نقوس المهدي
كاتب
نشر في العلم يوم 05 - 02 - 2010
ليس من قبيل الصدفة أن تبدو لنا جمهورية أفلاطون اليوم، كنظام «كلياني» يعبر عن تصور تنميطي للإنسان. وتسعى هذه الجمهورية، بالطريقة التي انتظمت فيها حياة حراس المدينة، إلى إقامة جماعة غير متمايزة جنسيا، عبر إلغاء الزوج [أب/أم] وليس الزوج [رجل/مرأة]. والحال، أن الرجل كأب والمرأة كأم، هما اللذان يشكلان بالضبط الزوج المهيكل تقليديا للمجتمعات. فالإلغاء الأفلاطوني للأسرة، الذي فسح المجال أمام «شراكة النساء» ? بالمعنى الذي لا يمكن فيه لأي رجل أن يقترن دائما وحصريا مع امرأة- أثار على مر الأزمنة تعليقات غزيرة، حيث رأى فيه الكثيرون جانبا «حديثا» من فكر أفلاطون المؤيد لتساوي شروط الجنسين. ويبدو لي بالأحرى، أنه يعبر عن مجهود مبذول لاختزال الاختلاف بين الجنسين ما أمكن؛ وهو المجهود المقترن باللامبالاة تجاه النساء ودورهن والتي يمكن فهمها من خلال الاحتقار الأفلاطوني للإنجاب وتقريظ عشق الأطفال، الواردين في محاورة «المأدبة».
لذلك، فأنا أريد باختياري لأرسطو ضد أفلاطون، اقتراح الفكرة التي مفادها أن اليوتوبيا الأفلاطونية تعلن عن حلم بالصفاء التشاركي الذي ليس غريبا عن تقريظ اللواطية من طرف فلسفة أفلاطون. فلدى هذا الأخير يوجد إنكار للاختلاط، تعبر عنه في نفس الآن، فكرته حول الحب في محاورة «المأدبة» وفكره السياسي في محاورة «الجمهورية» وميتافيزيقاه الموجودة بكل أعماله والتي حدث بمقتضاها، الفصل المثالي بين المحسوس والمعقول. فهل ستكون الجمهورية يوتوبيا مثلية جنسية؟ وهل هناك رابطة بين الميتافيزيقا والخوف من الاختلاط؟
من جانب آخر، عادة ما يصنف أرسطو في خانة المنظرين «الأكثر عدائية للمرأة»، لأن الجنسين عنده يخضعان دوما للتراتبية. ومع ذلك، فإن فكر أرسطو هو أقل رهبة من فكر أستاذه، لأن مؤسس «اللقيوم» هو مفكر الاختلاط. ويعتبر اجتماع الرجل والمرأة بالنسبة إليه أساسا لما هو سياسي، في حين أن أفلاطون يوحد المدينة بشكل سلطوي ويمحي التمايز الاجتماعي والثقافي للجنسين، واضعا فاصلا بين الجانب الحيواني للبشر [الذين يتزاوجون ويتناسلون لتحسين العرق] وجانبهم السياسي [الذي يؤهلهم لخدمة مدينتهم بشكل أفضل].
وبالفعل، فنحن نعلم بأن أرسطو أسس ضرورة الزوجين على الميل الطبيعي للإنجاب: «فأول اجتماع ضروري هو اجتماع كائنين، لا يمكن لأحدهما أن يوجد بمعزل عن الآخر، وذلك هو شأن الذكر والأنثى بخصوص الإنجاب». إن استحالة «وجود الواحد بمعزل عن الآخر» تهم الرجل والمرأة قبل أن تهم البشر عموما أو القرية أو المدينة، لأنهما يريدان أن يتركا وراءهما كائنا يشبههما. وقبل أية علاقة فإن التبعية المتبادلة بين الجنسين هي التي تحتم اختلاط الاجتماع الإنساني الأولي والهم المشترك للحصول على ذرية؛ كما أنها تخلق علاقات اقتصادية ووجدانية وسياسية.
هكذا، فإن سياسة أرسطو تبدأ بسياسة الجنسين. فالتبعية المتبادلة بين الرجال والنساء وضرورة تعايشهم، يشكلان في نفس الآن،مبدأ وأصل ما هو سياسي. ولتنظيم هذا التعايش، سيكون من اللازم القيام بالهيكلة التراتبية المحددة للأسرة، لأن الاجتماع الأسري يؤسس سلطة «الذكر الأكبر سنا» و»تنتظم الأسرة برمتها وفق الشكل الملكي».1 وهو ما يبين لماذا تعتبر الأسرة عند أرسطو هي أول اجتماع إنساني.
ومهما بلغت المركزية الذكورية واللامساواتية، المميزتان لهذه السياسة التي تسمح للرجال وحدهم ببلوغ المواطنة الحقة، فإنها تفضل على اليوتوبيا الأفلاطونية، لأنها تحاول تحديد مكان للنساء، في حين كان أفلاطون يتجاهل العلاقة بين الجنسين داخل المدينة. ومبرر ذلك، أن مؤلف «الجمهورية» لم يكن يعطي أية أهمية لهذا الاقتران بين الجنسين، الذي كان يبدو ضروريا بالنسبة لأرسطو.
ويرجع اختلاف مقاربة الفيلسوفين الإغريقيين للعلاقة بين الجنسين أساسا، إلى المكانة القيمة التي أعطياها للتناسل. فأن يكون للمرء ذرية، معناه بالنسبة لأرسطو، الاستجابة لرغبة قوية جدا لدى الكائنات الإنسانية عموما، كما أن هذا الأمر شرط بديهي لبقاء الدولة. أما بالنسبة لأفلاطون، فإن التناسل على العكس، هو ضرورة بالنسبة للمدينة، لكنه لا يهم الأفراد كثيرا. وستزداد لا مبالاة هؤلاء الأفراد بهذا الخصوص، كلما سمت أرواحهم. لذلك تم تصور مسألة الأطفال من طرف حكام الجمهورية، كمشكل سياسي. فهم عالجوها من زاوية كمية للحفاظ على عدد قار من المواطنين ومن زاوية كيفية لانتقاء الرضع. ويتعين على مسيري المدينة أن يتدبروا الولادات باسم المقتضى السياسي للجمال ولجودة «العرق الإنساني»، مثلما نفعل بالنسبة «لتربية الكلاب والطيور والجياد».
هكذا سينظم الحكام سريا، اقتران رجال ونساء النخبة من بين حراس المدينة وعن طريق اقتراع مزور من طرفهم، بحيث لا يربى سوى أطفال هذه النخبة وليس أطفال «الحثالة». وتبين ضرورة القيام بالإجراءات السرية واللجوء إلى الحيلة، بما لا يدعو إلى الشك، كيف أن الأفراد لن يقترنوا فيما بينهم تلقائيا، بل وفق المعايير المحددة من طرف الحكام. وحينما افترض أفلاطون رضى الحراس بإجراء الاقتران عن طريق القرعة، فإنه كشف لنا عن خضوع الأفراد كقطيع سلبي، مؤكدا على الطبيعة السلطوية المبالغ فيها للنظام.
إن الأطفال المولودين بهذا الشكل، سيتلقون التربية داخل هذه المدينة على يد موظفين مختصين. ولا يجب على الأطفال أن يتعرفوا على من أنجبهم مثلما لا يجب على هؤلاء الرجال التعرف على ذريتهم.(2) ومن جانبهم، فإن الموظفين الذين يعتنون بهؤلاء الأطفال، مطالبون «باستخدام كل عبقريتهم» لمنع النساء اللواتي يأتين لإرضاع الصغار، من «التعرف على الرضيع الذي وضعنه». هكذا، فبدل البنية الأسرية التي تجمع بين الرجل والمرأة، أقام أفلاطون شراكة للنساء وللأطفال، مانعا في نفس الوقت، كلا من البنوة والزواج، ما دام غير مسموح لأي رجل بالارتباط مع امرأة بشكل خصوصي.
ويمكن للمرء أن يعتبر هذا الإلغاء للأسرة كوسيلة جذرية لتحرير النساء من الهيمنة الذكورية، ما دامت سلطة الرجل على المرأة تمارس تقليديا داخل الأسرة. وسيبدو وكأن أفلاطون يدافع عن قضية المرأة، خصوصا وأنه رفض في الفصل الخامس من «الجمهورية»، إعطاء الشرعية للتقسيم الجنسي للأعمال. وسواء تعلق الأمر بممارسة الموسيقى أو بخوض الحرب، فإن المسألة لم تكن ترجع إلى الجنس، بل إلى الموهبة الشخصية لكل واحد. ويتعين علينا انتظار جون ستيوارت ميل، كي يتجرأ فيلسوف من جديد على إعطاء النساء فرصة للبرهنة بشكل فردي عن كفاءتهن.
فهل كان أفلاطون نسوانيا قبل الأوان؟ في الواقع، علينا ألا نؤمن كثيرا بمثل هذا الخلط في التواريخ. فعدم التمييز الأفلاطوني يسن الجنسين بخصوص توزيع المهن والوظائف الاجتماعية عموما، كان ثمنه في الحقيقة، هو احتقار الاختلاف الجنسي الذي يستحق المساءلة. وبالفعل فقد اعتبر أفلاطون بأنه من وجهة نظر سياسية، لا يكتسي الاختلاف بين الجنسين أية أهمية، شأنه في ذلك، شأن الاختلاف بين الصلع وذوي شعر الرأس. فليس هناك أي مبرر لمنع هؤلاء وأولئك من مزاولة مهنة الإسكافي بسبب هذا الاختلاف، مثلما لا يمكن منع النساء من مزاولة مهنة ظلت إلى حد الآن مخصوصة للرجال. فالاختلاف بين الرجال والنساء، مثل الاختلاف بين الصلع وذوي شعر الرأس، هو في الواقع اختلاف نسبي وليس مطلقا. فهو نسبي بخصوص الإنجاب مثلما أن التمييز بين الأصلع وغير الأصلع يخص الشعر. وبالرغم من ميلنا إلى الاتفاق مع هذا الاستدلال، فإننا نتساءل مع ذلك، عما إذا لم يكن من الضروري ضبط صلاحية ونتائج هذه النسبية الخالصة للاختلاف بين الجنسين.
لقد اكتفى أفلاطون بالقول بخصوص هذا الاختلاف، إن النساء «يضعن المولود» في حين أن الرجال «ينجبون». ووفق هذه الرؤية الإغريقية التي سبق أن عبر عنها إخيلوس، فإنه يتبين بأن الرجل هو الوالد الحقيقي للطفل، رغم أن هذا الأخير انبثق من الجسد الأنثوي. وكيفما كان الحال، فإن أفلاطون لا يعتبر هذا الاختلاف مبررا كافيا للتأمل في دور النساء والرجال داخل المدينة. ولا غرابة في ذلك، بالنظر إلى الطريقة التي عولج بها الإنجاب.
وبإمكاننا مع ذلك، الاعتراض على صلاحية تشبيه الجنس بالشعر. فإذا ما تركنا جانبا كل التداعيات اللاشعورية، يبدو أن بين الصلع وذوي الشعر، هناك فئات وسيطة متعددة. فعلى مستوى نقصان أو فقدان الشعر، توجد كل الدرجات. لهذا، فإن اختلافا بهذا الشكل، يشبه اختلاف الألوان، بحيث توجد كل التنويعات الممكنة؛ في حين لا يوجد وسيط بين ما هو أنثوي وما هو ذكوري.
ومهما بدا عدم التمييز بين الجنسين في الجمهورية الأفلاطونية حديثا، وهو ما يدعو إليه من جديد، جمهوريونا راهنا، فإنه لا يجب علينا أن نخلط بين عدم التمييز هذا وفكرة المساواة بين الجنسين على مستوى الوضعية، وهي الفكرة التي تحتل مكان الاختلاف؛ كما لا يجب علينا فصله عن مجموع الإجراءات المتوقعة من طرف الجمهورية، أي محو الزوج الأبوي وهدم الروابط الأمومية والأبوية مع الأطفال.
ولتفعيل المساواة بين الجنسين، بدا مفيدا بالنسبة لأفلاطون، إنكار أي دور حاسم للاختلاف الجنسي في تقسيم العمل. لكن الاختلاف الجنسي فقد معناه، بمنع إقامة روابط الزواج والبنوة، وألغيت الهيكلة الاجتماعية المؤسسة على القرابة. هكذا، قطعت المدينة الصلة مع مؤسسة الزوج الأبوي المختلط ومع الأسرة. وبمحوها لإمكانية تعرف المنجبين على أطفالهم، منعت هؤلاء أيضا من التعرف على آبائهم وبالتالي معرفة أصلهم المزدوج، الذكوري والأنثوي، من خلال الأب والأم.
وهذا بدون شك، جانب من بين جوانب أخرى، لهذا التنظيم اللاإنساني. لكن السؤال المطروح، هو معرفة ماذا سيتبقى من الهوية الجنسية، عندما تلغى الوظائف الأمومية والأبوية، أي الرابطة الطبيعية التي تأسست مع الذرية.
إن الكائنات التي تتزاوج وفق القرعة وتنجب أطفالا لن تربطها بهم أية علاقة، هي مجرد قطيع شبيه بالحيوان. فالأفراد هم ذكور وإناث بفضل أعضائهم التناسلية، لكنهم ليسوا أزواجا ولا زوجات وليسوا آباء ولا أمهات. إنهم ليسوا من نادوهم بالضبط رجالا ونساء . وبشكل عام، فإن تنظيم الجماعة يظل غريبا عن الاختلاف بين الجنسين. فمن غير المؤكد وجود رجال ونساء في هذه الجمهورية؛ ومثل هذا الأمر يمكن أن يثلج الصدر. لكن اختزال الاختلاف في وظيفته البيولوجية، لا يمكنه أن يكون على حساب المساواة الحقيقية بين الرجال والنساء، لأنه لن يكون للمساواة معنى في غياب الحرية، كما هو الحال هنا. فالتضحية بالأفراد في سبيل نظام المدينة، هو الذي يفسر بالأحرى افتقاد رغباتهم وهويتهم الجنسية لأي معنى.
إن قراءة محاورة «المأدبة»، تؤكد ما هو مقروء في محاورة «الجمهورية»؛ وتبين أنه إذا كان التناسل مشكلا سياسيا بالخصوص ويستوجب المعالجة بطريقة شمولية وسلطوية، فإن ذلك راجعا إلى كون الرغبة الفردية في الحصول على أطفال، لا قيمة لها لدى أفلاطون، اللهم بالنسبة «للعامة» التي يمكنها الاعتقاد بأنها تلبي رغبتها في الخلود عبر تخصيب الأجساد. ويمكن لامرئ من هذا القبيل أن يرغب في ترك ذرية من بعده «ويتجه صوب النساء». لكن النفوس الشغوفة بحب الخلود الحقيقي، لن تلبي رغبتها إلا بحب ما هو حقيقي، أي بتخصيب النفوس وليس الأجساد. هكذا، فإن الرجال الباحثين فعلا عن الخلود، سيتجهون صوب النفوس الأكثر قدرة على السمو، وهي نفوس الأولاد. وستكون العلاقة الغرامية، إن لم نقل الإيروتيكية، بين المعلم والتلميذ، جديرة بالتقدير ومرغوبة أكثر من الحب القائم بين الرجل والمرأة.
ويجب علينا أن ندرك هذا التقسيم الثنائي للحب وهذا الاحتقار للإنجاب وللمرأة، الواردين في محاورة «المأدبة»، لكي نفهم اللاتمييز المطلق الذي عولجت به مسألة العلاقة بين الجنسين والعلاقة بالأطفال، في محاورة «الجمهورية». فأصداء المحاورة الأولى تظل قائمة، أينما وجد تقابل بين النفس والجسد وحيثما انفصل أحدهما عن الآخر، سواء في الفلسفة أو في النزعة الإيروتيكية وإذا ما كان هناك فضل للاختزال الأفلاطوني بين الجنسين عبر تذويب الأسرة، فإنه يتمثل وبشكل مفارق، في توضيح واقعة أكدها الأنثروبولوجيون، وهي أن الرجل والمرأة لا يمكنهما أن يعرفا فقط من خلال اختلافهما العضوي أو الفيزيولوجي. فالزوج، ذكر وأنثى ليس اختلافيا بهذا المعنى فقط، لأنه يدرج العلاقة بين الجنسين ضمن مشروع مشترك وهو التساكن وضمان مستقبل للكائنات الفانية.
إن المرأة ترتبط بالرجل كرفيق ممكن وكأب لأبنائها، كما أن الرجل يرتبط بالمرأة كرفيقة ممكنة وكأم لأبنائه، وهما يعرفان ككائنين مختلفين جنسيا، في علاقتهما أساسا بهذا العنصر الثالث، الذي لا يمكنه أن يولد إلا باجتماعهما. وإذا ما تجاهلنا العلاقة بالذرية أو نزعنا عنها كل رابطة اجتماعية، مثل الزواج والبنوة، فإن الاختلاف بين الرجال والنساء لن يكون له معنى، بل ستصبح الهوية الجنسية للأشخاص بدون أهمية. هكذا، تبدو الأبوة أو الأمومة، كبرهان حقيقي على الاختلاف بين الجنسين؛ ولا نعتقد بأن هناك حجة أقوى من هذا البرهان. أما الطفل الذي تم تشكيله بالمختبر ? كنتاج للذات الفردانية الحديثة ? فإنه يشبه يتامى النظام الجماعي الأفلاطوني، لأنه لا يتوفر على أصول.
حاولت إذن، أن أبين كيف أن التراتبية الأرسطية للجنسين تركت الباب مفتوحا في التاريخ، للعلاقة بين الرجال والنساء، أكثر مما فعلته اليوتوبيا الأفلاطونية بتحييدها لهذين الجنسين. وفيما وراء سؤال الأسرة والمدينة، يتعين علينا هنا، إثارة إتيقا الاختلاف بين الرجل والمرأة. ونادرا ما عولجت هذا المسألة فلسفيا ، اللهم إذا ما استثنينا محاولة لفيناس.(3) فهذا الفيلسوف هو الذي تحمل مسؤولية الحديث عن الجنسانية كرجل وليس عبر مماهاة الوضعية الذكورية بوضعية ذات كونية غير جنسية. فقد أثار مسألة الخصوبة انطلاقا من تجربة الأبوة، واضعا تأمله تحت توقيع ذكوري واضح. وأهم شيء ضمن فكر لفيناس المتعلق بقضيتنا، يهم الطريق التي وصف بها الخصوبة كحدث. فبالنسبة إليه، إن ميلاد طفل يتعالى دوما على كل مشروع ذاتي ويتجاوز كونه نتاجا لصناعة متحكم فيها تقنيا؛ وأضيف ، حتى ولو كانت مبرمجة أو خاضعة للعناية الطبية. فأن يصبح المرء أبا أو أما، ليس معناه أن الأمر ناتج عن رغبة أو إرادة، بل هو قبول لحدث يتجاوز كل قرار متحكم فيه. والخصوبة هي ذلك الحدث الذي يجعلني متساميا ومنفتحا على غيرية هذه الحياة المنبثقة مني ومن آخر، بحيث يبدأ وجود حر انطلاقا منها. ولذلك كانت عبارة عن تجربة مميزة للآخر.
إن دلالة هذه التجربة، تعني أن الخصوبة ليست مسألة أنثربولوجية فقط، بل هي مسألة فلسفية أساسية ما دام بإمكان تعالي الآخر أن يتجلى عبرها. ولا تنحصر المشكلة في كون الرجل والمرأة لا غنى لبعضهما عن بعض، وإن كانت هذه الصيغة ذات دلالة قوية؛ ولكن يجب أن نعرف أيضا بأن الرجل والمرأة مسؤولان، الواحد أمام الآخر؛ وهذه المسؤولية تتجاوزهما معا. ومن المؤكد أن ما يتجاوزهما، أي الذرية، يشكل في نفس الوقت مصدر تبعيتهما المتبادلة ورهان صراعاتهما.
------------------------------------
الهوامش:
1) Politique, I, 5, 1252, b.
2) La République, V.
3) Voir, Totalité et infini, Essai sur l?extériorité, Martinus Nijhoff Publishers, La Haye, 1961
اقتطف هذا النص من مؤلف:
Sylviane Agacinski, Politique des sexes, ed. du Seuil, 1998, pp. 137/146
ليس من قبيل الصدفة أن تبدو لنا جمهورية أفلاطون اليوم، كنظام «كلياني» يعبر عن تصور تنميطي للإنسان. وتسعى هذه الجمهورية، بالطريقة التي انتظمت فيها حياة حراس المدينة، إلى إقامة جماعة غير متمايزة جنسيا، عبر إلغاء الزوج [أب/أم] وليس الزوج [رجل/مرأة]. والحال، أن الرجل كأب والمرأة كأم، هما اللذان يشكلان بالضبط الزوج المهيكل تقليديا للمجتمعات. فالإلغاء الأفلاطوني للأسرة، الذي فسح المجال أمام «شراكة النساء» ? بالمعنى الذي لا يمكن فيه لأي رجل أن يقترن دائما وحصريا مع امرأة- أثار على مر الأزمنة تعليقات غزيرة، حيث رأى فيه الكثيرون جانبا «حديثا» من فكر أفلاطون المؤيد لتساوي شروط الجنسين. ويبدو لي بالأحرى، أنه يعبر عن مجهود مبذول لاختزال الاختلاف بين الجنسين ما أمكن؛ وهو المجهود المقترن باللامبالاة تجاه النساء ودورهن والتي يمكن فهمها من خلال الاحتقار الأفلاطوني للإنجاب وتقريظ عشق الأطفال، الواردين في محاورة «المأدبة».
لذلك، فأنا أريد باختياري لأرسطو ضد أفلاطون، اقتراح الفكرة التي مفادها أن اليوتوبيا الأفلاطونية تعلن عن حلم بالصفاء التشاركي الذي ليس غريبا عن تقريظ اللواطية من طرف فلسفة أفلاطون. فلدى هذا الأخير يوجد إنكار للاختلاط، تعبر عنه في نفس الآن، فكرته حول الحب في محاورة «المأدبة» وفكره السياسي في محاورة «الجمهورية» وميتافيزيقاه الموجودة بكل أعماله والتي حدث بمقتضاها، الفصل المثالي بين المحسوس والمعقول. فهل ستكون الجمهورية يوتوبيا مثلية جنسية؟ وهل هناك رابطة بين الميتافيزيقا والخوف من الاختلاط؟
من جانب آخر، عادة ما يصنف أرسطو في خانة المنظرين «الأكثر عدائية للمرأة»، لأن الجنسين عنده يخضعان دوما للتراتبية. ومع ذلك، فإن فكر أرسطو هو أقل رهبة من فكر أستاذه، لأن مؤسس «اللقيوم» هو مفكر الاختلاط. ويعتبر اجتماع الرجل والمرأة بالنسبة إليه أساسا لما هو سياسي، في حين أن أفلاطون يوحد المدينة بشكل سلطوي ويمحي التمايز الاجتماعي والثقافي للجنسين، واضعا فاصلا بين الجانب الحيواني للبشر [الذين يتزاوجون ويتناسلون لتحسين العرق] وجانبهم السياسي [الذي يؤهلهم لخدمة مدينتهم بشكل أفضل].
وبالفعل، فنحن نعلم بأن أرسطو أسس ضرورة الزوجين على الميل الطبيعي للإنجاب: «فأول اجتماع ضروري هو اجتماع كائنين، لا يمكن لأحدهما أن يوجد بمعزل عن الآخر، وذلك هو شأن الذكر والأنثى بخصوص الإنجاب». إن استحالة «وجود الواحد بمعزل عن الآخر» تهم الرجل والمرأة قبل أن تهم البشر عموما أو القرية أو المدينة، لأنهما يريدان أن يتركا وراءهما كائنا يشبههما. وقبل أية علاقة فإن التبعية المتبادلة بين الجنسين هي التي تحتم اختلاط الاجتماع الإنساني الأولي والهم المشترك للحصول على ذرية؛ كما أنها تخلق علاقات اقتصادية ووجدانية وسياسية.
هكذا، فإن سياسة أرسطو تبدأ بسياسة الجنسين. فالتبعية المتبادلة بين الرجال والنساء وضرورة تعايشهم، يشكلان في نفس الآن،مبدأ وأصل ما هو سياسي. ولتنظيم هذا التعايش، سيكون من اللازم القيام بالهيكلة التراتبية المحددة للأسرة، لأن الاجتماع الأسري يؤسس سلطة «الذكر الأكبر سنا» و»تنتظم الأسرة برمتها وفق الشكل الملكي».1 وهو ما يبين لماذا تعتبر الأسرة عند أرسطو هي أول اجتماع إنساني.
ومهما بلغت المركزية الذكورية واللامساواتية، المميزتان لهذه السياسة التي تسمح للرجال وحدهم ببلوغ المواطنة الحقة، فإنها تفضل على اليوتوبيا الأفلاطونية، لأنها تحاول تحديد مكان للنساء، في حين كان أفلاطون يتجاهل العلاقة بين الجنسين داخل المدينة. ومبرر ذلك، أن مؤلف «الجمهورية» لم يكن يعطي أية أهمية لهذا الاقتران بين الجنسين، الذي كان يبدو ضروريا بالنسبة لأرسطو.
ويرجع اختلاف مقاربة الفيلسوفين الإغريقيين للعلاقة بين الجنسين أساسا، إلى المكانة القيمة التي أعطياها للتناسل. فأن يكون للمرء ذرية، معناه بالنسبة لأرسطو، الاستجابة لرغبة قوية جدا لدى الكائنات الإنسانية عموما، كما أن هذا الأمر شرط بديهي لبقاء الدولة. أما بالنسبة لأفلاطون، فإن التناسل على العكس، هو ضرورة بالنسبة للمدينة، لكنه لا يهم الأفراد كثيرا. وستزداد لا مبالاة هؤلاء الأفراد بهذا الخصوص، كلما سمت أرواحهم. لذلك تم تصور مسألة الأطفال من طرف حكام الجمهورية، كمشكل سياسي. فهم عالجوها من زاوية كمية للحفاظ على عدد قار من المواطنين ومن زاوية كيفية لانتقاء الرضع. ويتعين على مسيري المدينة أن يتدبروا الولادات باسم المقتضى السياسي للجمال ولجودة «العرق الإنساني»، مثلما نفعل بالنسبة «لتربية الكلاب والطيور والجياد».
هكذا سينظم الحكام سريا، اقتران رجال ونساء النخبة من بين حراس المدينة وعن طريق اقتراع مزور من طرفهم، بحيث لا يربى سوى أطفال هذه النخبة وليس أطفال «الحثالة». وتبين ضرورة القيام بالإجراءات السرية واللجوء إلى الحيلة، بما لا يدعو إلى الشك، كيف أن الأفراد لن يقترنوا فيما بينهم تلقائيا، بل وفق المعايير المحددة من طرف الحكام. وحينما افترض أفلاطون رضى الحراس بإجراء الاقتران عن طريق القرعة، فإنه كشف لنا عن خضوع الأفراد كقطيع سلبي، مؤكدا على الطبيعة السلطوية المبالغ فيها للنظام.
إن الأطفال المولودين بهذا الشكل، سيتلقون التربية داخل هذه المدينة على يد موظفين مختصين. ولا يجب على الأطفال أن يتعرفوا على من أنجبهم مثلما لا يجب على هؤلاء الرجال التعرف على ذريتهم.(2) ومن جانبهم، فإن الموظفين الذين يعتنون بهؤلاء الأطفال، مطالبون «باستخدام كل عبقريتهم» لمنع النساء اللواتي يأتين لإرضاع الصغار، من «التعرف على الرضيع الذي وضعنه». هكذا، فبدل البنية الأسرية التي تجمع بين الرجل والمرأة، أقام أفلاطون شراكة للنساء وللأطفال، مانعا في نفس الوقت، كلا من البنوة والزواج، ما دام غير مسموح لأي رجل بالارتباط مع امرأة بشكل خصوصي.
ويمكن للمرء أن يعتبر هذا الإلغاء للأسرة كوسيلة جذرية لتحرير النساء من الهيمنة الذكورية، ما دامت سلطة الرجل على المرأة تمارس تقليديا داخل الأسرة. وسيبدو وكأن أفلاطون يدافع عن قضية المرأة، خصوصا وأنه رفض في الفصل الخامس من «الجمهورية»، إعطاء الشرعية للتقسيم الجنسي للأعمال. وسواء تعلق الأمر بممارسة الموسيقى أو بخوض الحرب، فإن المسألة لم تكن ترجع إلى الجنس، بل إلى الموهبة الشخصية لكل واحد. ويتعين علينا انتظار جون ستيوارت ميل، كي يتجرأ فيلسوف من جديد على إعطاء النساء فرصة للبرهنة بشكل فردي عن كفاءتهن.
فهل كان أفلاطون نسوانيا قبل الأوان؟ في الواقع، علينا ألا نؤمن كثيرا بمثل هذا الخلط في التواريخ. فعدم التمييز الأفلاطوني يسن الجنسين بخصوص توزيع المهن والوظائف الاجتماعية عموما، كان ثمنه في الحقيقة، هو احتقار الاختلاف الجنسي الذي يستحق المساءلة. وبالفعل فقد اعتبر أفلاطون بأنه من وجهة نظر سياسية، لا يكتسي الاختلاف بين الجنسين أية أهمية، شأنه في ذلك، شأن الاختلاف بين الصلع وذوي شعر الرأس. فليس هناك أي مبرر لمنع هؤلاء وأولئك من مزاولة مهنة الإسكافي بسبب هذا الاختلاف، مثلما لا يمكن منع النساء من مزاولة مهنة ظلت إلى حد الآن مخصوصة للرجال. فالاختلاف بين الرجال والنساء، مثل الاختلاف بين الصلع وذوي شعر الرأس، هو في الواقع اختلاف نسبي وليس مطلقا. فهو نسبي بخصوص الإنجاب مثلما أن التمييز بين الأصلع وغير الأصلع يخص الشعر. وبالرغم من ميلنا إلى الاتفاق مع هذا الاستدلال، فإننا نتساءل مع ذلك، عما إذا لم يكن من الضروري ضبط صلاحية ونتائج هذه النسبية الخالصة للاختلاف بين الجنسين.
لقد اكتفى أفلاطون بالقول بخصوص هذا الاختلاف، إن النساء «يضعن المولود» في حين أن الرجال «ينجبون». ووفق هذه الرؤية الإغريقية التي سبق أن عبر عنها إخيلوس، فإنه يتبين بأن الرجل هو الوالد الحقيقي للطفل، رغم أن هذا الأخير انبثق من الجسد الأنثوي. وكيفما كان الحال، فإن أفلاطون لا يعتبر هذا الاختلاف مبررا كافيا للتأمل في دور النساء والرجال داخل المدينة. ولا غرابة في ذلك، بالنظر إلى الطريقة التي عولج بها الإنجاب.
وبإمكاننا مع ذلك، الاعتراض على صلاحية تشبيه الجنس بالشعر. فإذا ما تركنا جانبا كل التداعيات اللاشعورية، يبدو أن بين الصلع وذوي الشعر، هناك فئات وسيطة متعددة. فعلى مستوى نقصان أو فقدان الشعر، توجد كل الدرجات. لهذا، فإن اختلافا بهذا الشكل، يشبه اختلاف الألوان، بحيث توجد كل التنويعات الممكنة؛ في حين لا يوجد وسيط بين ما هو أنثوي وما هو ذكوري.
ومهما بدا عدم التمييز بين الجنسين في الجمهورية الأفلاطونية حديثا، وهو ما يدعو إليه من جديد، جمهوريونا راهنا، فإنه لا يجب علينا أن نخلط بين عدم التمييز هذا وفكرة المساواة بين الجنسين على مستوى الوضعية، وهي الفكرة التي تحتل مكان الاختلاف؛ كما لا يجب علينا فصله عن مجموع الإجراءات المتوقعة من طرف الجمهورية، أي محو الزوج الأبوي وهدم الروابط الأمومية والأبوية مع الأطفال.
ولتفعيل المساواة بين الجنسين، بدا مفيدا بالنسبة لأفلاطون، إنكار أي دور حاسم للاختلاف الجنسي في تقسيم العمل. لكن الاختلاف الجنسي فقد معناه، بمنع إقامة روابط الزواج والبنوة، وألغيت الهيكلة الاجتماعية المؤسسة على القرابة. هكذا، قطعت المدينة الصلة مع مؤسسة الزوج الأبوي المختلط ومع الأسرة. وبمحوها لإمكانية تعرف المنجبين على أطفالهم، منعت هؤلاء أيضا من التعرف على آبائهم وبالتالي معرفة أصلهم المزدوج، الذكوري والأنثوي، من خلال الأب والأم.
وهذا بدون شك، جانب من بين جوانب أخرى، لهذا التنظيم اللاإنساني. لكن السؤال المطروح، هو معرفة ماذا سيتبقى من الهوية الجنسية، عندما تلغى الوظائف الأمومية والأبوية، أي الرابطة الطبيعية التي تأسست مع الذرية.
إن الكائنات التي تتزاوج وفق القرعة وتنجب أطفالا لن تربطها بهم أية علاقة، هي مجرد قطيع شبيه بالحيوان. فالأفراد هم ذكور وإناث بفضل أعضائهم التناسلية، لكنهم ليسوا أزواجا ولا زوجات وليسوا آباء ولا أمهات. إنهم ليسوا من نادوهم بالضبط رجالا ونساء . وبشكل عام، فإن تنظيم الجماعة يظل غريبا عن الاختلاف بين الجنسين. فمن غير المؤكد وجود رجال ونساء في هذه الجمهورية؛ ومثل هذا الأمر يمكن أن يثلج الصدر. لكن اختزال الاختلاف في وظيفته البيولوجية، لا يمكنه أن يكون على حساب المساواة الحقيقية بين الرجال والنساء، لأنه لن يكون للمساواة معنى في غياب الحرية، كما هو الحال هنا. فالتضحية بالأفراد في سبيل نظام المدينة، هو الذي يفسر بالأحرى افتقاد رغباتهم وهويتهم الجنسية لأي معنى.
إن قراءة محاورة «المأدبة»، تؤكد ما هو مقروء في محاورة «الجمهورية»؛ وتبين أنه إذا كان التناسل مشكلا سياسيا بالخصوص ويستوجب المعالجة بطريقة شمولية وسلطوية، فإن ذلك راجعا إلى كون الرغبة الفردية في الحصول على أطفال، لا قيمة لها لدى أفلاطون، اللهم بالنسبة «للعامة» التي يمكنها الاعتقاد بأنها تلبي رغبتها في الخلود عبر تخصيب الأجساد. ويمكن لامرئ من هذا القبيل أن يرغب في ترك ذرية من بعده «ويتجه صوب النساء». لكن النفوس الشغوفة بحب الخلود الحقيقي، لن تلبي رغبتها إلا بحب ما هو حقيقي، أي بتخصيب النفوس وليس الأجساد. هكذا، فإن الرجال الباحثين فعلا عن الخلود، سيتجهون صوب النفوس الأكثر قدرة على السمو، وهي نفوس الأولاد. وستكون العلاقة الغرامية، إن لم نقل الإيروتيكية، بين المعلم والتلميذ، جديرة بالتقدير ومرغوبة أكثر من الحب القائم بين الرجل والمرأة.
ويجب علينا أن ندرك هذا التقسيم الثنائي للحب وهذا الاحتقار للإنجاب وللمرأة، الواردين في محاورة «المأدبة»، لكي نفهم اللاتمييز المطلق الذي عولجت به مسألة العلاقة بين الجنسين والعلاقة بالأطفال، في محاورة «الجمهورية». فأصداء المحاورة الأولى تظل قائمة، أينما وجد تقابل بين النفس والجسد وحيثما انفصل أحدهما عن الآخر، سواء في الفلسفة أو في النزعة الإيروتيكية وإذا ما كان هناك فضل للاختزال الأفلاطوني بين الجنسين عبر تذويب الأسرة، فإنه يتمثل وبشكل مفارق، في توضيح واقعة أكدها الأنثروبولوجيون، وهي أن الرجل والمرأة لا يمكنهما أن يعرفا فقط من خلال اختلافهما العضوي أو الفيزيولوجي. فالزوج، ذكر وأنثى ليس اختلافيا بهذا المعنى فقط، لأنه يدرج العلاقة بين الجنسين ضمن مشروع مشترك وهو التساكن وضمان مستقبل للكائنات الفانية.
إن المرأة ترتبط بالرجل كرفيق ممكن وكأب لأبنائها، كما أن الرجل يرتبط بالمرأة كرفيقة ممكنة وكأم لأبنائه، وهما يعرفان ككائنين مختلفين جنسيا، في علاقتهما أساسا بهذا العنصر الثالث، الذي لا يمكنه أن يولد إلا باجتماعهما. وإذا ما تجاهلنا العلاقة بالذرية أو نزعنا عنها كل رابطة اجتماعية، مثل الزواج والبنوة، فإن الاختلاف بين الرجال والنساء لن يكون له معنى، بل ستصبح الهوية الجنسية للأشخاص بدون أهمية. هكذا، تبدو الأبوة أو الأمومة، كبرهان حقيقي على الاختلاف بين الجنسين؛ ولا نعتقد بأن هناك حجة أقوى من هذا البرهان. أما الطفل الذي تم تشكيله بالمختبر ? كنتاج للذات الفردانية الحديثة ? فإنه يشبه يتامى النظام الجماعي الأفلاطوني، لأنه لا يتوفر على أصول.
حاولت إذن، أن أبين كيف أن التراتبية الأرسطية للجنسين تركت الباب مفتوحا في التاريخ، للعلاقة بين الرجال والنساء، أكثر مما فعلته اليوتوبيا الأفلاطونية بتحييدها لهذين الجنسين. وفيما وراء سؤال الأسرة والمدينة، يتعين علينا هنا، إثارة إتيقا الاختلاف بين الرجل والمرأة. ونادرا ما عولجت هذا المسألة فلسفيا ، اللهم إذا ما استثنينا محاولة لفيناس.(3) فهذا الفيلسوف هو الذي تحمل مسؤولية الحديث عن الجنسانية كرجل وليس عبر مماهاة الوضعية الذكورية بوضعية ذات كونية غير جنسية. فقد أثار مسألة الخصوبة انطلاقا من تجربة الأبوة، واضعا تأمله تحت توقيع ذكوري واضح. وأهم شيء ضمن فكر لفيناس المتعلق بقضيتنا، يهم الطريق التي وصف بها الخصوبة كحدث. فبالنسبة إليه، إن ميلاد طفل يتعالى دوما على كل مشروع ذاتي ويتجاوز كونه نتاجا لصناعة متحكم فيها تقنيا؛ وأضيف ، حتى ولو كانت مبرمجة أو خاضعة للعناية الطبية. فأن يصبح المرء أبا أو أما، ليس معناه أن الأمر ناتج عن رغبة أو إرادة، بل هو قبول لحدث يتجاوز كل قرار متحكم فيه. والخصوبة هي ذلك الحدث الذي يجعلني متساميا ومنفتحا على غيرية هذه الحياة المنبثقة مني ومن آخر، بحيث يبدأ وجود حر انطلاقا منها. ولذلك كانت عبارة عن تجربة مميزة للآخر.
إن دلالة هذه التجربة، تعني أن الخصوبة ليست مسألة أنثربولوجية فقط، بل هي مسألة فلسفية أساسية ما دام بإمكان تعالي الآخر أن يتجلى عبرها. ولا تنحصر المشكلة في كون الرجل والمرأة لا غنى لبعضهما عن بعض، وإن كانت هذه الصيغة ذات دلالة قوية؛ ولكن يجب أن نعرف أيضا بأن الرجل والمرأة مسؤولان، الواحد أمام الآخر؛ وهذه المسؤولية تتجاوزهما معا. ومن المؤكد أن ما يتجاوزهما، أي الذرية، يشكل في نفس الوقت مصدر تبعيتهما المتبادلة ورهان صراعاتهما.
------------------------------------
الهوامش:
1) Politique, I, 5, 1252, b.
2) La République, V.
3) Voir, Totalité et infini, Essai sur l?extériorité, Martinus Nijhoff Publishers, La Haye, 1961
اقتطف هذا النص من مؤلف:
Sylviane Agacinski, Politique des sexes, ed. du Seuil, 1998, pp. 137/146