نقوس المهدي
كاتب
(1 ـ 3)
" احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
أوجست رودان
" السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
تودوروف
" قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل
ـ 1 ـ
يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
***
ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
***
إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
***
واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
***
إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
***
يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
***
ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..
.../...
" احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
أوجست رودان
" السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
تودوروف
" قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل
ـ 1 ـ
يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
***
ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
***
إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
***
واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
***
إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
***
يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
***
ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..
.../...