نقوس المهدي
كاتب
1/3
جيل الستينيات في مصرمن نص السلطة إلى سلطة النص (1من3) ـ هل تحول الكتاب الستينيون إلى لعنة أدبية ؟
يشكل جيل الستينيات في مصر مفصلا هاما في الثقافة المصرية، فقد تزامن صعوده مع قيام ثورة يوليو 1952، وتشبع الكثير من أبناء هذا الجيل بأفكارها ومبادئها بخاصة حول الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والتحرر الوطني، لكن ذلك لم يمنعه ـ أحيانا ـ من أن يصطدم مع هذه الأفكار، وينتقدها، ويتعرض بسببها للسجن.
أثرى جيل الستينيات المشهد الثقافي المصري على مستويات عدة، وبرزت في كتاباته سمات ودلالات وقيم جمالية وفنية جديدة ولافتة، بخاصة في الرواية والقصة القصيرة والمسرح. وحاليا يحتل عدد من رموزه الكثير من المواقع الثقافية، وهو ما يجعله الجيل الأكثر استفادة من السلطة حتى في أقصى لحظات الخصام معها، وهو ما يثير تحفظات موجات أو أجيال الكتابة اللاحقة لهذا الجيل، والذين يرفضون فكرة الوصاية مهما كانت مبرراتها، ويرون أن جيل الستينيات ـ برغم عطائه المتميز ـ لم يحدث طفرة في شكل ولغة الكتابة الأدبية في مصر، وان هذا العطاء ظل محايثا لانجاز الكتاب الرواد في القصة والرواية أمثال نجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ويحيى حقي وغيرهم.
«الشرق الاوسط» تلقي الضوء في هذا التحقيق على تجربة هذا الجيل وتحاور عددا من أبرز كتابه، اضافة الى نقاد وكتاب وشعراء من أجيال أخرى.
في البداية يؤك شد الروائي محمد البساطي ان جيل الستينيات هو الوحيد الذي أطلق عليه اسم الجيل، وهو الأول كذلك، فلم يكن قبله يطلق لفظ الجيل. وكان هناك كتاب في الخمسينيات والاربعينيات، وكان هناك نجيب محفوظ يكتب، ويوسف ادريس، ولم يقل أحد عنهم انهم يمثلون جيلا معينا، وإنما اطلقت هذه اللفظة مع ظهور جيل الستينيات وبدء سطوع نجمه.
ويشير البساطي الى ان جيل الستينيات سمي بذلك لأنه كانت هناك ظروف خاصة ومختلفة لظهوره، إذ كان يوسف ادريس يفرض سيادته على الوضع الثقافي، ثم «بدأنا الظهور فرادى، وجمعنا ما يميز جميع كتاباتنا الأولى وهو هم الوطن. كانت الثورة قد قامت وكنا في صبانا حين اندلعت فعشناها بأفراحها، وأحزانها، بانتصاراتها وانكساراتها، وبالتالي فجيل الستينيات هو ابن حقيقي للثورة، ولذلك كانت كتاباتنا تمتليء بالرغبة في التغيير، بالرغبة في العدالة الاجتماعية، والسعي الى الأفضل والأجمل والأقيم. وقد تزامن مع هذا تغيير فعلي تمثل في الاصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وأنا شخصيا كنت متحمسا للثورة، وكنا نهاجم السلبيات التي ظهرت في تجربة الثورة، وهاجمنا غياب الديمقراطية وغياب الرأي الآخر، هو ما انعكس في عمليات الاعتقالات». ويضيف البساطي: «هذا كان هو الهم الأساسي والمشترك لجيل الستينيات، وهو الدفاع عن الوطن، وعن العدالة، والرغبة الحقيقية في التغيير».
وحول نشأة جيل الستينيات يقول «الذين كونوا جيل الستينيات هم صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وابراهيم اصلان وأنا. ثم جاء بعد ذلك بهاء طاهر وتقابلنا صدفة في المقاهي وفي الاماكن المختلفة وانشغلنا بالهم السياسي، وهناك من حشر اسمه في وسط جيل الستينيات بعد ذلك، إلا ان أبناء جيل الستينيات الحقيقيين لفتوا الأنظار إليهم بكتاباتهم بسخونتها، ولانها التصقت بالهم العام المباشر، كما كانت شجاعة، ورغم وجود رقيب على الصحافة بعد تأميمها، فلم تصادر قصة، كانت هناك حرية تعبير حقيقية، ولم تكن هناك مشكلة في صدور أي رواية، و«تلك الرائحة» لصنع الله ابراهيم لم تصادر الا بعد صدورها. وتميز كل واحد من جيل الستينيات بشيء محدد، وان جمع الجميع هم واحد، فغاص الغيطاني في التراث وتحدث ابراهيم اصلان عن المهمش، وكتب صنع الله ابراهيم في «تلك الرائحة» عن السجين الخارج من المعتقل.
ويرى البساطي ان أهم ما يميز جيل الستينيات ان علاقات كتابه قوية ببعضهم بعضا، وانهم يأخذون الإبداع بجدية «كنا نتحمس عند قراءة أعمالنا لبعضنا، ونناقشها، ونبحث عن القصص الجديدة لنقرأها ونعلق عليها، كنا نبحث عن الأفضل».
ويشير الى أن يوسف ادريس توقف عن كتابة القصة بسبب جيل الستينيات، والتغيير الذي أحدثوه، ولأنه رأى جيلا صاعدا في عنفوانه، «كنا على علاقة جيدة جدا بيحيى حقي ونجيب محفوظ، وكان يحيى حقي يحتوينا، أما يوسف ادريس فلا».
ويرفض البساطي فكرة ان جيل الستينيات قد تفرق وانفض شمله، مؤكدا انهم يتهاتفون جميعا يوميا، فقط هم لا يكادون يغادرون بيوتهم بحكم السن والكسل، لكنهم ما زالوا على صلة قوية ببعضهم بعضا بعكس أي جيل آخر.
وهو يعتقد ان السياسة لم تصنع جيل الستينيات، ولكن الوضع كان مؤهلا في تلك الفترة لاستقبال كتاب جدد، ولا يوجد كاتب أمين مع نفسه يتجاهل ما يحدث حوله في البلد والاستفزازات التي تحدث حول الثورة، وكان من الصعب ان يدير الجيل وجهه بعيدا عن الاوضاع السائدة، لافتا الى أن جيل الستينيات لم يزل يحافظ على هذه الروح المناضلة حتى الآن، فهم من الأوائل ممن يتصدون للفساد الذي يحدث، مؤكدا انه لا يوجد بيان استنكاري رافض لما يحدث الآن يصدر إلا وعلى رأسه كتاب جيل الستينيات.
ويختتم البساطي حديثه مؤكدا على ان علاقة جيل الستينيات بالأجيال التالية تقوم على اقامة جسور لقراءة أعمالهم، والجلوس معهم ومناقشتهم فيها، مؤكدا ان الأدب لا يورث، ولا أحد يساعد أحدا في الظهور، فجيل الستينيات ظهر بدون مساعدة من أي أحد.
*أصلان: جيل ذو رسالة
*ويقول الروائي ابراهيم أصلان ان جيل الستينيات لم يكن حالة مصرية فقط، بل كان في العديد من أنحاء العالم، حين كان العالم بكامله مثل كائن يعيد ترتيب أعضائه. ومظاهرات الطلاب في فرنسا، وفي اليابان، والثورة الثقافية في الصين ووجود سينما جديدة في العالم، ورواية جديدة، كل هذا لم يرتبط بمجموعة من الكتاب المصريين فقط، بل امتد الى العديد من أنحاء العالم. ويضيف أصلان انه قبل الستينيات كانت الكتابة أكثر استقرارا وكانت تقليدية، وتقوم على نهج شائع هو أن الكاتب صاحب رسالة سواء كانت هذه الرسائل ثقيلة الحجم أو خفيفة، وكان الكاتب عادة يحمل رسالة ما من أجل ايصالها الى القاريء. وكانت هذه الرسالة غالبا على تماس مع مجمل القضايا الوطنية والاخلاقية، ولكن مع الهزيمة، انقلب الأمر، لم يكن هناك رفض لهذه القضايا، ولمحتوى هذه الرسائل الشائعة والمهيمنة، ولكن اصبحت الافكار المطروحة ككل أقل هيمنة، وهو ما كان يتطلب نوعا من التغيير وتعميق التغيير في طبيعة الفن نفسه، فلم تعد المسألة هي ايصال رسالة ولكن اصبح الكاتب يسعى الى هذه الرسالة.
ويقول أيضاً: «بالنسبة لي لم أكن مهيأ على الأقل لحمل أية رسالة حملها قبلي العشرات، ولا حتى على المستوى الشخصي، وكانت الأفكار العامة الكبيرة لا تكتسب أهليتها بالنسبة لي إلا بعد تبديها في صيغة العلاقات الانسانية والبسيطة التي التف حولها جيل الستينيات، الذي لم يكن في مجمله إلا باستثناءات قليلة حاملا لمعان يوصلها الى القاريء بقدر ما كان يسعى الى فهم للدنيا والانسان».
ويشير أصلان الى انه من الصعب تصور أن هذا الجيل ابن للهزيمة، وهذا ليس نوعا من الاستنكار، لان من يقرأون يجدون في كتابات هذا الجيل ما ينذر بشيء ضخم قبل الهزيمة، وهي كتابات وفيرة في صحف ومجلات، وكانت مقروءة بشكل جيد. وكانت هناك نذر بكارثة ما ستحدث، والفارق الوحيد ان ما حدث لم يكن متوقعا، ملمحا الى أنه لا يستطيع أن يكون خارج الستينيات ويتحدث عنها لأنه جزء من هذا المزاج، والاجيال فيما يتعلق بالفنون أمزجة أدبية، فيحيى حقي مات وهو صاحب مزاج ستيني، وبعض الشباب الآن أصحاب أمزجة ثلاثينية، فالستينيات قاع ومزاج وأجرومية وحالة جمالية، ورغبة في تقديم شهادة جمالية على الزمن الذي نعيشه. الستينيات مزاج، وثقافة لها مفرداتها وليست مرحلة عمرية. وكان بين ابناء الستينيات شيوخ، وهناك بعض الشباب الصغير الآن له مزاج ستيني ويمكن تلمس هذا في أشياء كثيرة.
وعن انقلاب بعض كتاب جيل الستينيات على تاريخهم السياسي يعتقد أصلان انه ليس من حق أحد أن يطلب من أحد آخر أن يظل مرتبطا بما كان عليه في الستينيات، لان الانسان ككائن من المفترض أن تطرأ عليه تغييرات، وأن يزداد فهما، أو يقصر هذا الفهم، أو يظل كما هو وهذا التغيير طبيعي وليس قاصرا على الستينيات فحسب وإلا لتحول الأمر الى مأساة، مؤكدا ان السياسة نفسها ليست ثابتة، فالحياة تتغير، والانسان يتغير والسياسة تتغير، وما دام الكاتب يخضع مواقفه لضميره الشخصي وما دام يفعل ما هو مؤمن به فليس عليه لوم، وليس من حق أحد أن يطالبه بما كان عليه بالأمس لان هذه حرية شخصية.
ويقول أصلان انه لم يشتغل
بالسياسة رغم انه تربى وسط اليسار المصري ولكن طبيعة تكوينه العضوية لا تصلح لدور أن يكون فردا من مجموعة تقوم بشيء محدد، رغم انه منفردا قد يكون مؤمنا بهذه الافكار، ويقول نفس الكلام، غير انه لم يستطع ان يخضع ضميره وفهمه لما يقرره الآخرون أياً كانوا وهذا يرجع الى أنه حصل ثقافته بشكل ذاتي ـ كما يقول ـ فلم تكن لديه مرجعية ثابتة يقيس عليها ومرجعيتها التي يطمئن إليها هي الحياة.
ويرفض أصلان وصف جيل الستينيات بأنه يكون لوبي، مؤكدا ان كل ما هنالك انه كان هناك نوع من الرباط الانساني بينهم، وان كلهم قامات منفردة متباينة، لكل مشروعه، ومن الطبيعي أن يلتقي أفراد هذا الجيل الآن، وهناك من ماتوا وهؤلاء يتعذر لقاؤهم، وهناك من انشغل، وفي الستينيات كانوا يتسابقون على اللقاءات الأدبية والندوات وعلى اكتشاف الكتب ولم يقفوا أبدا في موقع المتفرجين.
ويرى أنه اذا أردنا ان نعرف قيمة هذا الجيل فلنطرحه من الواقع الثقافي المصري، تاريخه، وجهده النقدي والأدبي والغنائي والشعري، ان نستبعد كل ما قدم، حتى نعرف قيمة ما قدم، فربما كانت هذه الطريقة قادرة على أن تقول ان هذا الجيل اجتهد من أجل تطوير أدواته ومن أجل اثراء أدبه، مؤكدا ان هذا الجيل قدم تجربة هامة، ولا يزال يقدم»، وأنا ان كنت قدمت شيئا فلم أقدمه من أجل أحد، ولذلك فلست مستعدا لان يحاسبني أحد على ما قدمت، وحتى الآن لم اطلع على طرح فني بديل، يستحق ان نتناقش حول نقاشا مثمرا، فيجب ان نفرق بين دعاوانا وانجازاتنا».
*القعيد: كنا نريد نظام عبد الناصر لانه كان نظاما أبويا حانيا
*من ناحيته يقول الروائي يوسف القعيد أن تعبير الستينيات أطلق بعد ظهور الجيل بفترة، وهو يعتقد أن فكرة المجايلة فكرة غامضة فنجيب محفوظ معظم نتاجه الأدبي كان في الستينيات.
ويضيف القعيد: «التقينا جميعا في البداية في مقهى ريش حول نجيب محفوظ، ولا توجد ذكريات لنا في هذه الفترة إلا وفيها نجيب محفوظ. على أن مشكلة جيل الستينيات انه تحول الى لعنة، فما زال حتى الآن يطلق عليه جيل الشباب كما كان يطلق عليه في تلك الفترة رغم ان بعض ابنائه جاوز السبعين».
ومشكلة الجيل في اعتقاد القعيد انه لم يفرز نقاده من داخله وهي مشكلة شديدة الأهمية إذ تحول الجيل الى عالة على نقاد الأجيال التالية.
وتجربة القعيد تتشابه مع تجارب باقي الجيل، فقد طبع روايته الاولى على حسابه الخاص، فيما نشرت الثانية له سهير القلماوي، مؤكدا ان الاحتفاء الذي لاقته روايته الأولى «الحداد» في تلك الفترة والمقالات التي كتبت عنه بكثافة لا يحلم بمثلها الآن. ويذكر القعيد دور الكاتب الصحافي عبد الفتاح الجمل في جريدة «المساء» فهو من الأدباء الحقيقيين في اعتقاده الذين اعطوا فرصا حقيقية في النشر لجيل الستينيات علاوة على أن المجتمع كان حاضنا لأبنائه، بعكس الآن حيث تحول المجتمع الي طارد. كانت هناك حفاوة، فروايته الأولى «الحداد» هي التي صنعت اسمه وحدها.
وعن اثر نظام جمال عبد الناصر وهزيمة يونيو على الستينيات يعلق القعيد «انتقدنا نظام عبد الناصر من تحت مظلته ولم نكن نحلم بنظام آخر بديل يأتي الينا، كنا نريد نظام عبد الناصر وموافقين عليه لانه كان نظاما أبويا حانيا كنا نريده فقط أفضل. ومثلت لنا هزيمة يونيو 1967 موت الأب، وانهيار البيت، وانفضاض شمل العائلة، وكلنا أحسسنا بهذا، أما ايام السادات فكنا ضد النظام، وما زلنا نرى في هذه الانظمة التالية لعبد الناصر انها لا تحقق طموحاتنا ولا أحلامنا، وان فيها ظلما اجتماعيا، فالناس تموت من الجوع، ولا تجد عملا، في الوقت الذي يغرق آخرون في النعيم. هناك فجوة هائلة بين طبقتين تتقاسمان المجتمع، وهذا هو الفرق بين نظام عبد الناصر الذي نشأنا فيه وبين ما حدث بعد ذلك واستمر حتى الآن».
ويشير القعيد الى ان الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي ان جيل 68 هز العالم، وما أتى بعده هوامش عليه، فلا يوجد جيل كل عشر سنوات، وانما الجيل يفرزه عصر، وحدث، وكتابة جديدة، وقد أثبت كتابة جديدة بعد الستينيات ومحاولات للخروج لكنها لا تشكل جيلا، وقد تكون هناك حركات أو جماعات أو ما شابه.
ويرفض القعيد وصف جيل الستينيات بأنه يكون «لوبي» ويقول لا يوجد شيء تنظيمي يجمعنا، بل كان لكل مشروعه الفردي، فقط تجمعنا العلاقة الجيدة، وحب الابداع الجيد، ولكل مغامرته الابداعية الفردية التي تختلف عن الآخرين ومن الصعب ان توجد مشاركات، والآن ايضا لا توجد فكرة اللوبي، انما افراد منتظمة منا في جيل، مؤكدا ان الجيل لاقى رفضا من يوسف ادريس الذي حاول أن يمنع محمد عودة من كتابة مقال عن جمال الغيطاني.
جيل الستينيات في مصرمن نص السلطة إلى سلطة النص (1من3) ـ هل تحول الكتاب الستينيون إلى لعنة أدبية ؟
يشكل جيل الستينيات في مصر مفصلا هاما في الثقافة المصرية، فقد تزامن صعوده مع قيام ثورة يوليو 1952، وتشبع الكثير من أبناء هذا الجيل بأفكارها ومبادئها بخاصة حول الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والتحرر الوطني، لكن ذلك لم يمنعه ـ أحيانا ـ من أن يصطدم مع هذه الأفكار، وينتقدها، ويتعرض بسببها للسجن.
أثرى جيل الستينيات المشهد الثقافي المصري على مستويات عدة، وبرزت في كتاباته سمات ودلالات وقيم جمالية وفنية جديدة ولافتة، بخاصة في الرواية والقصة القصيرة والمسرح. وحاليا يحتل عدد من رموزه الكثير من المواقع الثقافية، وهو ما يجعله الجيل الأكثر استفادة من السلطة حتى في أقصى لحظات الخصام معها، وهو ما يثير تحفظات موجات أو أجيال الكتابة اللاحقة لهذا الجيل، والذين يرفضون فكرة الوصاية مهما كانت مبرراتها، ويرون أن جيل الستينيات ـ برغم عطائه المتميز ـ لم يحدث طفرة في شكل ولغة الكتابة الأدبية في مصر، وان هذا العطاء ظل محايثا لانجاز الكتاب الرواد في القصة والرواية أمثال نجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ويحيى حقي وغيرهم.
«الشرق الاوسط» تلقي الضوء في هذا التحقيق على تجربة هذا الجيل وتحاور عددا من أبرز كتابه، اضافة الى نقاد وكتاب وشعراء من أجيال أخرى.
في البداية يؤك شد الروائي محمد البساطي ان جيل الستينيات هو الوحيد الذي أطلق عليه اسم الجيل، وهو الأول كذلك، فلم يكن قبله يطلق لفظ الجيل. وكان هناك كتاب في الخمسينيات والاربعينيات، وكان هناك نجيب محفوظ يكتب، ويوسف ادريس، ولم يقل أحد عنهم انهم يمثلون جيلا معينا، وإنما اطلقت هذه اللفظة مع ظهور جيل الستينيات وبدء سطوع نجمه.
ويشير البساطي الى ان جيل الستينيات سمي بذلك لأنه كانت هناك ظروف خاصة ومختلفة لظهوره، إذ كان يوسف ادريس يفرض سيادته على الوضع الثقافي، ثم «بدأنا الظهور فرادى، وجمعنا ما يميز جميع كتاباتنا الأولى وهو هم الوطن. كانت الثورة قد قامت وكنا في صبانا حين اندلعت فعشناها بأفراحها، وأحزانها، بانتصاراتها وانكساراتها، وبالتالي فجيل الستينيات هو ابن حقيقي للثورة، ولذلك كانت كتاباتنا تمتليء بالرغبة في التغيير، بالرغبة في العدالة الاجتماعية، والسعي الى الأفضل والأجمل والأقيم. وقد تزامن مع هذا تغيير فعلي تمثل في الاصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وأنا شخصيا كنت متحمسا للثورة، وكنا نهاجم السلبيات التي ظهرت في تجربة الثورة، وهاجمنا غياب الديمقراطية وغياب الرأي الآخر، هو ما انعكس في عمليات الاعتقالات». ويضيف البساطي: «هذا كان هو الهم الأساسي والمشترك لجيل الستينيات، وهو الدفاع عن الوطن، وعن العدالة، والرغبة الحقيقية في التغيير».
وحول نشأة جيل الستينيات يقول «الذين كونوا جيل الستينيات هم صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وابراهيم اصلان وأنا. ثم جاء بعد ذلك بهاء طاهر وتقابلنا صدفة في المقاهي وفي الاماكن المختلفة وانشغلنا بالهم السياسي، وهناك من حشر اسمه في وسط جيل الستينيات بعد ذلك، إلا ان أبناء جيل الستينيات الحقيقيين لفتوا الأنظار إليهم بكتاباتهم بسخونتها، ولانها التصقت بالهم العام المباشر، كما كانت شجاعة، ورغم وجود رقيب على الصحافة بعد تأميمها، فلم تصادر قصة، كانت هناك حرية تعبير حقيقية، ولم تكن هناك مشكلة في صدور أي رواية، و«تلك الرائحة» لصنع الله ابراهيم لم تصادر الا بعد صدورها. وتميز كل واحد من جيل الستينيات بشيء محدد، وان جمع الجميع هم واحد، فغاص الغيطاني في التراث وتحدث ابراهيم اصلان عن المهمش، وكتب صنع الله ابراهيم في «تلك الرائحة» عن السجين الخارج من المعتقل.
ويرى البساطي ان أهم ما يميز جيل الستينيات ان علاقات كتابه قوية ببعضهم بعضا، وانهم يأخذون الإبداع بجدية «كنا نتحمس عند قراءة أعمالنا لبعضنا، ونناقشها، ونبحث عن القصص الجديدة لنقرأها ونعلق عليها، كنا نبحث عن الأفضل».
ويشير الى أن يوسف ادريس توقف عن كتابة القصة بسبب جيل الستينيات، والتغيير الذي أحدثوه، ولأنه رأى جيلا صاعدا في عنفوانه، «كنا على علاقة جيدة جدا بيحيى حقي ونجيب محفوظ، وكان يحيى حقي يحتوينا، أما يوسف ادريس فلا».
ويرفض البساطي فكرة ان جيل الستينيات قد تفرق وانفض شمله، مؤكدا انهم يتهاتفون جميعا يوميا، فقط هم لا يكادون يغادرون بيوتهم بحكم السن والكسل، لكنهم ما زالوا على صلة قوية ببعضهم بعضا بعكس أي جيل آخر.
وهو يعتقد ان السياسة لم تصنع جيل الستينيات، ولكن الوضع كان مؤهلا في تلك الفترة لاستقبال كتاب جدد، ولا يوجد كاتب أمين مع نفسه يتجاهل ما يحدث حوله في البلد والاستفزازات التي تحدث حول الثورة، وكان من الصعب ان يدير الجيل وجهه بعيدا عن الاوضاع السائدة، لافتا الى أن جيل الستينيات لم يزل يحافظ على هذه الروح المناضلة حتى الآن، فهم من الأوائل ممن يتصدون للفساد الذي يحدث، مؤكدا انه لا يوجد بيان استنكاري رافض لما يحدث الآن يصدر إلا وعلى رأسه كتاب جيل الستينيات.
ويختتم البساطي حديثه مؤكدا على ان علاقة جيل الستينيات بالأجيال التالية تقوم على اقامة جسور لقراءة أعمالهم، والجلوس معهم ومناقشتهم فيها، مؤكدا ان الأدب لا يورث، ولا أحد يساعد أحدا في الظهور، فجيل الستينيات ظهر بدون مساعدة من أي أحد.
*أصلان: جيل ذو رسالة
*ويقول الروائي ابراهيم أصلان ان جيل الستينيات لم يكن حالة مصرية فقط، بل كان في العديد من أنحاء العالم، حين كان العالم بكامله مثل كائن يعيد ترتيب أعضائه. ومظاهرات الطلاب في فرنسا، وفي اليابان، والثورة الثقافية في الصين ووجود سينما جديدة في العالم، ورواية جديدة، كل هذا لم يرتبط بمجموعة من الكتاب المصريين فقط، بل امتد الى العديد من أنحاء العالم. ويضيف أصلان انه قبل الستينيات كانت الكتابة أكثر استقرارا وكانت تقليدية، وتقوم على نهج شائع هو أن الكاتب صاحب رسالة سواء كانت هذه الرسائل ثقيلة الحجم أو خفيفة، وكان الكاتب عادة يحمل رسالة ما من أجل ايصالها الى القاريء. وكانت هذه الرسالة غالبا على تماس مع مجمل القضايا الوطنية والاخلاقية، ولكن مع الهزيمة، انقلب الأمر، لم يكن هناك رفض لهذه القضايا، ولمحتوى هذه الرسائل الشائعة والمهيمنة، ولكن اصبحت الافكار المطروحة ككل أقل هيمنة، وهو ما كان يتطلب نوعا من التغيير وتعميق التغيير في طبيعة الفن نفسه، فلم تعد المسألة هي ايصال رسالة ولكن اصبح الكاتب يسعى الى هذه الرسالة.
ويقول أيضاً: «بالنسبة لي لم أكن مهيأ على الأقل لحمل أية رسالة حملها قبلي العشرات، ولا حتى على المستوى الشخصي، وكانت الأفكار العامة الكبيرة لا تكتسب أهليتها بالنسبة لي إلا بعد تبديها في صيغة العلاقات الانسانية والبسيطة التي التف حولها جيل الستينيات، الذي لم يكن في مجمله إلا باستثناءات قليلة حاملا لمعان يوصلها الى القاريء بقدر ما كان يسعى الى فهم للدنيا والانسان».
ويشير أصلان الى انه من الصعب تصور أن هذا الجيل ابن للهزيمة، وهذا ليس نوعا من الاستنكار، لان من يقرأون يجدون في كتابات هذا الجيل ما ينذر بشيء ضخم قبل الهزيمة، وهي كتابات وفيرة في صحف ومجلات، وكانت مقروءة بشكل جيد. وكانت هناك نذر بكارثة ما ستحدث، والفارق الوحيد ان ما حدث لم يكن متوقعا، ملمحا الى أنه لا يستطيع أن يكون خارج الستينيات ويتحدث عنها لأنه جزء من هذا المزاج، والاجيال فيما يتعلق بالفنون أمزجة أدبية، فيحيى حقي مات وهو صاحب مزاج ستيني، وبعض الشباب الآن أصحاب أمزجة ثلاثينية، فالستينيات قاع ومزاج وأجرومية وحالة جمالية، ورغبة في تقديم شهادة جمالية على الزمن الذي نعيشه. الستينيات مزاج، وثقافة لها مفرداتها وليست مرحلة عمرية. وكان بين ابناء الستينيات شيوخ، وهناك بعض الشباب الصغير الآن له مزاج ستيني ويمكن تلمس هذا في أشياء كثيرة.
وعن انقلاب بعض كتاب جيل الستينيات على تاريخهم السياسي يعتقد أصلان انه ليس من حق أحد أن يطلب من أحد آخر أن يظل مرتبطا بما كان عليه في الستينيات، لان الانسان ككائن من المفترض أن تطرأ عليه تغييرات، وأن يزداد فهما، أو يقصر هذا الفهم، أو يظل كما هو وهذا التغيير طبيعي وليس قاصرا على الستينيات فحسب وإلا لتحول الأمر الى مأساة، مؤكدا ان السياسة نفسها ليست ثابتة، فالحياة تتغير، والانسان يتغير والسياسة تتغير، وما دام الكاتب يخضع مواقفه لضميره الشخصي وما دام يفعل ما هو مؤمن به فليس عليه لوم، وليس من حق أحد أن يطالبه بما كان عليه بالأمس لان هذه حرية شخصية.
ويقول أصلان انه لم يشتغل
بالسياسة رغم انه تربى وسط اليسار المصري ولكن طبيعة تكوينه العضوية لا تصلح لدور أن يكون فردا من مجموعة تقوم بشيء محدد، رغم انه منفردا قد يكون مؤمنا بهذه الافكار، ويقول نفس الكلام، غير انه لم يستطع ان يخضع ضميره وفهمه لما يقرره الآخرون أياً كانوا وهذا يرجع الى أنه حصل ثقافته بشكل ذاتي ـ كما يقول ـ فلم تكن لديه مرجعية ثابتة يقيس عليها ومرجعيتها التي يطمئن إليها هي الحياة.
ويرفض أصلان وصف جيل الستينيات بأنه يكون لوبي، مؤكدا ان كل ما هنالك انه كان هناك نوع من الرباط الانساني بينهم، وان كلهم قامات منفردة متباينة، لكل مشروعه، ومن الطبيعي أن يلتقي أفراد هذا الجيل الآن، وهناك من ماتوا وهؤلاء يتعذر لقاؤهم، وهناك من انشغل، وفي الستينيات كانوا يتسابقون على اللقاءات الأدبية والندوات وعلى اكتشاف الكتب ولم يقفوا أبدا في موقع المتفرجين.
ويرى أنه اذا أردنا ان نعرف قيمة هذا الجيل فلنطرحه من الواقع الثقافي المصري، تاريخه، وجهده النقدي والأدبي والغنائي والشعري، ان نستبعد كل ما قدم، حتى نعرف قيمة ما قدم، فربما كانت هذه الطريقة قادرة على أن تقول ان هذا الجيل اجتهد من أجل تطوير أدواته ومن أجل اثراء أدبه، مؤكدا ان هذا الجيل قدم تجربة هامة، ولا يزال يقدم»، وأنا ان كنت قدمت شيئا فلم أقدمه من أجل أحد، ولذلك فلست مستعدا لان يحاسبني أحد على ما قدمت، وحتى الآن لم اطلع على طرح فني بديل، يستحق ان نتناقش حول نقاشا مثمرا، فيجب ان نفرق بين دعاوانا وانجازاتنا».
*القعيد: كنا نريد نظام عبد الناصر لانه كان نظاما أبويا حانيا
*من ناحيته يقول الروائي يوسف القعيد أن تعبير الستينيات أطلق بعد ظهور الجيل بفترة، وهو يعتقد أن فكرة المجايلة فكرة غامضة فنجيب محفوظ معظم نتاجه الأدبي كان في الستينيات.
ويضيف القعيد: «التقينا جميعا في البداية في مقهى ريش حول نجيب محفوظ، ولا توجد ذكريات لنا في هذه الفترة إلا وفيها نجيب محفوظ. على أن مشكلة جيل الستينيات انه تحول الى لعنة، فما زال حتى الآن يطلق عليه جيل الشباب كما كان يطلق عليه في تلك الفترة رغم ان بعض ابنائه جاوز السبعين».
ومشكلة الجيل في اعتقاد القعيد انه لم يفرز نقاده من داخله وهي مشكلة شديدة الأهمية إذ تحول الجيل الى عالة على نقاد الأجيال التالية.
وتجربة القعيد تتشابه مع تجارب باقي الجيل، فقد طبع روايته الاولى على حسابه الخاص، فيما نشرت الثانية له سهير القلماوي، مؤكدا ان الاحتفاء الذي لاقته روايته الأولى «الحداد» في تلك الفترة والمقالات التي كتبت عنه بكثافة لا يحلم بمثلها الآن. ويذكر القعيد دور الكاتب الصحافي عبد الفتاح الجمل في جريدة «المساء» فهو من الأدباء الحقيقيين في اعتقاده الذين اعطوا فرصا حقيقية في النشر لجيل الستينيات علاوة على أن المجتمع كان حاضنا لأبنائه، بعكس الآن حيث تحول المجتمع الي طارد. كانت هناك حفاوة، فروايته الأولى «الحداد» هي التي صنعت اسمه وحدها.
وعن اثر نظام جمال عبد الناصر وهزيمة يونيو على الستينيات يعلق القعيد «انتقدنا نظام عبد الناصر من تحت مظلته ولم نكن نحلم بنظام آخر بديل يأتي الينا، كنا نريد نظام عبد الناصر وموافقين عليه لانه كان نظاما أبويا حانيا كنا نريده فقط أفضل. ومثلت لنا هزيمة يونيو 1967 موت الأب، وانهيار البيت، وانفضاض شمل العائلة، وكلنا أحسسنا بهذا، أما ايام السادات فكنا ضد النظام، وما زلنا نرى في هذه الانظمة التالية لعبد الناصر انها لا تحقق طموحاتنا ولا أحلامنا، وان فيها ظلما اجتماعيا، فالناس تموت من الجوع، ولا تجد عملا، في الوقت الذي يغرق آخرون في النعيم. هناك فجوة هائلة بين طبقتين تتقاسمان المجتمع، وهذا هو الفرق بين نظام عبد الناصر الذي نشأنا فيه وبين ما حدث بعد ذلك واستمر حتى الآن».
ويشير القعيد الى ان الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي ان جيل 68 هز العالم، وما أتى بعده هوامش عليه، فلا يوجد جيل كل عشر سنوات، وانما الجيل يفرزه عصر، وحدث، وكتابة جديدة، وقد أثبت كتابة جديدة بعد الستينيات ومحاولات للخروج لكنها لا تشكل جيلا، وقد تكون هناك حركات أو جماعات أو ما شابه.
ويرفض القعيد وصف جيل الستينيات بأنه يكون «لوبي» ويقول لا يوجد شيء تنظيمي يجمعنا، بل كان لكل مشروعه الفردي، فقط تجمعنا العلاقة الجيدة، وحب الابداع الجيد، ولكل مغامرته الابداعية الفردية التي تختلف عن الآخرين ومن الصعب ان توجد مشاركات، والآن ايضا لا توجد فكرة اللوبي، انما افراد منتظمة منا في جيل، مؤكدا ان الجيل لاقى رفضا من يوسف ادريس الذي حاول أن يمنع محمد عودة من كتابة مقال عن جمال الغيطاني.