نقوس المهدي
كاتب
ذات صباح فى شارع خال بأحد الضواحى .. كانت تسير سيدة و معها ابنها و هو فل فى الرابعة ، كان طفلا مبتهجا متورد الخدين و كانت السيدة صغيرة ترتدى ملابس أنيقة ، كانت تبتسم لفرط السعادة و هى تراقب ابنها باهتمام ، أما الولد فكان يلعب بالطوق ... طوق جديد كبير أصفر اللون .. يجرى وراءه و هو يضحك فى مرح و تبدو ركبتاه من بنطلونه القصير و يضرب الطوق بالعصا كل حين و آخر ، لم يكن من الضرورى بالطبع أن يرفع العصا إلى هذا العلو ، و لكن ذلك ما كان يفعله.
يا لها من سعادة ! .. منذ وقت قصير لم يكن لديه طوق ، و الآن ها هو يملكه ! .. و كل شيىء جميل !
مر رجل عجوز يرتدى ملابس مهلهلة ، و يداه خشنتان ، فانتحى جانبا إلى السور حتى تمر السيدة و ابنها ، و نظر الرجل العجوز إلى الولد بعينين كابيتين و هو يبتسم فى غباء.
فكر فى نفسه قائلا : إنه ابن أحد السادة.. طفل صغير لطيف، إنه يمتع نفسه .. اب سادة حقا !
هناك شيىء لم يستطع أن يفهمه .. شيىء بدا فى غاية الغرابة بالنسبة له ، ها هو طفل ، و لكن الأطفال يشدون من شعورهم لأن أمهاتهم تخشين عليهم الفساد .. و هذه الأم لا تمنع ابنها من اللعب كما يريد .. إنها حسنة الهندام و غاية فى الجمال ، لابد أنها تعيش فى أمن و سلام.
و تذكر الرجل العجوز أنه عندما كان طفلا كان يحيا حياة الكلاب ، و لا تزال حياته مريرة إلى الآن رغم أنه لا يتعرض للضرب و الجوع كما كان فى طفولته ، فى تلك الأيام كان هناك جوع و برد و لكمات ، لم تكن هناك أطواق أو مثل تلك اللعب التى يلهو بها الأثرياء ، لقد قضى حياته كلها فى فقر و إهمال و مرارة ، ليس هناك شيىء يمكن أن يتذكره فيها .. لا بهجة واحدة !
ابتسم للكفل بفمه الأهتم و أحس أنه يحسده ، و لكنه تمتم " يا لها من تسلية غبية " و مع ذلك ظل يحسده و يغار منه ، و ذهب إلى المصنع الذى يعمل فيه من أيام طفولته حتى الشيخوخة.
و لكنه ظل يتذكر الولد الصغير و هو يجرى و يضحك و يطارد الطوق ، ظل طوال اليوم بين جعجعة آلات المصنع يفكر فى الولد و الطوق ، و فى الليل كان يحلم بهما.
و فى الصباح ظلت الأفكار مستمرة ، كان عمله يدويا آليا لا يتطلب أى تفكير ، لذلك استمرت يداه تقومان بالعمل كالمعتاد ، و لكن فمه الأهتم يبتسم و هو يتذكر الحلم ، و كان الجو ملبدا بالغبار و بالقرب من السقف تتحرك السيور بنعومة من عجلة إلى عجلة ، و غى جنبات المصنع ضجيج و ظلام ، و الناس يتحركون كالأشباح و تطغى على أصواتهم ضجة الآلات.
و تراءى للرجل العجوز أنه طفل صغير ، و أن أمه سيدة محترمة ، و أن لديه طوقا و عصا يلعب بهما ، يضرب الطوق بعصاه ، و يرتد حلة بيضاء تبرز منها ركبتاه العاريتان.
و ظل نفس الحلم يتكرر يوما بعد يوم أثناء العمل.
و عندما كان عائدا ذات مساء شاهد الرجل العجوز فى الطريق طوقا خشبيا كان يستخدم فى ربط برميل قديم ، كان طوقا سيئا و قذرا ، اهتز العجوز من شدة الفرح و قفزت الدموع إلى عينيه الكابيتين و دهمته رغبة مفاجئة لا شعورية ، فنظر حوله مستطلعا ثم انحنى و التقط الطوق بيديه المرتعشتين و عاد به إلى بيته و هو يبتسم و يشعر بالخجل.
لم يره أحد ، و لم يوجه إليه أحد أى سؤال ، فما شأن الناس بهذا المنظر : رجل عجوز مهلهل الثياب ، يحمل طوقا خشبيا قديما لا فائدة فيه لأحد .. من ذا الذى يهتم بملاحظة ذلك ؟
و لكنه حمله فى السر ، خائفا يبتسم ، لا يعرف لماذا التقطه و لماذا يأخذه معه .. إنه يشبه طوق الولد و لذلك أخذه.
و ظل الطوق ملقيا تحت سرير الرجل العجوز فى ركنه المزدحم عدة أيام ، أحيانا كان يخرجه من تحت السرير و ينظر له فيشعر براحة نفسية عميقة ، لقد تحقق له حلم سعادة الطفولة.
و ذات صباح دافىء صاف .. و الطيور تغرد بين فروع الشجر بمرح أكثر من المعتاد .. استيقظ الرجل العجوز مبكرا و أخذ طوقه ، و خرج إلى المدينة.
كان يكح و هو يشق طريقه بين الفروع و الأشجار العتيقة فى الغابة، لم يستطع أن يفهم لماذا كانت الأشجار صامتة على هذا النحو ، و كانت الروائح غريبة ، و الحشرات الطائرة تئز من حوله ، و الندى يشبه قصة خيالية ، و لم تكن هناك شابورة أو غبار ... و الظلام ينسحب بعيدا وراء الأشجار.
و انتزع الرجل العجوز فرعا جافا من أحدى الأشجار ، و وضعه فى الطوق.
كان الحقل يمتد أمامه لامعا و مستويا و قطرات الندى تلمع فوق الحشائش المقطوعة منذ أمد قصير .. و فجأة ضرب الرجل الطوق بعصاه و اندفع يجرى خلفه ، تدحرج الطوق بخفة فوق الحقل و صاح العجوز ضاحكا من فرط السعادة ، و جرى خلف الطوق مثلما كان يفعل الولد.
و تراءى له أنه عاد ولدا صغيرا مرة أخرى ، لطيفا سعيدا ، و أن أمه تتبعه و هى تراقبه بابتسامة حلوة ، و مثلما يحدث للطفل أيضا أحس بقشعريرة من البرد فى الغابة المعتمة فوق الحشائش النضرة.
اهتزت اللحية الشائبة فى الوجه المعروق ، و اندفعت الضحكات و الكحة معا من الفم الأهتم.
و تعود الرجل العجوز أن يأتى إلى الغابة كل صباح ليلعب بالطوق ، كان يخشى أحيانا أن يراه أحد و يضحك منه ، و ملأته هذه الفكرة بالخجل ، و لما كان الخجل يشبه الخوف لذلك اصطكت ركبتاه و شعر كأن رجليه لا تحملانه.
و لكن أحدا لم يره ، و لم يسمعه ، ولم يحدث شيىء ، و أخذ يلعب بالطوق ما شاء له اللعب ثم عاد مطمئنا إلى المدينة ، و هو سعيد يبتسم ..
و هكذا ظل يلهو بالطوق يوما بعد يوم دون أن يراه أحد أو يحدث شيىء ، و ذات صباح كثيف الندى أصابه البرد ، و لزم الفراش و مات.
و عندما كان يحتضر فى مستشفى المصنع بين أناس غرباء كان يبتسم فى سعادة ، مسرورا بفكرة أنه أيضا طفل يلهو و يضحك فوق الحشائش النضرة تحت الأشجار الظليلة و أمه الحبيبة تتبعه و تراقبه.
مراجعة مختار السويفى
يا لها من سعادة ! .. منذ وقت قصير لم يكن لديه طوق ، و الآن ها هو يملكه ! .. و كل شيىء جميل !
مر رجل عجوز يرتدى ملابس مهلهلة ، و يداه خشنتان ، فانتحى جانبا إلى السور حتى تمر السيدة و ابنها ، و نظر الرجل العجوز إلى الولد بعينين كابيتين و هو يبتسم فى غباء.
فكر فى نفسه قائلا : إنه ابن أحد السادة.. طفل صغير لطيف، إنه يمتع نفسه .. اب سادة حقا !
هناك شيىء لم يستطع أن يفهمه .. شيىء بدا فى غاية الغرابة بالنسبة له ، ها هو طفل ، و لكن الأطفال يشدون من شعورهم لأن أمهاتهم تخشين عليهم الفساد .. و هذه الأم لا تمنع ابنها من اللعب كما يريد .. إنها حسنة الهندام و غاية فى الجمال ، لابد أنها تعيش فى أمن و سلام.
و تذكر الرجل العجوز أنه عندما كان طفلا كان يحيا حياة الكلاب ، و لا تزال حياته مريرة إلى الآن رغم أنه لا يتعرض للضرب و الجوع كما كان فى طفولته ، فى تلك الأيام كان هناك جوع و برد و لكمات ، لم تكن هناك أطواق أو مثل تلك اللعب التى يلهو بها الأثرياء ، لقد قضى حياته كلها فى فقر و إهمال و مرارة ، ليس هناك شيىء يمكن أن يتذكره فيها .. لا بهجة واحدة !
ابتسم للكفل بفمه الأهتم و أحس أنه يحسده ، و لكنه تمتم " يا لها من تسلية غبية " و مع ذلك ظل يحسده و يغار منه ، و ذهب إلى المصنع الذى يعمل فيه من أيام طفولته حتى الشيخوخة.
و لكنه ظل يتذكر الولد الصغير و هو يجرى و يضحك و يطارد الطوق ، ظل طوال اليوم بين جعجعة آلات المصنع يفكر فى الولد و الطوق ، و فى الليل كان يحلم بهما.
و فى الصباح ظلت الأفكار مستمرة ، كان عمله يدويا آليا لا يتطلب أى تفكير ، لذلك استمرت يداه تقومان بالعمل كالمعتاد ، و لكن فمه الأهتم يبتسم و هو يتذكر الحلم ، و كان الجو ملبدا بالغبار و بالقرب من السقف تتحرك السيور بنعومة من عجلة إلى عجلة ، و غى جنبات المصنع ضجيج و ظلام ، و الناس يتحركون كالأشباح و تطغى على أصواتهم ضجة الآلات.
و تراءى للرجل العجوز أنه طفل صغير ، و أن أمه سيدة محترمة ، و أن لديه طوقا و عصا يلعب بهما ، يضرب الطوق بعصاه ، و يرتد حلة بيضاء تبرز منها ركبتاه العاريتان.
و ظل نفس الحلم يتكرر يوما بعد يوم أثناء العمل.
و عندما كان عائدا ذات مساء شاهد الرجل العجوز فى الطريق طوقا خشبيا كان يستخدم فى ربط برميل قديم ، كان طوقا سيئا و قذرا ، اهتز العجوز من شدة الفرح و قفزت الدموع إلى عينيه الكابيتين و دهمته رغبة مفاجئة لا شعورية ، فنظر حوله مستطلعا ثم انحنى و التقط الطوق بيديه المرتعشتين و عاد به إلى بيته و هو يبتسم و يشعر بالخجل.
لم يره أحد ، و لم يوجه إليه أحد أى سؤال ، فما شأن الناس بهذا المنظر : رجل عجوز مهلهل الثياب ، يحمل طوقا خشبيا قديما لا فائدة فيه لأحد .. من ذا الذى يهتم بملاحظة ذلك ؟
و لكنه حمله فى السر ، خائفا يبتسم ، لا يعرف لماذا التقطه و لماذا يأخذه معه .. إنه يشبه طوق الولد و لذلك أخذه.
و ظل الطوق ملقيا تحت سرير الرجل العجوز فى ركنه المزدحم عدة أيام ، أحيانا كان يخرجه من تحت السرير و ينظر له فيشعر براحة نفسية عميقة ، لقد تحقق له حلم سعادة الطفولة.
و ذات صباح دافىء صاف .. و الطيور تغرد بين فروع الشجر بمرح أكثر من المعتاد .. استيقظ الرجل العجوز مبكرا و أخذ طوقه ، و خرج إلى المدينة.
كان يكح و هو يشق طريقه بين الفروع و الأشجار العتيقة فى الغابة، لم يستطع أن يفهم لماذا كانت الأشجار صامتة على هذا النحو ، و كانت الروائح غريبة ، و الحشرات الطائرة تئز من حوله ، و الندى يشبه قصة خيالية ، و لم تكن هناك شابورة أو غبار ... و الظلام ينسحب بعيدا وراء الأشجار.
و انتزع الرجل العجوز فرعا جافا من أحدى الأشجار ، و وضعه فى الطوق.
كان الحقل يمتد أمامه لامعا و مستويا و قطرات الندى تلمع فوق الحشائش المقطوعة منذ أمد قصير .. و فجأة ضرب الرجل الطوق بعصاه و اندفع يجرى خلفه ، تدحرج الطوق بخفة فوق الحقل و صاح العجوز ضاحكا من فرط السعادة ، و جرى خلف الطوق مثلما كان يفعل الولد.
و تراءى له أنه عاد ولدا صغيرا مرة أخرى ، لطيفا سعيدا ، و أن أمه تتبعه و هى تراقبه بابتسامة حلوة ، و مثلما يحدث للطفل أيضا أحس بقشعريرة من البرد فى الغابة المعتمة فوق الحشائش النضرة.
اهتزت اللحية الشائبة فى الوجه المعروق ، و اندفعت الضحكات و الكحة معا من الفم الأهتم.
و تعود الرجل العجوز أن يأتى إلى الغابة كل صباح ليلعب بالطوق ، كان يخشى أحيانا أن يراه أحد و يضحك منه ، و ملأته هذه الفكرة بالخجل ، و لما كان الخجل يشبه الخوف لذلك اصطكت ركبتاه و شعر كأن رجليه لا تحملانه.
و لكن أحدا لم يره ، و لم يسمعه ، ولم يحدث شيىء ، و أخذ يلعب بالطوق ما شاء له اللعب ثم عاد مطمئنا إلى المدينة ، و هو سعيد يبتسم ..
و هكذا ظل يلهو بالطوق يوما بعد يوم دون أن يراه أحد أو يحدث شيىء ، و ذات صباح كثيف الندى أصابه البرد ، و لزم الفراش و مات.
و عندما كان يحتضر فى مستشفى المصنع بين أناس غرباء كان يبتسم فى سعادة ، مسرورا بفكرة أنه أيضا طفل يلهو و يضحك فوق الحشائش النضرة تحت الأشجار الظليلة و أمه الحبيبة تتبعه و تراقبه.
مراجعة مختار السويفى