نقوس المهدي
كاتب
تمهيد:
من المعلوم أن الأدب ظاهرة اجتماعية، بحكم طبيعة الإنسان الذي يبدعه ويتعامل معه، وأن ثمة علاقة وثيقة بين الأدب والمجتمع، وهى علاقة تتسم بأنها تبادلية، بمعنى أنه لا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر، وإنما يرفد كل منهما الآخر ويغذيه؛ ذلك أن «للأدب انعكاسات اجتماعية عديدة ، وهو فى حد ذاته يعد انعكاسًا اجتماعيا حتى فى أكثر موضوعاته خصوصية، فهو نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطًا لغويًا، حتى اللغة تفسر من منظور اجتماعي قبل أن تفسر من منظور آخر» [1].
ولا يخفى أن الأدب يمنح المجتمع ويطوره وينميه ، ويحاول أن يدفع به إلى الأمام، والمجتمع يهيئ الجو والبواعث للأديب، ويوفر له مادة الإبداع الخام(ربابعة، ص 15)، فالأديب يمتاح تجاربه من المجتمع متأثراً به، وفي الوقت ذاته يفرغ هذه التجارب في المجتمع، ويؤثر فيه؛ لأنه يعيد صنع هذه الصورة الاجتماعية بالشكل والوجه الذي يريد.
والمقامة بوصفها أحد الفنون الأدبية النثرية تشكل رصيداً حقيقياً للحياة الاجتماعية بكل أبعادها وأشكالها، وترجمة أمينة لتصورات الناس في الحياة، وتصرفاتهم والعلاقات التي تنظم شئونهم، فقد أعطت فكرة عن طبيعة الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وما كان يسود المجتمع من ألوان المحن، وما تخلفه تلك الأزمات من أصداء وآثار في نفوس الناس.
ومن يتأمل معنى المقامة في اللغة، يجدها تعني المجلس أو الجماعة من الناس، وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه جماعة من الناس لسماعها [2].
أما معنى المقامة في الاصطلاح، فهي شبه حكاية أدبية قصيرة مسجوعة، تدور حول بطل أديب متسول، واسع الاطلاع خبير بأمور الحياة ، يروي عنه راوية كلاماً بليغاً حافلاً بالبراعة الأدبية والشوارد اللغوية للتأثير في السامعين [3].
وقد عُرف هذا اللون من النثر الفني أواخر القرن الرابع الهجري على يدي بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ)، وتلاه تلميذه أبو القاسم الحريري (ت 516هـ) الذي نسج مقاماته الخمسين على منواله ، ثم شاع هذا الفن في كثير من البيئات العربية ، ومنها البيئة الأندلسية.
لا بد من الإشارة إلى أن ثمة صلة متينة بين فن المقامة في المشرق وظهورها في الأندلس، ذلك أنه بمجرد وصول المقامات المشرقية إلى الأندلس عكف الأدباء على روايتها " وشرحها ودراستها ومعارضتها، وكان لمقامات الحريري بخاصة صدى بعيد بين أدباء الأندلس.
ويغلب على الظن أن السرقسطى [4] هو أول من حاول تقليد الحريري في مقاماته بإصرار؛ وذلك لتأكيد قدرته الأدبية في هذا الباب، والتعبير عن آرائه وأحواله الشخصية والاجتماعية، وقد جعلها خمسين بعدد مقامات الحريري، والتزم في نثرها المسجوع ما لا يلزم من تعدد القوافي مشترطا أن تكون من حرفين فأكثر، متأثراً في ذلك بطريقة أبي العلاء المعري [5]، وقد غدا لهذه المقامات صيت كبير، فأخذ الأندلسيون يحفظونها ويروونها في مجالسهم .
وحافظ السرقسطي أيضاً على الشخصيتين التقليديتين في المقامة وهما السائب ابن تمام (الراوي) ، والشيخ أبو حبيب (البطل)، وهو رجل سدوسي محتال أصله من عمان، وأحياناً يذكر في بعض مقاماته شخص ثالث اسمه المنذر بن حمام الذي يحدث عن السائب بن تمام ، كما استعان بابني الشيخ السدوسي، أو أحدهما، حبيب وغريب.
تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على صورة المجتمع في المقامات اللزومية للسرقسطي، ورصد دلالتها على الحياة الاجتماعية في بيئته، والكشف عن الأبعاد الاجتماعية التي سعى إلى تصويرها ومعالجتها، مع بيان الأنماط السلوكية التي سادت في عصره ونقدها؛ بقصد الإصلاح والبناء.
اتخذت الدراسة من المنهج الاجتماعي وسيلة لقراءة النصوص الأدبية وتحليلها من منظور مدى تعبيرها عن الوسط الاجتماعي الذي أنتجها؛ لملاءمته لموضوع الدراسة، وهو منهج يُعدُّ النصوص الأدبية غير مستقلة عن شروط إنتاجها الاجتماعي، وأن تلك النصوص تحمل داخلها آثار المجتمع والأفراد الذين أنتجوها، ويرتكز هذا المنهج على مبدأين: أحدهما: اعتبار الأديب غير معزول عن بيئته ووسطه الاجتماعي، والآخر: اعتبار النتاج الأدبي غير منفصل عن السياق الاجتماعي الذي ظهر فيه.
دلالة المقامات اللزومية على الحياة الاجتماعية:
ليست المقامة في حد ذاتها قالباً جميلاً بدون أي مضمون، وليست عرضاً لقدرات المؤلف اللغوية ومواهبه البلاغية فحسب، وإنما تحتوي جانب ذلك غايات وأهدافاً تربوية وخلقية، وفيها تعبير ناقد للمجتمع الذي نشأت فيه.
إن نظرة فاحصة متأملة إلى المقامات الأندلسية تهدي إلى القول بأن تلك المقامات تناولت عدداً من الموضوعات المتنوعة: الوصفية والوعظية والفكاهية والأدبية والنقدية وغير ذلك من موضوعات، فقد تعرضت المقامة الأندلسية الى العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وروابط الصداقة، ووصف الصديق [6]، وتناولت موضوع الضيوف والكرم وما يكون من الكرماء من العطاء، وأشارت إلى المشكلات اليومية المتعلقة بحرفة الانسان ومهنته، وهكذا جاءت المقامة تعبيراً عن حاجة اجتماعية، فقد صورت كثيراً من ظواهر المجتمع، وعالجت جملة من المشكلات الاجتماعية المختلفة ، وعبرت عن آراء الكتاب ومشكلاتهم وهمومهم الذاتية [7].
ولم تخالف المقامات اللزومية للسرقسطي هذا النهج الذي سلكته المقامات الأندلسية، فكان من بين أغراضها التعبير عن الأهداف الشخصية والغايات والاجتماعية في آن واحد ، و قد تبدى الطابع الاجتماعي فيها بشكل أوضح من غيره، وفيه عبر الأديب من خلال المقامات عن الظواهر الاجتماعية المختلفة وأحوال المجتمع، وكل ما يصور العلاقات بين الأفراد.
برزت صورة الحياة الاجتماعية وأحوال الناس للمتلقي في أكثر مقامات السرقسطي واضحة جلية مُجسَّدة في الأعمال التي كان يقوم بها بطل المقامة الشيخ أبو حبيب الذي كان يتخذ في كل مقامة شكلاً، ويلبس لكل حال ثوباً خاصاً يصور فيه أعمال المكدي وحيله في أشكال مختلفة ورسوم متباينة، وما الشيخ أبو حبيب في الواقع إلا صورة من أهل ذلك المجتمع الذي عاش فيه.
والواقع أن السرقسطي لم يترك مظاهر الحياة تمر به دون تسجيل، وإنما راح يرصد كل ظاهرة معللاً أسبابها ومستخلصاً نتائجها، محملاً الناس والسلطة مسؤولية ما يحدث في حياة المجتمع من فساد ومعايب وأنماط سلوكية فاضحاً بأسلوب لاذع ساخر كل ذلك, وقد تصدى بهذا الأسلوب الى كل من انحرف عن جادة الحق والصواب ومذكراً الجميع بمسؤولياتهم عبر المواقع التي كانوا فيها.
إن أول الظواهر الاجتماعية التي تناولها السرقسطي في مقاماته ظاهرة "الكدية"، فالبطل في المقامات اللزومية أديب متسول لديه القدرة على التلون، والخداع، في سبيل الحصول على المال، فهو يلجأ الى ضروب من الحيل والألاعيب، ليظهر بمظهر المستحق، ولديه السبل المتنوعة التي يصل عن طريقها الى قلوب الناس، فيستدر عطفهم، ويحصل على المال.
ومن خلال صورة المكدي التي عرضها السرقسطي ينبثق تساؤل مهم ألا هو: هل كان السرقسطي في رسمه لشخصية المكدي مقلداً لمن سبقه من كتاب المقامات أم أنه كان معنياً برصد ظاهرة اجتماعية وجدت في بيئته؟
للإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأن ثمة باحثين يشيرون إلى أن الأمر في المقامات كان تقليدا فنياً، لا يرتبط بطبيعة المجتمع الأندلسي، ذلك أن ظاهرة الكدية لم تكن موجودة في الأندلس، وأنها اختفت من المقامات التي عاصرت السرقسطي أو التي سبقته ، ويسوغون ذلك بأن الأندلسيين كان يسودهم رغد العيش؛ لكثرة الخيرات في بلادهم من ناحية؛ ولأن الروح العربية السائدة في بلادهم لم تنمُ في ظلالها الفوارق الشاسعة بين الطبقات [8].
الواقع أن السرقسطي اتخذ من مقامات الحريري أنموذجا يُحتذى، فغدت مقاماته في جانب منها تقليدا فنياً، وتصويراً لطبيعة المجتمع من جانب آخر؛ لأن الكدية بأساليبها المختلفة لا يخلو منها عصر من العصور، ولا مجتمع من المجتمعات، وأن المجتمع الأندلسي لم يكن في كل حالاته مجتمعاًً يتمتع بالحياة الرغدة، إذ إن اضطراب الحياة وتقلبها جعلت من الطبقتين الوسطى والدنيا في فترات معينة تعانيان الفقر والعوز وضيق العيش والضرائب الباهظة، وغلاء الأسعار، ولم يجد بعض الأدباء مشجعين لهم, فبدأوا يصورون انصراف الحكام في الأندلس عن تشجيع الأدباء، واضطر بعضهم إلى الطواف في البلاد؛ للحصول على المال عن طريق الاستجداء، وبذلك تكون المقامة من "الفنون ذات الأهداف والغايات الشخصية والاجتماعية المعبرة عن أحوال الفرد والمجتمع في أوقات مختلفة، وبأشكال وصور متنوعة [9].
ومن الظواهر الاجتماعية التي كان لها حضور لافت في مقامات السرقسطي ظاهرة الشكوى من الزمان والمصائب والمحن التي حاقت بالناس، إلى جانب التعبير عن الذات وهمومها؛ ذلك أن الظروف المتقلبة التي مرت ببلاد الأندلس من سقوط لدول الطوائف، واستيلاء المرابطين على بلاد الأندلس، والصراع الدامي مع الممالك الإسبانية، قد أدى إلى شعور الأندلسي بالقلق وعدم الاستقرار، وما تبع ذلك من محن ومصائب ولدت الفقر والعوز والحاجة، فضلاً عن أن تناقض الحياة وتقلبها وتغير الأيام وتبدلها دفعت الأدباء إلى أن يشكوا الزمان، ويصفوه بالتحول والغدر والحياة بالتقلب والأيام بعدم الأمان.
ففي إحدى مقامات السرقسطي ينبعث صوت شجي حزين يشكو صاحبه قسوة الحياة وغدر الدهر وظلم المجتمع وفساده ، فهو لا يفتأ يتبرم بالحياة، وبأخلاق أهل الزمان ، فقد اضطربت الموازين في عصره وتقلبت، وفسدت الأهواء، وعمت الحسرة والمرارة النفوس يقول شاكياً:"… حتى رمتني الأيام بخطوبها، وقابلتني بعبوسها وقطوبها، وسلبتني ذلك الثوب القشيب وعوضت من الشباب المشيب" [10].
ويقول في موضع آخر:" فيا لك من دهر لا يبقى على أحد، ولا يبقى على مستأنس وحد، يعني بالقريب والبعيد، ويولع بالشقي والسعيد، ومن حق ذلك الفضل أن توصل أسبابه، وترفع قبابه، ويُصال مذاله، ويحلى جيده وقذاله، وأنتم يا بني المكارم، وذوى الهمم والمكارم، رقوا للأفاضل، واعطفوا بالفواضل وارحموا عزيزاً ذل، وكثيرا قل، ومثريا أدقع، وحائم على موردكم وقع" [11] .
إن إحساس المقامي بظلم الدهر له، وعبث الأقدار به، وإحساسه بالضعة والفقر وضيق الرزق والفاقة قد دفعه إلى أن يلجأ للتكسب والاحتيال في الارتزاق عن طريق الكدية ؛ الأمر الذي جعل القارئ يميل إلى التعاطف معه، والإشفاق على سوء حاله ،لاعتقاده بأنه شخصية قد صنعتها قسوة الحياة في عصره ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية غير العادلة .
وعلى الرغم من أن المقامي قد عوّل على تصوير الجانب الفردي، وركز على الناحية الشخصية، فإن مقامته لا تخلو من لمحات وسمات تعكس نظرته إلى طبيعة الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وما كان يسود المجتمع من ألوان المصائب والمحن، وما تركته تلك الأزمات من آثار في وجدان الأفراد وسلوكياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.
عرضت المقامات اللزومية – بوصفها سجلاً صادقاً وترجمة حقيقية لظروف المجتمع الذي نشأت فيه – لظاهرة التناقضات في المجتمع، فقد مثلت المقامة أخلاق المعاصرين، وأحوال العصر في القرن السادس الهجري خير تمثيل وأصدقه، فصورت من جهة جانباً من حياة العبث والمجون والترف التي انغمس فيها بعض الأندلسيين [12]، ورسمت من جهة أخرى النزعة الدينية القوية لدى أفراد المجتمع المتمثلة في الإقبال على الزهد والتعبد والتنسك ، والحرص على حضور حلقات الوعظ والنصح الديني التي كان يعقدها أهل التقوى والورع من الزهاد والصلحاء [13]
ولم تقف المقامة عند تناول ظاهرة التناقضات في سلوك الناس وتصرفاتهم، وإنما كان للأديب موقف الإنسان الناقد من هذه السلوكيات، ذلك أن أية مقامة من مقاماته لم تخل من نقد اجتماعي وأخلاقي لواقع العصر الذي عاشه الأديب، فإذا كان السرقسطي قد رسم صورة الواعظ الذي يصدر في وعظه عن تقوى وورع وإيمان صادق برسالته التي تروم الهداية والصلاح، فإنه عرض في الوقت نفسه صورة الواعظ المزيف الذي يلبس قناع الصلاح والتقوى، ويتزيى برداء الزهد والتنسك؛ لتحقيق مآربه الشخصية.
ففي إحدى المقامات يتخفي المقامي في صورة الواعظ التقى والولي الصالح ، فيسرق أمتعة المصلين وأموالهم ، يقول في أسلوب قصصي ممتع : " إنه صلى معنا العشاء ، وأتى من حسن القول بما شاء ، فعطف منا معاطف وجوانب ، وأسال منا متالع ومذانب. وزعم أنه في غد راحل. وأن سوف تطويه المراحل، وسأل المبيت في المسجد ، مع كل منهم مثله ومنجد ، فأكرمنا عشاءه ووصلنا رشاءه، وأرحنا من نصبه وعيه، وقمنا بشبعه وريه .فلما أصبحنا لصلاة الصبح ، عثرنا من أمره على قبح ، ووجدنا من كان معه قد سلبه ريشه ، وثلل عريشه" [14]
ثم ما لبث المقامي أن عاد وتنكر في زيّ الوعاظ إمعانا في إخفاء شخصه « إلى أن قام في هذه الجماعة فتلثم وتلفع، وتوسل بالكتاب وتشفع، وأخذ في وعظ وتحديث وقديم من الخبر وحديث ، فأمال النفوس إليه بكل مميل، وأسرعت نحوه بوخذ وذميل، ونحن مع ذلك نألف مواقع نجمه، ونأنس بعطفه للكلام ورجعه» [15]
يبدو أن السرقسطي كان يرمي من وراء ذلك إلى كشف التناقض الكبير بين سلوك الواعظ الزائف ودعوته الخلقية؛ بقصد تعرية هذه النماذج والسخرية من سلوكهم المتناقض" وهكذا نرى المقامة الأندلسية تسير في عرض أنواع متباينة من الوعاظ والدجالين والمشعوذين، وكل من يتخذ الدين سلاحاً إما للوعظ والإرشاد بصدق وصلاح وتقوى وإما سبيلاً لاغتيال أموال السذج والبسطاء من الناس. والمقامة في عرض كل هذه الأنماط المتباينة تسخر حيناً وتشف حينا أخرى عن واقع اجتماعي مُزر [16].
يتناول الكاتب في بعض مقاماته الوعظية ظاهرة زهد المجان، فيعرض حياة الترف والمجون التي انغمس فيها بعض أفراد المجتمع، ثم يصور صحوة الضمير عند ذوي النفوس الحية والضمائر اليقظة ، ويسجل ما يدور في نفوسهم من صراع بين الرغبة في التمادي في حياة العبث واللهو وبين نيتهم الصادقة في التوبة وهجر الذنوب، معبراً عن ذلك بطريقة البوح الذاتي التي تعتمد المكاشفة والمصارحة بعيداً عن الخداع والتمويه، يقول:" أقمتُ … أخبطُ من ليل الغواية داجياً، واستصحب من خدن الصبابة مداجياً، وأسير في ميدان البطالة واضعاً أو ناجياً.. إلى أن نفد العمر والوفر، ودار السماك والغفر، فأرمعت إقلاعا، ورجوت اضطلاعا، وحنيت على التوبة جوانح وأضلاعا، وبقيت لا يقربى قرار، ولا يعتادني من النوم إلا غرار، ولا ينفح من الروض رند ولا عرار، تفكراً في الموت، وحذراً من الفوت، وارتقاباً للصوت" [17].
وتعد ظاهرة التحلل الخلقي من الظواهر الاجتماعية التي عالجها السرقسطي، ذلك أن المقامة تعد مرآة صادقة تعكس الحياة الاجتماعية في مختلف أبعادها وأشكالها، فالقارئ المتمعن يكتشف أن الأديب يصور جانباً من جوانب المجتمع وهو جانب التحلل الخلقي، الذي يعد أثراً من الآثار التي ورثها المجتمع المرابطي عن مجتمع عصر ملوك الطوائف الذي سبقه، ففي إحدى المقامات الوعظية يستمع بطل المقامة الذي تبدى في صورة واعظ إلى اعتراف ذاتي لأحد المجان يذكر فيه ما ارتكب من أوزار، ويندم على ما اجترح من آثام، ويطمع في رضا الله ومغفرته، يقول:"… أنا من جملة نقارف الذنوب ، وترجو من فضل الله تعالى السجل والذنوب ، وتواقع الخطايا ، وتركب الجرائم رواحل ومطايا ، ثم ترجو من ربها المواهب والعطايا ، سمعنا تضرعك وابتهالك، فخشينا أن أمراً ما هالك، فجئنا نرجو يمن جوارك ، وبركة حوارك" [18].
يصور السرقسطي نمطاً آخر من أنماط السلوك البشري، إنه صاحب التوبة الكاذبة أو المترددة، حيث ينكث فيها التائب وعده ، ويعود إلى عبثه ومجونه " كنت قد ودعت الصبا والصبابة، وترشفت الشفافة منها والصبابة ، واعتزمت الإنابة والإقلاع ، وحنوت على التوب الجوانح والأضلاع .. حتى إذا ساورتني سورة الجريال، ولقحت حرب صبابتي عن حيال ، فراجعتها بعد التطليق ، وقابلت عبوسها بوجه طليق" [19].
وفي مكنة المتلقي أن يتعرف إلى خصائص الطبقات الاجتماعية وسماتها في المجتمع العربي من خلال المقامات التي صورت ذلك كله بتفصيل كبير.فقد مثلت المقامات السرقسطية في جانب من جوانب خير تمثيلً طبيعة التركيب الاجتماعي في المجتمع، وهو تركيب تتسع فيه المسافة بين طبقات المجتمع: بين طبقة غنية تملك رفاهة الحياة ، وأخرى تحرم منها، بين فئة سائدة، وأخرى مسودة، وهذا الوضع تكثر أمراض المجتمع وتتنوع معايبه وأدواؤه الاجتماعية والخلقية [20].
يعمد الأديب إلى تصوير المجتمع وما في تركيبته الاجتماعية من طبقات مختلفة: بين طبقة غنية مترفة، وأخرى محرومة تشكو الفاقة والعوز؛ بقصد دفع الأغنياء إلى العطاء والسخاء:" ألستم ترون الحاجة والفاقة، ألم تسمعوا هذه الدرر ، ألم تتبينوا العُري والضرر. تلبسون الثياب، وتشدون العياب ، وتدخرون فضول الأقوات، وتتمتعون بنغم اللحوُن والأصوات ولا تدرون بغريب يُقاسي نغمة القرقس والذباب، ويتقي حمة العقرب والحُتاب. ويأوى إلى بيت أضيق من سم الخياط، وقول أوجع من أليم السياط ، لم يقدح فيه بزناد ولا خلا من عويل أو عناد" [21].
وهذه الواقعة وأمثالها تكشف للمتلقي عن أخلاق الناس في ذلك المجتمع المتعدد الطبقات والفئات، وهم في أخلاقهم تلك لا يكادون يختلفون عن المعاصرين من أهل زماننا في شئ، ولكن المقامات تعطي صورة عن مجتمع السرقسطي لم تكن لتظهر بهذا الوضوح لولا أن رسمها المقامي.
يلجأ المقامي – أحياناً- إلى وصف عادات بعض طوائف من المجتمع والتعرف الى تقاليدهم في الحياة، ففي المقامة "البربرية" يزور بطل المقامة الشيخ أبو حبيب مدينة طنجة في شمالي إفريقية، ويصور طبيعة مجتمع البربر وعاداتهم، يقول في وصف أهل "طنجة" بولائه لشعبه. وهذه هي كلمات راويته: وجدت نفسي بين أناس كالنعام أو البقر، بين شعب كالأفاعي أو الضباع لم أستطع فهم كلامهم ولا يتفق تفكيرهم مع أي تفكير. شعرت وكأني وقعت بين حيوانات مفترسة أو كراع بين حيوانات لا تُقاد ولا تستقر، ولا تُربط ولا تصبر. كنت أسمع عن الأندلس وعن ثقافتها ومهرجاناتها وغناها حتى إن صدري التهب شوقاً إليها وغدوت مستعداً للتضحية بأثمن ما أملك من أجلها" [22]
عرض السرقسطي في هذا الجزء من مقامته وصفاً دقيقاً لمظاهر حياة البربر الاجتماعية وعاداتهم وأغانيهم وطعامهم وشرابهم . ويعد هذا التصوير ذا أهمية خاصة؛ لكونه أحد المصادر الأدبية التي توثق عداء الطبقة الأندلسية المثقفة للبربر ونضالها من أجل توكيد استقلالها.
عوّل الكاتب في مقاماته على كشف جانب من جوانب الظواهر الاجتماعية السالبة في المجتمع وإبرازها في قالب ساخر شفاف، بقصد كشف زيفها من أجل إصلاحها ، ففي مقامة "الدب"، يصور المقاميُّ البطلَ الشيخ المحتال يتكسب من ترقيص دب له ومداعبته والناس من حوله مجتمعون، يقول:" فإذا بشخص مزمل فى كساء بين صبية ونساء، يعدو ويرقص، ويزيد فى حديثه وينقص، وإذا فى يده سلاسل، وحيوان كريه المنظر باسل، يَرقُصُ برقصه، ويتوقع مواقع زيْده ونقصه، وقد شحا فاه بعود، وأخذ فى هبوط من اللهو وصعود، وهو يقول: اسمعوا ما قال أبو رُبّاح ذو اليسر والرَّباح الذي ليس له زئير ولا نباح، ولا نسيم ولا عواء ولا ضُباح… عدو النحل، وأسير الوحل " [23].
من يتأمل موقف السرقسطي من سلوكيات بطل المقامة، يجده ينطلق في ذلك من نظرة نقدية ساخرة من هذا السلوك، ويتمثل ذلك في كشف مثل هذه الظواهر الاجتماعية وتعريتها، حيث لا يحصل الأديب على عمل يليق بمقامه وأدبه فيلجأ إلى مراقصة الدب للحصول على المال ليقيم به أوده، وعندما رأى الراوي البطلَ المقامي " أبا حبيب" الذي يتصف بالبلاغة والفصاحة والمكانة المعروفة يرقّّص الدب ويداعبه، استنكر منه هذا السلوك المشين، ويوجه إليه نقدا لاذعاً فيقول:" أبا حبيب، أبالدب ترتزق، ومع الولدان تنمرق، لقد سفل نجمك، ورذل حجمك، وخف وقارك، وطال نقارك، وساء مآلك، وغر سرابك وآلك، ولؤم سعيك، وحرم رعيك، ووجب نعيك" [24].
فتح المقامي في هذا النص نافذة خفية؛ ليكشف من خلالها صورةَ الوجه الحقيقي للمجتمع في عصره، والمبني على ترف نخبة من الناس لا تلتفت إلى أولئك الذين يكدون على حساب كرامتهم الاجتماعية، ومكانتهم العلمية والأدبية ابتغاء الحصول على لقمة العيش؛ ذلك أن الفقراء من أهل العلم لا يجدون تكريماً لعلمهم؛ فقيمة كل امرئ بما يملكه، وليس بما يحسنه، لقد تدنت مكانة أهل العلم والأدب، وصار العالم أو الأديب يعمل في ترقيص الدب؛ ليكسب وفراً وغنى في الحياة.
أما في مقامة "الطب والعرافة"، فيَبرز البطل وقد انتحل مهنة الطب والعرافة معاً ، فهو يداوي فتى أصابه المرض ففعل به الأفاعيــل، يقول في وصف حالة ذلك المريض:" …والشق مائل، والزبد من فمه سائل، والذراع فتلاء، والمقلة قبلاء، والريق قد عصب فاه،والكرب قد وفّاه وما وفّاه"(المقامات اللزومية ص 458)، وعند ما يخفق في مداواة ذلك المريض، فإنه يلجا إلى عالم الجن، يستعين بالعزائم في تخفيف آلام مريضه فيقول مخاطباً الجن:" يا مارد سهمك صائد، ويا مريد ماذا تريد ، ما أطغاك ما أعصاك ، ما أبعدك عن الخير وأقصاك، أخرج يا واغل، فإنك شاغل، إبعد يا خاتل فإنك قاتل " [25]..
وبعد أن يسخّر الجن لحيلة من حيله يخاطب الناس معلناً عن مهارته وحذقه فيقول منادياً:" أيها الناس عندي في هذا الشأن سراير، وخبايا من الحكمة وضراير، أخذتها عن العلماء، ولقنتها من الحكماء، أين من شكا من هذه الأعراض؟ أين من رمي من هذه الأغراض؟ أين من لحقته آفة ؟ أين من برحت به علاقة أو شأفة؟ أين من خامرته الأشواق الوساوس؟ ولعبت به الأجراس والوساوس، أين من سحره ساحر أو دحره داحر ؟ أين من لصقته عين أو ورهقه دين ؟ عليَّ الضمان وأنا الزعيم وله النعيم" [26]
من يتأمل هذه المقامة، يكتشف أن السرقسطي قد أظهر بشيء من اللوعة والمرارة والنقد الصريح سلوكيات هذه الشخصية وتصرفاتها ، فهي لم تنل عطفه, وإنما اتخذ منها موقفاً قاسياً، وأشعر المتلقي أنها شخصية سيئة لئيمة الطباع، معبراً عن سخطه على الأحوال الاجتماعية التي كانت سائدة في بيئته، إنه ينتقد من طرف خفي سلوك الطبيب المفتن الذي يستخف بعقول الناس ويتظاهر أمامهم بأنه طبيب حاذق يستطيع شفاء المريض، وهو في الحقيقة مغرور مخادع يحاول أن تنطلي أكاذيبه على الناس؛ ليحتال على أموالهم، فهو لا يريد أن ينال الرزق عن طريق ما، وإنما ضعفت همته، فغدا يلتمسه بواسطة ما يحتال به.
لقد حاول السرقسطي أن يعرض في بعض مقاماته لصورة البطل مقرونة بحركة الزمان والمكان والإنسان، فقد رسم مشاهد ًحية نابضة بالحياة والحيوية لشخصياته، كأنه في ذلك عين آلة تصوير للرائي، تنقل الصور حية متحركة، وترصد الحركات والهمسات والأصوات، مثيرة الضحك والشعور بالبهجة مقرونة بالمرارة، وذلك في تعبيره عما جرى أمام الراوي، وبحضرته ومشاركته، وذلك بقوله يصف القاضي الجائر: فإنك الذي لا يكفيه قليل ولا كثير، ولا يسلم من ظلمه خسيس ولا أثير، تساهم في التراث، وتزاحم في الاحتراث،… تلمح الدرهم، فتركب الأيهم، وترى الدينار، فتقتحم النار، وأنت في عمرك على شفا جرف هار، وهامة ليل أو نهار، تزعم العلم وتدعيه، ولا تفهمه ولا تعيه، فهو عليك لا لك، وأولى لك ثم أولى لك" [27].
صور السرقسطي في مقامة "القاضي" جانباً من جوانب أخلاق العصر على لسان الراوي السائب بن همام، حيث نقل مشهدا من مشاهد الظلم الاجتماعي والفساد والرشوة التي تمثلت في صورة أحد القضاة وكاتبه، إذ كشف الكاتب مظالم القاضي وجوره ولجوءه إلى الرشوة وجمع الأموال من الناس بغير وجه حق.
إن شخصية القاضي في هذا النص يعكس نمطاً من الأنماط السلوكية التي عايشها الأديب في عصره، وقد جسد ملامح هذه الصورة بأسلوب مبني على المفارقة التصويرية ، فالمعروف عن القاضي أنه يتحلى بالأخلاق الفاضلة والسمات الدينية المشرقة من عدل وأمانة وعفة وعلم ومعرفة، بيد أن الكاتب خالف هذا التوقع وأبرز القاضي في صورة إنسان يتصف بالجو والظلم ، فهولا يتورع عن تعاطي الرشوة، وسرقة أموال العامة، وقد جاءت لغة الأديب: مفردات وأساليب مصوغة في تراكيب بسيطة سهلة واضحة، والسجع فيها مقبولة بشكل سائغ، وقد حاول المقامي أن يبرز ثقافته الدينية التي تناسب الموضوع، فعمد إلى الاقتباس من آي الذكر الحكيم؛ ليفخم بها موعظته، ويجتذب نفوس السامعين فمن الاقتباس باللفظ والصيغة وأنت في عمرك على شفا جرف هار وهذا يذكر السامع بقوله تعالى وكنتم على شفا جرف هار فانهار بكم وعبارته:" وأولى لك ثم أولى لك" مستمدة من قوله تعالى: أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى ومما لا شك فيه أن هذه الاقتباسات من القرآن الكريم جاءت منسجمة مع مضمون القطعة ومؤكدة لها .وقد أكسبت المعنى قوة وعمقاً،ً وأعطته لوناً من الشرف والسمو.
وإلى جانب نقد الأديب لتلك الحيل السلوكية المعيبة في المجتمع من تسخير الجن، وادعاء أنها تشفى المرضي. فإن الهدف من وراء هذا النقد هو فضح الأحوال الاجتماعية الفاسدة بغرض صحوة المسئولين لعلاجها، فضلاًً عن توجيه مثل هذه الشرائح من الناس إلى التزام الحق فى كل ما يقولونه أو يفعلونه وأن يتحلوا بالخلق الطيب والسلوك القويم، ، فقد تمكن بذلك أن يضع دستور الخلق الطيب والسلوك الحميد والصفات المثلى، وأن يتخذ منه نبراس حياة، وأسلوب اصطفاء في تعامله مع أفراد المجتمع، وبهذا تكون المقامة قد مثلت في جانب منها عدة وثائق لرصد الأنماط السلوكية في المجتمع الأندلسي [28]. وقد اتكأ المقامي في التعبير عن موقفه وأفكاره ورسم مشاهده على اللغة التصويرية لاسيما صورة الفتى المريض، وترك لخيال المتلقي فسحة في رسم التفاصيل من خبرته السابقة.
المقامة وعلاج المجتمع:
الواقع أن النقد الاجتماعي يعد من أبرز البواعث التي حفزت السرقسطي على أن يبدع مقاماته، فهو يقدم نقداً اجتماعياً متنوعاً ً لمناحي الحياة في المجتمع الإسلامي في عصره؛ ذلك إن أعظم رسالة للأديب هو أن يسعى إلى تلمس أمراض المجتمعات ليعالجها، ومن ثم يأخذ بها الى طرق الوئام والتطور والصلاح البشري، وهذه هي غاية الأدب سواء أكان شعراً أم كان نثراً، وقد عولجت أمراض كثيرة سادت المجتمعات بألوان من الأدب من مثل الأمثال والحكم المتناقلة، والوعظ والإرشاد .
إن اضطراب الأوضاع السياسية والاجتماعية وتناقضها، وإخفاق المقامي في تحقيق آماله وطموحاته قد دفعه إلى الدعوة إلى التزهيد في الحياة والانقباض عن الناس والمجتمع، وإعلان التوبة والأوبة إلى الله يقول:" قد كنت زمان التكهل والاستواء ، قد رأيت الاعتزال والانزواء، وطويت صحف الآداب ومحوت أثر تلك الأنداب".
ويقول الأديب في موضع آخر:" فصار الليل آنس لي من النهار، والخيري أنفحُ من البهار، محبة في الانفراد ، وطلباً للوحشة والشراد" [29]
ليس ثمة شك في أن ما مرت به بلاد الأندلس من محن واضطراب أحوال المجتمع قد أفضى إلى قلق النفوس وتوقعها للمحن والأرزاء في كل لحظة، الأمر الذي حدا بالمقامي إلى ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية في النفوس؛ ليفتح أمام الإنسان الأندلسي أبواب الرجاء، ويعيد إلى نفسه جذوة الأمل في ربه، وتنأى به عن اليأس والقنوط، فالشدائد تزول –بأذن الله – بالصبر والتآلف والإيمان القوي" … ألا إن بعد الشدة رخاء، وعقيب العاصف رُخاء، وعند الشدائد يمن الرب بالعوائد فاستشعروا الفرج وإياكم واليأس ، فالله يرفع اليأس، لقد خسر البؤوس القنوط ، وفضل الله بعباده منوط ، وإن السعة لتداول الضيق وتعاقبه ، وتراسل الأزل وتراقبه" [30]
اتخذ المقامي من موضوع الوعظ وسيلة إلى الصلاح البشري، فسلك طريق الدعوة الى التزهيد في متع الحياة الدنيا والتذكير بالموت والآخرة، فبطل المقامة هو أديب شحاذ أوتى حظاً من البلاغة والبيان استخدمه في وعظ الناس وتحذيرهم من عقاب الله، وهو غالباً ما كان يتخذ من هيئة الزهاد الوعاظ ولباسهم قناعاً يُعمى به حقيقته، فكان يظهر في صورة شيخ واعظ، وولي صالح يتزى بثياب خَلقَة وأسمال بالية يخطب الناس، ويعظهم بأسلوب شائق رشيق.
من يتتبع السرقسطى في مقاماته الوعظية، يجده قد أبدى مهارة فائقة في عرض مواعظه وتوجيهاته الوعظية، إذ غالباً ما كانت الشخصية المقامية تتنكر في صورة الولي الصالح، والعابد الناسك الذي يزهد الناس في الدنيا، ويحبب إليهم الآخرة، ويذكرهم الموت والثواب والعقاب، ويحثهم على التوبة وهجر الذنوب والمعاصي، ويحض على التجمل بمكارم الأخلاق من قناعة وصبر وسخاء وتقوى.
إن قراءة فاحصة للمقامات اللزومية، تكشف أن مبدعها السرقسطى برع في رسم صورة متكاملة الأبعاد لمعالم شخصية بطل المقامة وملامحه، فهو الواعظ الزاهد والولي الصالح من حيث هيئته ونغمات صوته ومهارته في الوعظ والإرشاد والتوجيه الديني، فهو حريص على إظهار بطله بصورة الواعظ التقى الذي يوقظ الغافلين، ويقودهم إلى الهداية والإيمان.
فالمقامي يتخفى حينا في صورة شيخ زاهد تبدو عليه أمارات الورع والزهد: "فلما فرغ الإمام من التشهد، وقد رفت عليه سيماء الانقطاع والتزهد، أخذ في الابتهال والتضرع واحتبى حبوة التقشف والتورع" [31].
ويبرز تارة في هيئة الواعظ الذي يقص على السامعين الأخبار والقصص ، ويضرب لهم الأمثال والحكم ، فهو يجيد الإنشاد والإنشاء ، ويلعب بالعقول ويخلب الجماهير ببيانه العذب ، ويجذبهم إليه جذباً، وقد صب ذلك في قالب قصص وعظي:"فقام فألطف الوعظ ورققه، ودقق معناه وشققه، ونمنم القول وزخرفه، واستغربه واستطرفه وفتق وشعب، واستوفى واستوعب، حتى ألان منا قلوباً قاسية، وثنى نفوساً عاسية ، ولهينا عن كل لهو، وندمنا على ما فرط من سهو"(المقامات اللزومية ص ص 191) .
قد تنتحل الشخصية المقامية هيئة شيخ واعظ، يتزى بأسمال بالية، وثياب خلقة إمعاناً في إخفاء شخصه:" فبينا أنا ذات يوم في مجلس وعظ لبعض النساك … إذا بشيخ في أخلاق يهتف بإقلال وإملاق ، ويلح بالسؤال ، ويذكر بالمآل " [32]
ولم يفت الواعظ أن يستغل ما يتمتع به قدرة على تلوين نغمات صوته لإبراز سيماء التبتل والخشوع قصد التأثير في السامعين وجذبهم إليه يقول" … فإذا بشيخ له صوت حنين ، وبكاء وحنين ، وتلهف وأنين ، وهو في مجلسه على طرف ، وقد أخذ في ملح من الوعظ وطرف" [33]
وفي موطن آخر يقول" … إلى أن نبهنا في بعض الليالي صوت شاج ، وبكاء نثاج ، فكدر الصفو ، وأكد العفو ، فأصغينا إليه سمعا وأسلنا لبكائه دمعا "(المقامات اللزومية ص187 ) .
ومن موضوعات الوعظ والإرشاد التي جسدتها المقامات الحثُ على الزهد في الدنيا ومتاعها، ووصفها بأسوأ النعوت والصفات من: غدر وخداع وتقلب:" إن خادع هذه الدار لغرور، وإن ظلها لحرور، وإن البارد لحميم، وإن البارض لجميم، وإن الناضر لهشيم، وإن الناظر ليشيم، وإنها لمنبت الفجائع، ومعترك الوقائع، وإنها لخادعة الخداع، جمة الإغراب والإبداع" [34]
يغدو الوعظ في المقامة أوضح ما يكون عندما يتوجه الواعظ إلى الإنسان السادر في غيه، المنهمك في ملذاته، المنصرف عن نصح الناصحين، فيحذره من الانخداع بزخرف الدنيا ومتاعها الزائل فهي خداعة غدارة"… هي الدنيا تغر وتخدع، وأنت لا تترك ولا تدع كأنك غافل عما بأهلها تصنع، ألم ترها تأخذ وتمنع، وإذا أعطتك تافهها فإنك لا تشبع ولا تقنع"(المقامات اللزومية ص 107).
من يمعن النظر في المضامين الوعظية التي عالجتها المقامات، يتبين له أن الترغيب في التوبة والمبادرة لها تعد من أكثر المعاني دورانا على ألسنة الشخصيات المقامية؛ لتوافر دواعي التوبة وبواعثها من تقدم في السن وقرب الرحيل، فضلاً عن انسجامها مع نزعة الكاتب في الصلاح البشري وترسيخ قيم التربية الخلقية التي تروم تخليص المجتمع مما شاع فيه من تحلل خلقي ومعنوي ، وتطهير النفوس من أدرانها . يقول الكاتب حاثاً على التوبة والندم في أسلوب وعظي عذب وسلس يأخذ شكل خطبة وعظية بليغة" … إلى كم يُسوفك الأمل والرجاء ، ولا يشوقك المهل والإرجاء ، والعمر قد انصلت انصلات السابق ، والشباب قد انفلت انفلات الآبق ، والغرور يخادعك ويصاديك ، والسرور يوادعك وهو يُعاديك .. حتى إذا هاجمك الحمام الهاجم ، وعاجمك الثُمام العاجم ، أصبحت تقلب طرْفا كليلا ، وتذبذب حرْفا عليلا ، تتأسف وأنى لك الرجعى ، وتتلهف وهيهات منك الحسنى والإعتاب"
هيهات من ذنب المسيء تأسف = وله على هول الذنـوب تعسفُ
قالوا طليق في البسيطة سارح = أنى وفي قيـد الغوايـة يرسف [35].
عمد الكاتب إلى اختتام مقامته الوعظية بقطعة من الشعر؛ هي طريق سلكها السرقسطي في كل مقاماته، ليظل أثره في النفس أوقع . والناظر إلى هذه الأشعار نظرة متأملة، يجدها في الغالب أشعاراً لا ترقى إلى مستوى الشعر الرفيع، ففيها قدر من النثرية والفجاجة، ويغلب عليها طابع الوعظ والنصح ( حمدان ص 278).
المتتبع لمقامات السرقسطى الوعظية التي حث فيها على التوبة، يجدها مبنية أساساً على السجع، بيد أنها لا تسير في فواصلها على وتيرة واحدة، فقد تطول إلى أربعة وقد تقصر إلى اثنتين، وقد تعتدل في ثلاثة. يقول السرقسطى في مقامة وعظية يحث فيها اللاهي الغافل على الإسراع في التوبة وعدم التسويف بالمتاب: " طال العتاب ولا متاب، وجاء النذير ولا عذير، وجل الوزوع ولا نُزوع، وغرك المهل ولا العل دام ولا النهل، وقلت غدا أو بعده، ولم تدر قربه ولا بعده، هيهات من أملك ورجائك، ومن لك بإمهالك وإرجائك ،والطالب حثيث، ومنبت المهالك أثيث" [36]
بُنيت هذه القطعة من المقامة على الالتزام بسجعتين اثنتين ، وقد اتكأ الكاتب فيها على تنويع فواصله؛ ليكسر رتابة النمط الصرفي والإيقاعي، وجاء السجع فيها سهلاً رشيقاً سائغاً، عفو الخاطر غير متكلف ولا مجتلب. ويجيء ميل الكاتب إلى استخدام الفواصل القصيرة منسجماً مع الفكرة التي يريد إيصالها إلى المتلقين؛ بقصد دفعهم إلى التوبة وعدم التسويف بالمتاب، ولعله نهج في انتخاب ألفاظه وتقصير سجعاته نهج العباد الزهاد في مقاماتهم الوعظية .
وفي مقامة وعظية أخرى حض فيها السرقسطى العابثَ اللاهي على التوبة والمبادرة لها وعدم تأجيل المتاب يقول محذراً " ولا وسامك السماء ورافعها ، وماسك الذماء ودافعها ، إنك في حبائل الرزايا لمُضطرب ، ومن مناهل المنايا لمقترب ، تردها ورد القطا النهال ، وتقصدها قصد الهوى للجُهال . ثم لا يخيب من عملك كثير ولا قليل ، ولا يغيب من زللك حقير ولا جليل ، وإنه لمحُصى في الكتاب محدود ومستقصى بالحساب معدود" [37].
عبر الكاتب في هذا النص عن أفكاره ومعانيه مستخدما لوناً من ألوان البديع؛ لما له من أثر فاعل في تزيين العبارة، وإثرائها بالنغم الموسيقي، إذ تضمن هذا النص النثري عدداً من صور الازدواج والجمل المتشابهة القصيرة الفقرات، والمحسنات البديعية بخاصة الطباق، الذي منح العبارة نغماً مؤثراً يخدم المعنى ، ويبرزه في ثوب من الجمال والرقة.
والموت موضوع أثير لدى البطل المقامي، فهو لا ينفك يصف الموت، والتنبيه الى نهاية كل حي، والتذكير بثواب الآخرة والبعث والحساب، بغية زجر السامعين، وتنبيه الغافلين وتخويفهم ، فالموت خير واعظ ، وهو قدر محتوم لا يستطيع المرء الفكاك منه:"الموت لابد نازل ، والأجل مقارب ومنازل ، والمرء بين أمل خادع ، وقدر رادع ، وعمر ذاهب ، وأجل ناهب ، وظل مائل وفيء زائل ، ورأى فائل ، ويقول لن تبيد ، وما أطيب السلع والهبيد، وغراب الردى يحوم ويحلق ، والدهر يبلي جديده ويُخلق" [38]
وقد هيمنت على ذهن الواعظ في غير مقامة وعظية فكرة " الاعتبار" بمن مضى من الأمم وعظام الرجال الذين أخنى عليهم الدهر ، وعصفت بهم يد الحدثان ينساب صوت وعظي تأملي ينبه إلى المصير الذي آلت إليه تلك الممالك والدول ، فالواعظ يقف أمام الأهرامات المصرية مذكراً الغافل بمصيره ونهايته ، مُبرزاً سنة الكون ، فكل شيء إلى زوال ، فعلى العاقل أن يستلهم العظة والعبرة من ذلك المصير: "أين من شيد وأطال، وملك واستطال، وكفر وتمرد، ونكب عن السبيل وعرد، أين فرعون ذو الأوتاد ، وكنعان أخو العدد والعتاد، أين منه العصيان والعناد ، بل أين الحشم والأجناد ، مروا كأمس الدابر ، وانصدع الشمل ، فهل من جابر .. فأين الأجساد والجسوم، تمرون على القبور والأجداث ، ولا تفكرون في النوائب والأحداث، فيا عجباً للاه عنها ومُعرض، وهو من الحتوف في ميدان ومعرض . ويا أخا الدول والممالك ، هل أنت إلا هالك وابن هالك " [39]
عمد الكاتب في هذا النص إلى استغلال القيمة البلاغية لعنصر السجع في نقل أفكاره ، فقد التزم في سجعه أكثر من حرفين، ومع ذلك فالقارئ يحس أن هذا السجع يفيض عذوبة ورقة، وينسجم مع المعنى العام للمقامة، إذ وقع في النفس موقع الاستحسان ؛ لما أحدثه من أثر في تجميل العبارة وتزيينها وإثرائها بالموسيقى .
ولا يخفى على المتأمل أن السرقسطي في هذا النص كان يرمي إلى تلمس علاج المجتمع وصلاحه؛ بما اشتملت عليه مقاماته الوعظية من غايات خلقية ترمي إلى ترسيخ القيم الخلقية في المجتمع الأندلسي وتطهيره من الخلال السيئة والمعايب الاجتماعية التي شاعت فيه.
فالكاتب يحث أصحاب الثراء والمال الى البذل والعطاء وملء بطون الأيتام والفقراء والمعوزين ويدعو الى الكرم والسخاء والبذل في سبيل الله، ويحتقر البخل وعبادة المال ويحذر من الطمع والحرص:" إن البخل لداء أدراء، وخلق أسواء، رأس في الملاوم، وخزي في المقاوم ، يقبح الجمال، وينقص الكمال ، ووراءه الحرص والطمع، وأمامه الخبل والزمع يحسب نفسه غنياً وهو الفقير، ويرى أنه الجليل وهو الحقير" [40]
فقد جاءت ألفاظ هذا النص بسيطة واضحة ، ومفرداته سهلة ميسورة ، فكانت منسجمة مع غرضها ، معبرة بصدق عما يجول في نفس صاحبها من عواطف دينية صادقة ، متسقة مع حياة الزهاد الروحية .
وصفوة القول في المقامات اللزومية أنها كانت معنية بتصوير جوانب متعددة من المجتمع الأندلسي في صورة واضحة ، فقد كشفت بشكل واضح جلي أحوال الفرد وعلاقاته ومشكلاته، وأبرزت المكانة التي كان يتبوؤها الوعاظ في المجتمع الأندلسي، وبينت مدى تعلق الأندلسيين بمجالسهم وحرصهم على سماع أحاديثهم الوعظية وتوجيهاتهم الدينية، وكشفت من جهة أخرى عن استغلال فئة من المجتمع الوعظ الديني لتحقيق مآرب شخصية، واتخاذه حرفة لها تكسب بها رزقها وقوتها.
كشفت الدراسة أيضاً عن أنّ صورة المجتمع في مقامات السرقسطي جاءت أحياناً مشرقة متفائلة، مفعمة بالأمل والخير عندما ينتصر الإنسان على ظروفه القاهرة, ولاسيما المادّي منها, ووردت في أحايين أخرى قاتمة, رماديّة اللون، تعكس شعوراً بالضبابيّة والسوداويّة, عندما يُقْهَرُ الإنسان, وتنكسر قدراته, أمام تفاهة الظروف المادّيّة وبرودتها .
اختار الكاتب للتعبير عن مضامينه أساليب بلاغية مسجوعة يغلب عليها طابع العذوبة والبساطة والصنعة الخفيفة بعيداً عن التكلف والافتعال. وقد تأثر في أساليبه الوعظية بلغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، مبرزاً مهارته الأدبية في النثر والشعر معاً .
أبدى السرقسطي خبرة عميقة في فهم طبيعة مجتمعه ومشكلاته وأحوال أفراده والأشياء والمظاهر المحيطة به على اختلاف ألوانها ومصادرها، وقد عكسها في أدبه بصورة صادقة وأمينة، فهو لا يقف من تلك المظاهر موقف الراصد ، وإنما كان يعمد إلى تحليل تلك الأحوال ووصف العلاج لها من أجل الصلاح البشري. لقد قدم الأديب بتعبيره عن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية جوانب الحياة المختلفة، وأنماط السلوك الإنساني التي تُحدد من خلال الأدب [41]
بينت الدراسة أن المقامات اللزومية للسرقسطي قد شكلت تعبيراً صادقاً عن المجتمع، إذ عكست الحياة بجميع صورها، وعبرت عنها من جميع جوانبها وأساليبها، انطلاقاً من المقولة التي تذهب إلى أن الأديب يعد ممثلاً لصورة المجتمع التي ترتسم في أعماقه من خلال ممارساته وعلاقاته البسيطة والمعقدة.
لقد حاول الكاتب أن يلائم بين عصره ومقاماته ، فحرص على أن يظهر في صورة المعلم والمصلح الاجتماعي الذي يسعى إلى الصلاح البشري بالتزهيد في متع الدنيا وتذكير الناس بالموت الحساب والعقاب [42]
حواشي:
[1] فراج ص 96
[2] القلقشندي14 /110
[3] عوض، ص 12
[4] هو أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطى، المنسوب إلى مدينة "سرقسطة"، ويعرف بابن الاشتركوبي، نسبة إلى إشتركوبي من أعمال "تطيلة"، أديب أندلسي ولغوى ، شاعر ، توفي سنة 538هـ، ابن بشكوال ج2 ، ص 556 ).
[5] عباس ص317
[6] ابن بسام ق 4 ، م 1ص 166
[7] حازم ص342
[8] الجندي ص 318
[9] حازم ص 319
[10] المقامات اللزومية ص107
[11] (المقامات اللزومية ص172)
[12] (المقامات اللزومية ، ص 241 )
[13] (المقامات اللزومية ، ص102 ، 103 ، 344 وما بعدها)
[14] المقامات اللزومية ص172 ، 173.
[15] المقامات اللزومية ص 173
[16] الخانجي ، ص 48
[17] المقامات اللزومية ص ص 206 ، 297
[18] المقامات اللزومية ص 188
[19] المقامات اللزومية ص241
[20] الزباخ ص 147
[21] المقامات اللزومية ص
[22] (المقامات اللزومية ص 294).
[23] (المقامات اللزومية، ص 453 ، 454)
[24] (المقامات اللزومية ص 458)
[25] (المقامات اللزومية ص 583)
[26] (المقامات اللزومية ص 539).
[27] (المقامات اللزومية ص 324 ، 325 )
[28] (السيوفي ص 286 )
[29] (المقامات اللزومية ص136 ).
[30] (المقامات اللزومية ص57، 58) .
[31] (المقامات اللزومية ص264 )
[32] (المقامات اللزومية ص 292).
[33] (المقامات اللزومية ص207 ).
[34] (المقامات اللزومية ص 41 ، 42).
[35] المقامات اللزومية ص 233
[36] ( المقامات اللزومية ص 106 ، 107 ).
[37] (المقامات اللزومية ص233 )
[38] (المقامات اللزومية ص40 ،41 ).
[39] (المقامات اللزومية ص 200 ، 256).
[40] (المقامات اللزومية ص293 ، 294 ) .
[41] (ربابعة، ص128).
[42] ( الزباخ ص 141).
من المعلوم أن الأدب ظاهرة اجتماعية، بحكم طبيعة الإنسان الذي يبدعه ويتعامل معه، وأن ثمة علاقة وثيقة بين الأدب والمجتمع، وهى علاقة تتسم بأنها تبادلية، بمعنى أنه لا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر، وإنما يرفد كل منهما الآخر ويغذيه؛ ذلك أن «للأدب انعكاسات اجتماعية عديدة ، وهو فى حد ذاته يعد انعكاسًا اجتماعيا حتى فى أكثر موضوعاته خصوصية، فهو نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطًا لغويًا، حتى اللغة تفسر من منظور اجتماعي قبل أن تفسر من منظور آخر» [1].
ولا يخفى أن الأدب يمنح المجتمع ويطوره وينميه ، ويحاول أن يدفع به إلى الأمام، والمجتمع يهيئ الجو والبواعث للأديب، ويوفر له مادة الإبداع الخام(ربابعة، ص 15)، فالأديب يمتاح تجاربه من المجتمع متأثراً به، وفي الوقت ذاته يفرغ هذه التجارب في المجتمع، ويؤثر فيه؛ لأنه يعيد صنع هذه الصورة الاجتماعية بالشكل والوجه الذي يريد.
والمقامة بوصفها أحد الفنون الأدبية النثرية تشكل رصيداً حقيقياً للحياة الاجتماعية بكل أبعادها وأشكالها، وترجمة أمينة لتصورات الناس في الحياة، وتصرفاتهم والعلاقات التي تنظم شئونهم، فقد أعطت فكرة عن طبيعة الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وما كان يسود المجتمع من ألوان المحن، وما تخلفه تلك الأزمات من أصداء وآثار في نفوس الناس.
ومن يتأمل معنى المقامة في اللغة، يجدها تعني المجلس أو الجماعة من الناس، وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه جماعة من الناس لسماعها [2].
أما معنى المقامة في الاصطلاح، فهي شبه حكاية أدبية قصيرة مسجوعة، تدور حول بطل أديب متسول، واسع الاطلاع خبير بأمور الحياة ، يروي عنه راوية كلاماً بليغاً حافلاً بالبراعة الأدبية والشوارد اللغوية للتأثير في السامعين [3].
وقد عُرف هذا اللون من النثر الفني أواخر القرن الرابع الهجري على يدي بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ)، وتلاه تلميذه أبو القاسم الحريري (ت 516هـ) الذي نسج مقاماته الخمسين على منواله ، ثم شاع هذا الفن في كثير من البيئات العربية ، ومنها البيئة الأندلسية.
لا بد من الإشارة إلى أن ثمة صلة متينة بين فن المقامة في المشرق وظهورها في الأندلس، ذلك أنه بمجرد وصول المقامات المشرقية إلى الأندلس عكف الأدباء على روايتها " وشرحها ودراستها ومعارضتها، وكان لمقامات الحريري بخاصة صدى بعيد بين أدباء الأندلس.
ويغلب على الظن أن السرقسطى [4] هو أول من حاول تقليد الحريري في مقاماته بإصرار؛ وذلك لتأكيد قدرته الأدبية في هذا الباب، والتعبير عن آرائه وأحواله الشخصية والاجتماعية، وقد جعلها خمسين بعدد مقامات الحريري، والتزم في نثرها المسجوع ما لا يلزم من تعدد القوافي مشترطا أن تكون من حرفين فأكثر، متأثراً في ذلك بطريقة أبي العلاء المعري [5]، وقد غدا لهذه المقامات صيت كبير، فأخذ الأندلسيون يحفظونها ويروونها في مجالسهم .
وحافظ السرقسطي أيضاً على الشخصيتين التقليديتين في المقامة وهما السائب ابن تمام (الراوي) ، والشيخ أبو حبيب (البطل)، وهو رجل سدوسي محتال أصله من عمان، وأحياناً يذكر في بعض مقاماته شخص ثالث اسمه المنذر بن حمام الذي يحدث عن السائب بن تمام ، كما استعان بابني الشيخ السدوسي، أو أحدهما، حبيب وغريب.
تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على صورة المجتمع في المقامات اللزومية للسرقسطي، ورصد دلالتها على الحياة الاجتماعية في بيئته، والكشف عن الأبعاد الاجتماعية التي سعى إلى تصويرها ومعالجتها، مع بيان الأنماط السلوكية التي سادت في عصره ونقدها؛ بقصد الإصلاح والبناء.
اتخذت الدراسة من المنهج الاجتماعي وسيلة لقراءة النصوص الأدبية وتحليلها من منظور مدى تعبيرها عن الوسط الاجتماعي الذي أنتجها؛ لملاءمته لموضوع الدراسة، وهو منهج يُعدُّ النصوص الأدبية غير مستقلة عن شروط إنتاجها الاجتماعي، وأن تلك النصوص تحمل داخلها آثار المجتمع والأفراد الذين أنتجوها، ويرتكز هذا المنهج على مبدأين: أحدهما: اعتبار الأديب غير معزول عن بيئته ووسطه الاجتماعي، والآخر: اعتبار النتاج الأدبي غير منفصل عن السياق الاجتماعي الذي ظهر فيه.
دلالة المقامات اللزومية على الحياة الاجتماعية:
ليست المقامة في حد ذاتها قالباً جميلاً بدون أي مضمون، وليست عرضاً لقدرات المؤلف اللغوية ومواهبه البلاغية فحسب، وإنما تحتوي جانب ذلك غايات وأهدافاً تربوية وخلقية، وفيها تعبير ناقد للمجتمع الذي نشأت فيه.
إن نظرة فاحصة متأملة إلى المقامات الأندلسية تهدي إلى القول بأن تلك المقامات تناولت عدداً من الموضوعات المتنوعة: الوصفية والوعظية والفكاهية والأدبية والنقدية وغير ذلك من موضوعات، فقد تعرضت المقامة الأندلسية الى العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وروابط الصداقة، ووصف الصديق [6]، وتناولت موضوع الضيوف والكرم وما يكون من الكرماء من العطاء، وأشارت إلى المشكلات اليومية المتعلقة بحرفة الانسان ومهنته، وهكذا جاءت المقامة تعبيراً عن حاجة اجتماعية، فقد صورت كثيراً من ظواهر المجتمع، وعالجت جملة من المشكلات الاجتماعية المختلفة ، وعبرت عن آراء الكتاب ومشكلاتهم وهمومهم الذاتية [7].
ولم تخالف المقامات اللزومية للسرقسطي هذا النهج الذي سلكته المقامات الأندلسية، فكان من بين أغراضها التعبير عن الأهداف الشخصية والغايات والاجتماعية في آن واحد ، و قد تبدى الطابع الاجتماعي فيها بشكل أوضح من غيره، وفيه عبر الأديب من خلال المقامات عن الظواهر الاجتماعية المختلفة وأحوال المجتمع، وكل ما يصور العلاقات بين الأفراد.
برزت صورة الحياة الاجتماعية وأحوال الناس للمتلقي في أكثر مقامات السرقسطي واضحة جلية مُجسَّدة في الأعمال التي كان يقوم بها بطل المقامة الشيخ أبو حبيب الذي كان يتخذ في كل مقامة شكلاً، ويلبس لكل حال ثوباً خاصاً يصور فيه أعمال المكدي وحيله في أشكال مختلفة ورسوم متباينة، وما الشيخ أبو حبيب في الواقع إلا صورة من أهل ذلك المجتمع الذي عاش فيه.
والواقع أن السرقسطي لم يترك مظاهر الحياة تمر به دون تسجيل، وإنما راح يرصد كل ظاهرة معللاً أسبابها ومستخلصاً نتائجها، محملاً الناس والسلطة مسؤولية ما يحدث في حياة المجتمع من فساد ومعايب وأنماط سلوكية فاضحاً بأسلوب لاذع ساخر كل ذلك, وقد تصدى بهذا الأسلوب الى كل من انحرف عن جادة الحق والصواب ومذكراً الجميع بمسؤولياتهم عبر المواقع التي كانوا فيها.
إن أول الظواهر الاجتماعية التي تناولها السرقسطي في مقاماته ظاهرة "الكدية"، فالبطل في المقامات اللزومية أديب متسول لديه القدرة على التلون، والخداع، في سبيل الحصول على المال، فهو يلجأ الى ضروب من الحيل والألاعيب، ليظهر بمظهر المستحق، ولديه السبل المتنوعة التي يصل عن طريقها الى قلوب الناس، فيستدر عطفهم، ويحصل على المال.
ومن خلال صورة المكدي التي عرضها السرقسطي ينبثق تساؤل مهم ألا هو: هل كان السرقسطي في رسمه لشخصية المكدي مقلداً لمن سبقه من كتاب المقامات أم أنه كان معنياً برصد ظاهرة اجتماعية وجدت في بيئته؟
للإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول بأن ثمة باحثين يشيرون إلى أن الأمر في المقامات كان تقليدا فنياً، لا يرتبط بطبيعة المجتمع الأندلسي، ذلك أن ظاهرة الكدية لم تكن موجودة في الأندلس، وأنها اختفت من المقامات التي عاصرت السرقسطي أو التي سبقته ، ويسوغون ذلك بأن الأندلسيين كان يسودهم رغد العيش؛ لكثرة الخيرات في بلادهم من ناحية؛ ولأن الروح العربية السائدة في بلادهم لم تنمُ في ظلالها الفوارق الشاسعة بين الطبقات [8].
الواقع أن السرقسطي اتخذ من مقامات الحريري أنموذجا يُحتذى، فغدت مقاماته في جانب منها تقليدا فنياً، وتصويراً لطبيعة المجتمع من جانب آخر؛ لأن الكدية بأساليبها المختلفة لا يخلو منها عصر من العصور، ولا مجتمع من المجتمعات، وأن المجتمع الأندلسي لم يكن في كل حالاته مجتمعاًً يتمتع بالحياة الرغدة، إذ إن اضطراب الحياة وتقلبها جعلت من الطبقتين الوسطى والدنيا في فترات معينة تعانيان الفقر والعوز وضيق العيش والضرائب الباهظة، وغلاء الأسعار، ولم يجد بعض الأدباء مشجعين لهم, فبدأوا يصورون انصراف الحكام في الأندلس عن تشجيع الأدباء، واضطر بعضهم إلى الطواف في البلاد؛ للحصول على المال عن طريق الاستجداء، وبذلك تكون المقامة من "الفنون ذات الأهداف والغايات الشخصية والاجتماعية المعبرة عن أحوال الفرد والمجتمع في أوقات مختلفة، وبأشكال وصور متنوعة [9].
ومن الظواهر الاجتماعية التي كان لها حضور لافت في مقامات السرقسطي ظاهرة الشكوى من الزمان والمصائب والمحن التي حاقت بالناس، إلى جانب التعبير عن الذات وهمومها؛ ذلك أن الظروف المتقلبة التي مرت ببلاد الأندلس من سقوط لدول الطوائف، واستيلاء المرابطين على بلاد الأندلس، والصراع الدامي مع الممالك الإسبانية، قد أدى إلى شعور الأندلسي بالقلق وعدم الاستقرار، وما تبع ذلك من محن ومصائب ولدت الفقر والعوز والحاجة، فضلاً عن أن تناقض الحياة وتقلبها وتغير الأيام وتبدلها دفعت الأدباء إلى أن يشكوا الزمان، ويصفوه بالتحول والغدر والحياة بالتقلب والأيام بعدم الأمان.
ففي إحدى مقامات السرقسطي ينبعث صوت شجي حزين يشكو صاحبه قسوة الحياة وغدر الدهر وظلم المجتمع وفساده ، فهو لا يفتأ يتبرم بالحياة، وبأخلاق أهل الزمان ، فقد اضطربت الموازين في عصره وتقلبت، وفسدت الأهواء، وعمت الحسرة والمرارة النفوس يقول شاكياً:"… حتى رمتني الأيام بخطوبها، وقابلتني بعبوسها وقطوبها، وسلبتني ذلك الثوب القشيب وعوضت من الشباب المشيب" [10].
ويقول في موضع آخر:" فيا لك من دهر لا يبقى على أحد، ولا يبقى على مستأنس وحد، يعني بالقريب والبعيد، ويولع بالشقي والسعيد، ومن حق ذلك الفضل أن توصل أسبابه، وترفع قبابه، ويُصال مذاله، ويحلى جيده وقذاله، وأنتم يا بني المكارم، وذوى الهمم والمكارم، رقوا للأفاضل، واعطفوا بالفواضل وارحموا عزيزاً ذل، وكثيرا قل، ومثريا أدقع، وحائم على موردكم وقع" [11] .
إن إحساس المقامي بظلم الدهر له، وعبث الأقدار به، وإحساسه بالضعة والفقر وضيق الرزق والفاقة قد دفعه إلى أن يلجأ للتكسب والاحتيال في الارتزاق عن طريق الكدية ؛ الأمر الذي جعل القارئ يميل إلى التعاطف معه، والإشفاق على سوء حاله ،لاعتقاده بأنه شخصية قد صنعتها قسوة الحياة في عصره ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية غير العادلة .
وعلى الرغم من أن المقامي قد عوّل على تصوير الجانب الفردي، وركز على الناحية الشخصية، فإن مقامته لا تخلو من لمحات وسمات تعكس نظرته إلى طبيعة الأوضاع الاجتماعية المختلفة، وما كان يسود المجتمع من ألوان المصائب والمحن، وما تركته تلك الأزمات من آثار في وجدان الأفراد وسلوكياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.
عرضت المقامات اللزومية – بوصفها سجلاً صادقاً وترجمة حقيقية لظروف المجتمع الذي نشأت فيه – لظاهرة التناقضات في المجتمع، فقد مثلت المقامة أخلاق المعاصرين، وأحوال العصر في القرن السادس الهجري خير تمثيل وأصدقه، فصورت من جهة جانباً من حياة العبث والمجون والترف التي انغمس فيها بعض الأندلسيين [12]، ورسمت من جهة أخرى النزعة الدينية القوية لدى أفراد المجتمع المتمثلة في الإقبال على الزهد والتعبد والتنسك ، والحرص على حضور حلقات الوعظ والنصح الديني التي كان يعقدها أهل التقوى والورع من الزهاد والصلحاء [13]
ولم تقف المقامة عند تناول ظاهرة التناقضات في سلوك الناس وتصرفاتهم، وإنما كان للأديب موقف الإنسان الناقد من هذه السلوكيات، ذلك أن أية مقامة من مقاماته لم تخل من نقد اجتماعي وأخلاقي لواقع العصر الذي عاشه الأديب، فإذا كان السرقسطي قد رسم صورة الواعظ الذي يصدر في وعظه عن تقوى وورع وإيمان صادق برسالته التي تروم الهداية والصلاح، فإنه عرض في الوقت نفسه صورة الواعظ المزيف الذي يلبس قناع الصلاح والتقوى، ويتزيى برداء الزهد والتنسك؛ لتحقيق مآربه الشخصية.
ففي إحدى المقامات يتخفي المقامي في صورة الواعظ التقى والولي الصالح ، فيسرق أمتعة المصلين وأموالهم ، يقول في أسلوب قصصي ممتع : " إنه صلى معنا العشاء ، وأتى من حسن القول بما شاء ، فعطف منا معاطف وجوانب ، وأسال منا متالع ومذانب. وزعم أنه في غد راحل. وأن سوف تطويه المراحل، وسأل المبيت في المسجد ، مع كل منهم مثله ومنجد ، فأكرمنا عشاءه ووصلنا رشاءه، وأرحنا من نصبه وعيه، وقمنا بشبعه وريه .فلما أصبحنا لصلاة الصبح ، عثرنا من أمره على قبح ، ووجدنا من كان معه قد سلبه ريشه ، وثلل عريشه" [14]
ثم ما لبث المقامي أن عاد وتنكر في زيّ الوعاظ إمعانا في إخفاء شخصه « إلى أن قام في هذه الجماعة فتلثم وتلفع، وتوسل بالكتاب وتشفع، وأخذ في وعظ وتحديث وقديم من الخبر وحديث ، فأمال النفوس إليه بكل مميل، وأسرعت نحوه بوخذ وذميل، ونحن مع ذلك نألف مواقع نجمه، ونأنس بعطفه للكلام ورجعه» [15]
يبدو أن السرقسطي كان يرمي من وراء ذلك إلى كشف التناقض الكبير بين سلوك الواعظ الزائف ودعوته الخلقية؛ بقصد تعرية هذه النماذج والسخرية من سلوكهم المتناقض" وهكذا نرى المقامة الأندلسية تسير في عرض أنواع متباينة من الوعاظ والدجالين والمشعوذين، وكل من يتخذ الدين سلاحاً إما للوعظ والإرشاد بصدق وصلاح وتقوى وإما سبيلاً لاغتيال أموال السذج والبسطاء من الناس. والمقامة في عرض كل هذه الأنماط المتباينة تسخر حيناً وتشف حينا أخرى عن واقع اجتماعي مُزر [16].
يتناول الكاتب في بعض مقاماته الوعظية ظاهرة زهد المجان، فيعرض حياة الترف والمجون التي انغمس فيها بعض أفراد المجتمع، ثم يصور صحوة الضمير عند ذوي النفوس الحية والضمائر اليقظة ، ويسجل ما يدور في نفوسهم من صراع بين الرغبة في التمادي في حياة العبث واللهو وبين نيتهم الصادقة في التوبة وهجر الذنوب، معبراً عن ذلك بطريقة البوح الذاتي التي تعتمد المكاشفة والمصارحة بعيداً عن الخداع والتمويه، يقول:" أقمتُ … أخبطُ من ليل الغواية داجياً، واستصحب من خدن الصبابة مداجياً، وأسير في ميدان البطالة واضعاً أو ناجياً.. إلى أن نفد العمر والوفر، ودار السماك والغفر، فأرمعت إقلاعا، ورجوت اضطلاعا، وحنيت على التوبة جوانح وأضلاعا، وبقيت لا يقربى قرار، ولا يعتادني من النوم إلا غرار، ولا ينفح من الروض رند ولا عرار، تفكراً في الموت، وحذراً من الفوت، وارتقاباً للصوت" [17].
وتعد ظاهرة التحلل الخلقي من الظواهر الاجتماعية التي عالجها السرقسطي، ذلك أن المقامة تعد مرآة صادقة تعكس الحياة الاجتماعية في مختلف أبعادها وأشكالها، فالقارئ المتمعن يكتشف أن الأديب يصور جانباً من جوانب المجتمع وهو جانب التحلل الخلقي، الذي يعد أثراً من الآثار التي ورثها المجتمع المرابطي عن مجتمع عصر ملوك الطوائف الذي سبقه، ففي إحدى المقامات الوعظية يستمع بطل المقامة الذي تبدى في صورة واعظ إلى اعتراف ذاتي لأحد المجان يذكر فيه ما ارتكب من أوزار، ويندم على ما اجترح من آثام، ويطمع في رضا الله ومغفرته، يقول:"… أنا من جملة نقارف الذنوب ، وترجو من فضل الله تعالى السجل والذنوب ، وتواقع الخطايا ، وتركب الجرائم رواحل ومطايا ، ثم ترجو من ربها المواهب والعطايا ، سمعنا تضرعك وابتهالك، فخشينا أن أمراً ما هالك، فجئنا نرجو يمن جوارك ، وبركة حوارك" [18].
يصور السرقسطي نمطاً آخر من أنماط السلوك البشري، إنه صاحب التوبة الكاذبة أو المترددة، حيث ينكث فيها التائب وعده ، ويعود إلى عبثه ومجونه " كنت قد ودعت الصبا والصبابة، وترشفت الشفافة منها والصبابة ، واعتزمت الإنابة والإقلاع ، وحنوت على التوب الجوانح والأضلاع .. حتى إذا ساورتني سورة الجريال، ولقحت حرب صبابتي عن حيال ، فراجعتها بعد التطليق ، وقابلت عبوسها بوجه طليق" [19].
وفي مكنة المتلقي أن يتعرف إلى خصائص الطبقات الاجتماعية وسماتها في المجتمع العربي من خلال المقامات التي صورت ذلك كله بتفصيل كبير.فقد مثلت المقامات السرقسطية في جانب من جوانب خير تمثيلً طبيعة التركيب الاجتماعي في المجتمع، وهو تركيب تتسع فيه المسافة بين طبقات المجتمع: بين طبقة غنية تملك رفاهة الحياة ، وأخرى تحرم منها، بين فئة سائدة، وأخرى مسودة، وهذا الوضع تكثر أمراض المجتمع وتتنوع معايبه وأدواؤه الاجتماعية والخلقية [20].
يعمد الأديب إلى تصوير المجتمع وما في تركيبته الاجتماعية من طبقات مختلفة: بين طبقة غنية مترفة، وأخرى محرومة تشكو الفاقة والعوز؛ بقصد دفع الأغنياء إلى العطاء والسخاء:" ألستم ترون الحاجة والفاقة، ألم تسمعوا هذه الدرر ، ألم تتبينوا العُري والضرر. تلبسون الثياب، وتشدون العياب ، وتدخرون فضول الأقوات، وتتمتعون بنغم اللحوُن والأصوات ولا تدرون بغريب يُقاسي نغمة القرقس والذباب، ويتقي حمة العقرب والحُتاب. ويأوى إلى بيت أضيق من سم الخياط، وقول أوجع من أليم السياط ، لم يقدح فيه بزناد ولا خلا من عويل أو عناد" [21].
وهذه الواقعة وأمثالها تكشف للمتلقي عن أخلاق الناس في ذلك المجتمع المتعدد الطبقات والفئات، وهم في أخلاقهم تلك لا يكادون يختلفون عن المعاصرين من أهل زماننا في شئ، ولكن المقامات تعطي صورة عن مجتمع السرقسطي لم تكن لتظهر بهذا الوضوح لولا أن رسمها المقامي.
يلجأ المقامي – أحياناً- إلى وصف عادات بعض طوائف من المجتمع والتعرف الى تقاليدهم في الحياة، ففي المقامة "البربرية" يزور بطل المقامة الشيخ أبو حبيب مدينة طنجة في شمالي إفريقية، ويصور طبيعة مجتمع البربر وعاداتهم، يقول في وصف أهل "طنجة" بولائه لشعبه. وهذه هي كلمات راويته: وجدت نفسي بين أناس كالنعام أو البقر، بين شعب كالأفاعي أو الضباع لم أستطع فهم كلامهم ولا يتفق تفكيرهم مع أي تفكير. شعرت وكأني وقعت بين حيوانات مفترسة أو كراع بين حيوانات لا تُقاد ولا تستقر، ولا تُربط ولا تصبر. كنت أسمع عن الأندلس وعن ثقافتها ومهرجاناتها وغناها حتى إن صدري التهب شوقاً إليها وغدوت مستعداً للتضحية بأثمن ما أملك من أجلها" [22]
عرض السرقسطي في هذا الجزء من مقامته وصفاً دقيقاً لمظاهر حياة البربر الاجتماعية وعاداتهم وأغانيهم وطعامهم وشرابهم . ويعد هذا التصوير ذا أهمية خاصة؛ لكونه أحد المصادر الأدبية التي توثق عداء الطبقة الأندلسية المثقفة للبربر ونضالها من أجل توكيد استقلالها.
عوّل الكاتب في مقاماته على كشف جانب من جوانب الظواهر الاجتماعية السالبة في المجتمع وإبرازها في قالب ساخر شفاف، بقصد كشف زيفها من أجل إصلاحها ، ففي مقامة "الدب"، يصور المقاميُّ البطلَ الشيخ المحتال يتكسب من ترقيص دب له ومداعبته والناس من حوله مجتمعون، يقول:" فإذا بشخص مزمل فى كساء بين صبية ونساء، يعدو ويرقص، ويزيد فى حديثه وينقص، وإذا فى يده سلاسل، وحيوان كريه المنظر باسل، يَرقُصُ برقصه، ويتوقع مواقع زيْده ونقصه، وقد شحا فاه بعود، وأخذ فى هبوط من اللهو وصعود، وهو يقول: اسمعوا ما قال أبو رُبّاح ذو اليسر والرَّباح الذي ليس له زئير ولا نباح، ولا نسيم ولا عواء ولا ضُباح… عدو النحل، وأسير الوحل " [23].
من يتأمل موقف السرقسطي من سلوكيات بطل المقامة، يجده ينطلق في ذلك من نظرة نقدية ساخرة من هذا السلوك، ويتمثل ذلك في كشف مثل هذه الظواهر الاجتماعية وتعريتها، حيث لا يحصل الأديب على عمل يليق بمقامه وأدبه فيلجأ إلى مراقصة الدب للحصول على المال ليقيم به أوده، وعندما رأى الراوي البطلَ المقامي " أبا حبيب" الذي يتصف بالبلاغة والفصاحة والمكانة المعروفة يرقّّص الدب ويداعبه، استنكر منه هذا السلوك المشين، ويوجه إليه نقدا لاذعاً فيقول:" أبا حبيب، أبالدب ترتزق، ومع الولدان تنمرق، لقد سفل نجمك، ورذل حجمك، وخف وقارك، وطال نقارك، وساء مآلك، وغر سرابك وآلك، ولؤم سعيك، وحرم رعيك، ووجب نعيك" [24].
فتح المقامي في هذا النص نافذة خفية؛ ليكشف من خلالها صورةَ الوجه الحقيقي للمجتمع في عصره، والمبني على ترف نخبة من الناس لا تلتفت إلى أولئك الذين يكدون على حساب كرامتهم الاجتماعية، ومكانتهم العلمية والأدبية ابتغاء الحصول على لقمة العيش؛ ذلك أن الفقراء من أهل العلم لا يجدون تكريماً لعلمهم؛ فقيمة كل امرئ بما يملكه، وليس بما يحسنه، لقد تدنت مكانة أهل العلم والأدب، وصار العالم أو الأديب يعمل في ترقيص الدب؛ ليكسب وفراً وغنى في الحياة.
أما في مقامة "الطب والعرافة"، فيَبرز البطل وقد انتحل مهنة الطب والعرافة معاً ، فهو يداوي فتى أصابه المرض ففعل به الأفاعيــل، يقول في وصف حالة ذلك المريض:" …والشق مائل، والزبد من فمه سائل، والذراع فتلاء، والمقلة قبلاء، والريق قد عصب فاه،والكرب قد وفّاه وما وفّاه"(المقامات اللزومية ص 458)، وعند ما يخفق في مداواة ذلك المريض، فإنه يلجا إلى عالم الجن، يستعين بالعزائم في تخفيف آلام مريضه فيقول مخاطباً الجن:" يا مارد سهمك صائد، ويا مريد ماذا تريد ، ما أطغاك ما أعصاك ، ما أبعدك عن الخير وأقصاك، أخرج يا واغل، فإنك شاغل، إبعد يا خاتل فإنك قاتل " [25]..
وبعد أن يسخّر الجن لحيلة من حيله يخاطب الناس معلناً عن مهارته وحذقه فيقول منادياً:" أيها الناس عندي في هذا الشأن سراير، وخبايا من الحكمة وضراير، أخذتها عن العلماء، ولقنتها من الحكماء، أين من شكا من هذه الأعراض؟ أين من رمي من هذه الأغراض؟ أين من لحقته آفة ؟ أين من برحت به علاقة أو شأفة؟ أين من خامرته الأشواق الوساوس؟ ولعبت به الأجراس والوساوس، أين من سحره ساحر أو دحره داحر ؟ أين من لصقته عين أو ورهقه دين ؟ عليَّ الضمان وأنا الزعيم وله النعيم" [26]
من يتأمل هذه المقامة، يكتشف أن السرقسطي قد أظهر بشيء من اللوعة والمرارة والنقد الصريح سلوكيات هذه الشخصية وتصرفاتها ، فهي لم تنل عطفه, وإنما اتخذ منها موقفاً قاسياً، وأشعر المتلقي أنها شخصية سيئة لئيمة الطباع، معبراً عن سخطه على الأحوال الاجتماعية التي كانت سائدة في بيئته، إنه ينتقد من طرف خفي سلوك الطبيب المفتن الذي يستخف بعقول الناس ويتظاهر أمامهم بأنه طبيب حاذق يستطيع شفاء المريض، وهو في الحقيقة مغرور مخادع يحاول أن تنطلي أكاذيبه على الناس؛ ليحتال على أموالهم، فهو لا يريد أن ينال الرزق عن طريق ما، وإنما ضعفت همته، فغدا يلتمسه بواسطة ما يحتال به.
لقد حاول السرقسطي أن يعرض في بعض مقاماته لصورة البطل مقرونة بحركة الزمان والمكان والإنسان، فقد رسم مشاهد ًحية نابضة بالحياة والحيوية لشخصياته، كأنه في ذلك عين آلة تصوير للرائي، تنقل الصور حية متحركة، وترصد الحركات والهمسات والأصوات، مثيرة الضحك والشعور بالبهجة مقرونة بالمرارة، وذلك في تعبيره عما جرى أمام الراوي، وبحضرته ومشاركته، وذلك بقوله يصف القاضي الجائر: فإنك الذي لا يكفيه قليل ولا كثير، ولا يسلم من ظلمه خسيس ولا أثير، تساهم في التراث، وتزاحم في الاحتراث،… تلمح الدرهم، فتركب الأيهم، وترى الدينار، فتقتحم النار، وأنت في عمرك على شفا جرف هار، وهامة ليل أو نهار، تزعم العلم وتدعيه، ولا تفهمه ولا تعيه، فهو عليك لا لك، وأولى لك ثم أولى لك" [27].
صور السرقسطي في مقامة "القاضي" جانباً من جوانب أخلاق العصر على لسان الراوي السائب بن همام، حيث نقل مشهدا من مشاهد الظلم الاجتماعي والفساد والرشوة التي تمثلت في صورة أحد القضاة وكاتبه، إذ كشف الكاتب مظالم القاضي وجوره ولجوءه إلى الرشوة وجمع الأموال من الناس بغير وجه حق.
إن شخصية القاضي في هذا النص يعكس نمطاً من الأنماط السلوكية التي عايشها الأديب في عصره، وقد جسد ملامح هذه الصورة بأسلوب مبني على المفارقة التصويرية ، فالمعروف عن القاضي أنه يتحلى بالأخلاق الفاضلة والسمات الدينية المشرقة من عدل وأمانة وعفة وعلم ومعرفة، بيد أن الكاتب خالف هذا التوقع وأبرز القاضي في صورة إنسان يتصف بالجو والظلم ، فهولا يتورع عن تعاطي الرشوة، وسرقة أموال العامة، وقد جاءت لغة الأديب: مفردات وأساليب مصوغة في تراكيب بسيطة سهلة واضحة، والسجع فيها مقبولة بشكل سائغ، وقد حاول المقامي أن يبرز ثقافته الدينية التي تناسب الموضوع، فعمد إلى الاقتباس من آي الذكر الحكيم؛ ليفخم بها موعظته، ويجتذب نفوس السامعين فمن الاقتباس باللفظ والصيغة وأنت في عمرك على شفا جرف هار وهذا يذكر السامع بقوله تعالى وكنتم على شفا جرف هار فانهار بكم وعبارته:" وأولى لك ثم أولى لك" مستمدة من قوله تعالى: أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى ومما لا شك فيه أن هذه الاقتباسات من القرآن الكريم جاءت منسجمة مع مضمون القطعة ومؤكدة لها .وقد أكسبت المعنى قوة وعمقاً،ً وأعطته لوناً من الشرف والسمو.
وإلى جانب نقد الأديب لتلك الحيل السلوكية المعيبة في المجتمع من تسخير الجن، وادعاء أنها تشفى المرضي. فإن الهدف من وراء هذا النقد هو فضح الأحوال الاجتماعية الفاسدة بغرض صحوة المسئولين لعلاجها، فضلاًً عن توجيه مثل هذه الشرائح من الناس إلى التزام الحق فى كل ما يقولونه أو يفعلونه وأن يتحلوا بالخلق الطيب والسلوك القويم، ، فقد تمكن بذلك أن يضع دستور الخلق الطيب والسلوك الحميد والصفات المثلى، وأن يتخذ منه نبراس حياة، وأسلوب اصطفاء في تعامله مع أفراد المجتمع، وبهذا تكون المقامة قد مثلت في جانب منها عدة وثائق لرصد الأنماط السلوكية في المجتمع الأندلسي [28]. وقد اتكأ المقامي في التعبير عن موقفه وأفكاره ورسم مشاهده على اللغة التصويرية لاسيما صورة الفتى المريض، وترك لخيال المتلقي فسحة في رسم التفاصيل من خبرته السابقة.
المقامة وعلاج المجتمع:
الواقع أن النقد الاجتماعي يعد من أبرز البواعث التي حفزت السرقسطي على أن يبدع مقاماته، فهو يقدم نقداً اجتماعياً متنوعاً ً لمناحي الحياة في المجتمع الإسلامي في عصره؛ ذلك إن أعظم رسالة للأديب هو أن يسعى إلى تلمس أمراض المجتمعات ليعالجها، ومن ثم يأخذ بها الى طرق الوئام والتطور والصلاح البشري، وهذه هي غاية الأدب سواء أكان شعراً أم كان نثراً، وقد عولجت أمراض كثيرة سادت المجتمعات بألوان من الأدب من مثل الأمثال والحكم المتناقلة، والوعظ والإرشاد .
إن اضطراب الأوضاع السياسية والاجتماعية وتناقضها، وإخفاق المقامي في تحقيق آماله وطموحاته قد دفعه إلى الدعوة إلى التزهيد في الحياة والانقباض عن الناس والمجتمع، وإعلان التوبة والأوبة إلى الله يقول:" قد كنت زمان التكهل والاستواء ، قد رأيت الاعتزال والانزواء، وطويت صحف الآداب ومحوت أثر تلك الأنداب".
ويقول الأديب في موضع آخر:" فصار الليل آنس لي من النهار، والخيري أنفحُ من البهار، محبة في الانفراد ، وطلباً للوحشة والشراد" [29]
ليس ثمة شك في أن ما مرت به بلاد الأندلس من محن واضطراب أحوال المجتمع قد أفضى إلى قلق النفوس وتوقعها للمحن والأرزاء في كل لحظة، الأمر الذي حدا بالمقامي إلى ترسيخ مفاهيم العقيدة الإسلامية في النفوس؛ ليفتح أمام الإنسان الأندلسي أبواب الرجاء، ويعيد إلى نفسه جذوة الأمل في ربه، وتنأى به عن اليأس والقنوط، فالشدائد تزول –بأذن الله – بالصبر والتآلف والإيمان القوي" … ألا إن بعد الشدة رخاء، وعقيب العاصف رُخاء، وعند الشدائد يمن الرب بالعوائد فاستشعروا الفرج وإياكم واليأس ، فالله يرفع اليأس، لقد خسر البؤوس القنوط ، وفضل الله بعباده منوط ، وإن السعة لتداول الضيق وتعاقبه ، وتراسل الأزل وتراقبه" [30]
اتخذ المقامي من موضوع الوعظ وسيلة إلى الصلاح البشري، فسلك طريق الدعوة الى التزهيد في متع الحياة الدنيا والتذكير بالموت والآخرة، فبطل المقامة هو أديب شحاذ أوتى حظاً من البلاغة والبيان استخدمه في وعظ الناس وتحذيرهم من عقاب الله، وهو غالباً ما كان يتخذ من هيئة الزهاد الوعاظ ولباسهم قناعاً يُعمى به حقيقته، فكان يظهر في صورة شيخ واعظ، وولي صالح يتزى بثياب خَلقَة وأسمال بالية يخطب الناس، ويعظهم بأسلوب شائق رشيق.
من يتتبع السرقسطى في مقاماته الوعظية، يجده قد أبدى مهارة فائقة في عرض مواعظه وتوجيهاته الوعظية، إذ غالباً ما كانت الشخصية المقامية تتنكر في صورة الولي الصالح، والعابد الناسك الذي يزهد الناس في الدنيا، ويحبب إليهم الآخرة، ويذكرهم الموت والثواب والعقاب، ويحثهم على التوبة وهجر الذنوب والمعاصي، ويحض على التجمل بمكارم الأخلاق من قناعة وصبر وسخاء وتقوى.
إن قراءة فاحصة للمقامات اللزومية، تكشف أن مبدعها السرقسطى برع في رسم صورة متكاملة الأبعاد لمعالم شخصية بطل المقامة وملامحه، فهو الواعظ الزاهد والولي الصالح من حيث هيئته ونغمات صوته ومهارته في الوعظ والإرشاد والتوجيه الديني، فهو حريص على إظهار بطله بصورة الواعظ التقى الذي يوقظ الغافلين، ويقودهم إلى الهداية والإيمان.
فالمقامي يتخفى حينا في صورة شيخ زاهد تبدو عليه أمارات الورع والزهد: "فلما فرغ الإمام من التشهد، وقد رفت عليه سيماء الانقطاع والتزهد، أخذ في الابتهال والتضرع واحتبى حبوة التقشف والتورع" [31].
ويبرز تارة في هيئة الواعظ الذي يقص على السامعين الأخبار والقصص ، ويضرب لهم الأمثال والحكم ، فهو يجيد الإنشاد والإنشاء ، ويلعب بالعقول ويخلب الجماهير ببيانه العذب ، ويجذبهم إليه جذباً، وقد صب ذلك في قالب قصص وعظي:"فقام فألطف الوعظ ورققه، ودقق معناه وشققه، ونمنم القول وزخرفه، واستغربه واستطرفه وفتق وشعب، واستوفى واستوعب، حتى ألان منا قلوباً قاسية، وثنى نفوساً عاسية ، ولهينا عن كل لهو، وندمنا على ما فرط من سهو"(المقامات اللزومية ص ص 191) .
قد تنتحل الشخصية المقامية هيئة شيخ واعظ، يتزى بأسمال بالية، وثياب خلقة إمعاناً في إخفاء شخصه:" فبينا أنا ذات يوم في مجلس وعظ لبعض النساك … إذا بشيخ في أخلاق يهتف بإقلال وإملاق ، ويلح بالسؤال ، ويذكر بالمآل " [32]
ولم يفت الواعظ أن يستغل ما يتمتع به قدرة على تلوين نغمات صوته لإبراز سيماء التبتل والخشوع قصد التأثير في السامعين وجذبهم إليه يقول" … فإذا بشيخ له صوت حنين ، وبكاء وحنين ، وتلهف وأنين ، وهو في مجلسه على طرف ، وقد أخذ في ملح من الوعظ وطرف" [33]
وفي موطن آخر يقول" … إلى أن نبهنا في بعض الليالي صوت شاج ، وبكاء نثاج ، فكدر الصفو ، وأكد العفو ، فأصغينا إليه سمعا وأسلنا لبكائه دمعا "(المقامات اللزومية ص187 ) .
ومن موضوعات الوعظ والإرشاد التي جسدتها المقامات الحثُ على الزهد في الدنيا ومتاعها، ووصفها بأسوأ النعوت والصفات من: غدر وخداع وتقلب:" إن خادع هذه الدار لغرور، وإن ظلها لحرور، وإن البارد لحميم، وإن البارض لجميم، وإن الناضر لهشيم، وإن الناظر ليشيم، وإنها لمنبت الفجائع، ومعترك الوقائع، وإنها لخادعة الخداع، جمة الإغراب والإبداع" [34]
يغدو الوعظ في المقامة أوضح ما يكون عندما يتوجه الواعظ إلى الإنسان السادر في غيه، المنهمك في ملذاته، المنصرف عن نصح الناصحين، فيحذره من الانخداع بزخرف الدنيا ومتاعها الزائل فهي خداعة غدارة"… هي الدنيا تغر وتخدع، وأنت لا تترك ولا تدع كأنك غافل عما بأهلها تصنع، ألم ترها تأخذ وتمنع، وإذا أعطتك تافهها فإنك لا تشبع ولا تقنع"(المقامات اللزومية ص 107).
من يمعن النظر في المضامين الوعظية التي عالجتها المقامات، يتبين له أن الترغيب في التوبة والمبادرة لها تعد من أكثر المعاني دورانا على ألسنة الشخصيات المقامية؛ لتوافر دواعي التوبة وبواعثها من تقدم في السن وقرب الرحيل، فضلاً عن انسجامها مع نزعة الكاتب في الصلاح البشري وترسيخ قيم التربية الخلقية التي تروم تخليص المجتمع مما شاع فيه من تحلل خلقي ومعنوي ، وتطهير النفوس من أدرانها . يقول الكاتب حاثاً على التوبة والندم في أسلوب وعظي عذب وسلس يأخذ شكل خطبة وعظية بليغة" … إلى كم يُسوفك الأمل والرجاء ، ولا يشوقك المهل والإرجاء ، والعمر قد انصلت انصلات السابق ، والشباب قد انفلت انفلات الآبق ، والغرور يخادعك ويصاديك ، والسرور يوادعك وهو يُعاديك .. حتى إذا هاجمك الحمام الهاجم ، وعاجمك الثُمام العاجم ، أصبحت تقلب طرْفا كليلا ، وتذبذب حرْفا عليلا ، تتأسف وأنى لك الرجعى ، وتتلهف وهيهات منك الحسنى والإعتاب"
هيهات من ذنب المسيء تأسف = وله على هول الذنـوب تعسفُ
قالوا طليق في البسيطة سارح = أنى وفي قيـد الغوايـة يرسف [35].
عمد الكاتب إلى اختتام مقامته الوعظية بقطعة من الشعر؛ هي طريق سلكها السرقسطي في كل مقاماته، ليظل أثره في النفس أوقع . والناظر إلى هذه الأشعار نظرة متأملة، يجدها في الغالب أشعاراً لا ترقى إلى مستوى الشعر الرفيع، ففيها قدر من النثرية والفجاجة، ويغلب عليها طابع الوعظ والنصح ( حمدان ص 278).
المتتبع لمقامات السرقسطى الوعظية التي حث فيها على التوبة، يجدها مبنية أساساً على السجع، بيد أنها لا تسير في فواصلها على وتيرة واحدة، فقد تطول إلى أربعة وقد تقصر إلى اثنتين، وقد تعتدل في ثلاثة. يقول السرقسطى في مقامة وعظية يحث فيها اللاهي الغافل على الإسراع في التوبة وعدم التسويف بالمتاب: " طال العتاب ولا متاب، وجاء النذير ولا عذير، وجل الوزوع ولا نُزوع، وغرك المهل ولا العل دام ولا النهل، وقلت غدا أو بعده، ولم تدر قربه ولا بعده، هيهات من أملك ورجائك، ومن لك بإمهالك وإرجائك ،والطالب حثيث، ومنبت المهالك أثيث" [36]
بُنيت هذه القطعة من المقامة على الالتزام بسجعتين اثنتين ، وقد اتكأ الكاتب فيها على تنويع فواصله؛ ليكسر رتابة النمط الصرفي والإيقاعي، وجاء السجع فيها سهلاً رشيقاً سائغاً، عفو الخاطر غير متكلف ولا مجتلب. ويجيء ميل الكاتب إلى استخدام الفواصل القصيرة منسجماً مع الفكرة التي يريد إيصالها إلى المتلقين؛ بقصد دفعهم إلى التوبة وعدم التسويف بالمتاب، ولعله نهج في انتخاب ألفاظه وتقصير سجعاته نهج العباد الزهاد في مقاماتهم الوعظية .
وفي مقامة وعظية أخرى حض فيها السرقسطى العابثَ اللاهي على التوبة والمبادرة لها وعدم تأجيل المتاب يقول محذراً " ولا وسامك السماء ورافعها ، وماسك الذماء ودافعها ، إنك في حبائل الرزايا لمُضطرب ، ومن مناهل المنايا لمقترب ، تردها ورد القطا النهال ، وتقصدها قصد الهوى للجُهال . ثم لا يخيب من عملك كثير ولا قليل ، ولا يغيب من زللك حقير ولا جليل ، وإنه لمحُصى في الكتاب محدود ومستقصى بالحساب معدود" [37].
عبر الكاتب في هذا النص عن أفكاره ومعانيه مستخدما لوناً من ألوان البديع؛ لما له من أثر فاعل في تزيين العبارة، وإثرائها بالنغم الموسيقي، إذ تضمن هذا النص النثري عدداً من صور الازدواج والجمل المتشابهة القصيرة الفقرات، والمحسنات البديعية بخاصة الطباق، الذي منح العبارة نغماً مؤثراً يخدم المعنى ، ويبرزه في ثوب من الجمال والرقة.
والموت موضوع أثير لدى البطل المقامي، فهو لا ينفك يصف الموت، والتنبيه الى نهاية كل حي، والتذكير بثواب الآخرة والبعث والحساب، بغية زجر السامعين، وتنبيه الغافلين وتخويفهم ، فالموت خير واعظ ، وهو قدر محتوم لا يستطيع المرء الفكاك منه:"الموت لابد نازل ، والأجل مقارب ومنازل ، والمرء بين أمل خادع ، وقدر رادع ، وعمر ذاهب ، وأجل ناهب ، وظل مائل وفيء زائل ، ورأى فائل ، ويقول لن تبيد ، وما أطيب السلع والهبيد، وغراب الردى يحوم ويحلق ، والدهر يبلي جديده ويُخلق" [38]
وقد هيمنت على ذهن الواعظ في غير مقامة وعظية فكرة " الاعتبار" بمن مضى من الأمم وعظام الرجال الذين أخنى عليهم الدهر ، وعصفت بهم يد الحدثان ينساب صوت وعظي تأملي ينبه إلى المصير الذي آلت إليه تلك الممالك والدول ، فالواعظ يقف أمام الأهرامات المصرية مذكراً الغافل بمصيره ونهايته ، مُبرزاً سنة الكون ، فكل شيء إلى زوال ، فعلى العاقل أن يستلهم العظة والعبرة من ذلك المصير: "أين من شيد وأطال، وملك واستطال، وكفر وتمرد، ونكب عن السبيل وعرد، أين فرعون ذو الأوتاد ، وكنعان أخو العدد والعتاد، أين منه العصيان والعناد ، بل أين الحشم والأجناد ، مروا كأمس الدابر ، وانصدع الشمل ، فهل من جابر .. فأين الأجساد والجسوم، تمرون على القبور والأجداث ، ولا تفكرون في النوائب والأحداث، فيا عجباً للاه عنها ومُعرض، وهو من الحتوف في ميدان ومعرض . ويا أخا الدول والممالك ، هل أنت إلا هالك وابن هالك " [39]
عمد الكاتب في هذا النص إلى استغلال القيمة البلاغية لعنصر السجع في نقل أفكاره ، فقد التزم في سجعه أكثر من حرفين، ومع ذلك فالقارئ يحس أن هذا السجع يفيض عذوبة ورقة، وينسجم مع المعنى العام للمقامة، إذ وقع في النفس موقع الاستحسان ؛ لما أحدثه من أثر في تجميل العبارة وتزيينها وإثرائها بالموسيقى .
ولا يخفى على المتأمل أن السرقسطي في هذا النص كان يرمي إلى تلمس علاج المجتمع وصلاحه؛ بما اشتملت عليه مقاماته الوعظية من غايات خلقية ترمي إلى ترسيخ القيم الخلقية في المجتمع الأندلسي وتطهيره من الخلال السيئة والمعايب الاجتماعية التي شاعت فيه.
فالكاتب يحث أصحاب الثراء والمال الى البذل والعطاء وملء بطون الأيتام والفقراء والمعوزين ويدعو الى الكرم والسخاء والبذل في سبيل الله، ويحتقر البخل وعبادة المال ويحذر من الطمع والحرص:" إن البخل لداء أدراء، وخلق أسواء، رأس في الملاوم، وخزي في المقاوم ، يقبح الجمال، وينقص الكمال ، ووراءه الحرص والطمع، وأمامه الخبل والزمع يحسب نفسه غنياً وهو الفقير، ويرى أنه الجليل وهو الحقير" [40]
فقد جاءت ألفاظ هذا النص بسيطة واضحة ، ومفرداته سهلة ميسورة ، فكانت منسجمة مع غرضها ، معبرة بصدق عما يجول في نفس صاحبها من عواطف دينية صادقة ، متسقة مع حياة الزهاد الروحية .
وصفوة القول في المقامات اللزومية أنها كانت معنية بتصوير جوانب متعددة من المجتمع الأندلسي في صورة واضحة ، فقد كشفت بشكل واضح جلي أحوال الفرد وعلاقاته ومشكلاته، وأبرزت المكانة التي كان يتبوؤها الوعاظ في المجتمع الأندلسي، وبينت مدى تعلق الأندلسيين بمجالسهم وحرصهم على سماع أحاديثهم الوعظية وتوجيهاتهم الدينية، وكشفت من جهة أخرى عن استغلال فئة من المجتمع الوعظ الديني لتحقيق مآرب شخصية، واتخاذه حرفة لها تكسب بها رزقها وقوتها.
كشفت الدراسة أيضاً عن أنّ صورة المجتمع في مقامات السرقسطي جاءت أحياناً مشرقة متفائلة، مفعمة بالأمل والخير عندما ينتصر الإنسان على ظروفه القاهرة, ولاسيما المادّي منها, ووردت في أحايين أخرى قاتمة, رماديّة اللون، تعكس شعوراً بالضبابيّة والسوداويّة, عندما يُقْهَرُ الإنسان, وتنكسر قدراته, أمام تفاهة الظروف المادّيّة وبرودتها .
اختار الكاتب للتعبير عن مضامينه أساليب بلاغية مسجوعة يغلب عليها طابع العذوبة والبساطة والصنعة الخفيفة بعيداً عن التكلف والافتعال. وقد تأثر في أساليبه الوعظية بلغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، مبرزاً مهارته الأدبية في النثر والشعر معاً .
أبدى السرقسطي خبرة عميقة في فهم طبيعة مجتمعه ومشكلاته وأحوال أفراده والأشياء والمظاهر المحيطة به على اختلاف ألوانها ومصادرها، وقد عكسها في أدبه بصورة صادقة وأمينة، فهو لا يقف من تلك المظاهر موقف الراصد ، وإنما كان يعمد إلى تحليل تلك الأحوال ووصف العلاج لها من أجل الصلاح البشري. لقد قدم الأديب بتعبيره عن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية جوانب الحياة المختلفة، وأنماط السلوك الإنساني التي تُحدد من خلال الأدب [41]
بينت الدراسة أن المقامات اللزومية للسرقسطي قد شكلت تعبيراً صادقاً عن المجتمع، إذ عكست الحياة بجميع صورها، وعبرت عنها من جميع جوانبها وأساليبها، انطلاقاً من المقولة التي تذهب إلى أن الأديب يعد ممثلاً لصورة المجتمع التي ترتسم في أعماقه من خلال ممارساته وعلاقاته البسيطة والمعقدة.
لقد حاول الكاتب أن يلائم بين عصره ومقاماته ، فحرص على أن يظهر في صورة المعلم والمصلح الاجتماعي الذي يسعى إلى الصلاح البشري بالتزهيد في متع الدنيا وتذكير الناس بالموت الحساب والعقاب [42]
حواشي:
- ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس. الدار العربية للكتاب. ليبيا –تونس، 1978.
- ابن بشكوال: الصلة تاريخ أئمة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، القاهرة 1966 م
- حمدان، عبد الرحيم: أدب الزهــــد في عصر المرابطيــن والموحدين بالأندلس، رسالة دكتوراه. (غير منشورة)، جامعة عين شمس. القاهرة، 1998م
- خضر، حازم عبد الله: النثر الأندلسي في عصر الطوائف والمرابطين، وزارة الإعلام ، ط1 ، بغداد 1980م .
- ربابعة، موسى: النقد العربي والوظيفة الاجتماعية للشعر،مكتبة المتنبي، الدمام ، 2003 .
- الزباخ، مصطفى: فنون النثر الأدبي بالأندلس في ظل المرابطين، الدار العالمية، للكتاب، الدار البيضاء 1987 م .
- السرقسطي، أبو الطاهر: المقامات اللزومية، تحقيق د0 بدر أحمد ضيف الهيئة المصرية العامة للكتاب، الإسكندرية 1982 م .
- السيوفي، مصطفى: ملامح التجديد في النثر الأندلسي خلال القرن الخامس الهجري، عالم الكتب، بيروت 1985 م .
- عباس، إحسان: تاريخ الأدب الأندلسي ، عصر الطوائف والمرابطين ، ط3 ، دار الثقافة بيروت 1974 م
- عوض، يوسف: فن المقامات بين المشرق والمغرب، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، 1986 م.
- فراج، أحمد ـ ( الثقافة والعولمة / صراع الهويات والتحديات ) الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ كتاب أبحاث المؤتمر الرابع لإقليم غرب ووسط الدلتا سنة 2003 .
- القلقشندى: صبح الأعشى في صناعة الانشا، دار الكتاب المصري، القاهرة 1963 م .
[1] فراج ص 96
[2] القلقشندي14 /110
[3] عوض، ص 12
[4] هو أبو الطاهر محمد بن يوسف السرقسطى، المنسوب إلى مدينة "سرقسطة"، ويعرف بابن الاشتركوبي، نسبة إلى إشتركوبي من أعمال "تطيلة"، أديب أندلسي ولغوى ، شاعر ، توفي سنة 538هـ، ابن بشكوال ج2 ، ص 556 ).
[5] عباس ص317
[6] ابن بسام ق 4 ، م 1ص 166
[7] حازم ص342
[8] الجندي ص 318
[9] حازم ص 319
[10] المقامات اللزومية ص107
[11] (المقامات اللزومية ص172)
[12] (المقامات اللزومية ، ص 241 )
[13] (المقامات اللزومية ، ص102 ، 103 ، 344 وما بعدها)
[14] المقامات اللزومية ص172 ، 173.
[15] المقامات اللزومية ص 173
[16] الخانجي ، ص 48
[17] المقامات اللزومية ص ص 206 ، 297
[18] المقامات اللزومية ص 188
[19] المقامات اللزومية ص241
[20] الزباخ ص 147
[21] المقامات اللزومية ص
[22] (المقامات اللزومية ص 294).
[23] (المقامات اللزومية، ص 453 ، 454)
[24] (المقامات اللزومية ص 458)
[25] (المقامات اللزومية ص 583)
[26] (المقامات اللزومية ص 539).
[27] (المقامات اللزومية ص 324 ، 325 )
[28] (السيوفي ص 286 )
[29] (المقامات اللزومية ص136 ).
[30] (المقامات اللزومية ص57، 58) .
[31] (المقامات اللزومية ص264 )
[32] (المقامات اللزومية ص 292).
[33] (المقامات اللزومية ص207 ).
[34] (المقامات اللزومية ص 41 ، 42).
[35] المقامات اللزومية ص 233
[36] ( المقامات اللزومية ص 106 ، 107 ).
[37] (المقامات اللزومية ص233 )
[38] (المقامات اللزومية ص40 ،41 ).
[39] (المقامات اللزومية ص 200 ، 256).
[40] (المقامات اللزومية ص293 ، 294 ) .
[41] (ربابعة، ص128).
[42] ( الزباخ ص 141).