نقوس المهدي
كاتب
تمهيد:
إذا كانتْ هذه القضيةُ نَمَتْ في حِضنِ الخيال، وهذا الأخير هو موضوعُ الصناعة الشِّعريَّة، فإنَّ أوَّلَ ما يلفت الانتباهَ هو عَلاقتُها بالشِّعر والخَطابة كل على حِدة؛ ذلك أنَّ الخطابة - كما تَقرَّر في النقد الأدبي القديم - تَميَّزتْ بالإقناع، في مقابلِ الشِّعر الذي تميَّز بالتخييل/ الخيال، وإنْ كان بعضُ الدَّارسين العرب المُحْدَثين يتحدَّثون عن شِعرية الإقناع، معتبرين أنَّ للشعر طبيعةً إقناعية، كما قد يكون للخطابةِ طبيعةٌ إمتاعيَّة.
ويلخِّص الباحثُ أحمد قادِم هذه المسألةَ مِن خلال وقوفه "على مدَى رَحابة الشِّعر لاحتضان خصائصِ الخطابةِ دون أن يستحيلَ إلى خَطابة، واتِّساع الخطابةِ لامتلاك أدوات الشِّعرِ دون أن تستحيلَ إلى شِعر، وكيف أنَّ الإقناعَ شكَّل في كثير من الأحيان قاسمًا مشتركًا بينهما وفاصلاً في آنٍ واحد"[1]، لكن ما يهمُّنا مِن فصلِ الناقد القديم لهذين الجِنسين هو عَلاقتهما بقضيةِ الصِّدقِ والكذب، فهذا حازم القرطاجنِّيُّ يلخِّص ما ذَهَب إليه القدماءُ، بقوله: "فلمَّا كان اعتمادُ الصناعة الخطابيَّة في أقاويلها على تقويةِ الظنِّ لا عَلَى إيقاع اليقين، اللهمَّ إلا أن يعدلَ الخطيب بأقاويلِه عن الإقناع إلى التَّصديق، فإنَّ للخطيب أن يلمَّ بذلك في الحالِ بيْن الأحوال مِن كلامه، واعتماد الصناعة الشِّعريَّة على تخييل الأشياء التي تعبِّر عنها بالأقاويل وبإقامةِ صُورِها في الذِّهن بحُسنِ المحاكاة، وكأنَّ التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن؛ لأنَّ الشيءَ قد يُخيَّل على ما هو عليه، وقد يُخيَّل على غيرِ ما هو عليه، وجَب أن تكونَ الأقاويل الخطبيَّة - اقتصادية كانت أو احتجاجيَّة - غيرَ صادقة، ما لم يعدلْ بها عن الإقناع إلى التصديق؛ لأنَّ ما تتقوَّم به - وهو الظنُّ - منافٍ لليقين، وأن تكونَ الأقاويل الشِّعريَّة -اقتصادية كانت أو استدلاليَّة - غيرَ واقعة أبدًا في طرَف واحد مِن النقيضين اللَّذين هما الصِّدق والكَذِب، ولكن تقَع تارةً صادقةً وتارةً كاذبةً؛ إذ ما تتقوَّم به الصناعة الشعرية - وهو التخييل - غيرُ مناقض لواحد من الطرفين؛ فلذلك كان الرأيُ الصحيح في الشِّعر، أنَّ مقدِّماته تكون صادقةً وتكون كاذبة، وليس يُعدُّ شِعرًا إلاَّ مِن حيث هو كلامٌ مخيَّل"[2].
هكذا يتَّضح تطورُ تناول هذه القضية بين الشِّعر والخطابة، فقد بدأتْ في أتُّونِ التجرِبة الشِّعريَّة من خلال ما عُرِف قديمًا بـ"إنَّ أعذبَ الشِّعر أكذبُه"[3]، واختُلف في هذه المقولة بين الفَهم الخُلُقي والفَهم الفني الجمالي، فقد بُنِيَت أولَ الأمر على سلوكِ المتلقي من تأثُّر وإذعان والتذاذ للشِّعر الكاذب؛ فحاول النقادُ القدماءُ تفسيرَ أسباب ذلك ومقارنتها بتأثيرها في الأجناسِ الأخرى: الخطابة مثلاً، وفي سبيلِ هذا التنظير لهذه القضية بقِي الاختلافُ بيِّنًا بيْن النقَّاد حولَ صِدق الشِّعر وكذبه، ومدى إمكانيته وحدوده، وأنواعه وتدرُّجه بيْن ما هو خُلُقي وما هو فنِّي.
وقبل التطرُّق إلى هذه القضية في النقْدِ الأدبي بالغَرْب الإسلامي، يجدُر بنا الحديث أولاً عن بعض المصطلحات المتعلِّقة بها ضِمن سياقها بيْن التلقِّي والمثاقفة، ومِن بين هذه المصطلحات نذكُر: الغلو، والمبالغة، والكذب، والإقصاء، والإمكان، والاستحالة، والاختراع، والحُصول، والاختلاق، والصِّدق، والتقصير، والامتناع، والإفراط، والإيهام.
1. مصطلحات لها علاقة بثنائية الصدق والكذب:
يُعدُّ أسلوبَا الغلوِّ والمبالغة مِن الأساليبِ البلاغيَّةِ التي دارتْ في فَلكِ ثُنائية الصِّدق والكَذِب؛ ذلك أنَّ الشاعر يَسْمُو بنفسه عن نقلِ الواقع بشكلٍ حرفي، بل يسعَى إلى محاولة إتمام نقْصه بالغلوِّ والمبالغة.
ربَط الشريف السبتيُّ (ت 776هـ) بين الغلوِّ والمبالغة، دون أن يُغفِلَ ما بين المصطلحين من فَرْق، يقول:"وقد قال المتنبيُّ... فبالَغ وغلاَ:
كُتِبَتْ فِي صَحِيفَةِ الْمَجْدِ بِسْمٌ
ثُمَّ قَيْسٌ، وَبَعْدَ قَيْسِ السَّلاَمُ"[4]
ويَتَّضح تفريقُه بينهما مِن خلال موقفِه مِن كلِّ واحد منهما، فهو ضدُّ الغلوِّ مِن الناحية الخُلُقية، أو لنقل: مِن الناحية الدينيَّة، وهو ما يَدفعُنا إلى القول بأنَّ الرجل يجعل الغلوَّ مِن الكذب، ويتعامَل معه على هذا الأساسِ مِن وجهةِ نظرٍ دِينيَّة خُلُقيَّة، وليست فنيَّةً جماليَّة، يقول شارحًا لبيت حازم القرطاجنِّي: "والمعنَى في البيت الثاني[5]: أنَّه قد استولَى في الجود على الأمَدِ الذي ما بعدَه غاية، وعبَّر عن هذه الغاية بـ"إلى"؛ لأنَّها حرفٌ موضوعٌ للدَّلالة على معناها، ثم ذكَر أنَّ الدهر لو لم يُوَصِّل الناسَ إلى نِعم هذا الممدوح، لم يصلوا إلى نِعمة؛ لأن النِّعم كلها مِنه، نعوذ بالله من الغلوِّ!"[6]؛ فهذا الناقِدُ لم ينظرْ إلى جمالية هذا الغلوِّ وفنيَّته باعتباره أسلوبًا بلاغيًّا، بل نظَر إليه باعتباره كذبًا.
ويفرِّق الشريف السبتيُّ بيْن المبالغة والغلوِّ بقوله: "وقدْ أوقع بعضٌ مِن المتأخرين التبليغَ على نوعٍ مِن المبالغة، وهو أن يكونَ الوصف ممكنًا في العادة، ولم يخرجْ إلى حدِّ الإغراق والغلو"[7]، فالمبالغة وصفُ الممكن، في حين أنَّ الغلوَّ هو وصفُ المستحيل، وبهذا نَفهم لماذا يرفُض الشريفُ السبتيُّ الغلوَّ، ويعتبره مِن الكذب المحرَّم دِينيًّا وخُلقيًّا، في حين يقبل المبالغة وإنْ كانت هي الأخرى من الكَذِب، لكن هذا الكذب هو مِن الكذب الفنِّي الجمالي، ويتَّضح ذلك مِن خلالِ جعْل أسلوب "التبليغ" نوعًا من المبالغة، ويفهمها كذلك في مكانٍ آخَرَ بأنَّها الزيادةُ في الممكن، يقول: "وقال المعرِّي أيضًا فبالغ في المعنَى وزاد:
وَلَوْ وَطِئَتْ فِي سَيْرِهَا جَفْنَ نَائِمٍ
لَمَرَّتْ وَلَمَّا يَنْتَبِهْ مِنْ مَنَامِهِ"[8]
يربط ابنُ البناء المراكشي (ت 721هـ) بيْن الكَذِب والغلوِّ والاختراع والتخيُّل والمحاكاة؛ ويُفرِّق بين الحِكمة والشِّعر، فيرَى أنَّ الكذبَ أو الغلوَّ هو في الشِّعر، وليس في الحِكمة؛ وذلك لأنَّ الأوَّل مبنيٌّ على المحاكاة والتخيُّل، يقول: "وكلُّ ما في التشبيه مِن كَذِبٍ أو غُلوٍّ، فلا يكون في الحِكمة ويكون في الشِّعر؛ لأنَّه مبنيٌّ على المحاكاةِ والتخيُّل لا عَلَى الحقائق؛ ولذلك اختصَّ الشِّعرُ بأنواعٍ ليستْ مِن البديع بحسبِ الحِكمة، وهي مِن البديع بحسبِ اللِّسان؛ إذ الشِّعْرُ منه، ولكن ليس للشاعِر أن يحاكيَ ويتخيَّل في الشيءِ ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّه إذا فَعَل ذلك لم يكُن محاكيًا، بل يكون مخترعًا، فيركب الكذب في قوله، فتبطُل المحاكاةُ لكذِبها، وهي موضوعُ الشِّعر"[9].
يَقصُر ابنُ البناء الكذبَ والغلوَّ على الشِّعر دون الحِكمة؛ وذلك لأنَّ التخييلَ والمحاكاة هما عمود الشِّعر، والكذب والغلو لا يكونانِ إلاَّ مِن خلالهما، واعتبر أنَّ هذين الأسلوبين (التخييل والمحاكاة) هما الأنواع البلاغيَّة التي اختصَّ بها الشِّعر دون الخطابة؛ لأنَّ هذه الأخيرة اختصَّتْ بأساليبِ الحقائق: الإقناع، والحجاج...
وعلى الرغم مِن إقرارِ ابن البناء بجوازِ الكذب والغلوِّ في الشِّعر، إلا أنَّه وضع لذلك شروطًا تتمثل في كون هذا الكذب يجِب أن يكونَ ممكنًا، وليس محالاً، كأن يحاكي ويتخيل الشاعر ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّ ذلك يَعني أنَّ الشاعر يخترع أشياءَ ليست مِن قبيل المحاكاة، وإذا انتفتِ المحاكاة، بطل الشعر؛ إذ هي عمودُه لدَى هذا الناقد، فابن البناء يرفُض الاختراع، ويرفُض الكذبَ المحالَ المسبب له، ويُعطي مثالاً على توجهه هذا في قضية الغلوِّ في الكذب؛ ولذلك اعترض على قول الشاعر:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ
واقتَرح بديلاً لهذا القول:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالدُّرَرِ
"مِن حيث إنَّ إمطارَ اللؤلؤ غير مشاهَد ولا معروف، فهو قدْ حاكَى الدَّمْع في انسكابِه على خدِّها بشيءٍ غير موجود ولا معلوم إلاَّ مِن عنده اخترعَه مِن نفْسه، ومِن الناس مَن يرى أنَّ الشعر موضعُ الكذِب والإيغال في المحال، فيُجوز ذلك فيه، ويجعله مِن الترشيح، والقول الأوَّل أنسبُ لصناعة الشِّعر، والثاني أنسبُ لمعناه"[10].
بعقبِ هذا المثال يوضِّح ابنُ البناء رأيَه بشكلٍ صريح، فهو يَعترِض على الكَذِب المحال؛ أي: اختراع شيءٍ لا وجودَ له في الواقِع، وبعدَ ذلك ينقُل لنا الرأيَ المخالِف له، فيقول: إنَّ هناك مِن الناس مَن لا يعترض على هذا الكذِب؛ ثم يُقرِّر بأنَّ رأيه يجعل مِن الكذِب أنسبَ لصناعة الشِّعر، وأنَّ رأي غيرِه يجعل مِن الكَذِب أنسبَ لمعناه.
أما السجلماسيُّ (704هـ) فيَفهم "الغلو" في الشِّعر بأنَّه هو الإفراط، يقول: "وهو المدعوُّ الإفراط عندَ قومٍ في صناعة الاشتقاق، هو مِن قولهم: "غلا في الأمْر يغلو غلوًّا"، وهو يُرادِف الإفراط، ثم نقل مِن ذلك الحد إلى عِلم البيانِ على ذلك الاستعمالِ والوَضْع، فيُوضَع فيه على الإفراطِ في الأخبارِ عن الشيءِ والوصفِ له، ومجاوزة الحقيقةِ فيه إلى المحال المحضِ، والكذِب المُخترَع؛ لغَرَضِ المبالغة"[11]، فالغلوُّ في أصلِ اللُّغة لدَى السجلماسي والنقَّاد القدماء الذين استندَ إليهم هو مُجاوزة الحقيقةِ إلى الكذِبِ المحالِ المخترَع، كما ذهَب إلى ذلك ابنُ البناء المراكشي، وجعَل مِن المبالغة غرضًا لهذا الغلوِّ، ثُمَّ يُعطي لهذا المصطلحِ معناه الصناعيَّ بقوله: "وبالجملةِ هو أن يكونَ المحمول ليس في طبيعته أن يَصدُق على الموضوعِ، وليس في طبيعةِ الموضوع ولا في وقتٍ ولا على جهةٍ أن يَصدُق عليه المحمول، لكن إذا كان مَن حمل على هذا الموضوع، فإنَّما هو بقَصْدِ المبالَغة، وتبقَى هذه الغاية هي المحدِّد لوجودِ هذا الغلوِّ وقَبوله - إذا كان مِن قَبول - في الشِّعر.
والسُّؤال الذي يُطرَح - هنا -: ما مَوقِفُ السجلماسيِّ مِن الغلوِّ على ضَوءِ فَهمه السابِق؟
لا بدَّ مِن الإشارة - أولاً - إلى أنَّ هذا الناقدَ قد قارن بيْن الغلوِّ والتشكيك[12]، باعتبارهما أسلوبين بديعيين؛ يقول: "وأحَدُ الوجوه التي احتيل بها لإدخالِ الكلامِ في القلوب، وتمكين الاستفزازِ مِن النفوس، وفائدته الدَّلالةُ على قُرب الشبهين حتى لا يُفرَّقَ بينهما ولا يُميَّز أحدهما من الآخَر؛ فلذلك كان له في النَّفْس حلاوةٌ وحُسن موقِع، بخلافِ نوعِ الغلو"[13].
فما الذي يمنع الغلوَّ مِن أن يكونَ له في النفس حلاوةٌ وحُسنُ موقع، على الرغمِ مِن توفُّر عنصر المبالَغة فيه أُسوة بالتشكيك، وهو في النهاية منها؟ يجيب السجلماسي عن هذا السؤال مِن خلال عَرْض آراءِ النقَّاد السابقين في الموضوع، ثم ترجيح وجهةِ نظرِه، مِن خلال سَبْرِ أغوار التراث النقدي العربي: "واختيار هذا النوعِ مِن البلاغةِ وأساليب البديع هو أمرٌ بالإضافة والحُكم غير المطلَق، مِن قِبل أنَّ لأهل هذه الصناعة فيه رأيين: فقوم - وهم الأكثرون - يرَوْن أنَّ الشريطة فيه وملاك أمرِه هو أن يتجاوزَ فيه حال نوعي الوجودِ العَقليِّ والحسيِّ إلى المحال والكذِب المخترَع، وقوم يرَوْنَ التوسُّط فيه آثَر وأحمد وأفضل في الصناعة إحجامًا ورهبةً للاختراع والكذب"[14]، فالسجلماسيُّ هنا يُفرِّق تفييئه لهذين الرأيين على أساس حضورِ المحال والاختراع في الكذب، فيَجِد أنَّ أغلبَ النقَّاد يُجوِّزون حضورَهما، في حينِ لا يُمانع الآخَرون بشَرْط التوسُّط.
وبطريقتِه المنطقيَّة يَسعَى السجلماسيُّ لترجيحِ أحدِ الرأيين، حيث رَأى أنَّ موضوعَ الصناعة الشِّعريَّة هو التخييل، بغضِّ النظَر عن الصِّدقِ والكذِب؛ فلا يهمُّه أن يكونَ هذا الكذبُ محضًا واختراعًا ومحالاً: وأمَّا مَن اعتبر أنَّ موضوع الصناعة الشِّعرية هو الممتنعات، فإنَّ رأيه هذا مرذولٌ مردود، مستندٌ إلى رأي ابن سينا (ت 428هـ) في كتاب القياس[15].
والسجلماسيُّ بهذا الرأي الذي لا يَرَى مانعًا مِن كون الكذب في الشِّعر قد يكون اختراعًا أو محالاً، يَختلِف مع ابن البناء (ت 721هـ) فيما ذهب إليه سابقًا، مِن اعتبار أن الاختراع يُفسِد المحاكاة، وهذه الأخيرة هي عمودُ الشِّعر لديه.
مِنَ المصطلحاتِ التي التَصَقتْ بثنائية الصِّدْق والكذب نذكُر: "الإيهام"[16]، وقد ورَد هذا المصطلح لدَى الشريف السبتيِّ في أماكنَ عِدَّةٍ مِن كتابه "رفْع الحُجُب المستورة"، ونَكتفي ببعضِ الأمثلة:
يقول الشريف السبتيُّ (ت 760هـ) شارحًا بيت حازم القرطاجني (ت 684هـ): قلت: قال الناظِم: "وَظَلَّ بِالدِّيرِ يُسَاقِي أَكْؤُسًا... البيت"، فيه توريةٌ عجيبة، فإنَّه ذَكَر الدِّير وأوهم أنَّه يريد دير الخمار، وإنَّما يُريد موضع الوقيعة، وذكَر الأكؤسَ وأوهم أنه يُريد أكؤسَ الشراب، وإنَّما يريد أكؤسَ الحمام على جِهة الاستعارة، وذَكَر الإبريق وأوهم أنَّه يُريد إبريقَ الشراب وهو يُريد السيفَ، فتمَّتْ له التوريةُ وأبدع كلَّ الإبداع"[17]، فالإيهام هو نوعٌ مِن الكذِب الشِّعري الذي يَتوسَّلُ به الشاعِر، ويَزيد مِن جودةِ الإبداع.
هذه بعض المصطلحات التي تَدور في فلك قضيةِ الصِّدق والكذب، والتي تناولها الناقِد الأدبي في ثنايا مُصنَّفاته، ويُمكن أن نُلخِّص هذا الجهازَ المصطلحي لديه في:
1- يَفهم الشريف السبتيُّ مصطلح "الغُلوِّ" فهمًا دينيًّا وخُلُقيًّا، الشيء الذي جعله يَرفضه في الشعر؛ وبالمقابل جوَّز أسلوب المبالغة في الشعر، باعتبار أن الأول هو وصفٌ للمُحال، وأن الثاني هو وصْف للمُمكن. فالكذِب لدَيه: كذبٌ مرفوضٌ خُلُقًا ودِينًا؛ لأنه يصف المحُال، وكذبٌ مقبولٌ فنًّا وجَمالاً؛ لأنه يَصفُ المُمكن.
2- يَرى ابن البناء أن جَوهر الشِّعر وعَموده هو التَّخييل والمحُاكاةُ، وأنَّ الكَذِب والغُلوَّ مُلتصِقٌ بِهما؛ فلا يُتصوَّر وجودُ شِعرٍ بُدون عَمودِه، ولا وجودَ لهذا العَمود مِن دون كذبٍ وغُلوٍّ، إلا أنه لا يَنبغي أن يكونا من المحال والاختراعِ، لأنَّ ذلك يُفسدُ المحُاكاة.
3- يَرَى السجْلماسي أنَّ موضوعَ الصِّناعةِ الشِّعريَّةِ هو التَّخيِيلُ، بغضِّ النظر عن صِدق الشِّعر أو كَذِبِه، وبِغَضِّ النظر عن كَونِ هذا الكَذِبِ كذبًا مَحضًا أو اختراعًا أو مُحالاً، لكنَّه يَرفضُ أنْ يكونَ مِن المُمْتَنع.
4- يَرى الشريفُ السبتيُّ أنَّ الإيهامَ نَوعٌ مِن الكَذِبِ المقبول في الشِّعر؛ لأنَّه يَخدمُ جَودَته.
بالرُّجوعِ إلى التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، نَجِدُ أنَّ هذه المُصطلحاتِ تُنُووِلَتْ في ثَنايا مُصنَّفاتِهم في النَّقد والبلاغَةِ، فنُظِر إليها باعتبارِها أَساليب بَلاغِيَّة، وأَحيانًا باعتبارها قَضايا نَقديَّة، تَختلِفُ فيها الآراء. ومِن الأَمثِلَةِ على ذلك ما ذَهَبَ إِليه قُدامَةُ بنُ جَعْفَرٍ (ت 337هـ) في قوله: "فَلنرْجِعْ إلى ما بَدْأنا بِذكْرِه مِنَ الغُلُوِّ والاقتِصارِ على الحَدِّ الأَوسَطِ، إنَّ الغُلُوَّ عِندي أَجودُ المذْهبَينِ، وهو ما ذَهَبَ إليه أَهْلُ الفَهْمِ بالشِّعْر والشُّعراء قديمًا، وقد بلَغَني عَنْ بعَضِهم أنَّه قال: (أَحْسَنُ الشِّعرِ أكْذَبُهُ)"[18].
ويَستنِدُ قُدامةُ في بناءِ تَصوُّرِهِ هذا إلى تُراثَينِ:
• التُّراثُ الفَلسفيُّ القَديمُ لَدَى اليُونانِ؛ يقول: "وكذا نَرى فَلاسفةَ اليُونانيِّينَ في الشِّعرِ على مَذهبِ لُغَتِهم"[19].
• التُّراثُ الأدبيُّ العربيُّ القديمُ، مِنْ خِلالِ استقراءِ وُجودِ هذا الغُلُوِّ في أَشعارِ القُدماءِ، ورَصْدِ اختلافِ القُدماءِ حَولَهُ، يَقولُ: "ومَن أنكرَ على مُهَلْهِل والنّمر وأبي نُواسٍ قولَهم المتَقدِّمَ ذِكرُه، فهو مُخْطئ؛ لأنَّهم وغَيرَهم مِمَّنْ ذهبَ إلى الغُلُوِّ إنما أرادوا به المُبالَغةَ، وكل فريق إذا أتى من المبالغة والغُلُوّ بِما يَخرجُ عَنِ المَوجودِ وَيدخُل في باب المَعدومِ، فإنَّما يُريدُ به المَثَلَ وبُلوغَ النِّهايةِ في النَّعتِ، وهذا أحسنُ مِن المذهبِ الآخَرِ"[20].
مِنْ خِلالِ تَحليلِه للتُّراثِ الأدبيِّ، يَبسُطُ بِشكْلٍ واضِحٍ رأيَه في قَضيَّةِ الكذبِ والغُلُوِّ، فهو يرى أن الغُلُوَّ جائزٌ، وقَدِ اعترَضَ على مَنْ أَنكَرَه، شَريطَةَ أنْ يَكونَ بِقَصْدِ المُبالَغَةِ، وليسَ بِقصْدِ الخُروجِ عَنِ الموجُودِ والدُّخولِ في المَعدومِ؛ أي: المحُال.
يَرصدُ ابنُ الأَثيرِ (ت 630هـ) كذلكَ اختلافَ النُّقادِ حَولَ مُصطَلحِ "الإفراط"؛ يَقولُ: "وأمَّا الإفراطُ، فقَدْ ذمَّهُ قَومٌ مِن أهلِ هَذِه الصِّناعَةِ وحَمِدَهُ آخرونَ، والمذْهَبُ عِندي استعْمالُه، فإنَّ أحْسَنَ الشِّعرِ أكْذَبُه، بَلْ أَصدَقُهُ أكذَبُه، لكنَّه تَتفاوَتُ دَرجاتُه، فَمِنه المُستحْسَن الذي عليه مَدارُ الاستعْمالِ"[21].
هكَذا يَنطلِقُ ابنُ الأَثيرِ مِنْ قَولةِ: "أحسَنُ الشِّعْرِ أكذَبُه"؛ لِيرَى أنَّ الكَذِبَ جائِزٌ في الشِّعْرِ، بَلِ الإفراطُ فِيهِ كَذلِكَ جائِزٌ، لكنْ يَجِبُ أنْ تَكونَ دَرجَةُ الكَذِبِ بِقَدْرِ الاستِعمالِ، وكَأَنَّهُ يُوحِي بالقَولِ أَنَّ الخُروجَ إلى المحالِ في الكذبِ غَيرُ مَقبولٍ، ويُؤَكِّدُ أنَّهُ لا وجُودَ لِشِعْرٍ صادِقٍ، بَلْ هناك شِعْرٌ كاذِبٌ، وهو سِرُّ صِدْقِه وجَوْدَتِه، وفَهْمُه للصِّدْقِ والكَذِبِ هُو فَهْمٌ جَماليٌّ فَنيٌّ.
ونَخْتِمُ هذهِ الجُهودَ العربيَّةَ بما جاءَ به ابنُ رشيقٍ القَيرَوانِيُّ (ت 456هـ) في مناقَشَتِه لِمُصطلَحَي "المُبالَغَة والغُلُوّ"؛ يَقولُ عنِ الأوَّلِ مِنهُما: "والنَّاسُ فيها مُختَلِفونَ: مِنهُمْ مَنْ يُؤثِرُها، ويقولُ بتفضيلِها، ويَراها الغايةَ القُصوى في الجَودةِ، وذلِكَ مَشهورٌ مِن مذهبِ نابغةِ بَني ذُبيان، وهو القائِل: أشعرُ الناسِ مَن استُجيدَ كذبُه، وضُحِك مِن رَديئِه"[22]، ويُقرِّب لنا ابنُ رشيقٍ مفهومَهُ للكذبِ، باعتباره كذبًا فنيًّا يَدعو إلى الصِّدقِ أو التصديقِ، ويُوضِّح ذلك من خلال تعقيبِه على بيت جَرِير:
"فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ عَبِيدَ تَيْمٍ
وتَيْمًا قُلْتَ: أَيُّهُمُ العَبِيدُ
فلَو قال: "عبيدهم" أو خيرًا منهم لما ظُنَّ به الصِّدقُ، فاحتال في تقريب المشابَهة؛ لأنَّ في قُرْبِها لَطافَةً تقعُ في القُلوبِ وتَدْعو إلى التصديق"[23]، ويَبسُطُ هذا الناقِد رأيَه في الموضوع، لكنَّه رأيٌ متذبذبٌ، فتارةً يرى أنَّ المبالَغة هي مذهَب العاجزين عن القولِ الشِّعريِّ، وتارةً يرى أنَّ أحسَن المبالَغةِ تلكَ التي تَكونُ في أقصى درجاتها؛ يَقولُ: "والمبالَغةُ في صناعة الشِّعرِ كالاستراحةِ من الشاعر إذا أعياه إيرادُ مَعنى حَسَنٍ بالِغٍ، فيَشغَلُ الأسماعَ بما هو مُحالٌ، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصِدُها مَن ليسَ بمتمكِّنٍ مِن محاسِن الكلامِ أن تمكنه، ولا يَتعذَّر عليه، وتنجذبُ كلما أرادها إليه"[24]، ويقولُ مِن جهَةٍ أخرى: "فمِنَ أحسَنِ المُبالَغة وأغْرَبِها عند الحُذَّقِ: التَّقصِّي، وهو بلوغُ الشَّاعر أقصى ما يُمكن وصْفُ الشيءِ"[25]، وأمَّا "الغُلُوّ"، فهو يُلحقه "بالمبالغة"، ويرى أنَّ ما قِيل بخصوصِ الثَّاني هو سارٍ على الأوَّل؛ ذلك أنَّ الغُلُوَّ "يُنكِرُه مَن يُنكِر المُبالَغة"[26].
لقد أتاحتْ لنا هذه الجهودُ أن نستخلص ما يلي:
1- اختلاف النُّقادِ مُنْذُ القِدَمِ حولَ هذه المصطَلَحاتِ، بَين مَن يُجوِّزُ وقوعها في الشعر مستندًا إلى التراثِ الأدبيِّ، ومَن يَرفضُها ويَجعلُها إمّا مذهبًا للعاجِزينَ مِن الشُّعراءِ، أو أنَّها تُفسدُ أساليبَ القولِ الشعريِّ، ومَن يقبَلُها بِشروطٍ.
2- استندَ الشَّريفُ السَّبتيُّ في رفضِه للغُلُوِّ إلى جُهودِ العَرب القدماء، وخصوصًا ابن رشيقٍ القيرواني في أحَدِ آرائه، وإنْ كان دافِعُ الأول خُلُقيًّا، ودافعُ ابنِ رشيقٍ فنيًّا.
3- استندَ ابنُ البنَّاء في تفضيله للغُلوِّ - بشرْط عَدَمِ الخروج إلى المُحال والاختراع - إلى جُهودِ بعضِ النُّقادِ العَرَب القُدماءِ، ومِنهُم ابنُ الأثير وقُدامةُ بنُ جعفرٍ، في حِين أنَّ السجلماسيَّ لا يَرى غضاضةً في وجودِ الكذبِ في الإبداعِ، سواءٌ كان مِن الغُلوِّ أو الاختراعِ.
4- ثُنائيَّةُ الصِّدقِ والكذبِ مِن زاويةٍ خُلُقِيَّةٍ وفَنِّيَّةٍ:
نَظَرَ لسانُ الدين بنُ الخطيبِ إلى ثُنائيَّةِ الصِّدقِ والكَذِبِ مِن زاويةٍ خُلُقيَّةٍ، تَرى أنَّ الكذب في الشعر هو كَذِبٌ خُلُقيٌ مُحرَّمٌ، يَتنافى وأخلاقَ الإسلامِ، الشيءُ الذي دفَعَه إلى نَفْيِ وجُود السِّحر في مدْحِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "وكما أنَّ الشعر لم يتعلَّمْه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يَنبغي له؛ لِئلاَّ يرتابَ المبطلون، وذلك في حقِّه كمالٌ، بِخلافِه في حقِّ غيره، كذلك يَبْعُدُ أو يَمتَنِعَ أن يوجَد قِسم السِّحر في مَدحِه؛ إذ أصلُه الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجُّن؛ ولذلك ما قال أحدُ الحكماء في كتاب، وقد تفطَّن لها الشاعرُ، على عَقله ووقارِ جَنابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَبهر النَّفس ويَمنع من اسْتِرْسالِها في ذلك، فالمُجيد فيه مَن عوَّل على نَصاعةِ اللَّفظ، وقَصْد الحقِّ، وقُرْب المعنى، وإيثار الجذاذ، وغيره مِن الأغراض سبيل الهزْل"[27]، يَجمع هذا النَّاقد في توصِيفِه لِجوهر الشِّعرِ بينَ ما هو فنيٌّ: "المحاكاة والخيال"، وما هو خُلُقيٌّ دِينيٌّ: "الإغياء والتمجُّن"، وبعد ذلك يُرجِّح ما هو خُلُقيٌّ على ما هو فَنِّيٌّ، من خلال دعوته المُبدِعَ أنْ يختارَ نَصاعة اللفظ، وأن يَقصِد الحقَّ ويُؤثر الجذاذ.
ولتأكيد ربطِه بين الكذبِ بمعناه الخلُقي والإبداع الشِّعريِّ، نَفَى عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قولَ الشِّعرِ، باعتبار أنَّ النبيَّ الكريمَ لا يَنطِق عن الهوى، ولا يَصِحُّ في حقِّه الكذب - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويذهب ابنُ البناء المراكشيُّ المذهَبَ نفسَه مِن خلالِ قولِه في رَوضه: "وحُسنُ معنى الكلامِ وصَلاحُهُ وصِحَّته إنما هو ببنائِه على الصِّدقِ، وقَصدِه إلى الجَميل، وظُهورِه بالبُرهانِ... وحُسنُ اللَّفظ وصَلاحُه إنما هو بالقصدِ إلى المستعمَل في زمان الخِطابِ، وعلى قَدْرِ مَن يُخاطب، والإيضاح على أحسنِ ما يقدر عليه مِن التَّسهيل والتَّقريب؛ ولذلك كان أفْصحُ الخَلْقِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يَقولُ الشِّعْرَ"[28].
وإنْ كان هذا الرأيُ لابنِ البناء لا يُعبِّر عن موقفِه الحقيقيِّ مِن هذهِ الثُّنائيةِ - كما سنرى - لأنَّ سياقَه أتى في أَتُّونِ مناقشتِه لما يتعلَّق بفهم القرآن والسُّنَّة، وليس في سياقِ بحثِه للشِّعر، فالرجُل يفرِّق بيْن ما يَتعلَّق بتحليلِ الخِطابِ الدِّينيِّ: الكتاب والسُّنة، والخِطابِ الشِّعريِّ، وكأنَّ هدفه مِن رَوضِهِ هو مساعدةُ الطالب على فَهْمِ الخِطاب الدِّينيِّ، يقول: "وبهذا الذي ذكرْناه في هذا الكتاب يُعْرَفُ التفاضُل في البلاغةِ والفصاحَة، وهو قَدْرٌ كافٍ في فَهْمِ ذلك في كتاب الله وسنَّة نبيِّه وفي المخاطَباتِ كلِّها، لم يشذ منه إلاَّ ما هو مِن موضوعِ صِناعَة العَروض وصِناعَة القوافي، وبعض ما يَختصُّ بالشِّعر مِن حيث هو شِعرٌ، وأما ما هو مِن موضوعِ صِناعَةِ البديع والبلاغة ولم يختصَّ به الشِّعرُ من حيثُ هو شِعرٌ، فلا"[29].
فهو بهذا يُفرِّق بيْن الكذب الخلُقي المتعلِّق بالخطاب الدينيِّ، والكذبِ الفنيِّ المتعلِّق بالخطاب الشِّعريِّ؛ ولهذا نجدُ ابن الخطيبِ تناوَلَ مسألةَ الكذبِ الخلُقيِّ في خِطاب رسولِ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورَفَض الكذبَ في حقِّه، إلا أنه استحْسَن الكذب الفنيَّ في الشِّعر، وخصوصًا في طبقة السِّحر من الشِّعر؛ يقول: "ولمَّا كان السِّحرُ قوةً ظهرتْ للنُّفوسِ أفعالُها، واختلفتْ بحسَب الوارِدِ أحوالُها، فتُرى لها في صورة الحقيقة خيالُها، ويتبدى في هيئة الواجب مُحالُها، وكان الشِّعر يملك مقادَتَها، ويغلب عادتَها، وينقُل هيئتَها، ويُسهِّل بعد الاستصعاب خبيَّتَها، ويَحملها في قدِّه على الشيء وضِدِّه، حتى تفطَّن لِهذا المعنى مَن يُعنَى مِن سرِّ الكلام بما يُعنَى، فقال مِن البسيط:
فِي زُخْرُفِ القَوْلِ تَزْيِينٌ لِبَاطِلِهِ
وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبيرِ
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ
وَإِنْ ذَمَمْتَ فَقُلْ قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحٌ وَذَمٌّ وَعَيْنُ الشَّيْءِ واحِدَةٌ
إِنَّ البَيَانَ يُرِي الظَّلْمَاءَ كالنُّورِ
وإذا عُضِّد بما يناسبه، وتقضي إليه مذاهبه، وقُرنت به الألحان على اختلاف حالاتها، وما يَقتضيه قوي استحالاتِها، عَظُم الأثَر، وظهرتِ العِبَر، فشجَّع وأقدَم وسهَّر وقوَّم وحبَّب السخاء إلى النفْس..."[30]؛ فالناقِد هنا يربِط بين الكذب والخيال في مُقابِل الصِّدْق والحقيقة، واستَشهدَ بالأبيات الشِّعريَّةِ لتوضِيح هذا الفَرْق، وأوضَحَ أنَّ الشِّعْر مِن حيثُ هو كذِبٌ وخيال، يُؤثِّر في المتلقِّي أشدَّ تأثِير.
وهذا التناولُ الخُلُقيُّ لهذه القضيَّةِ، يُوجَد في بُطونِ المُصنَّفاتِ النَّقديَّةِ العربيَّة القديمة، يَقولُ أبو هِلال العسكريُّ (ت 395هـ): "ولا يَقَع الشِّعرُ في شيءٍ مِن هذه الأشياءِ مَوقِعًا، ولكنْ له مواضِعُ لا يَنْجَحُ فيها غَيرُه مِنَ الخُطَبِ والرَّسائِلِ وغَيرِها، وإنْ كان أكثَرُه قد بُنِيَ على الكَذِبِ والاستحالَةِ مِنَ الصفاتِ الممتنِعَةِ، والنُّعوتِ الخارِجَةِ عَنِ العادات، والألفاظ الكاذبةِ مِنْ قَذْفِ المُحصناتِ، وشَهادَةِ الزُّورِ وقَولِ البُهتان؛ لا سيَّما الشِّعرُ الجاهليُّ الذي هو أقوى الشِّعرِ وأفْحَلُه"[31]، فالفَهمُ الخلُقي للكذِبِ واضِحٌ في تناوُل الرجُلِ لهذه الثُّنائيَّةِ، لكنْ إلى جانِبِ ذلك يَبدو أنه يُلمحُ إلى أنَّ وجود الكذبِ كذلك بمعناه الفنيِّ، فعندما يتحدَّث عنِ الصفاتِ المُمتنِعَة، والنُّعوتِ الخارِجَةِ عن العادات، فهو يَرى أنِّ الكذِب يَسعى إلى تَحويل الواقِعِ كما هو إلى واقِعٍ فنيٍّ، ويُؤكِّد ذلك بقوله: "وليس يُراد منه إلا حُسنُ اللَّفظِ وجَودَةُ المعنى؛ هذا هو الذي سوَّغ استعمال الكَذِبِ وغيرِه ممَّا جَرى ذِكْره فيه"[32]، يَبدو أنَّ الرجُل قد بَنى رأيَه هذا مِن خِلال اطِّلاعِه على جُهودِ الفلاسِفَة، فهو يُفرِّق بين الكذِب الخلُقيِّ في مُقابِل الصِّدْق الخلُقي، والكذبِ الفنِّيِّ في مُقابِل الصِّدقِ الفنِّيِّ، وهذان الأخيران لا فرقَ بينهما؛ يقول: "وقِيل لبعضِ الفلاسِفَة: فُلانٌ يَكذِبُ في شِعرِه؛ فقالَ: يُرادُ مِنَ الشاعِرِ حُسنُ الكلامِ، والصِّدقُ يُراد مِنَ الأنبياء"[33].
يَبدو - كذلك - هذا الخَلْطُ بين الكَذِبِ الخلُقي والفنيِّ واضحًا في "عُمدة ابنِ رشيقٍ" في قَوله: "ومِن فَضائِله (يَقصِد الشِّعرَ) أنَّ الكَذِبَ - الذي اجتَمَع الناس على قُبحِه - حَسَنٌ فِيه، وحَسْبُك ما حسَّن الكذبَ، واغتُفر له قُبحُه"[34]، فالكذبُ - هُنا - نَوعان: كذبٌ خلُقيٌّ أجْمَع الناسُ على قُبحِه وترذِيلِه، وكذبٌ فنيٌّ يُحسِّن الشِّعرَ ويتَجاوَز القُبحَ الذي أُلصِق به.
فأيَّ كذبٍ يَقصِد ابنُ رشيقٍ؟، ويَبدو أنَّ هذا الرأي المُزدوَجَ لَدَى هذا الناقِدِ راجِعٌ إلى تُراثِه النَّقديِّ، فهُو يَستدِلُّ بالقُدماءِ في بَسطِه لهذا الرأي؛ يَقول: "وسُئلَ أحد المُتقدِّمين عَنِ الشُّعراءِ؟ فقال: ما ظَنُّك بِقومٍ الاقتصادُ مَحمودٌ إلاَّ مِنهُم، والكَذِبُ مَذمومٌ إلا فِيهم"[35].
إذا كان هؤلاءِ النُّقّادُ تَناولوا هذِه الثُّنائِيَّة مِن وِجهةِ نَظَرِ خُلُقيَّة في ارتباطها بما هو فَنيٌّ، فإنَّ ثَمَّة فِئةً أُخرى تَناوَلتْها مِن وِجهةِ نَظرٍ مَنطقيَّةٍ مُؤسَّسَةٍ على التَّفريقِ بين أَصنافِ الأقاويلِ والخِطاباتِ، فأَصبَحتْ بذلك هذه القضيَّةُ مُتجاوَزَةً؛ إذْ لم يَعُدْ الصدق والكذب أمرًا مُهمًّا في الصِّناعَة الشِّعريَّة، بل احتلَّ مكانَها التَّخييلُ، فأضْحَى النَّظر إلى الشِّعر مِن حيثُ هو قَولٌ مُخيَّلٌ، لا مِن حَيثُ هو صادِقٌ أو كاذِبٌ، وقد تَزعَّم هذه الفِئَةَ مُنذُ القِدم الفَلاسِفَةُ ومَن دارَ في فَلَكِهم مِنَ النُّقّاد.
5- ثُنائيَّةُ الصِّدقِ والكذبِ مِن زاويةٍ مَنطقيَّةٍ وفَلسفيَّةٍ:
يُفرِّق ابنُ البناء بين الحِكمة والشِّعر، ويَرى أنَّ هذا الأخير "مَبنيٌّ على المُحاكاةِ والتَّخَيُّلِ، لا على الحَقائِقِ"[36]، ويَرى أنَّ الشِّعرَ هو مِن البديعِ؛ إذِ البديعُ مِن اللُّغةِ، وهُو مِن البَديعِ؛ لأنَّ البديعَ من الحِكمَة، وكأنَّه هُنا يُفرِّق بين تَحليلِ الخِطابِ الدِّينيِّ الخُلُقيِّ المبنيِّ على الصِّدق والوُضوحِ، ويَعترِفُ أنَّ هذا الرَّوضَ هو جُهدٌ في هذا الصَّدَدِ، وتَحليل الخِطابِ الشِّعريِّ بِناءً على الأساليبِ البَديعيَّةِ باعتبارِه لُغةً، وكذلك باعتبارِه مَبنيًّا على الكذبِ والتَّخييلِ والمُحاكاةِ والغُلوِّ.
وبِناءً على نَظرتِه المَنطقيَّةِ لأنواعِ الخِطابِ، يُقسِّم القَول إلى "مَوزونٍ مُقفًّى، وهو المَنظُومُ، وإلى غَيرِ ذلك، وهو المنثُور، ويُستعملُ كلُّ واحدٍ منهُما في المُخاطباتِ، وهي على خَمسةِ أنحاء على ما أُحصيَتْ قديمًا:
• الأولُ: البُرهانُ، وهو الخِطابُ بأقوالٍ اضطراريَّةٍ يَحصُلُ عنها اليقين.
• والثاني: الجَدَلُ، وهو الخِطاب بأقوالٍ مَشهورَةٍ يَحصُل عنها الظَّنُّ الغالِبُ.
• والثالِث: الخَطابَة، وهو الخِطاب بأقوالٍ مَقبولَةٍ يَحصُل عنها الإقْناعُ.
• وهذه الثلاثَة الأقسام هي التي تُستعمَل في طريق الحَقِّ.
• والرابِع: الشِّعرُ، وهو الخِطابُ بأقوالٍ كاذِبَةٍ مُخيَّلة على سبيلِ المحاكاة، يَحصُل عنها استفزازٌ بالتوهُّمات.
• والخامسَة: المُغالَطة، وهو الخِطاب بأقوالٍ كاذبةٍ يَحصُل عنها ظُهور ما ليس بِحقٍّ أنَّه حَقٌّ. وهذان القِسْمانِ خارجانِ عن بابِ العِلْم، وداخلانِ في بابِ الجَهْل"[37].
فالأقسام الثلاثةُ الأُولى هي مِنَ الحِِكمة، وتُستعمَل في طريق الحقِّ، وتَدخُل في باب العِلم، وأما القِسمان الأخيرانِ، فهُما داخلانِ في باب الجَهلِ، ومَبنيَّان على الكَذِب، والذي يهمُّنا فيهما هو الخِطابُ الشِّعريُّ، وهو المبنيُّ على المُحاكاة والتَّخييل، فرَبطَ بين الكَذِب والتَّخيِيل، لكنَّه اشترط شُروطًا في تَوظيفِ الكذب بقولِه: "ولكنْ ليسَ للشاعِر أن يُحاكِيَ ويَتخيَّل في الشيءِ ما ليسَ موجودًا أصلاً؛ لأنَّه إذا فعَل ذلك لم يَكُنْ مُحاكيًا، بل يَكونُ مُخترِعًا، فيركب الكذب في قولِه، فتَبطُل المُحاكاة لِكذِبها، وهي موضوع الشِّعرِ"[38]، فشَرْطُ استعمال الكذب أنْ يَكونَ مِن الموجودِ؛ حتَّى لا يكونَ مُخترَعًا؛ لأنَّ الاختراعَ - وهو مُحاكاةُ وتَخيُّلُ ما ليس موجودًا أصلاً - تَبطُل به المحاكاةُ، وهي موضوعُ الشِّعر.
إنَّ احتفالَ السجلماسي بالتَّخييلِ في الشِّعْر، جعَله يَستغنِي عنْ ثُنائيَّة الصِّدقِ والكَذِب، فلَمْ يَهتمَّ بطبيعةِ الخِطابِ الشِّعريِّ مِن حيثُ هو صِدق أو كَذِب، وإنَّما الأمر عندَه: إنْ كان القول مُخيَّلاً أمْ لا؛ يَقول: "وبالجُملة تَنفَعِل له (يَقصد القَول المُخيَّل) النفْسُ انفعالاً نفسانيًّا غيرَ فكريٍّ، سواءٌ كان القول مُصدَّقًا به أو غيرَ مصدَّقٍ به، فإنَّ كَونَه مُصدَّقًا به غيرُ كَونِه مُخيَّلاً أو غَيرَ مُخيَّل؛ إذ كانتِ القضيَّة الشعريَّةُ إنما تُؤخَذُ مِن حيثُ هي مُخيَّلة فقط، دون نَظرٍ إلى صِدقها أو عَدمِ صِدقها، كأخْذِ القضيَّة الجدليَّة أو الخُطَبيَّة مِن حَيث الشهرة والإقناع فقط، دون نظرٍ إلى غيرِ ذلك مِن الصِّدقِ وعدَمه، فإنَّه يصدق بقولٍ مِن الأقوال ولا ينفعل عَنه، فإنْ قيل مرةً أخرى وعلى هيئةٍ أُخرى، فكثيرًا ما يُؤثِّر الانفعالُ ولا يُحدِث تَصديقًا، وربَّما كان المُتيقَّن كذبه مُخيلاً لما قُلناه"[39]، فالسجلماسي - على غِرار ابن البناء - يُقسِّم الخِطابات وَفْق التخييل إلى: أقوال شِعريَّةٍ، وجَدَليَّة، وخُطَبيَّة، ويَخصُّ الشِّعر بكَونِه خِطابًا تَنفعِل له النفْس انفِعالاً، بِغضِّ النظَر عن كَونِه مُصدَّقًا أو غير مُصدَّق، بل ويَرى أنَّ القولَ المُتيقَّنَ كَذِبُه غالبًا ما يُحدِث انفعالاً، وهو قَولٌ مُخيَّل أكثر استفزازًا وإلذاذًا للنفْس، وهو بهذا الفَهْم يَجعلُ الكذبَ أساسَ القَول المُخيَّل؛ أي: أساس القول الشِّعريِّ، فأضحى هنا الكَذِب مُنازِعًا للتخييل في وظيفةِ الشِّعرِ الاستفزازيَّة؛ يقول السِّجلماسي بِخُصوصِ "المجاز": "القَول المُستفِزُّ للنفْس المُتيقَّنُ كَذِبُه، المُركَّب مِن مُقدِّماتٍ مُختَرَعةٍ كاذِبة تُخَيِّل أمورًا وتُحاكي أقوالاً، ولما كانت المقدِّمة الشعريَّةُ إنَّما نَأخذها مِن حيث التخييلُ والاستفزاز فقطْ، كما تقدَّم لنا مِن قَبْل أنَّه كُلَّما كانتْ مُقدِّمة القول الشعريِّ أكذَب، كانتْ أعظمَ تَخييلاً واستفزازًا"[40].
مِن خِلال النُّصوصِ النقديَّة لكلٍّ من ابن البناء المراكشي والسجلماسي حولَ هذه القضية، يَبدو أنَّ الرجُلَين يَريانِ أنَّ الكذبَ هو من مُقوِّمات جَودة الشعر، كما أنَّهما ربَطا الكذبَ بالتخييل، ويُمكن تَلخيصُ آرائهما في:
• يُقسِّمان الخطابَ وَفق قضيَّة الصِّدق والكَذِب تَقسيمًا منطقيًّا، ويَريانِ أنَّ ما يُميِّز الشِّعر هو كَونُه مُخيلاً كاذبًا يُؤثِّر في المُتلقِّي بالاستفزاز والتوهُّم.
• يَرى ابنُ البناء أنَّه لا يَجوز في الكذب أن يَصِل إلى درجةِ الاختراع؛ أي: تَخيُّل ومُحاكاة ما ليس موجودًا أصلاً.
• يُنازِع الكذبُ لدَى السجلماسيِّ التخييلَ في تَمييزِ الشِّعر عن غَيره من الخِطابات الأُخرى، وفي تَحديدِ وظيفتِه، ولا يَشترِط أيَّ شَرْطٍ على الكذِب في الشِّعر، وإنَّما الذي يهمُّه هو أن يكونَ مستفزًّا، وكُلَّما عَظُم كذبُه، عَظُمَ التخييلُ والاستفزاز فيه.
وللوقوفِ على مرجعيّات النّاقِد الأدبيِّ في إرساء فَهمِه لهذه الثُّنائيَّة مِنَ الزَّاويةِ الفلسفيَّةِ المنطقيَّةِ، يَتوجَّبُ الرجوعُ إلى التُّراثِ الفلسفيِّ والمنطقيِّ، وكذلك التراث النقديِّ لَدَى الفلاسِفَة والمَناطِقَةِ، ويَبقَى أقرَبُ مَصْدَرٍ هو مَصدَرَ الفلاسِفَةِ المسلمين، ومِن خِلالِهم التراث الغربي القديم - اليوناني على وَجْهِ الخُصوص.
استند النَّاقِد الأدبيُّ بالغَرْبِ الإسلاميِّ في تَقسِيمه المنطقيِّ للخطاب إلى جُهود الفلاسِفَةِ المسلمين: فهذا الفارابيُّ (ت 339هـ) يُقسِّم الأقاويلَ المنطقيَّة إلى خَمسَةِ أقوالٍ؛ يَقول: "إنَّ الأقاويلَ إمَّا أنْ تَكونَ صادِقَةً لا مَحالةَ بالكُلِّ، وإمَّا أنْ تكونَ كاذِبَةً لا مَحالة بالكُلِّ، وإمّا أنْ تكون صادقةً بالأكثر كاذبةً بالأقلِّ، وإمَّا عَكسُ ذلك، وإمَّا أنْ تَكونَ مُتساويةَ الصِّدقِ والكَذِبِ.
فالصادِقَةُ بالكُلِّ لا مَحالةَ هي البُرهانِيَّةُ، والصادِقة بالبعضِ على الأكثر فهي الجَدَلِيَّةُ، والصادِقَة بالمساواة فهي الخطبيَّة، والصادِقَةُ في البعضِ على الأقلِّ فهي السُّوفُسْطائيَّة، والكاذِبة بالكُلِّ لا مَحالةَ فهي الشِّعْريَّةُ"[41]، وهو تقسيم - كما يَبدو - مبَنيٌّ على ثُنائيَّةِ الصِّدِق والكذِب.
استند السجلماسيُّ في تناوله لهذه القضية إلى جُهود ابنِ سِينا (ت 428هـ) استنادًا يَكاد يكون كُليًّا؛ إذْ بِمُقارَنة النُّصوصِ يَبدو وكأنَّ السجلماسيّ نَقَل نَصَّ الفيلسوفِ العربيِّ نَقلاً حَرفيًّا؛ يَقول ابن سِينا: "والمُخيَّل هو الكلام الذي تُذعِنُ له النفْس، فتَنبسِطُ عن أُمورٍ وتَنقَبِضُ عن أُمورٍ، مِن غَير رَويَّةٍ وفِكرٍ واختيارٍ، وبالجُملَة تَنفعِل له انفعالاً نَفسانيًّا غَيرَ فِكريِّ، سَواءٌ كان المقُول مُصدَّقًا به أو غير مُصدَّقٍ، فإنَّ كونَه مُصدَّقًا به غَيرُ كَونِه مُخيَّلاً أو غَيرَ مُخيَّل؛ فإنَّه قد يُصدَّق بقَول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإنْ قِيلَ مرَّةً أخرى وعلى هيئةٍ أخرى، انفعلت النفْس عنه طاعةً للتخييل لا للتصديق، فكثيرًا ما يُؤثِّر الانفعال ولا يُحدِث تصديقًا، وربما كان المُتيقَّنُ كذبُه مُخيَّلاً"[42]، فجَوهر الشعر لدَى ابن سينا هو التخييل، ووظيفتُه هو الاستفزاز والانفعال، وعليه؛ فإنَّ التخييل يُعتَبَر بَديلاً عن هذه القضيَّة، لكنَّ الكذبَ يَدعَمُ فاعليَّةَ هذا التَّخييل.
استنَد ابن البناء المراكشيُّ في وضْعِه لشَرْطِ الإمكان في قَبولِ الكذب في الشِّعر إلى جُهود ابن رُشْدٍ (ت 595هـ)، والذي رفَضَ الاختراع الذي يَنسِفُ المحاكاة، وهذه الأخيرة لَدَيه هي عَمود الشِّعرِ؛ يَقول: "المحاكاة التي تَكُون بالأُمورِ المُختَرَعة الكاذبةِ، لَيستْ مِن فِعلِ الشاعِرِ في الأُمور الموجُودة أو المُمْكنة الوجود؛ لأنَّ هذه هي التي يقصد بها الهرب أو طلَبها أو مطابقة التشبيه لها، على ما قيل في فُصولِ المحاكاة، وأكثر ما يَجِبُ أنْ يعتمدَ في صناعة المديح أن تكون الأشياءُ المحاكيات أُمورًا مَوجُودة، لا أُمورًا لها أسماء مُخترَعة، فإنَّ المديح إنَّما يتوجَّه نَحو التَّحريك إلى الأفعال الإراديَّةِ، فإذا كانتِ الأفعال مُمكنةً، كان الإقناع فيها أكثرَ وقوعًا؛ أعني: التصديقَ الشِّعريَّ الذي يُحرِّك النفْس إلى الطلَب أو الهرَب، وأمَّا الأشياء غير المَوجُودة، فليسَ تُوضَع وتُخترع لها أسماء في صِناعَةِ المديح إلا أقلَّ ذلك"[43].
فابنُ رُشدٍ يَدعو الشاعرَ إلى مُحاكاةِ الأُمور الموجودة المُمكنَةِ، وليس المُخترَعَة المُستحيلَة، وهو بِهذا يُخالِف أَرِسطُو حين قال: "ويَنبغي أنْ يُؤثِر الشاعرُ استعمالَ المُستحيلِ المعقول على استعمالِ المُمكِن غير المعقُول، فلا يَصحُّ أنْ تُؤلَّفَ القِصَّةُ مِن أجزاءٍ غير مَعقُولة، بل يَجِب أن تَخلوَ مِن كُلِّ ما هو غير معقُول"[44]، ويُضيفُ لتوضيحِ رأيه قائلاً: "أمَّا التِّراجيديات، فإنَّ الشُّعراء يَتمسَّكون بالأسماء الواقِعَة، وسبَبُ ذلك أنَّ المُمكِن هو مُقنِع، وما لَمْ يَقَعْ فلَسْنا نُصدِّق بَعْدُ أنَّه مُمْكِنٌ، أمَّا ما وَقَعَ، فبيِّن أنَّه مُمْكِنٌ؛ إذْ لَو لَمْ يَكُنْ مُمكنًا لما وَقَعَ، على أنَّ مِن التراجيديات ما يَكونُ فِيه مِنَ الأسماء المعروفَةِ واحدٌ أو اثنان، وتَكونُ سائرُ الأسماءِ مَصنوعَةً، ومِنها ما لا يَقَعُ فيه اسمٌ مِنَ الأسماءِ المعروفة أصلاً، كما في تراجيديَّةِ "أنثيوس" لأجاثون، فالأفعالُ فيها مُخترعَةٌ والأسماءُ كذلكَ، ولكنْ هذا لا يَنقُص مِن بَهجتِها"[45].
ملاكُ القَول، يَرى النَّاقِد الأدبيُّ بالغرْبِ الإسلاميِّ - كما يَرى الفَلاسِفَةُ المسلمون - أنَّ الشِّعرَ هو فَنٌّ مُستقلٌّ بالقِسمةِ المَنطقيَّة، له خَصائِصُه الخاصَّة به، وعلى رأسِها أنَّه قَولٌ مُخيَّل مُحاكٍ، له غايَةُ الاستفزاز والانفعال؛ ولا يَعتبرُ قضيَّة الصِّدق والكَذِب مِن هذه الخَصائصِ، وإنما لها دَورُ تَعميقِ فاعليَّة التخييل، وإنْ كانتْ فئةٌ مِنهم ما زالتْ تُفضِّل الصِّدقَ، وتَرفُضُ الكذب مِن حَيثُ هو كَذِبٌ خلُقي.
خُلاصات:
أ- تَناولَ الناقدُ الأدبيُّ بالغَرْبِ الإسلاميِّ ثُنائيَّةَ الصِّدق والكذِب مِن خِلال بعض المُصطلحات: الغُلوُّ والمُبالَغَةُ، والكذبُ والإقصاء، والإمكان والاستحالَة، والاختراع والحُصول، والاختلاق والصِّدقُ، والتَّقصير والامتناع، والإفْراطُ والإيهام، باستحضار المرجعيَّةِ الدينيَّةِ والخلُقيَّةِ، مَعَ مُحاولةِ بِناءِ رُؤيَةٍ فنِّيَّةٍ على استحياءٍ - خُصوصًا لدَى مَن ليس لَهُمْ حَظٌّ مِن الفلسفَةِ والمنطِقِ (الشَّريفُ السبتيُّ مثلاً) - وذلك بالاستنادِ إلى بعضِ المصادر العربيَّةِ القديمة؛ وأمَّا الآخرون، فتناوَلُوا هذه المصطلحات تَناوُلاً نَقديًّا يُغلِّفُه الفَهْمُ الفلسفيُّ لهذِه الثُّنائيَّةِ، والذي يَعتَبِرُ أنَّ الكذبَ أساسُ الإبداعِ الأدبيِّ، وهي أفكارٌ استُند فيها إلى التُّراثِ العَربيِّ القديمِ، والذي بِدَورِه يَعتَرِفُ باتِّصاله بالتُّراثِ اليُونانيِّ القديم.
ب- تَحرَّرتْ أَفكارٌ مَغربيَّةٌ أُخرى - بِخصوصِ ثُنائيَّةِ الصِّدق والكذب - مِن رِبقَةِ التَّفكير الخلُقي والدِّينيِّ؛ لِتَنظُر إلى هذه المسألةِ نَظرةً فَلسفيَّةً مَنطقيَّةً، تَجعل مِن الكذب الفنيِّ أساسَ التَّفريق بين الخِطابات، ولكنَّهم لمْ يَقتنعوا بأهميَّةِ الكَذِبِ وحدَه في لعبِ هذا الدَّور؛ لاكتشافِهِم مسألةً أُخرى أشْمل، وهي: التَّخييلُ، عِلمًا أنَّ مِنهُم مَن لمْ يَتحرَّر نَهائيًّا مِن فِكرَةِ أنَّ الكذبَ هو أساسُ الإبداع الأدبيِّ، إلى كَونِه عاملاً أساسًا في تعميقِ فاعليَّةِ التخييل والمحاكاة، وهذه الأفكارُ لا نَجدُ لها مَصدرًا إلا لَدَى الفلاسفةِ المُسلمين ومَن تأثَّر بِهم مِنَ النُّقَّاد العرَب.
المصادر والمراجِع:
1) أسرارُ البَلاغة، عبدالقاهر الجُرجانيُّ، قدَّم له وعلَّق عليه أبو فِهْرٍ محمود محمَّد شاكر، مطبعة المدني، القاهِرة.
2) تَلخيص كتاب أرسطُوطالِيس في الشِّعر، ابن رُشْد الحَفيد، ضِمن كتاب فنّ الشِّعر لأرسطُو، ترجمة عبدالرحمَن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973.
3) رفْعُ الحُجُب المستورة عن مَحاسِن المقصُورة، أبو القاسم محمد الشريف السبتيُّ، تحقيق وشرح مُحمَّد الحَجَوِيّ، مطبعة فضالة، المحمَّدية، المملكة المغربية، 1418هـ/ 1997م.
4) الرَّوضُ المريع في صِناعَة البَديع، ابن البناء المراكشيّ، حقَّقه رضوان بنشقرون، دار النشر المغربيَّة، الدار البيضاء، 1985م.
5) شِعريَّة الإقناع في الخِطاب النَّقديِّ والبلاغيِّ، أحمَد قادِم، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1، مراكش، 2009م.
6) العُمدة في مَحاسِنِ الشعر وآدابه ونقْدِه، أبو الحسن بن رشيقٍ القَيروانيُّ، تحقيق وتعليق مُحمَّد مُحيي الدِّين عبدالحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء.
7) الفنُّ التاسِع مِن الجُملةِ الأولى من كتاب الشِّفا،، ابن سِينا، ضِمن كتاب فنّ الشِّعر لأرسطُو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973م.
8) في الشِّعر، أرسطُو، نَقْلُ أبي بِشر متَّى بن يُونُس القنائيّ مِن السريالي إلى العربي، حقَّقه مع تَرجمةٍ حديثة ودراسةٍ لتأثيره في البلاغة العربية شُكري مُحمَّد عَيّاد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1386هـ/1967م.
9) كتاب السِّحر والشِّعر، لِسانُ الدِّين بن الخَطيب، حقَّقه المُستشْرِق الإسباني ج.م كونتنته بيرير، راجعه ودققه: مُحمَّد سعيد إسبر، بدايات للطبع والنشر والتوزيع، ط1، جبلة، سورية، 2006م.
10) كتاب الصِّناعتَين، أبو هِلال العسكريُّ، تَحقيق علي مُحمَّد البجاوي، ومُحمَّد أبو الفَضْل إبراهيم، طبعة المكتبة العصرية، 1986م، صيدا، لبنان.
11) المثَل السائِر في أَدب الكاتِب والشاعِر، ابن الأثير، قدَّمه وحقَّقه وعلَّق عليه: أحمَد الحُوفي، وبَدوي طَبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة.
12) مقالَةٌ في القوانين صناعة الشُّعراء، الفارابيّ، دار الثقافة، بيروت، 1973م.
13) مَناهِج النَّقد الأدبيِّ بالمغْرِبِ خِلالَ القَرْن الثامن للهجرة، علال الغازي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة بالرِّباط، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدار البيضاء، 1420هـ/ 1999م.
14) المَنْزَع البديع في تَجنيس البَديع، أبو محمد القاسم السجلماسي، حقَّقه علال الغازي، مكتبة المعارف، ط1، الرباط، 1401هـ/1980م.
15) مِنهاجُ البُلَغاء وسِراجُ الأُدباء، أبو الحسَن حازِم القرطاجنِّي، تقديم وتحقيق مُحمَّد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط3، بيروت، 1986م.
16) نَقْد الشِّعر، قُدامة بن جعفر، تحقيق: مُحمَّد عبدالمنعم خَفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
[1] "شِعرية الإقناع في الخِطاب النقدي والبلاغي"، أحمد قادم، المطبعة والوراقة الوطنيَّة، ط1، مراكش، 2009م، (ص: 74).
[2] "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، أبو الحسن حازم القرطاجنِّي، تقديم وتحقيق محمَّد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط3، بيروت، 1986م، (ص: 62 - 63).
[3] "أسرار البلاغة"، عبدالقاهر الجُرْجاني، قدَّم له وعلَّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (ص: 271).
[4] "رفْع الحُجُب المستورة عن محاسن المقصورة"، أبو القاسم محمد الشريف السَّبتي، تحقيق وشرح محمد الحجوي، مطبعة فضالة، المحمدية، المملكة المغربية، 1418هـ/ 1997م، (2/ 517).
[5] البيت هو:
جَرَى إِلَى نِهَايَةِ الجُودِ الَّتِي
مَا بَعْدَهَا وُجْدَانُ مَعْنَى لِ"إِلَى"
[6] "رفع الحجب المستورة"، (2/ 553 - 554).
[7] "رفع الحجب المستورة"، (1/ 195).
[8] "رفع الحجب المستورة"، (3/ 972 - 973).
[9] "الروض المريع في صناعة البديع"، ابن البناء المراكشي، حقَّقه رضوان بنشقرون، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985م، (ص: 103 - 104).
[10] "الروض المريع"، (ص: 104).
[11] "المنزع البديع في تجنيس البديع"، أبو محمَّد القاسم السجلماسيّ، حقَّقه علال الغازي، مكتبة المعارف، ط1، الرباط، 1401هـ/1980م، (ص: 273).
[12] يُعرِّفه السجلماسيُّ في "منزعه" بـ: "هو إقامة الذِّهن بين طرفي شكٍّ وجزئي نقيض"، (ص: 276).
[13] "المنزع البديع"، (ص: 276).
[14] "المنزع البديع"، (ص: 274).
[15] "المنزع البديع"، (ص: 275).
[16] يُعرِّفه الشريفُ الجُرجانيُّ (ت 816هـ) في "التعريفات" (ص:42) بـ: "الإيهام، ويقال له: التَّخييل؛ أي: وهو أن يُذكر لفظٌ له معنيان: قريب وغريب، فإذا سَمِعه الإنسان، سبَق إلى فَهمِه القريبُ، ومُراد المتكلم الغريبُ، وأكثرُ التشابهات مِن هذا الجنس".
[17] - "رفع الحجب المستورة"، (3/ 1334).
[18] "نقد الشِّعر"، قُدامة بن جعفر، تحقيق: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص: 94).
[19] "نقد الشعر"، (ص: 94).
[20] "نقد الشعر"، (ص: 94).
[21] "المَثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، ابن الأثير، قَدَّمه وحقَّقه وعلَّق عليه: أحمد الحُوفي، وبَدَوِي طَبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، (3/ 191).
[22] - "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقْدِه"، أبو الحسَنِ بن رشيقٍ القَيروانيُّ، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، (2/ 57).
[23] "العمدة"، (2/ 54).
[24] العمدة، (2/ 54).
[25] - العمدة، (2/ 57).
[26] العمدة، (2/ 55).
[27] "كتاب السِّحر والشِّعر"، لسان الدين بن الخطيب، حقَّقه المستشرق الإسباني ج.م كونتنته بيرير، راجعه ودققه: محمد سعيد إسبر، بدايات للطبع والنشر والتوزيع، ط1، جبلة، سورية، 2006م، (ص: 15- 16).
[28] الروض المريع، ص: 174.
[29] الروض المريع، ص: 174.
[30] "كتاب السحر والشعر"، (ص: 13).
[31] "كتاب الصناعتين"، أبو هلال العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة المكتبة العصرية، 1986م، صيدا، لبنان، (ص: 136 - 137).
[32] "كتاب الصناعتين"، (ص: 137).
[33] "كتاب الصناعتين"، (ص: 137).
[34] "العمدة"، (1/ 22).
[35] "العمدة"، (1/ 25).
[36] "الروض المريع"، (ص: 103).
[37] "الروض المريع"، (ص:81 - 82).
[38] "الروض المريع"، (ص: 103 - 104).
[39] "المنزع البديع"، (ص: 219 - 220).
[40] "المنزع البديع"، (ص: 252).
[41] "مقالة في القوانين صناعة الشعراء"، الفارابي، دار الثقافة، بيروت، 1973م، (ص: 151).
[42] الفن التاسع من الجملة الأولى من كتاب "الشفا"، ابن سينا، ضِمن كتاب فن الشعر لأرسطو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973م، (ص: 161 - 162).
[43] "تلخيص كتاب أرسطُوطاليس في الشِّعر"، ابن رُشْدٍ الحفيد، ضِمن كتاب فنّ الشعر لأرسطو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973، (ص: 213 - 214).
[44] "في الشعر"، أرسطُو، نَقْل أبي بِشر متَّى بن يُونُس القنائي من السريالي إلى العربي، حَقَّقه مع ترجمةٍ حديثةٍ ودِراسةٍ لتأثيرِه في البَلاغة العربية شُكري مُحمَّد عَيَّاد، دار الكتاب العربي للطباعة والنَّشْر، القاهرة، 1386هـ/1967م، (ص: 140).
[45] "في الشِّعر"، أرسطُو، ترجمة شُكري عَيَّاد، (ص: 64 - 66).
د. عبدالجليل شوقي
إذا كانتْ هذه القضيةُ نَمَتْ في حِضنِ الخيال، وهذا الأخير هو موضوعُ الصناعة الشِّعريَّة، فإنَّ أوَّلَ ما يلفت الانتباهَ هو عَلاقتُها بالشِّعر والخَطابة كل على حِدة؛ ذلك أنَّ الخطابة - كما تَقرَّر في النقد الأدبي القديم - تَميَّزتْ بالإقناع، في مقابلِ الشِّعر الذي تميَّز بالتخييل/ الخيال، وإنْ كان بعضُ الدَّارسين العرب المُحْدَثين يتحدَّثون عن شِعرية الإقناع، معتبرين أنَّ للشعر طبيعةً إقناعية، كما قد يكون للخطابةِ طبيعةٌ إمتاعيَّة.
ويلخِّص الباحثُ أحمد قادِم هذه المسألةَ مِن خلال وقوفه "على مدَى رَحابة الشِّعر لاحتضان خصائصِ الخطابةِ دون أن يستحيلَ إلى خَطابة، واتِّساع الخطابةِ لامتلاك أدوات الشِّعرِ دون أن تستحيلَ إلى شِعر، وكيف أنَّ الإقناعَ شكَّل في كثير من الأحيان قاسمًا مشتركًا بينهما وفاصلاً في آنٍ واحد"[1]، لكن ما يهمُّنا مِن فصلِ الناقد القديم لهذين الجِنسين هو عَلاقتهما بقضيةِ الصِّدقِ والكذب، فهذا حازم القرطاجنِّيُّ يلخِّص ما ذَهَب إليه القدماءُ، بقوله: "فلمَّا كان اعتمادُ الصناعة الخطابيَّة في أقاويلها على تقويةِ الظنِّ لا عَلَى إيقاع اليقين، اللهمَّ إلا أن يعدلَ الخطيب بأقاويلِه عن الإقناع إلى التَّصديق، فإنَّ للخطيب أن يلمَّ بذلك في الحالِ بيْن الأحوال مِن كلامه، واعتماد الصناعة الشِّعريَّة على تخييل الأشياء التي تعبِّر عنها بالأقاويل وبإقامةِ صُورِها في الذِّهن بحُسنِ المحاكاة، وكأنَّ التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن؛ لأنَّ الشيءَ قد يُخيَّل على ما هو عليه، وقد يُخيَّل على غيرِ ما هو عليه، وجَب أن تكونَ الأقاويل الخطبيَّة - اقتصادية كانت أو احتجاجيَّة - غيرَ صادقة، ما لم يعدلْ بها عن الإقناع إلى التصديق؛ لأنَّ ما تتقوَّم به - وهو الظنُّ - منافٍ لليقين، وأن تكونَ الأقاويل الشِّعريَّة -اقتصادية كانت أو استدلاليَّة - غيرَ واقعة أبدًا في طرَف واحد مِن النقيضين اللَّذين هما الصِّدق والكَذِب، ولكن تقَع تارةً صادقةً وتارةً كاذبةً؛ إذ ما تتقوَّم به الصناعة الشعرية - وهو التخييل - غيرُ مناقض لواحد من الطرفين؛ فلذلك كان الرأيُ الصحيح في الشِّعر، أنَّ مقدِّماته تكون صادقةً وتكون كاذبة، وليس يُعدُّ شِعرًا إلاَّ مِن حيث هو كلامٌ مخيَّل"[2].
هكذا يتَّضح تطورُ تناول هذه القضية بين الشِّعر والخطابة، فقد بدأتْ في أتُّونِ التجرِبة الشِّعريَّة من خلال ما عُرِف قديمًا بـ"إنَّ أعذبَ الشِّعر أكذبُه"[3]، واختُلف في هذه المقولة بين الفَهم الخُلُقي والفَهم الفني الجمالي، فقد بُنِيَت أولَ الأمر على سلوكِ المتلقي من تأثُّر وإذعان والتذاذ للشِّعر الكاذب؛ فحاول النقادُ القدماءُ تفسيرَ أسباب ذلك ومقارنتها بتأثيرها في الأجناسِ الأخرى: الخطابة مثلاً، وفي سبيلِ هذا التنظير لهذه القضية بقِي الاختلافُ بيِّنًا بيْن النقَّاد حولَ صِدق الشِّعر وكذبه، ومدى إمكانيته وحدوده، وأنواعه وتدرُّجه بيْن ما هو خُلُقي وما هو فنِّي.
وقبل التطرُّق إلى هذه القضية في النقْدِ الأدبي بالغَرْب الإسلامي، يجدُر بنا الحديث أولاً عن بعض المصطلحات المتعلِّقة بها ضِمن سياقها بيْن التلقِّي والمثاقفة، ومِن بين هذه المصطلحات نذكُر: الغلو، والمبالغة، والكذب، والإقصاء، والإمكان، والاستحالة، والاختراع، والحُصول، والاختلاق، والصِّدق، والتقصير، والامتناع، والإفراط، والإيهام.
1. مصطلحات لها علاقة بثنائية الصدق والكذب:
يُعدُّ أسلوبَا الغلوِّ والمبالغة مِن الأساليبِ البلاغيَّةِ التي دارتْ في فَلكِ ثُنائية الصِّدق والكَذِب؛ ذلك أنَّ الشاعر يَسْمُو بنفسه عن نقلِ الواقع بشكلٍ حرفي، بل يسعَى إلى محاولة إتمام نقْصه بالغلوِّ والمبالغة.
ربَط الشريف السبتيُّ (ت 776هـ) بين الغلوِّ والمبالغة، دون أن يُغفِلَ ما بين المصطلحين من فَرْق، يقول:"وقد قال المتنبيُّ... فبالَغ وغلاَ:
كُتِبَتْ فِي صَحِيفَةِ الْمَجْدِ بِسْمٌ
ثُمَّ قَيْسٌ، وَبَعْدَ قَيْسِ السَّلاَمُ"[4]
ويَتَّضح تفريقُه بينهما مِن خلال موقفِه مِن كلِّ واحد منهما، فهو ضدُّ الغلوِّ مِن الناحية الخُلُقية، أو لنقل: مِن الناحية الدينيَّة، وهو ما يَدفعُنا إلى القول بأنَّ الرجل يجعل الغلوَّ مِن الكذب، ويتعامَل معه على هذا الأساسِ مِن وجهةِ نظرٍ دِينيَّة خُلُقيَّة، وليست فنيَّةً جماليَّة، يقول شارحًا لبيت حازم القرطاجنِّي: "والمعنَى في البيت الثاني[5]: أنَّه قد استولَى في الجود على الأمَدِ الذي ما بعدَه غاية، وعبَّر عن هذه الغاية بـ"إلى"؛ لأنَّها حرفٌ موضوعٌ للدَّلالة على معناها، ثم ذكَر أنَّ الدهر لو لم يُوَصِّل الناسَ إلى نِعم هذا الممدوح، لم يصلوا إلى نِعمة؛ لأن النِّعم كلها مِنه، نعوذ بالله من الغلوِّ!"[6]؛ فهذا الناقِدُ لم ينظرْ إلى جمالية هذا الغلوِّ وفنيَّته باعتباره أسلوبًا بلاغيًّا، بل نظَر إليه باعتباره كذبًا.
ويفرِّق الشريف السبتيُّ بيْن المبالغة والغلوِّ بقوله: "وقدْ أوقع بعضٌ مِن المتأخرين التبليغَ على نوعٍ مِن المبالغة، وهو أن يكونَ الوصف ممكنًا في العادة، ولم يخرجْ إلى حدِّ الإغراق والغلو"[7]، فالمبالغة وصفُ الممكن، في حين أنَّ الغلوَّ هو وصفُ المستحيل، وبهذا نَفهم لماذا يرفُض الشريفُ السبتيُّ الغلوَّ، ويعتبره مِن الكذب المحرَّم دِينيًّا وخُلقيًّا، في حين يقبل المبالغة وإنْ كانت هي الأخرى من الكَذِب، لكن هذا الكذب هو مِن الكذب الفنِّي الجمالي، ويتَّضح ذلك مِن خلالِ جعْل أسلوب "التبليغ" نوعًا من المبالغة، ويفهمها كذلك في مكانٍ آخَرَ بأنَّها الزيادةُ في الممكن، يقول: "وقال المعرِّي أيضًا فبالغ في المعنَى وزاد:
وَلَوْ وَطِئَتْ فِي سَيْرِهَا جَفْنَ نَائِمٍ
لَمَرَّتْ وَلَمَّا يَنْتَبِهْ مِنْ مَنَامِهِ"[8]
يربط ابنُ البناء المراكشي (ت 721هـ) بيْن الكَذِب والغلوِّ والاختراع والتخيُّل والمحاكاة؛ ويُفرِّق بين الحِكمة والشِّعر، فيرَى أنَّ الكذبَ أو الغلوَّ هو في الشِّعر، وليس في الحِكمة؛ وذلك لأنَّ الأوَّل مبنيٌّ على المحاكاة والتخيُّل، يقول: "وكلُّ ما في التشبيه مِن كَذِبٍ أو غُلوٍّ، فلا يكون في الحِكمة ويكون في الشِّعر؛ لأنَّه مبنيٌّ على المحاكاةِ والتخيُّل لا عَلَى الحقائق؛ ولذلك اختصَّ الشِّعرُ بأنواعٍ ليستْ مِن البديع بحسبِ الحِكمة، وهي مِن البديع بحسبِ اللِّسان؛ إذ الشِّعْرُ منه، ولكن ليس للشاعِر أن يحاكيَ ويتخيَّل في الشيءِ ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّه إذا فَعَل ذلك لم يكُن محاكيًا، بل يكون مخترعًا، فيركب الكذب في قوله، فتبطُل المحاكاةُ لكذِبها، وهي موضوعُ الشِّعر"[9].
يَقصُر ابنُ البناء الكذبَ والغلوَّ على الشِّعر دون الحِكمة؛ وذلك لأنَّ التخييلَ والمحاكاة هما عمود الشِّعر، والكذب والغلو لا يكونانِ إلاَّ مِن خلالهما، واعتبر أنَّ هذين الأسلوبين (التخييل والمحاكاة) هما الأنواع البلاغيَّة التي اختصَّ بها الشِّعر دون الخطابة؛ لأنَّ هذه الأخيرة اختصَّتْ بأساليبِ الحقائق: الإقناع، والحجاج...
وعلى الرغم مِن إقرارِ ابن البناء بجوازِ الكذب والغلوِّ في الشِّعر، إلا أنَّه وضع لذلك شروطًا تتمثل في كون هذا الكذب يجِب أن يكونَ ممكنًا، وليس محالاً، كأن يحاكي ويتخيل الشاعر ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّ ذلك يَعني أنَّ الشاعر يخترع أشياءَ ليست مِن قبيل المحاكاة، وإذا انتفتِ المحاكاة، بطل الشعر؛ إذ هي عمودُه لدَى هذا الناقد، فابن البناء يرفُض الاختراع، ويرفُض الكذبَ المحالَ المسبب له، ويُعطي مثالاً على توجهه هذا في قضية الغلوِّ في الكذب؛ ولذلك اعترض على قول الشاعر:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ
واقتَرح بديلاً لهذا القول:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالدُّرَرِ
"مِن حيث إنَّ إمطارَ اللؤلؤ غير مشاهَد ولا معروف، فهو قدْ حاكَى الدَّمْع في انسكابِه على خدِّها بشيءٍ غير موجود ولا معلوم إلاَّ مِن عنده اخترعَه مِن نفْسه، ومِن الناس مَن يرى أنَّ الشعر موضعُ الكذِب والإيغال في المحال، فيُجوز ذلك فيه، ويجعله مِن الترشيح، والقول الأوَّل أنسبُ لصناعة الشِّعر، والثاني أنسبُ لمعناه"[10].
بعقبِ هذا المثال يوضِّح ابنُ البناء رأيَه بشكلٍ صريح، فهو يَعترِض على الكَذِب المحال؛ أي: اختراع شيءٍ لا وجودَ له في الواقِع، وبعدَ ذلك ينقُل لنا الرأيَ المخالِف له، فيقول: إنَّ هناك مِن الناس مَن لا يعترض على هذا الكذِب؛ ثم يُقرِّر بأنَّ رأيه يجعل مِن الكذِب أنسبَ لصناعة الشِّعر، وأنَّ رأي غيرِه يجعل مِن الكَذِب أنسبَ لمعناه.
أما السجلماسيُّ (704هـ) فيَفهم "الغلو" في الشِّعر بأنَّه هو الإفراط، يقول: "وهو المدعوُّ الإفراط عندَ قومٍ في صناعة الاشتقاق، هو مِن قولهم: "غلا في الأمْر يغلو غلوًّا"، وهو يُرادِف الإفراط، ثم نقل مِن ذلك الحد إلى عِلم البيانِ على ذلك الاستعمالِ والوَضْع، فيُوضَع فيه على الإفراطِ في الأخبارِ عن الشيءِ والوصفِ له، ومجاوزة الحقيقةِ فيه إلى المحال المحضِ، والكذِب المُخترَع؛ لغَرَضِ المبالغة"[11]، فالغلوُّ في أصلِ اللُّغة لدَى السجلماسي والنقَّاد القدماء الذين استندَ إليهم هو مُجاوزة الحقيقةِ إلى الكذِبِ المحالِ المخترَع، كما ذهَب إلى ذلك ابنُ البناء المراكشي، وجعَل مِن المبالغة غرضًا لهذا الغلوِّ، ثُمَّ يُعطي لهذا المصطلحِ معناه الصناعيَّ بقوله: "وبالجملةِ هو أن يكونَ المحمول ليس في طبيعته أن يَصدُق على الموضوعِ، وليس في طبيعةِ الموضوع ولا في وقتٍ ولا على جهةٍ أن يَصدُق عليه المحمول، لكن إذا كان مَن حمل على هذا الموضوع، فإنَّما هو بقَصْدِ المبالَغة، وتبقَى هذه الغاية هي المحدِّد لوجودِ هذا الغلوِّ وقَبوله - إذا كان مِن قَبول - في الشِّعر.
والسُّؤال الذي يُطرَح - هنا -: ما مَوقِفُ السجلماسيِّ مِن الغلوِّ على ضَوءِ فَهمه السابِق؟
لا بدَّ مِن الإشارة - أولاً - إلى أنَّ هذا الناقدَ قد قارن بيْن الغلوِّ والتشكيك[12]، باعتبارهما أسلوبين بديعيين؛ يقول: "وأحَدُ الوجوه التي احتيل بها لإدخالِ الكلامِ في القلوب، وتمكين الاستفزازِ مِن النفوس، وفائدته الدَّلالةُ على قُرب الشبهين حتى لا يُفرَّقَ بينهما ولا يُميَّز أحدهما من الآخَر؛ فلذلك كان له في النَّفْس حلاوةٌ وحُسن موقِع، بخلافِ نوعِ الغلو"[13].
فما الذي يمنع الغلوَّ مِن أن يكونَ له في النفس حلاوةٌ وحُسنُ موقع، على الرغمِ مِن توفُّر عنصر المبالَغة فيه أُسوة بالتشكيك، وهو في النهاية منها؟ يجيب السجلماسي عن هذا السؤال مِن خلال عَرْض آراءِ النقَّاد السابقين في الموضوع، ثم ترجيح وجهةِ نظرِه، مِن خلال سَبْرِ أغوار التراث النقدي العربي: "واختيار هذا النوعِ مِن البلاغةِ وأساليب البديع هو أمرٌ بالإضافة والحُكم غير المطلَق، مِن قِبل أنَّ لأهل هذه الصناعة فيه رأيين: فقوم - وهم الأكثرون - يرَوْن أنَّ الشريطة فيه وملاك أمرِه هو أن يتجاوزَ فيه حال نوعي الوجودِ العَقليِّ والحسيِّ إلى المحال والكذِب المخترَع، وقوم يرَوْنَ التوسُّط فيه آثَر وأحمد وأفضل في الصناعة إحجامًا ورهبةً للاختراع والكذب"[14]، فالسجلماسيُّ هنا يُفرِّق تفييئه لهذين الرأيين على أساس حضورِ المحال والاختراع في الكذب، فيَجِد أنَّ أغلبَ النقَّاد يُجوِّزون حضورَهما، في حينِ لا يُمانع الآخَرون بشَرْط التوسُّط.
وبطريقتِه المنطقيَّة يَسعَى السجلماسيُّ لترجيحِ أحدِ الرأيين، حيث رَأى أنَّ موضوعَ الصناعة الشِّعريَّة هو التخييل، بغضِّ النظَر عن الصِّدقِ والكذِب؛ فلا يهمُّه أن يكونَ هذا الكذبُ محضًا واختراعًا ومحالاً: وأمَّا مَن اعتبر أنَّ موضوع الصناعة الشِّعرية هو الممتنعات، فإنَّ رأيه هذا مرذولٌ مردود، مستندٌ إلى رأي ابن سينا (ت 428هـ) في كتاب القياس[15].
والسجلماسيُّ بهذا الرأي الذي لا يَرَى مانعًا مِن كون الكذب في الشِّعر قد يكون اختراعًا أو محالاً، يَختلِف مع ابن البناء (ت 721هـ) فيما ذهب إليه سابقًا، مِن اعتبار أن الاختراع يُفسِد المحاكاة، وهذه الأخيرة هي عمودُ الشِّعر لديه.
مِنَ المصطلحاتِ التي التَصَقتْ بثنائية الصِّدْق والكذب نذكُر: "الإيهام"[16]، وقد ورَد هذا المصطلح لدَى الشريف السبتيِّ في أماكنَ عِدَّةٍ مِن كتابه "رفْع الحُجُب المستورة"، ونَكتفي ببعضِ الأمثلة:
يقول الشريف السبتيُّ (ت 760هـ) شارحًا بيت حازم القرطاجني (ت 684هـ): قلت: قال الناظِم: "وَظَلَّ بِالدِّيرِ يُسَاقِي أَكْؤُسًا... البيت"، فيه توريةٌ عجيبة، فإنَّه ذَكَر الدِّير وأوهم أنَّه يريد دير الخمار، وإنَّما يُريد موضع الوقيعة، وذكَر الأكؤسَ وأوهم أنه يُريد أكؤسَ الشراب، وإنَّما يريد أكؤسَ الحمام على جِهة الاستعارة، وذَكَر الإبريق وأوهم أنَّه يُريد إبريقَ الشراب وهو يُريد السيفَ، فتمَّتْ له التوريةُ وأبدع كلَّ الإبداع"[17]، فالإيهام هو نوعٌ مِن الكذِب الشِّعري الذي يَتوسَّلُ به الشاعِر، ويَزيد مِن جودةِ الإبداع.
هذه بعض المصطلحات التي تَدور في فلك قضيةِ الصِّدق والكذب، والتي تناولها الناقِد الأدبي في ثنايا مُصنَّفاته، ويُمكن أن نُلخِّص هذا الجهازَ المصطلحي لديه في:
1- يَفهم الشريف السبتيُّ مصطلح "الغُلوِّ" فهمًا دينيًّا وخُلُقيًّا، الشيء الذي جعله يَرفضه في الشعر؛ وبالمقابل جوَّز أسلوب المبالغة في الشعر، باعتبار أن الأول هو وصفٌ للمُحال، وأن الثاني هو وصْف للمُمكن. فالكذِب لدَيه: كذبٌ مرفوضٌ خُلُقًا ودِينًا؛ لأنه يصف المحُال، وكذبٌ مقبولٌ فنًّا وجَمالاً؛ لأنه يَصفُ المُمكن.
2- يَرى ابن البناء أن جَوهر الشِّعر وعَموده هو التَّخييل والمحُاكاةُ، وأنَّ الكَذِب والغُلوَّ مُلتصِقٌ بِهما؛ فلا يُتصوَّر وجودُ شِعرٍ بُدون عَمودِه، ولا وجودَ لهذا العَمود مِن دون كذبٍ وغُلوٍّ، إلا أنه لا يَنبغي أن يكونا من المحال والاختراعِ، لأنَّ ذلك يُفسدُ المحُاكاة.
3- يَرَى السجْلماسي أنَّ موضوعَ الصِّناعةِ الشِّعريَّةِ هو التَّخيِيلُ، بغضِّ النظر عن صِدق الشِّعر أو كَذِبِه، وبِغَضِّ النظر عن كَونِ هذا الكَذِبِ كذبًا مَحضًا أو اختراعًا أو مُحالاً، لكنَّه يَرفضُ أنْ يكونَ مِن المُمْتَنع.
4- يَرى الشريفُ السبتيُّ أنَّ الإيهامَ نَوعٌ مِن الكَذِبِ المقبول في الشِّعر؛ لأنَّه يَخدمُ جَودَته.
بالرُّجوعِ إلى التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، نَجِدُ أنَّ هذه المُصطلحاتِ تُنُووِلَتْ في ثَنايا مُصنَّفاتِهم في النَّقد والبلاغَةِ، فنُظِر إليها باعتبارِها أَساليب بَلاغِيَّة، وأَحيانًا باعتبارها قَضايا نَقديَّة، تَختلِفُ فيها الآراء. ومِن الأَمثِلَةِ على ذلك ما ذَهَبَ إِليه قُدامَةُ بنُ جَعْفَرٍ (ت 337هـ) في قوله: "فَلنرْجِعْ إلى ما بَدْأنا بِذكْرِه مِنَ الغُلُوِّ والاقتِصارِ على الحَدِّ الأَوسَطِ، إنَّ الغُلُوَّ عِندي أَجودُ المذْهبَينِ، وهو ما ذَهَبَ إليه أَهْلُ الفَهْمِ بالشِّعْر والشُّعراء قديمًا، وقد بلَغَني عَنْ بعَضِهم أنَّه قال: (أَحْسَنُ الشِّعرِ أكْذَبُهُ)"[18].
ويَستنِدُ قُدامةُ في بناءِ تَصوُّرِهِ هذا إلى تُراثَينِ:
• التُّراثُ الفَلسفيُّ القَديمُ لَدَى اليُونانِ؛ يقول: "وكذا نَرى فَلاسفةَ اليُونانيِّينَ في الشِّعرِ على مَذهبِ لُغَتِهم"[19].
• التُّراثُ الأدبيُّ العربيُّ القديمُ، مِنْ خِلالِ استقراءِ وُجودِ هذا الغُلُوِّ في أَشعارِ القُدماءِ، ورَصْدِ اختلافِ القُدماءِ حَولَهُ، يَقولُ: "ومَن أنكرَ على مُهَلْهِل والنّمر وأبي نُواسٍ قولَهم المتَقدِّمَ ذِكرُه، فهو مُخْطئ؛ لأنَّهم وغَيرَهم مِمَّنْ ذهبَ إلى الغُلُوِّ إنما أرادوا به المُبالَغةَ، وكل فريق إذا أتى من المبالغة والغُلُوّ بِما يَخرجُ عَنِ المَوجودِ وَيدخُل في باب المَعدومِ، فإنَّما يُريدُ به المَثَلَ وبُلوغَ النِّهايةِ في النَّعتِ، وهذا أحسنُ مِن المذهبِ الآخَرِ"[20].
مِنْ خِلالِ تَحليلِه للتُّراثِ الأدبيِّ، يَبسُطُ بِشكْلٍ واضِحٍ رأيَه في قَضيَّةِ الكذبِ والغُلُوِّ، فهو يرى أن الغُلُوَّ جائزٌ، وقَدِ اعترَضَ على مَنْ أَنكَرَه، شَريطَةَ أنْ يَكونَ بِقَصْدِ المُبالَغَةِ، وليسَ بِقصْدِ الخُروجِ عَنِ الموجُودِ والدُّخولِ في المَعدومِ؛ أي: المحُال.
يَرصدُ ابنُ الأَثيرِ (ت 630هـ) كذلكَ اختلافَ النُّقادِ حَولَ مُصطَلحِ "الإفراط"؛ يَقولُ: "وأمَّا الإفراطُ، فقَدْ ذمَّهُ قَومٌ مِن أهلِ هَذِه الصِّناعَةِ وحَمِدَهُ آخرونَ، والمذْهَبُ عِندي استعْمالُه، فإنَّ أحْسَنَ الشِّعرِ أكْذَبُه، بَلْ أَصدَقُهُ أكذَبُه، لكنَّه تَتفاوَتُ دَرجاتُه، فَمِنه المُستحْسَن الذي عليه مَدارُ الاستعْمالِ"[21].
هكَذا يَنطلِقُ ابنُ الأَثيرِ مِنْ قَولةِ: "أحسَنُ الشِّعْرِ أكذَبُه"؛ لِيرَى أنَّ الكَذِبَ جائِزٌ في الشِّعْرِ، بَلِ الإفراطُ فِيهِ كَذلِكَ جائِزٌ، لكنْ يَجِبُ أنْ تَكونَ دَرجَةُ الكَذِبِ بِقَدْرِ الاستِعمالِ، وكَأَنَّهُ يُوحِي بالقَولِ أَنَّ الخُروجَ إلى المحالِ في الكذبِ غَيرُ مَقبولٍ، ويُؤَكِّدُ أنَّهُ لا وجُودَ لِشِعْرٍ صادِقٍ، بَلْ هناك شِعْرٌ كاذِبٌ، وهو سِرُّ صِدْقِه وجَوْدَتِه، وفَهْمُه للصِّدْقِ والكَذِبِ هُو فَهْمٌ جَماليٌّ فَنيٌّ.
ونَخْتِمُ هذهِ الجُهودَ العربيَّةَ بما جاءَ به ابنُ رشيقٍ القَيرَوانِيُّ (ت 456هـ) في مناقَشَتِه لِمُصطلَحَي "المُبالَغَة والغُلُوّ"؛ يَقولُ عنِ الأوَّلِ مِنهُما: "والنَّاسُ فيها مُختَلِفونَ: مِنهُمْ مَنْ يُؤثِرُها، ويقولُ بتفضيلِها، ويَراها الغايةَ القُصوى في الجَودةِ، وذلِكَ مَشهورٌ مِن مذهبِ نابغةِ بَني ذُبيان، وهو القائِل: أشعرُ الناسِ مَن استُجيدَ كذبُه، وضُحِك مِن رَديئِه"[22]، ويُقرِّب لنا ابنُ رشيقٍ مفهومَهُ للكذبِ، باعتباره كذبًا فنيًّا يَدعو إلى الصِّدقِ أو التصديقِ، ويُوضِّح ذلك من خلال تعقيبِه على بيت جَرِير:
"فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ عَبِيدَ تَيْمٍ
وتَيْمًا قُلْتَ: أَيُّهُمُ العَبِيدُ
فلَو قال: "عبيدهم" أو خيرًا منهم لما ظُنَّ به الصِّدقُ، فاحتال في تقريب المشابَهة؛ لأنَّ في قُرْبِها لَطافَةً تقعُ في القُلوبِ وتَدْعو إلى التصديق"[23]، ويَبسُطُ هذا الناقِد رأيَه في الموضوع، لكنَّه رأيٌ متذبذبٌ، فتارةً يرى أنَّ المبالَغة هي مذهَب العاجزين عن القولِ الشِّعريِّ، وتارةً يرى أنَّ أحسَن المبالَغةِ تلكَ التي تَكونُ في أقصى درجاتها؛ يَقولُ: "والمبالَغةُ في صناعة الشِّعرِ كالاستراحةِ من الشاعر إذا أعياه إيرادُ مَعنى حَسَنٍ بالِغٍ، فيَشغَلُ الأسماعَ بما هو مُحالٌ، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصِدُها مَن ليسَ بمتمكِّنٍ مِن محاسِن الكلامِ أن تمكنه، ولا يَتعذَّر عليه، وتنجذبُ كلما أرادها إليه"[24]، ويقولُ مِن جهَةٍ أخرى: "فمِنَ أحسَنِ المُبالَغة وأغْرَبِها عند الحُذَّقِ: التَّقصِّي، وهو بلوغُ الشَّاعر أقصى ما يُمكن وصْفُ الشيءِ"[25]، وأمَّا "الغُلُوّ"، فهو يُلحقه "بالمبالغة"، ويرى أنَّ ما قِيل بخصوصِ الثَّاني هو سارٍ على الأوَّل؛ ذلك أنَّ الغُلُوَّ "يُنكِرُه مَن يُنكِر المُبالَغة"[26].
لقد أتاحتْ لنا هذه الجهودُ أن نستخلص ما يلي:
1- اختلاف النُّقادِ مُنْذُ القِدَمِ حولَ هذه المصطَلَحاتِ، بَين مَن يُجوِّزُ وقوعها في الشعر مستندًا إلى التراثِ الأدبيِّ، ومَن يَرفضُها ويَجعلُها إمّا مذهبًا للعاجِزينَ مِن الشُّعراءِ، أو أنَّها تُفسدُ أساليبَ القولِ الشعريِّ، ومَن يقبَلُها بِشروطٍ.
2- استندَ الشَّريفُ السَّبتيُّ في رفضِه للغُلُوِّ إلى جُهودِ العَرب القدماء، وخصوصًا ابن رشيقٍ القيرواني في أحَدِ آرائه، وإنْ كان دافِعُ الأول خُلُقيًّا، ودافعُ ابنِ رشيقٍ فنيًّا.
3- استندَ ابنُ البنَّاء في تفضيله للغُلوِّ - بشرْط عَدَمِ الخروج إلى المُحال والاختراع - إلى جُهودِ بعضِ النُّقادِ العَرَب القُدماءِ، ومِنهُم ابنُ الأثير وقُدامةُ بنُ جعفرٍ، في حِين أنَّ السجلماسيَّ لا يَرى غضاضةً في وجودِ الكذبِ في الإبداعِ، سواءٌ كان مِن الغُلوِّ أو الاختراعِ.
4- ثُنائيَّةُ الصِّدقِ والكذبِ مِن زاويةٍ خُلُقِيَّةٍ وفَنِّيَّةٍ:
نَظَرَ لسانُ الدين بنُ الخطيبِ إلى ثُنائيَّةِ الصِّدقِ والكَذِبِ مِن زاويةٍ خُلُقيَّةٍ، تَرى أنَّ الكذب في الشعر هو كَذِبٌ خُلُقيٌ مُحرَّمٌ، يَتنافى وأخلاقَ الإسلامِ، الشيءُ الذي دفَعَه إلى نَفْيِ وجُود السِّحر في مدْحِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "وكما أنَّ الشعر لم يتعلَّمْه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يَنبغي له؛ لِئلاَّ يرتابَ المبطلون، وذلك في حقِّه كمالٌ، بِخلافِه في حقِّ غيره، كذلك يَبْعُدُ أو يَمتَنِعَ أن يوجَد قِسم السِّحر في مَدحِه؛ إذ أصلُه الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجُّن؛ ولذلك ما قال أحدُ الحكماء في كتاب، وقد تفطَّن لها الشاعرُ، على عَقله ووقارِ جَنابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَبهر النَّفس ويَمنع من اسْتِرْسالِها في ذلك، فالمُجيد فيه مَن عوَّل على نَصاعةِ اللَّفظ، وقَصْد الحقِّ، وقُرْب المعنى، وإيثار الجذاذ، وغيره مِن الأغراض سبيل الهزْل"[27]، يَجمع هذا النَّاقد في توصِيفِه لِجوهر الشِّعرِ بينَ ما هو فنيٌّ: "المحاكاة والخيال"، وما هو خُلُقيٌّ دِينيٌّ: "الإغياء والتمجُّن"، وبعد ذلك يُرجِّح ما هو خُلُقيٌّ على ما هو فَنِّيٌّ، من خلال دعوته المُبدِعَ أنْ يختارَ نَصاعة اللفظ، وأن يَقصِد الحقَّ ويُؤثر الجذاذ.
ولتأكيد ربطِه بين الكذبِ بمعناه الخلُقي والإبداع الشِّعريِّ، نَفَى عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قولَ الشِّعرِ، باعتبار أنَّ النبيَّ الكريمَ لا يَنطِق عن الهوى، ولا يَصِحُّ في حقِّه الكذب - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويذهب ابنُ البناء المراكشيُّ المذهَبَ نفسَه مِن خلالِ قولِه في رَوضه: "وحُسنُ معنى الكلامِ وصَلاحُهُ وصِحَّته إنما هو ببنائِه على الصِّدقِ، وقَصدِه إلى الجَميل، وظُهورِه بالبُرهانِ... وحُسنُ اللَّفظ وصَلاحُه إنما هو بالقصدِ إلى المستعمَل في زمان الخِطابِ، وعلى قَدْرِ مَن يُخاطب، والإيضاح على أحسنِ ما يقدر عليه مِن التَّسهيل والتَّقريب؛ ولذلك كان أفْصحُ الخَلْقِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يَقولُ الشِّعْرَ"[28].
وإنْ كان هذا الرأيُ لابنِ البناء لا يُعبِّر عن موقفِه الحقيقيِّ مِن هذهِ الثُّنائيةِ - كما سنرى - لأنَّ سياقَه أتى في أَتُّونِ مناقشتِه لما يتعلَّق بفهم القرآن والسُّنَّة، وليس في سياقِ بحثِه للشِّعر، فالرجُل يفرِّق بيْن ما يَتعلَّق بتحليلِ الخِطابِ الدِّينيِّ: الكتاب والسُّنة، والخِطابِ الشِّعريِّ، وكأنَّ هدفه مِن رَوضِهِ هو مساعدةُ الطالب على فَهْمِ الخِطاب الدِّينيِّ، يقول: "وبهذا الذي ذكرْناه في هذا الكتاب يُعْرَفُ التفاضُل في البلاغةِ والفصاحَة، وهو قَدْرٌ كافٍ في فَهْمِ ذلك في كتاب الله وسنَّة نبيِّه وفي المخاطَباتِ كلِّها، لم يشذ منه إلاَّ ما هو مِن موضوعِ صِناعَة العَروض وصِناعَة القوافي، وبعض ما يَختصُّ بالشِّعر مِن حيث هو شِعرٌ، وأما ما هو مِن موضوعِ صِناعَةِ البديع والبلاغة ولم يختصَّ به الشِّعرُ من حيثُ هو شِعرٌ، فلا"[29].
فهو بهذا يُفرِّق بيْن الكذب الخلُقي المتعلِّق بالخطاب الدينيِّ، والكذبِ الفنيِّ المتعلِّق بالخطاب الشِّعريِّ؛ ولهذا نجدُ ابن الخطيبِ تناوَلَ مسألةَ الكذبِ الخلُقيِّ في خِطاب رسولِ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورَفَض الكذبَ في حقِّه، إلا أنه استحْسَن الكذب الفنيَّ في الشِّعر، وخصوصًا في طبقة السِّحر من الشِّعر؛ يقول: "ولمَّا كان السِّحرُ قوةً ظهرتْ للنُّفوسِ أفعالُها، واختلفتْ بحسَب الوارِدِ أحوالُها، فتُرى لها في صورة الحقيقة خيالُها، ويتبدى في هيئة الواجب مُحالُها، وكان الشِّعر يملك مقادَتَها، ويغلب عادتَها، وينقُل هيئتَها، ويُسهِّل بعد الاستصعاب خبيَّتَها، ويَحملها في قدِّه على الشيء وضِدِّه، حتى تفطَّن لِهذا المعنى مَن يُعنَى مِن سرِّ الكلام بما يُعنَى، فقال مِن البسيط:
فِي زُخْرُفِ القَوْلِ تَزْيِينٌ لِبَاطِلِهِ
وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبيرِ
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ
وَإِنْ ذَمَمْتَ فَقُلْ قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحٌ وَذَمٌّ وَعَيْنُ الشَّيْءِ واحِدَةٌ
إِنَّ البَيَانَ يُرِي الظَّلْمَاءَ كالنُّورِ
وإذا عُضِّد بما يناسبه، وتقضي إليه مذاهبه، وقُرنت به الألحان على اختلاف حالاتها، وما يَقتضيه قوي استحالاتِها، عَظُم الأثَر، وظهرتِ العِبَر، فشجَّع وأقدَم وسهَّر وقوَّم وحبَّب السخاء إلى النفْس..."[30]؛ فالناقِد هنا يربِط بين الكذب والخيال في مُقابِل الصِّدْق والحقيقة، واستَشهدَ بالأبيات الشِّعريَّةِ لتوضِيح هذا الفَرْق، وأوضَحَ أنَّ الشِّعْر مِن حيثُ هو كذِبٌ وخيال، يُؤثِّر في المتلقِّي أشدَّ تأثِير.
وهذا التناولُ الخُلُقيُّ لهذه القضيَّةِ، يُوجَد في بُطونِ المُصنَّفاتِ النَّقديَّةِ العربيَّة القديمة، يَقولُ أبو هِلال العسكريُّ (ت 395هـ): "ولا يَقَع الشِّعرُ في شيءٍ مِن هذه الأشياءِ مَوقِعًا، ولكنْ له مواضِعُ لا يَنْجَحُ فيها غَيرُه مِنَ الخُطَبِ والرَّسائِلِ وغَيرِها، وإنْ كان أكثَرُه قد بُنِيَ على الكَذِبِ والاستحالَةِ مِنَ الصفاتِ الممتنِعَةِ، والنُّعوتِ الخارِجَةِ عَنِ العادات، والألفاظ الكاذبةِ مِنْ قَذْفِ المُحصناتِ، وشَهادَةِ الزُّورِ وقَولِ البُهتان؛ لا سيَّما الشِّعرُ الجاهليُّ الذي هو أقوى الشِّعرِ وأفْحَلُه"[31]، فالفَهمُ الخلُقي للكذِبِ واضِحٌ في تناوُل الرجُلِ لهذه الثُّنائيَّةِ، لكنْ إلى جانِبِ ذلك يَبدو أنه يُلمحُ إلى أنَّ وجود الكذبِ كذلك بمعناه الفنيِّ، فعندما يتحدَّث عنِ الصفاتِ المُمتنِعَة، والنُّعوتِ الخارِجَةِ عن العادات، فهو يَرى أنِّ الكذِب يَسعى إلى تَحويل الواقِعِ كما هو إلى واقِعٍ فنيٍّ، ويُؤكِّد ذلك بقوله: "وليس يُراد منه إلا حُسنُ اللَّفظِ وجَودَةُ المعنى؛ هذا هو الذي سوَّغ استعمال الكَذِبِ وغيرِه ممَّا جَرى ذِكْره فيه"[32]، يَبدو أنَّ الرجُل قد بَنى رأيَه هذا مِن خِلال اطِّلاعِه على جُهودِ الفلاسِفَة، فهو يُفرِّق بين الكذِب الخلُقيِّ في مُقابِل الصِّدْق الخلُقي، والكذبِ الفنِّيِّ في مُقابِل الصِّدقِ الفنِّيِّ، وهذان الأخيران لا فرقَ بينهما؛ يقول: "وقِيل لبعضِ الفلاسِفَة: فُلانٌ يَكذِبُ في شِعرِه؛ فقالَ: يُرادُ مِنَ الشاعِرِ حُسنُ الكلامِ، والصِّدقُ يُراد مِنَ الأنبياء"[33].
يَبدو - كذلك - هذا الخَلْطُ بين الكَذِبِ الخلُقي والفنيِّ واضحًا في "عُمدة ابنِ رشيقٍ" في قَوله: "ومِن فَضائِله (يَقصِد الشِّعرَ) أنَّ الكَذِبَ - الذي اجتَمَع الناس على قُبحِه - حَسَنٌ فِيه، وحَسْبُك ما حسَّن الكذبَ، واغتُفر له قُبحُه"[34]، فالكذبُ - هُنا - نَوعان: كذبٌ خلُقيٌّ أجْمَع الناسُ على قُبحِه وترذِيلِه، وكذبٌ فنيٌّ يُحسِّن الشِّعرَ ويتَجاوَز القُبحَ الذي أُلصِق به.
فأيَّ كذبٍ يَقصِد ابنُ رشيقٍ؟، ويَبدو أنَّ هذا الرأي المُزدوَجَ لَدَى هذا الناقِدِ راجِعٌ إلى تُراثِه النَّقديِّ، فهُو يَستدِلُّ بالقُدماءِ في بَسطِه لهذا الرأي؛ يَقول: "وسُئلَ أحد المُتقدِّمين عَنِ الشُّعراءِ؟ فقال: ما ظَنُّك بِقومٍ الاقتصادُ مَحمودٌ إلاَّ مِنهُم، والكَذِبُ مَذمومٌ إلا فِيهم"[35].
إذا كان هؤلاءِ النُّقّادُ تَناولوا هذِه الثُّنائِيَّة مِن وِجهةِ نَظَرِ خُلُقيَّة في ارتباطها بما هو فَنيٌّ، فإنَّ ثَمَّة فِئةً أُخرى تَناوَلتْها مِن وِجهةِ نَظرٍ مَنطقيَّةٍ مُؤسَّسَةٍ على التَّفريقِ بين أَصنافِ الأقاويلِ والخِطاباتِ، فأَصبَحتْ بذلك هذه القضيَّةُ مُتجاوَزَةً؛ إذْ لم يَعُدْ الصدق والكذب أمرًا مُهمًّا في الصِّناعَة الشِّعريَّة، بل احتلَّ مكانَها التَّخييلُ، فأضْحَى النَّظر إلى الشِّعر مِن حيثُ هو قَولٌ مُخيَّلٌ، لا مِن حَيثُ هو صادِقٌ أو كاذِبٌ، وقد تَزعَّم هذه الفِئَةَ مُنذُ القِدم الفَلاسِفَةُ ومَن دارَ في فَلَكِهم مِنَ النُّقّاد.
5- ثُنائيَّةُ الصِّدقِ والكذبِ مِن زاويةٍ مَنطقيَّةٍ وفَلسفيَّةٍ:
يُفرِّق ابنُ البناء بين الحِكمة والشِّعر، ويَرى أنَّ هذا الأخير "مَبنيٌّ على المُحاكاةِ والتَّخَيُّلِ، لا على الحَقائِقِ"[36]، ويَرى أنَّ الشِّعرَ هو مِن البديعِ؛ إذِ البديعُ مِن اللُّغةِ، وهُو مِن البَديعِ؛ لأنَّ البديعَ من الحِكمَة، وكأنَّه هُنا يُفرِّق بين تَحليلِ الخِطابِ الدِّينيِّ الخُلُقيِّ المبنيِّ على الصِّدق والوُضوحِ، ويَعترِفُ أنَّ هذا الرَّوضَ هو جُهدٌ في هذا الصَّدَدِ، وتَحليل الخِطابِ الشِّعريِّ بِناءً على الأساليبِ البَديعيَّةِ باعتبارِه لُغةً، وكذلك باعتبارِه مَبنيًّا على الكذبِ والتَّخييلِ والمُحاكاةِ والغُلوِّ.
وبِناءً على نَظرتِه المَنطقيَّةِ لأنواعِ الخِطابِ، يُقسِّم القَول إلى "مَوزونٍ مُقفًّى، وهو المَنظُومُ، وإلى غَيرِ ذلك، وهو المنثُور، ويُستعملُ كلُّ واحدٍ منهُما في المُخاطباتِ، وهي على خَمسةِ أنحاء على ما أُحصيَتْ قديمًا:
• الأولُ: البُرهانُ، وهو الخِطابُ بأقوالٍ اضطراريَّةٍ يَحصُلُ عنها اليقين.
• والثاني: الجَدَلُ، وهو الخِطاب بأقوالٍ مَشهورَةٍ يَحصُل عنها الظَّنُّ الغالِبُ.
• والثالِث: الخَطابَة، وهو الخِطاب بأقوالٍ مَقبولَةٍ يَحصُل عنها الإقْناعُ.
• وهذه الثلاثَة الأقسام هي التي تُستعمَل في طريق الحَقِّ.
• والرابِع: الشِّعرُ، وهو الخِطابُ بأقوالٍ كاذِبَةٍ مُخيَّلة على سبيلِ المحاكاة، يَحصُل عنها استفزازٌ بالتوهُّمات.
• والخامسَة: المُغالَطة، وهو الخِطاب بأقوالٍ كاذبةٍ يَحصُل عنها ظُهور ما ليس بِحقٍّ أنَّه حَقٌّ. وهذان القِسْمانِ خارجانِ عن بابِ العِلْم، وداخلانِ في بابِ الجَهْل"[37].
فالأقسام الثلاثةُ الأُولى هي مِنَ الحِِكمة، وتُستعمَل في طريق الحقِّ، وتَدخُل في باب العِلم، وأما القِسمان الأخيرانِ، فهُما داخلانِ في باب الجَهلِ، ومَبنيَّان على الكَذِب، والذي يهمُّنا فيهما هو الخِطابُ الشِّعريُّ، وهو المبنيُّ على المُحاكاة والتَّخييل، فرَبطَ بين الكَذِب والتَّخيِيل، لكنَّه اشترط شُروطًا في تَوظيفِ الكذب بقولِه: "ولكنْ ليسَ للشاعِر أن يُحاكِيَ ويَتخيَّل في الشيءِ ما ليسَ موجودًا أصلاً؛ لأنَّه إذا فعَل ذلك لم يَكُنْ مُحاكيًا، بل يَكونُ مُخترِعًا، فيركب الكذب في قولِه، فتَبطُل المُحاكاة لِكذِبها، وهي موضوع الشِّعرِ"[38]، فشَرْطُ استعمال الكذب أنْ يَكونَ مِن الموجودِ؛ حتَّى لا يكونَ مُخترَعًا؛ لأنَّ الاختراعَ - وهو مُحاكاةُ وتَخيُّلُ ما ليس موجودًا أصلاً - تَبطُل به المحاكاةُ، وهي موضوعُ الشِّعر.
إنَّ احتفالَ السجلماسي بالتَّخييلِ في الشِّعْر، جعَله يَستغنِي عنْ ثُنائيَّة الصِّدقِ والكَذِب، فلَمْ يَهتمَّ بطبيعةِ الخِطابِ الشِّعريِّ مِن حيثُ هو صِدق أو كَذِب، وإنَّما الأمر عندَه: إنْ كان القول مُخيَّلاً أمْ لا؛ يَقول: "وبالجُملة تَنفَعِل له (يَقصد القَول المُخيَّل) النفْسُ انفعالاً نفسانيًّا غيرَ فكريٍّ، سواءٌ كان القول مُصدَّقًا به أو غيرَ مصدَّقٍ به، فإنَّ كَونَه مُصدَّقًا به غيرُ كَونِه مُخيَّلاً أو غَيرَ مُخيَّل؛ إذ كانتِ القضيَّة الشعريَّةُ إنما تُؤخَذُ مِن حيثُ هي مُخيَّلة فقط، دون نَظرٍ إلى صِدقها أو عَدمِ صِدقها، كأخْذِ القضيَّة الجدليَّة أو الخُطَبيَّة مِن حَيث الشهرة والإقناع فقط، دون نظرٍ إلى غيرِ ذلك مِن الصِّدقِ وعدَمه، فإنَّه يصدق بقولٍ مِن الأقوال ولا ينفعل عَنه، فإنْ قيل مرةً أخرى وعلى هيئةٍ أُخرى، فكثيرًا ما يُؤثِّر الانفعالُ ولا يُحدِث تَصديقًا، وربَّما كان المُتيقَّن كذبه مُخيلاً لما قُلناه"[39]، فالسجلماسي - على غِرار ابن البناء - يُقسِّم الخِطابات وَفْق التخييل إلى: أقوال شِعريَّةٍ، وجَدَليَّة، وخُطَبيَّة، ويَخصُّ الشِّعر بكَونِه خِطابًا تَنفعِل له النفْس انفِعالاً، بِغضِّ النظَر عن كَونِه مُصدَّقًا أو غير مُصدَّق، بل ويَرى أنَّ القولَ المُتيقَّنَ كَذِبُه غالبًا ما يُحدِث انفعالاً، وهو قَولٌ مُخيَّل أكثر استفزازًا وإلذاذًا للنفْس، وهو بهذا الفَهْم يَجعلُ الكذبَ أساسَ القَول المُخيَّل؛ أي: أساس القول الشِّعريِّ، فأضحى هنا الكَذِب مُنازِعًا للتخييل في وظيفةِ الشِّعرِ الاستفزازيَّة؛ يقول السِّجلماسي بِخُصوصِ "المجاز": "القَول المُستفِزُّ للنفْس المُتيقَّنُ كَذِبُه، المُركَّب مِن مُقدِّماتٍ مُختَرَعةٍ كاذِبة تُخَيِّل أمورًا وتُحاكي أقوالاً، ولما كانت المقدِّمة الشعريَّةُ إنَّما نَأخذها مِن حيث التخييلُ والاستفزاز فقطْ، كما تقدَّم لنا مِن قَبْل أنَّه كُلَّما كانتْ مُقدِّمة القول الشعريِّ أكذَب، كانتْ أعظمَ تَخييلاً واستفزازًا"[40].
مِن خِلال النُّصوصِ النقديَّة لكلٍّ من ابن البناء المراكشي والسجلماسي حولَ هذه القضية، يَبدو أنَّ الرجُلَين يَريانِ أنَّ الكذبَ هو من مُقوِّمات جَودة الشعر، كما أنَّهما ربَطا الكذبَ بالتخييل، ويُمكن تَلخيصُ آرائهما في:
• يُقسِّمان الخطابَ وَفق قضيَّة الصِّدق والكَذِب تَقسيمًا منطقيًّا، ويَريانِ أنَّ ما يُميِّز الشِّعر هو كَونُه مُخيلاً كاذبًا يُؤثِّر في المُتلقِّي بالاستفزاز والتوهُّم.
• يَرى ابنُ البناء أنَّه لا يَجوز في الكذب أن يَصِل إلى درجةِ الاختراع؛ أي: تَخيُّل ومُحاكاة ما ليس موجودًا أصلاً.
• يُنازِع الكذبُ لدَى السجلماسيِّ التخييلَ في تَمييزِ الشِّعر عن غَيره من الخِطابات الأُخرى، وفي تَحديدِ وظيفتِه، ولا يَشترِط أيَّ شَرْطٍ على الكذِب في الشِّعر، وإنَّما الذي يهمُّه هو أن يكونَ مستفزًّا، وكُلَّما عَظُم كذبُه، عَظُمَ التخييلُ والاستفزاز فيه.
وللوقوفِ على مرجعيّات النّاقِد الأدبيِّ في إرساء فَهمِه لهذه الثُّنائيَّة مِنَ الزَّاويةِ الفلسفيَّةِ المنطقيَّةِ، يَتوجَّبُ الرجوعُ إلى التُّراثِ الفلسفيِّ والمنطقيِّ، وكذلك التراث النقديِّ لَدَى الفلاسِفَة والمَناطِقَةِ، ويَبقَى أقرَبُ مَصْدَرٍ هو مَصدَرَ الفلاسِفَةِ المسلمين، ومِن خِلالِهم التراث الغربي القديم - اليوناني على وَجْهِ الخُصوص.
استند النَّاقِد الأدبيُّ بالغَرْبِ الإسلاميِّ في تَقسِيمه المنطقيِّ للخطاب إلى جُهود الفلاسِفَةِ المسلمين: فهذا الفارابيُّ (ت 339هـ) يُقسِّم الأقاويلَ المنطقيَّة إلى خَمسَةِ أقوالٍ؛ يَقول: "إنَّ الأقاويلَ إمَّا أنْ تَكونَ صادِقَةً لا مَحالةَ بالكُلِّ، وإمَّا أنْ تكونَ كاذِبَةً لا مَحالة بالكُلِّ، وإمّا أنْ تكون صادقةً بالأكثر كاذبةً بالأقلِّ، وإمَّا عَكسُ ذلك، وإمَّا أنْ تَكونَ مُتساويةَ الصِّدقِ والكَذِبِ.
فالصادِقَةُ بالكُلِّ لا مَحالةَ هي البُرهانِيَّةُ، والصادِقة بالبعضِ على الأكثر فهي الجَدَلِيَّةُ، والصادِقَة بالمساواة فهي الخطبيَّة، والصادِقَةُ في البعضِ على الأقلِّ فهي السُّوفُسْطائيَّة، والكاذِبة بالكُلِّ لا مَحالةَ فهي الشِّعْريَّةُ"[41]، وهو تقسيم - كما يَبدو - مبَنيٌّ على ثُنائيَّةِ الصِّدِق والكذِب.
استند السجلماسيُّ في تناوله لهذه القضية إلى جُهود ابنِ سِينا (ت 428هـ) استنادًا يَكاد يكون كُليًّا؛ إذْ بِمُقارَنة النُّصوصِ يَبدو وكأنَّ السجلماسيّ نَقَل نَصَّ الفيلسوفِ العربيِّ نَقلاً حَرفيًّا؛ يَقول ابن سِينا: "والمُخيَّل هو الكلام الذي تُذعِنُ له النفْس، فتَنبسِطُ عن أُمورٍ وتَنقَبِضُ عن أُمورٍ، مِن غَير رَويَّةٍ وفِكرٍ واختيارٍ، وبالجُملَة تَنفعِل له انفعالاً نَفسانيًّا غَيرَ فِكريِّ، سَواءٌ كان المقُول مُصدَّقًا به أو غير مُصدَّقٍ، فإنَّ كونَه مُصدَّقًا به غَيرُ كَونِه مُخيَّلاً أو غَيرَ مُخيَّل؛ فإنَّه قد يُصدَّق بقَول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإنْ قِيلَ مرَّةً أخرى وعلى هيئةٍ أخرى، انفعلت النفْس عنه طاعةً للتخييل لا للتصديق، فكثيرًا ما يُؤثِّر الانفعال ولا يُحدِث تصديقًا، وربما كان المُتيقَّنُ كذبُه مُخيَّلاً"[42]، فجَوهر الشعر لدَى ابن سينا هو التخييل، ووظيفتُه هو الاستفزاز والانفعال، وعليه؛ فإنَّ التخييل يُعتَبَر بَديلاً عن هذه القضيَّة، لكنَّ الكذبَ يَدعَمُ فاعليَّةَ هذا التَّخييل.
استنَد ابن البناء المراكشيُّ في وضْعِه لشَرْطِ الإمكان في قَبولِ الكذب في الشِّعر إلى جُهود ابن رُشْدٍ (ت 595هـ)، والذي رفَضَ الاختراع الذي يَنسِفُ المحاكاة، وهذه الأخيرة لَدَيه هي عَمود الشِّعرِ؛ يَقول: "المحاكاة التي تَكُون بالأُمورِ المُختَرَعة الكاذبةِ، لَيستْ مِن فِعلِ الشاعِرِ في الأُمور الموجُودة أو المُمْكنة الوجود؛ لأنَّ هذه هي التي يقصد بها الهرب أو طلَبها أو مطابقة التشبيه لها، على ما قيل في فُصولِ المحاكاة، وأكثر ما يَجِبُ أنْ يعتمدَ في صناعة المديح أن تكون الأشياءُ المحاكيات أُمورًا مَوجُودة، لا أُمورًا لها أسماء مُخترَعة، فإنَّ المديح إنَّما يتوجَّه نَحو التَّحريك إلى الأفعال الإراديَّةِ، فإذا كانتِ الأفعال مُمكنةً، كان الإقناع فيها أكثرَ وقوعًا؛ أعني: التصديقَ الشِّعريَّ الذي يُحرِّك النفْس إلى الطلَب أو الهرَب، وأمَّا الأشياء غير المَوجُودة، فليسَ تُوضَع وتُخترع لها أسماء في صِناعَةِ المديح إلا أقلَّ ذلك"[43].
فابنُ رُشدٍ يَدعو الشاعرَ إلى مُحاكاةِ الأُمور الموجودة المُمكنَةِ، وليس المُخترَعَة المُستحيلَة، وهو بِهذا يُخالِف أَرِسطُو حين قال: "ويَنبغي أنْ يُؤثِر الشاعرُ استعمالَ المُستحيلِ المعقول على استعمالِ المُمكِن غير المعقُول، فلا يَصحُّ أنْ تُؤلَّفَ القِصَّةُ مِن أجزاءٍ غير مَعقُولة، بل يَجِب أن تَخلوَ مِن كُلِّ ما هو غير معقُول"[44]، ويُضيفُ لتوضيحِ رأيه قائلاً: "أمَّا التِّراجيديات، فإنَّ الشُّعراء يَتمسَّكون بالأسماء الواقِعَة، وسبَبُ ذلك أنَّ المُمكِن هو مُقنِع، وما لَمْ يَقَعْ فلَسْنا نُصدِّق بَعْدُ أنَّه مُمْكِنٌ، أمَّا ما وَقَعَ، فبيِّن أنَّه مُمْكِنٌ؛ إذْ لَو لَمْ يَكُنْ مُمكنًا لما وَقَعَ، على أنَّ مِن التراجيديات ما يَكونُ فِيه مِنَ الأسماء المعروفَةِ واحدٌ أو اثنان، وتَكونُ سائرُ الأسماءِ مَصنوعَةً، ومِنها ما لا يَقَعُ فيه اسمٌ مِنَ الأسماءِ المعروفة أصلاً، كما في تراجيديَّةِ "أنثيوس" لأجاثون، فالأفعالُ فيها مُخترعَةٌ والأسماءُ كذلكَ، ولكنْ هذا لا يَنقُص مِن بَهجتِها"[45].
ملاكُ القَول، يَرى النَّاقِد الأدبيُّ بالغرْبِ الإسلاميِّ - كما يَرى الفَلاسِفَةُ المسلمون - أنَّ الشِّعرَ هو فَنٌّ مُستقلٌّ بالقِسمةِ المَنطقيَّة، له خَصائِصُه الخاصَّة به، وعلى رأسِها أنَّه قَولٌ مُخيَّل مُحاكٍ، له غايَةُ الاستفزاز والانفعال؛ ولا يَعتبرُ قضيَّة الصِّدق والكَذِب مِن هذه الخَصائصِ، وإنما لها دَورُ تَعميقِ فاعليَّة التخييل، وإنْ كانتْ فئةٌ مِنهم ما زالتْ تُفضِّل الصِّدقَ، وتَرفُضُ الكذب مِن حَيثُ هو كَذِبٌ خلُقي.
خُلاصات:
أ- تَناولَ الناقدُ الأدبيُّ بالغَرْبِ الإسلاميِّ ثُنائيَّةَ الصِّدق والكذِب مِن خِلال بعض المُصطلحات: الغُلوُّ والمُبالَغَةُ، والكذبُ والإقصاء، والإمكان والاستحالَة، والاختراع والحُصول، والاختلاق والصِّدقُ، والتَّقصير والامتناع، والإفْراطُ والإيهام، باستحضار المرجعيَّةِ الدينيَّةِ والخلُقيَّةِ، مَعَ مُحاولةِ بِناءِ رُؤيَةٍ فنِّيَّةٍ على استحياءٍ - خُصوصًا لدَى مَن ليس لَهُمْ حَظٌّ مِن الفلسفَةِ والمنطِقِ (الشَّريفُ السبتيُّ مثلاً) - وذلك بالاستنادِ إلى بعضِ المصادر العربيَّةِ القديمة؛ وأمَّا الآخرون، فتناوَلُوا هذه المصطلحات تَناوُلاً نَقديًّا يُغلِّفُه الفَهْمُ الفلسفيُّ لهذِه الثُّنائيَّةِ، والذي يَعتَبِرُ أنَّ الكذبَ أساسُ الإبداعِ الأدبيِّ، وهي أفكارٌ استُند فيها إلى التُّراثِ العَربيِّ القديمِ، والذي بِدَورِه يَعتَرِفُ باتِّصاله بالتُّراثِ اليُونانيِّ القديم.
ب- تَحرَّرتْ أَفكارٌ مَغربيَّةٌ أُخرى - بِخصوصِ ثُنائيَّةِ الصِّدق والكذب - مِن رِبقَةِ التَّفكير الخلُقي والدِّينيِّ؛ لِتَنظُر إلى هذه المسألةِ نَظرةً فَلسفيَّةً مَنطقيَّةً، تَجعل مِن الكذب الفنيِّ أساسَ التَّفريق بين الخِطابات، ولكنَّهم لمْ يَقتنعوا بأهميَّةِ الكَذِبِ وحدَه في لعبِ هذا الدَّور؛ لاكتشافِهِم مسألةً أُخرى أشْمل، وهي: التَّخييلُ، عِلمًا أنَّ مِنهُم مَن لمْ يَتحرَّر نَهائيًّا مِن فِكرَةِ أنَّ الكذبَ هو أساسُ الإبداع الأدبيِّ، إلى كَونِه عاملاً أساسًا في تعميقِ فاعليَّةِ التخييل والمحاكاة، وهذه الأفكارُ لا نَجدُ لها مَصدرًا إلا لَدَى الفلاسفةِ المُسلمين ومَن تأثَّر بِهم مِنَ النُّقَّاد العرَب.
المصادر والمراجِع:
1) أسرارُ البَلاغة، عبدالقاهر الجُرجانيُّ، قدَّم له وعلَّق عليه أبو فِهْرٍ محمود محمَّد شاكر، مطبعة المدني، القاهِرة.
2) تَلخيص كتاب أرسطُوطالِيس في الشِّعر، ابن رُشْد الحَفيد، ضِمن كتاب فنّ الشِّعر لأرسطُو، ترجمة عبدالرحمَن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973.
3) رفْعُ الحُجُب المستورة عن مَحاسِن المقصُورة، أبو القاسم محمد الشريف السبتيُّ، تحقيق وشرح مُحمَّد الحَجَوِيّ، مطبعة فضالة، المحمَّدية، المملكة المغربية، 1418هـ/ 1997م.
4) الرَّوضُ المريع في صِناعَة البَديع، ابن البناء المراكشيّ، حقَّقه رضوان بنشقرون، دار النشر المغربيَّة، الدار البيضاء، 1985م.
5) شِعريَّة الإقناع في الخِطاب النَّقديِّ والبلاغيِّ، أحمَد قادِم، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1، مراكش، 2009م.
6) العُمدة في مَحاسِنِ الشعر وآدابه ونقْدِه، أبو الحسن بن رشيقٍ القَيروانيُّ، تحقيق وتعليق مُحمَّد مُحيي الدِّين عبدالحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء.
7) الفنُّ التاسِع مِن الجُملةِ الأولى من كتاب الشِّفا،، ابن سِينا، ضِمن كتاب فنّ الشِّعر لأرسطُو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973م.
8) في الشِّعر، أرسطُو، نَقْلُ أبي بِشر متَّى بن يُونُس القنائيّ مِن السريالي إلى العربي، حقَّقه مع تَرجمةٍ حديثة ودراسةٍ لتأثيره في البلاغة العربية شُكري مُحمَّد عَيّاد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1386هـ/1967م.
9) كتاب السِّحر والشِّعر، لِسانُ الدِّين بن الخَطيب، حقَّقه المُستشْرِق الإسباني ج.م كونتنته بيرير، راجعه ودققه: مُحمَّد سعيد إسبر، بدايات للطبع والنشر والتوزيع، ط1، جبلة، سورية، 2006م.
10) كتاب الصِّناعتَين، أبو هِلال العسكريُّ، تَحقيق علي مُحمَّد البجاوي، ومُحمَّد أبو الفَضْل إبراهيم، طبعة المكتبة العصرية، 1986م، صيدا، لبنان.
11) المثَل السائِر في أَدب الكاتِب والشاعِر، ابن الأثير، قدَّمه وحقَّقه وعلَّق عليه: أحمَد الحُوفي، وبَدوي طَبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة.
12) مقالَةٌ في القوانين صناعة الشُّعراء، الفارابيّ، دار الثقافة، بيروت، 1973م.
13) مَناهِج النَّقد الأدبيِّ بالمغْرِبِ خِلالَ القَرْن الثامن للهجرة، علال الغازي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة بالرِّباط، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، الدار البيضاء، 1420هـ/ 1999م.
14) المَنْزَع البديع في تَجنيس البَديع، أبو محمد القاسم السجلماسي، حقَّقه علال الغازي، مكتبة المعارف، ط1، الرباط، 1401هـ/1980م.
15) مِنهاجُ البُلَغاء وسِراجُ الأُدباء، أبو الحسَن حازِم القرطاجنِّي، تقديم وتحقيق مُحمَّد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط3، بيروت، 1986م.
16) نَقْد الشِّعر، قُدامة بن جعفر، تحقيق: مُحمَّد عبدالمنعم خَفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت.
[1] "شِعرية الإقناع في الخِطاب النقدي والبلاغي"، أحمد قادم، المطبعة والوراقة الوطنيَّة، ط1، مراكش، 2009م، (ص: 74).
[2] "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، أبو الحسن حازم القرطاجنِّي، تقديم وتحقيق محمَّد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط3، بيروت، 1986م، (ص: 62 - 63).
[3] "أسرار البلاغة"، عبدالقاهر الجُرْجاني، قدَّم له وعلَّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (ص: 271).
[4] "رفْع الحُجُب المستورة عن محاسن المقصورة"، أبو القاسم محمد الشريف السَّبتي، تحقيق وشرح محمد الحجوي، مطبعة فضالة، المحمدية، المملكة المغربية، 1418هـ/ 1997م، (2/ 517).
[5] البيت هو:
جَرَى إِلَى نِهَايَةِ الجُودِ الَّتِي
مَا بَعْدَهَا وُجْدَانُ مَعْنَى لِ"إِلَى"
[6] "رفع الحجب المستورة"، (2/ 553 - 554).
[7] "رفع الحجب المستورة"، (1/ 195).
[8] "رفع الحجب المستورة"، (3/ 972 - 973).
[9] "الروض المريع في صناعة البديع"، ابن البناء المراكشي، حقَّقه رضوان بنشقرون، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985م، (ص: 103 - 104).
[10] "الروض المريع"، (ص: 104).
[11] "المنزع البديع في تجنيس البديع"، أبو محمَّد القاسم السجلماسيّ، حقَّقه علال الغازي، مكتبة المعارف، ط1، الرباط، 1401هـ/1980م، (ص: 273).
[12] يُعرِّفه السجلماسيُّ في "منزعه" بـ: "هو إقامة الذِّهن بين طرفي شكٍّ وجزئي نقيض"، (ص: 276).
[13] "المنزع البديع"، (ص: 276).
[14] "المنزع البديع"، (ص: 274).
[15] "المنزع البديع"، (ص: 275).
[16] يُعرِّفه الشريفُ الجُرجانيُّ (ت 816هـ) في "التعريفات" (ص:42) بـ: "الإيهام، ويقال له: التَّخييل؛ أي: وهو أن يُذكر لفظٌ له معنيان: قريب وغريب، فإذا سَمِعه الإنسان، سبَق إلى فَهمِه القريبُ، ومُراد المتكلم الغريبُ، وأكثرُ التشابهات مِن هذا الجنس".
[17] - "رفع الحجب المستورة"، (3/ 1334).
[18] "نقد الشِّعر"، قُدامة بن جعفر، تحقيق: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص: 94).
[19] "نقد الشعر"، (ص: 94).
[20] "نقد الشعر"، (ص: 94).
[21] "المَثَل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، ابن الأثير، قَدَّمه وحقَّقه وعلَّق عليه: أحمد الحُوفي، وبَدَوِي طَبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، (3/ 191).
[22] - "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقْدِه"، أبو الحسَنِ بن رشيقٍ القَيروانيُّ، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، (2/ 57).
[23] "العمدة"، (2/ 54).
[24] العمدة، (2/ 54).
[25] - العمدة، (2/ 57).
[26] العمدة، (2/ 55).
[27] "كتاب السِّحر والشِّعر"، لسان الدين بن الخطيب، حقَّقه المستشرق الإسباني ج.م كونتنته بيرير، راجعه ودققه: محمد سعيد إسبر، بدايات للطبع والنشر والتوزيع، ط1، جبلة، سورية، 2006م، (ص: 15- 16).
[28] الروض المريع، ص: 174.
[29] الروض المريع، ص: 174.
[30] "كتاب السحر والشعر"، (ص: 13).
[31] "كتاب الصناعتين"، أبو هلال العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة المكتبة العصرية، 1986م، صيدا، لبنان، (ص: 136 - 137).
[32] "كتاب الصناعتين"، (ص: 137).
[33] "كتاب الصناعتين"، (ص: 137).
[34] "العمدة"، (1/ 22).
[35] "العمدة"، (1/ 25).
[36] "الروض المريع"، (ص: 103).
[37] "الروض المريع"، (ص:81 - 82).
[38] "الروض المريع"، (ص: 103 - 104).
[39] "المنزع البديع"، (ص: 219 - 220).
[40] "المنزع البديع"، (ص: 252).
[41] "مقالة في القوانين صناعة الشعراء"، الفارابي، دار الثقافة، بيروت، 1973م، (ص: 151).
[42] الفن التاسع من الجملة الأولى من كتاب "الشفا"، ابن سينا، ضِمن كتاب فن الشعر لأرسطو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973م، (ص: 161 - 162).
[43] "تلخيص كتاب أرسطُوطاليس في الشِّعر"، ابن رُشْدٍ الحفيد، ضِمن كتاب فنّ الشعر لأرسطو، ترجمة عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1973، (ص: 213 - 214).
[44] "في الشعر"، أرسطُو، نَقْل أبي بِشر متَّى بن يُونُس القنائي من السريالي إلى العربي، حَقَّقه مع ترجمةٍ حديثةٍ ودِراسةٍ لتأثيرِه في البَلاغة العربية شُكري مُحمَّد عَيَّاد، دار الكتاب العربي للطباعة والنَّشْر، القاهرة، 1386هـ/1967م، (ص: 140).
[45] "في الشِّعر"، أرسطُو، ترجمة شُكري عَيَّاد، (ص: 64 - 66).
د. عبدالجليل شوقي