ح
حسين السكاف حول رواية
يتخيّل الروائي السعودي مدينةً مليئة بالمشردين والتائهين. روايته «السماء ليست في كل مكان» تؤرّخ لذلك الصراع المرير بين أحلام المواطن ومزاجيّة الحاكم
«الفرق بيننا، أننا نطل على عالمكم، نراقبُه، نفهمه عن بعد. أنتم لا تقتربون من عالمنا. وأكثر من ذلك أنتم عاجزون عن فهمه، ولذا نحن دائماً أكثر تفوقاً». بمقولة صاحب رواية «عيون الطوارق» ألبرتو باثكث – فيكيروا هذه، يفتتح السعودي محمد خضر روايته «السماء ليست في كل مكان» (الدار العربية للعلوم ناشرون – نادي المدينة المنوّرة الأدبي). قد تكون مقولة باثكث – فيكيروا إشارة إلى تأثر الكاتب بأجواء “عيون الطوارق” حيث الصحراء بكل مفرداتها، إلا أن رواية محمد خضر، برموزها وطبيعة بنائها، تشير إلى رسالة ضمنية خفية، دُسَّت بعناية بين السطور. رسالة يعرف فك شيفرتها من ذاق التهميش، وعاش حياته مواطناً من الدرجة الثانية.
ليست منطقة إربة – مسرح الرواية – من صنع خيال المؤلّف، بل مدينة موجودة. إلا أنّ المؤلّف منحها اسماً مغايراً يدلّ على الحاجة والعوز، لتكون رمزاً يجمع بدلالته كل المدن التي سقطت سهواً من خريطة اهتمام المملكة. نجدها وقد ظهرت على شكل اقتراح طويل المدى، يؤرّخ ذلك الصراع المرير، بين أحلام المواطن ومزاجية الحاكم.
قد يجد القارئ في الرواية سرداً غرائبياً، لكنه في الحقيقة واقعيّ يميزه التغريب والرمزية، من خلال غياب دور البطولة المطلقة، وهيمنة الأحلام والأسطورة على الأحداث. هناك حضور مهيمن آخر، تستأثر به نبتة العُشرة السامة، إذ يسود اعتقاد بأنّ هذه النبتة تتحدث حين تهبّ الرياح ليلاً، وأنّ الجنّ يحومون حولها. كأنّ الكاتب يصوّر لنا حجم الوهم الذي يعيشه أبناء مدينته، مانحاً فكرته الأساس طقساً احتجاجياً تميزه الرمزية. لهذا، نجده وقد بدأ حكايته من الرمز المقدّس لبلده، ليصوره على شكل ينبوع مياه ساخنة، يؤمُّه الناس طلباً للشفاء. لكنّه لم ينسَ أن «العين الساخنة» تلك، كانت محط صراعات مستمرة، طلباً للجاه والثروة.
تأخذ أجواء الرواية شكلاً مسرحياً، فمساحة الحدث محدودة جداً رغم اتساع صحراء إربة. أما خشبة المسرح فتتمثل في مقهى “أبو عديس”، الشخصية الهاربة من إحدى قرى اليمن المجاور. «لا أحد البتّة يعرف أسرار كل شيء سوى أبو عديس، وحدهُ عرّاف الناس، حتى الغرباء منهم، ويعرف كل ما يدور في إربة هذه المنطقة التي ربيعها كوارث وصيفها جحيم وشتاؤها زرقة موت. فالربيع يعني موسم السيول التي لا تمرّ من دون أن تجرف بعض أرواح ساكني أكواخها».
المرأة في الرواية مرادف للبؤس والشقاء والتهميش. إذ نجد “زيّانة” المرأة الحاضرة في أغلب الأحداث، وقد فقدت عائلتها في حادثة سيل شهيرة، لتبقى في كنف عمها الذي يقرر حبسها في جحر مظلم، لكونه يتهمها بالفسق، والانحلال، لأنها خرجت للناس تحت تأثير الكارثة عارية – من دون عباءتها – وكانت تهذي وهي تشاهد السيل بأمّ عينها يبتلع أهلها. يرتفع الحدث الدرامي للرواية حين يقرر أبو عديس تخليص زيّانة من حبسها، ليخبئها في كوخه، ثمّ يقترح عليها ارتداء النقاب والعمل في المنطقة، من دون أن يتعرّف إليها أحد، لتصير كائناً غريباً داخل وطنها وبين أهلها بفعل النقاب.
في إربة كلّ شيء بدائي، كأنّها مدينة تعيش الماضي. فهناك من يحصّل قوته اعتماداً على الصيد، كما يفعل “العرّاد”. ولا وجود لمكان يحمل هامش المتعة في المنطقة، إلّا تلك الأحاديث التي تجري مساءً في المقهى الوحيد. «ميقات يصف أفكار مجيد بالخرافية والأسطورية. ومجيد ينعت ميقات بالسطحية والسلفية والتشدد، وأبو عديس يقول لهما: إنّ غصن القات هو الحل…!».
في إربة، يسأل شاب في العشرين من عمره عن معنى كلمة «إسفلت» الذي تطالب به بعض القرى المجاورة والبوادي. وهنا يمكن القارئ أن يتصوّر المنطقة على شكل سجن كبير، كما يدلّ عنوان الرواية «السماء ليست في كلّ مكان».
ثمّة مجموعة من البشر ظلت مهمشة داخل الرواية تماماً كما هي مهمّشة في الواقع. إنهم أصحاب الوشم، الذين يوشمون برسم يشبه عروق أوراق شجرة العُشرة السامة، كي لا يتسنّى لهم الانصهار في مجتمع المنطقة. «تظاهروا على وضع الوشم في سواعدهم، أسوة بالحيوانات، وأنّ لهم الحق في العيش مثل أهل إربة الأصليين بحقوقهم، وفي مستواهم…».
إربة المليئة بالمشردين، والتائهين عن دروبهم، وأصحاب الوشم الممزقين؛ إربة التي تتجسد مثل وحش أحياناً، ومثل ملاك وديع في أحيان أخرى، تبتلع الناس من دون أن تتذكرهم. «فلا ذاكرة يتداولها الناس في هذه البقعة، إلا أنها تبقى غصة في روح أبنائها».
حسين السكاف
كاتب وناقد فني
جريدة الأخبار اللبنانية *
«الفرق بيننا، أننا نطل على عالمكم، نراقبُه، نفهمه عن بعد. أنتم لا تقتربون من عالمنا. وأكثر من ذلك أنتم عاجزون عن فهمه، ولذا نحن دائماً أكثر تفوقاً». بمقولة صاحب رواية «عيون الطوارق» ألبرتو باثكث – فيكيروا هذه، يفتتح السعودي محمد خضر روايته «السماء ليست في كل مكان» (الدار العربية للعلوم ناشرون – نادي المدينة المنوّرة الأدبي). قد تكون مقولة باثكث – فيكيروا إشارة إلى تأثر الكاتب بأجواء “عيون الطوارق” حيث الصحراء بكل مفرداتها، إلا أن رواية محمد خضر، برموزها وطبيعة بنائها، تشير إلى رسالة ضمنية خفية، دُسَّت بعناية بين السطور. رسالة يعرف فك شيفرتها من ذاق التهميش، وعاش حياته مواطناً من الدرجة الثانية.
ليست منطقة إربة – مسرح الرواية – من صنع خيال المؤلّف، بل مدينة موجودة. إلا أنّ المؤلّف منحها اسماً مغايراً يدلّ على الحاجة والعوز، لتكون رمزاً يجمع بدلالته كل المدن التي سقطت سهواً من خريطة اهتمام المملكة. نجدها وقد ظهرت على شكل اقتراح طويل المدى، يؤرّخ ذلك الصراع المرير، بين أحلام المواطن ومزاجية الحاكم.
قد يجد القارئ في الرواية سرداً غرائبياً، لكنه في الحقيقة واقعيّ يميزه التغريب والرمزية، من خلال غياب دور البطولة المطلقة، وهيمنة الأحلام والأسطورة على الأحداث. هناك حضور مهيمن آخر، تستأثر به نبتة العُشرة السامة، إذ يسود اعتقاد بأنّ هذه النبتة تتحدث حين تهبّ الرياح ليلاً، وأنّ الجنّ يحومون حولها. كأنّ الكاتب يصوّر لنا حجم الوهم الذي يعيشه أبناء مدينته، مانحاً فكرته الأساس طقساً احتجاجياً تميزه الرمزية. لهذا، نجده وقد بدأ حكايته من الرمز المقدّس لبلده، ليصوره على شكل ينبوع مياه ساخنة، يؤمُّه الناس طلباً للشفاء. لكنّه لم ينسَ أن «العين الساخنة» تلك، كانت محط صراعات مستمرة، طلباً للجاه والثروة.
تأخذ أجواء الرواية شكلاً مسرحياً، فمساحة الحدث محدودة جداً رغم اتساع صحراء إربة. أما خشبة المسرح فتتمثل في مقهى “أبو عديس”، الشخصية الهاربة من إحدى قرى اليمن المجاور. «لا أحد البتّة يعرف أسرار كل شيء سوى أبو عديس، وحدهُ عرّاف الناس، حتى الغرباء منهم، ويعرف كل ما يدور في إربة هذه المنطقة التي ربيعها كوارث وصيفها جحيم وشتاؤها زرقة موت. فالربيع يعني موسم السيول التي لا تمرّ من دون أن تجرف بعض أرواح ساكني أكواخها».
المرأة في الرواية مرادف للبؤس والشقاء والتهميش. إذ نجد “زيّانة” المرأة الحاضرة في أغلب الأحداث، وقد فقدت عائلتها في حادثة سيل شهيرة، لتبقى في كنف عمها الذي يقرر حبسها في جحر مظلم، لكونه يتهمها بالفسق، والانحلال، لأنها خرجت للناس تحت تأثير الكارثة عارية – من دون عباءتها – وكانت تهذي وهي تشاهد السيل بأمّ عينها يبتلع أهلها. يرتفع الحدث الدرامي للرواية حين يقرر أبو عديس تخليص زيّانة من حبسها، ليخبئها في كوخه، ثمّ يقترح عليها ارتداء النقاب والعمل في المنطقة، من دون أن يتعرّف إليها أحد، لتصير كائناً غريباً داخل وطنها وبين أهلها بفعل النقاب.
في إربة كلّ شيء بدائي، كأنّها مدينة تعيش الماضي. فهناك من يحصّل قوته اعتماداً على الصيد، كما يفعل “العرّاد”. ولا وجود لمكان يحمل هامش المتعة في المنطقة، إلّا تلك الأحاديث التي تجري مساءً في المقهى الوحيد. «ميقات يصف أفكار مجيد بالخرافية والأسطورية. ومجيد ينعت ميقات بالسطحية والسلفية والتشدد، وأبو عديس يقول لهما: إنّ غصن القات هو الحل…!».
في إربة، يسأل شاب في العشرين من عمره عن معنى كلمة «إسفلت» الذي تطالب به بعض القرى المجاورة والبوادي. وهنا يمكن القارئ أن يتصوّر المنطقة على شكل سجن كبير، كما يدلّ عنوان الرواية «السماء ليست في كلّ مكان».
ثمّة مجموعة من البشر ظلت مهمشة داخل الرواية تماماً كما هي مهمّشة في الواقع. إنهم أصحاب الوشم، الذين يوشمون برسم يشبه عروق أوراق شجرة العُشرة السامة، كي لا يتسنّى لهم الانصهار في مجتمع المنطقة. «تظاهروا على وضع الوشم في سواعدهم، أسوة بالحيوانات، وأنّ لهم الحق في العيش مثل أهل إربة الأصليين بحقوقهم، وفي مستواهم…».
إربة المليئة بالمشردين، والتائهين عن دروبهم، وأصحاب الوشم الممزقين؛ إربة التي تتجسد مثل وحش أحياناً، ومثل ملاك وديع في أحيان أخرى، تبتلع الناس من دون أن تتذكرهم. «فلا ذاكرة يتداولها الناس في هذه البقعة، إلا أنها تبقى غصة في روح أبنائها».
حسين السكاف
كاتب وناقد فني
جريدة الأخبار اللبنانية *
التعديل الأخير بواسطة المشرف: