكبر يكونون "مفاتيحه" او مرتكزاته. فاذا لم يتسع لهم صدر الزعيم الاكبر، ولم يصحبهم معه الى الصدارة السياسية، ربطوا انفسهم بـ"الأجهزة" حيث النظام قليل الديموقراطية او عديمها. هكذا يدبّج الوجيه التقارير بين الفينة والأخرى، فيشي بهذا وينبّه الى "خطر" ذاك.
وبدورهم فالذين في السلطة يردّون التحية بأحسن منها، حافظين له الجميل ومساعدينه على ادامة وجاهته. وهم، بما لهم من نفوذ، يزوّدونه خدماتٍ فعلية يستفيد منها جمهور الوجيه. لكنهم لا يقتصدون، أيضاً، في امداده بإيحاءات رمزية تفعل فعلها في اهل القرى والبلدات والمدن الصغرى. فالضابط او القائمقام يلبّيان، مثلاً، دعوة الى بيته. وهذا المسؤول يتناول الغداء الى مائدته. وذاك كله مما يقطع لدى الجمهور اياه دابر كل شكّ بأهميته وحظوته.
وصديقي أصيل في سلوكه الوجاهي. ومثل كل الوجهاء يملي الشخص الثالث عليه تغييرات لا حصر لها، فكأنه يعيش للشخص الثالث. فاذا سرتَ معه في الطريق وكنتما تسيران في المستوى نفسه، سبقك خطوةً او خطوتين بمجرد ان رأى شخصاً ثالثاً. وبعد ان يكون جسده متراخياً يشتد ويتماسك. وبعد ان يكون صوته مرتخياً يعلو. واذا كان يضحك اصاب نفسه بالعبوس الذي يوحي الرزانة. والتناقض الطفيف الذي يتعرّض له احياناً هو كيفية التوفيق بين الرزانة التي تستدعي الشدّ، وبين ترك البطن على رَسله. والامران المتضادان من مواصفات الوجاهة.
ولا يمكن ان تصل في صحبة صديقي الى المطعم، وهو شخص ثالث نُصبي، من دون ان يسبقك في الدخول وتحية النادلين: يحيي واحداً بغمزة عين وآخر بهزّة رأس وثالثاً بتربيت على الكتف. فهو لا يتعب من ابداء الالفة مع الناس والاشكال. الا ان الحرج الاكبر يظهر عند مبارحة المطعم اذ يروح يوزّع البقشيش بطريقة تقارب الاستعراض العلني.
وقد يسألك سؤالاً يفترض انك تملك جوابه، فتتدبّر جواباً بالتي هي احسن. لكنْ اذا حضر الشخص الثالث اعاد على مسامعك ومسامعه ما كنتَ قد قلتَه له للتوّ. وهو انما يعيد ذلك بلغة تعليمية لا يرقى معها شكّ الشخص الثالث بأصالة كلام المتحدث.
وحين توفيت أمه وذهبنا الى تعزيته بها، لم ينس الشخصَ الثالث ممثلاً، هذه المرة، بجمهور عريض. فراح يحدّث ويتحدث ويستعرض كأنما والدته لم تمت الا لتوفّر له مناسبةً نموذجية وجمهوراً تُخجله، في مناسبة كهذه، مناقشة "يتيم" مفترض. وقد توسّع وبالغ في ادائه المسرحي، على ايقاع نكتة غير موفقة هنا وضحكة مجلجلة هناك، بحيث تساءل احدهم عما اذا كان أحزنه فعلاً رحيل أمه.
لكن الوجيه مثلما يحمل وجاهته من الريف الى المدينة، ومن الزعامة الأبرشية الى الزعامة السياسية، يحملها الى الثقافة ايضاً. فيحيط نفسه بشلّة ويروح يرمي الاسماء وينثر عناوين الكتب والافلام بسبب وبغير سبب. والجامع المشترك بين الوجهاء على انواعهم، ان عظمتهم كالخابية التي تسندها بحصة الشخص الثالث.
الوجيه كان يطلّ برأسه أحياناً بين السطور وتحتها. فهو، في الكتب، ظاهرة تكثر في بلدان البحر المتوسط: بيته مفتوح للضيافة وإطعام الزوّار او الأقارب الكثيرين. وفي البيت دوماً امرأة "وجهها ضحوك" للضيوف، هي إما زوجة الوجيه او أمّه او اخته. وهو كريم، يقدّم لمن يترددون عليه هدايا صغيرة. لنقل انها كرافاتات او مسابح او نوع من الحلوى. فحين يلتقى هؤلاء في مجلس آخر يبدو كأن رابطاً "حزبياً" يجمع بينهم ويدلّ الى انتسابهم اليه.
والوجيه يستمد غالباً ثروته التي ينفقها على الوجاهة من اراضٍ يملكها. وبعض الوجهاء يستثمرون في المدينة التي انتقلوا الى العيش فيها، فيجنون بعض ما هم محتاجون اليه للانفاق على الوجاهة. الا ان المؤكد ان سلوكهم يجمع بين زعامية الريف الذي صدروا عنه واستهلاكية المدن التي حلّوا فيها، من دون ان يوفّقوا دائماً في مزج هذا بذاك. والمؤكد اكثر انهم يرشّحون انفسهم بلا كلل للزعامة، او لزعامة ما. وللهدف هذا لا بد من كسب ودّ زعيم اكبر يكونون "مفاتيحه" او مرتكزاته. فاذا لم يتسع لهم صدر الزعيم الاكبر، ولم يصحبهم معه الى الصدارة السياسية، ربطوا انفسهم بـ"الأجهزة" حيث النظام قليل الديموقراطية او عديمها. هكذا يدبّج الوجيه التقارير بين الفينة والأخرى، فيشي بهذا وينبّه الى "خطر" ذاك.
وبدورهم فالذين في السلطة يردّون التحية بأحسن منها، حافظين له الجميل ومساعدينه على ادامة وجاهته. وهم، بما لهم من نفوذ، يزوّدونه خدماتٍ فعلية يستفيد منها جمهور الوجيه. لكنهم لا يقتصدون، أيضاً، في امداده بإيحاءات رمزية تفعل فعلها في اهل القرى والبلدات والمدن الصغرى. فالضابط او القائمقام يلبّيان، مثلاً، دعوة الى بيته. وهذا المسؤول يتناول الغداء الى مائدته. وذاك كله مما يقطع لدى الجمهور اياه دابر كل شكّ بأهميته وحظوته.
وصديقي أصيل في سلوكه الوجاهي. ومثل كل الوجهاء يملي الشخص الثالث عليه تغييرات لا حصر لها، فكأنه يعيش للشخص الثالث. فاذا سرتَ معه في الطريق وكنتما تسيران في المستوى نفسه، سبقك خطوةً او خطوتين بمجرد ان رأى شخصاً ثالثاً. وبعد ان يكون جسده متراخياً يشتد ويتماسك. وبعد ان يكون صوته مرتخياً يعلو. واذا كان يضحك اصاب نفسه بالعبوس الذي يوحي الرزانة. والتناقض الطفيف الذي يتعرّض له احياناً هو كيفية التوفيق بين الرزانة التي تستدعي الشدّ، وبين ترك البطن على رَسله. والامران المتضادان من مواصفات الوجاهة.
ولا يمكن ان تصل في صحبة صديقي الى المطعم، وهو شخص ثالث نُصبي، من دون ان يسبقك في الدخول وتحية النادلين: يحيي واحداً بغمزة عين وآخر بهزّة رأس وثالثاً بتربيت على الكتف. فهو لا يتعب من ابداء الالفة مع الناس والاشكال. الا ان الحرج الاكبر يظهر عند مبارحة المطعم اذ يروح يوزّع البقشيش بطريقة تقارب الاستعراض العلني.
وقد يسألك سؤالاً يفترض انك تملك جوابه، فتتدبّر جواباً بالتي هي احسن. لكنْ اذا حضر الشخص الثالث اعاد على مسامعك ومسامعه ما كنتَ قد قلتَه له للتوّ. وهو انما يعيد ذلك بلغة تعليمية لا يرقى معها شكّ الشخص الثالث بأصالة كلام المتحدث.
وحين توفيت أمه وذهبنا الى تعزيته بها، لم ينس الشخصَ الثالث ممثلاً، هذه المرة، بجمهور عريض. فراح يحدّث ويتحدث ويستعرض كأنما والدته لم تمت الا لتوفّر له مناسبةً نموذجية وجمهوراً تُخجله، في مناسبة كهذه، مناقشة "يتيم" مفترض. وقد توسّع وبالغ في ادائه المسرحي، على ايقاع نكتة غير موفقة هنا وضحكة مجلجلة هناك، بحيث تساءل احدهم عما اذا كان أحزنه فعلاً رحيل أمه.
لكن الوجيه مثلما يحمل وجاهته من الريف الى المدينة، ومن الزعامة الأبرشية الى الزعامة السياسية، يحملها الى الثقافة ايضاً. فيحيط نفسه بشلّة ويروح يرمي الاسماء وينثر عناوين الكتب والافلام بسبب وبغير سبب. والجامع المشترك بين الوجهاء على انواعهم، ان عظمتهم كالخابية التي تسندها بحصة الشخص الثالث.