نقوس المهدي
كاتب
حلت الأيام الأولى ليوليوز في سانتياغو ديل إيسترو، حاملة معها رياحاً باردة صفيرها ينذر بشتاء أشد قسوة من المعتاد. غبار رمادي كان كما لو أنه معلق في الهواء، و الأشجار العارية كانت تنحني لكل عصفة ريح حد الانكسار. وحدها أشجار الشوك السامقة كانت تتحدى الزوبعة بوجهها الشائك المسطح ثم في النهاية ترضخ للسقوط، كاشفة عن أن الشجاعة مهما بلغت من ذروة، ورغم السيقان الضاربة جذورها عميقاً في التربة، فإن لا حول لها ولا قوة أمام الهجمة الشرسة للرياح. الكل كان شاحباً كمشهد ثلج وسخ، لكن لم يكن هناك ثلج ولا خضرة. أنين البراري والأشجار الشوكية ضاعف من حدة هذا البرد الذي كان يتزحلق على هياكل يابسة هي الأخرى بيضاء لحيوانات نافقة. داخل كوخ متداع محاط بسياج من الكاكتوس المهمل، كانت الريح تضرب كما لو أنها غزوة ريفية. ولم يكن إغلاق الباب الخشبي المنقوش الذي هو مدعاة فخر واعتزاز كل أفراد العائلة، بقادر على صد هجماتها: سقف القش والجدران المكونة من صفائح معدنية متماوجة وخرق غليظة، لم تكن كافية لتمنح أدنى حماية. متحولقين حول نار تلفظ أنفاسها الأخيرة، أوروصمان (الأب)، بيليصاريا (الأم)، الأطفال الثمانية والجدة، كلهم كانوا يبحثون عن حرارة أكبر من حرارة جمرات شبه مطفأة، إنها الحرارة الإنسانية. كان الرضيع ابن الأربعة عشر شهراً يبكي داخل سلة من قصب مخصصة لنقل الثمار، وكانت بيليصاريا تتساءل عما ستفعله بالآخر الذي على وشك الخروج إلى الحياة. وأتى صوت أكبر أولادها، أوريصتي منبعثاً من عمق الصمت، كما لو أنه يرد على تساؤلها: ـ لا يمكن أن نستمر على هذه الحالة.. لنذهب إلى توكومان ـ أجل إلى توكومان، إلى توكومان.. ردد الأطفال بصوت واحد.. ـ قيل لي إن في المدينة إنارة، والبيوت كبيرة ومتينة والريح لا تدخلها. وفي عصبية، أردف أوريصتي: ـ دون زويلو قال إن العمل هناك متوافر. والحاجة إلى السواعد كبيرة في حقول السكر. قال أيضا إن المال هناك كثير. ـ دون زويلو ذهب السنة الماضية لجني القصب. يقول إنه صار عجوزاً ولم يعد يستطيع العودة إلى هناك، وهو يبيعك عربته مقابل المعزات والنعجتين. إذ هناك لن نحتاج إليها. ويرد أوروصمان محتجاً: ـ أو سنذهب مع أمنا ونحن في هذه الحالة؟ وكما لو أنها غير مهتمة بما يدور حولها من كلام، قالت بيليصاريا: ـ أنا سأذهب على كل حال. ـ والجدة الطاعنة في السن. ـ أنا أريد الانتقال إلى المدينة، الجو دافئ هناك وأريد أن أعيش أيامي الأخيرة في ظروف حسنة. في تلك الليلة، نام الجميع، داخل الكوخ، نوماً عميقاً يدثرهما الأمل مثل غطاء. وفي صباح اليوم التالي، بلغت الحركة ذروتها. بداية كان الحديث مع دون زويلو الذي إضافة للمعزات والنعجتين، أراد الباب أيضاً بديلاً للعربة. كانت تلك عملية مستحيلة، لأن الانفصال عن الباب كان خروجاً عن الأعراف والتقاليد: حُفِر على سطح الباب خمسة عفاريت وفوقهم عالياً شكل ملاك يطارهم. كان الملاك أكثر بشاعة من العفاريت، لكن ذلك كان خطأ أوروصمان الذي نقشه هناك في دير المبشرين، دون أن يكون على دراية بالنقش على الخشب. ورغم ذلك فالرهبان اثنوا على عمله بقولهم إن بابه جميل جداً، وسيضعونه في المصلى، وبدل أن يفتخر بذلك، فر هارباً في نفس مساء ذلك اليوم على حصانه، والباب في السرج، إذ أنه لم يرد أن يكون الباب في ملك الرب بل في ملكه هو وعائلته. واليوم لن ترغمه عربة مهترئة ذات خشب غليظ مستدير ودون غطاء للبضائع على التفريط فيه، ولو أن في سانتياغو ديل إيسترو ليس هناك أفضل منها لجني قصب السكر. وأسفرت المبادلة في نهاية الأمر على أن تكون العربة لهم مقابل الماشية فقط. الجياد تقفز جذلانة تحت ثقل الرحل الذي لخمس سنوات وهو مركون في ناحية من المسكن الخرب. السياط الجلدية الطويلة المستعمل لطرد الذباب تدغدغ مؤخرات الجياد التي كانت تسترجع نشاطاً افتقدته زمناً طويلاً. أوروصمان والأطفال ينقلون دون تلكؤ أكياس الذرة وكل ما تعثر عليه أيديهم في الكوخ. وشيئاً فشيئاً، أخذت العربة تمتلئ، إلى أن صار المتاع كله يجثم على عجلاتها: الخرق التي كانت تعضد جدران الكوخ استعملت في تلفيف الأواني وأشياء أخرى، قش السقف الذي كان يسد الثقب حول إلى فراش. وحدهما عمودان، ظلا واقفين، مثل صليب مغروس على قبر الكوخ المتداعي الذي أبداً لن يعودوا إليه. خاطبهم دون زويلو وهو جالس القرفصاء ، يشرب جعته المحلية: ـ اعملوا بنصيحتي، ارحلوا إلى المدينة، هناك يُشغل الناس، وستتقاضون أجوراً جيدة. لا تقبلوا العمل في الحقول، اذهبوا إلى داخل المدينة. كانت تلك كلمة وداعه. فرقع أوروصمان الكرباج في الهواء فاهتزت العربة متحركة. نزل الليل صقيعياً في عمق الطريق، فاضطروا إلى التوقف. سخنوا طعامهم على نار تؤججها الريح، ثم ناموا داخل العربة، متكومين بين العلب والقش. وكما لو كان وعداً منها، قادتهم شمس الفجر الشاحبة إلى الطريق المؤدية رأسا إلى المدينة. الجبل توارى بعيداً خلفهم بيد أن مشهد النباتات المتفرقة كان يأبى أن يتغير. السماء، ومع نزول المساء تدريجياً، شرعت تأخذ لها درجة من اللون الرمادي المثير للتقزز، إلى حد أن على خط الأفق، مزج الضباب السماء بالأرض. أطبق عليهم الليل، على جوعهم وبرودة أجسادهم. حين واصلوا طريقهم، شاهدوا الحقول على جانبي الطريق، تتحول إلى خضرة وزرع: المدينة كانت قريبة. فجأة، سمع دوي انفجار هائل، اهتزت له فرائصهم. ثم انفجار آخر، و آخر. ـ إنها المدافع، قال أوريصتي بصوت خافت جداً. قيل لي إن المدافع هي التي تحدث مثل هذا الدوي فيرتعد الجميع. ـ لا تنطق بالتفاهات، أيها الصغير، إنه ضجيج المدينة الكبيرة، قال أوروصمان.. وضرب الجياد بالسياط حاثاً إياها على الإسراع. وأفضوا إلى الشارع الكبير المحفوف بالمنازل والحدائق. حشد من الناس على الأرصفة كانوا يتجهون بخطى واثقة نحو وسط المدينة. العربة تتبعهم، لفت على ساحة، دخلت درباً ضيقاً، وفجأة، وعند ملتقى طرق، وجدت العربة نفسها خلف ثلة من جنود، تحركوا سائرين بناء على أمر. ساروا خلفهم. الدور العالية كانت تزينها أعلام زرقاء و بيضاء، وكان هناك حشد كبير من الناس، كما لو أن العالم كله اتفق على موعد للهتاف والغناء. سيارات وموتوسيكلات كانت تدفع العربة نحو الساحة الكبرى، أصاب الخوف الشديد أوروصمان وأفراد عائلته، فاستسلموا للتيار المندفع. واتسعت حدقات أعينهم رعباً لمرأى دبابات تتجه نحوهم. صاح فيهم جندي: ـ تحركوا، تحركوا، أنتم ترون جيداً أننا لا نستطيع التوقف هنا. فرقة الموسيقى العسكرية تحرك الطبول في شكل دائري، و التيار البشري يقودها. اقترب منهم رقيب عسكري يمتطي صهوة حصان و صرخ فيهم أن يغادروا المكان سريعاً.. ـ ألا ترون أن المرور هنا ممنوع؟.. لم تعد الجياد تستجيب تماماً للقيادة، والأطفال يبكون مختبئين تحت القش. مروا من أمام لافتات كبيرة كتب عليها "الذكرى المئة والخمسون.." كانت الكلمات صعبة لم يتمكنوا من قراءتها، وأجهشت بيليصاريا باكية في صمت، ذلك لأن المكان كان أشد قسوة من الجحيم، وتمنت أن تصلي للعذراء ماريا كي تخلصهم من هناك. وأخيرا أفضوا إلى درب يبتعد عن الساحة، رغم أن ذلك تطلب شق الطريق وسط الحشد. مروا من أمام باب بيت في أعلاه نافذتان طلي شباكيهما بالأخضر، و يبدو أن البيت كان مركز الجلبة والصخب. ـ انظروا إلى هذا الباب يكاد يكون جميلاً مثل بابنا صاح واحد من الأطفال. غير أن لا شيء كان بمستطاعه إثارة انتباههم، بما في ذلك شعلة الضوء التي انفجرت فجأة في الظلام راسمة ما يشبه دائرة حول محيط الكاتدرائية. في السماء، أشكال سيئة، شريرة، حمراء وخضراء، تشتعل وتنير وجوههم التي كانت تشبه أرواحاً معذبة. والعربة، هي الأخرى مثل روح متألمة، استسلمت للانقياد وسط زوبعة الهتاف والألوان التي اجتاحت المدينة. دوت المدافع من جديد. صمهم الصخب، و ما أن تحررت الجياد من الزحام الذي كان يعيقها، حتى حزمت أمرها وأسرعت تضرب بحوافرها على الإسفلت راكضة. ولم يتمكن أوروصمان من ثنيها عن الجري والسيطرة عليها، إلا حين اقتربوا من القرية وصارت المدينة مجرد بقعة حمراء في السماء تشبه غروب شمس. لم يتوقفوا ولكن أبطؤوا في السير، وواصلوا سباقهم إلى أن بلغوا الصليب الذي يقوم بحراسة المكان حيث كان ينتصب الكوخ. كان البرد لهم بالمرصاد كما لو كان في انتظارهم، وإيقاد نار بدا لهم ضرورياً بعد كل ما بذلوه من سير شاق دام ليلة ويوماً وما يقرب ليلة أخرى. كانوا في حاجة إلى نار لطرد الأرواح. و قال واحد من الأطفال وهو يئن:" لنحرق الباب" محاولاً دون جدوى إيقاد نار مستعيناً ببعض الجذوع الصغيرة التي تنش نشاً ضعيفاً. ـ إلا الباب.. صاحت بيليصاريا محتجة .. ـ ليس لدينا سواه، هو رفيقنا. وإذا ما أحرقناه فقد يجلب لنا ذلك الشقاء. خيم صمت طويل وحارق. ـ سيجلب لنا الشقاء إذا ما ماتت الجدة برداً، قال أوروصمان مصمماً. ودعوا الباب وهم يصلون، بيد أن اللهيب سرعان ما صار كبيراً وشرعت العفاريت تكشر لهم جميعا وللملاك متهكمة. ورغم ذلك، وجدوا في الحرارة عزاء ومواساة. وحين مر دون زويلو من هناك في اليوم التالي صباحاً، كانت الجمار لا تزال محمرة. وكم كانت دهشته كبيرة وهو يرى أوروصمان، زوجته، أمه وكل الأطفال، يصلون حول الصليب، الشاهد الوحيد على الكوخ. ـ ماذا تفعلون هنا؟.. سألهم دون أن يترجل من على صهوة جواده. سيتوجب عليكم البدء بكل شيء من جديد... ـ أجل، البدء بكل شيء من جديد، رد أوروصمان. وبدون باب يحمينا. لكننا فضلنا العودة، حتى وإن متنا برداً. وهو ينظر في يديه، أضاف: ـ لأن في توكومان، هناك الحرب.