نقوس المهدي
كاتب
(... وتعضدنا بالإعانة على الإبانة، وتعصمنا من الغواية في الرواية ...) .
(... إن الكلام مصايد القلوب ...)
1. إذا كان الإنسان أهم ثنائية في هذا العالم، فإن السرد فضاء لكل ثنائيات العالم. ففيه يتم فصل الخطاب، ويحضر الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ويتخلق العالم وجهاً آخر للحياة في كل تجلياتها. فعندما يتوتر الواقع يأتي السرد ليدون اختراقاته عبر تشريح الواقع، وفضح خطاباته المؤدلجة. وإذا كان السرد تمثيلاً للواقع، فإنه ليس تمثيلاً آلياً، بل إنه تمثيل له غاياته ودلالاته. وهو بتعدد دلالاته، وبإحكام بنائه يصبح غواية من لا غواية له. ففي ألف ليلة وليلة ونصوص المقامات، خاصة، تتجلى ظاهرة الغواية السردية على نحو واضح. فشهريار تنحرف غايته من القتل إلى التسامح بفعل السرد، والاحتيال بالسرد أيضاً هو نهج أبطال المقامات. وقبل الشروع في الحديث عن المقامة البغدادية للحريري بوصفها نموذجاً لما تمثله الغواية السردية، يجدر بنا أن نتوقف على عتبات الغواية كمفهوم معجمي، ثم تحديد مسارها وعلاقتها بالسرد من خلال قراءتها وفق سياقات نصية بعينها.
1/1 الغواية في معناها المعجمي تعني الضلال أو الانحراف عن الحق، غير أن من معاني الجذر (غ و ي)، كما أورده صاحب القاموس المحيط، ما يتحد مع الجذر (ر و ي) الذي يـُـشتق منه الفعل رَوَى، أصل السرد والرواية. فهل هناك علاقة ما تُـبين تداخلات الجذرين الدلالية؟ من الاشتقاقات التي يعطيها الجذر (غ و ي) نجد (انغوى) بمعنى انهوى ومال. والميل هو انصهار المرء في هوى ذات أو شيء ما، والتماهي مع السرد ينتج عنه التعلق والوله. لكن الاشتقاق الذي يعنينا بدرجة أكبر هنا هو لفظ الغاوية بمعنى الراوية، وهو معنى يستدعي التساؤل حول علاقة الجذر (غ و ي) بالجذر (ر و ي). فإذا كانت (غوي) تعني ضل، فإن (روي) في الأصل تجسد معنى الارتواء بالماء، وهما معنيان متباينان. لكن القاموس يفسر الغاوية بمعنى الراوية على أنها المزادة فيها الماء أو الجمل الذي يُستقى عليه ، بل إن صاحب متن اللغة يضيف "الراوية: الرَّجل المستقِي بكسر القاف" . والجذر (ر و ي) يعني في الأساس الارتواء بالماء، وهو نفس المعنى في اللغات السامية كالسريانية والعبرية والإثيوبية ، لكن العربية تنفرد بتطور نوعي في معنى الجذر (ر و ي) عن طريق نقل اللفظ من المادي إلى المعنوي على سبيل الاستعارة. فنظفر بـ(روى أي حدَّث) أو رواية الحديث ونقله . فرواية الحديث، سواء كانت شعراً أو نثراً، هي نقل أيضاً ينتج عنه ارتواء نفسي. وهكذا فإنه يمكن النظر إلى الغاوية بمعنى الراوية على أنها الوسيلة التي تنقل ليس الماء، بل الحديث أيضاً إذ أن الجذر يسمح بهذا التمدد والمشابهة. وتكون الهاء في الراوية للمبالغة أو لدلالة التأنيث . وهكذا فإن معنى الغاوية ، وربما يجوز أن نضيف الغاوي، أي الراوية أو الراوي، يمكن أن ينصرف إلى رواية المختلق والمتخيل؛ أي ما هو مفارق للواقع أو خارق للعادة. فقلب الواقع والإيهام بحضوره هو الغواية التي تنتجها الراوية / الغاوية. وهكذا، فإن معنى ما تقوم به الغاوية / الراوية يمكن أن ينصرف من الضلالة التي تورث الخسران إلى تصوير الواقع وفق نسق سردي تحكمه رؤية ذاتية مطلقة. ومن طبيعة الرؤية الذاتية في السرد خاصة، هو خروجها على الموضوعية التي نجدها عنصراً أساسياً عند المؤرخ مثلاً. فرواية المؤرخ ليست هوى، بل وثائق تُضبط وتُـقرأ وفق منهج معين. وهذا عكس الراوي / الراوية الذي لا تشغله الحقيقة الموضوعية في شئ. فهو يقرأ التاريخ أو يختلق التاريخ الذي يوافق طبيعة روايته، مع الاعتماد على إسقاطات واقعية تشكل وجهة النظر التي يؤمن بها.
1/2 يجب أن نؤكد بدءاً أن غواية السرد التي نحن بصدد الحديث عنها تحل بالمتلقي داخل بنية النص، وليس خارجها. فالمتلقي داخل النص هو الذي يكون عرضة للغواية وفقاً لبيئة النص السردية. كما أنه ليس شرطاً أن تتحقق هذه الغواية في كل النصوص السردية، فقد لا تتحقق لأسباب متعددة منها انتفاء وجود مسرود لهم داخل النص. فهناك نصوص سردية تتوجه فقط لمتلق خارج النص، فتكون العلاقة بين راوٍ ضمني أو متكلم وبين قارئ. وتختلف طقوس هذه العلاقة تماماً عما نزعم أنه يمثل غواية داخل بنية النص السردي. فالغواية التي يعول هذا البحث على كشفها هي غواية تتحكم في ردة فعل المسرود له أو لهم داخل النص السردي.
وبطبيعة الحال فإن هناك أكثر من سابقة نصية يلعب السرد فيها دور الغواية. وهذه النصوص تتراوح بين نصوص محدودة المعالم السردية كالمقامات والحكايات والنوادر التي تنتشر في كتب الأدب وبين نصوص تتعدد فيها مناحي السرد ومنطلقاته وتقنياته كما في ألف ليلة وليلة. ففي نص ألف ليلة وليلة تتجلى الغواية السردية بوضوح حاد مما يجعله نموذجاً يمكن أن يغني عن البحث عن نصوص أخرى للتدليل على مفهوم الغواية السردية. ففي نص الليالي تنحرف غاية شهريار من التدمير إلى التسامح، ومن القتل إلى العفو بفعل السرد. بل إن شهرزاد تنجح في أن تجعل شهريار "يتطور من الغريزة إلى الوعي، ومن الانفعال التلقائي إلى الحكم الإرادي" . فشهرزاد التي أدركت الخطر عزمت على أن تصرف شهريار عن قتل النساء بالحكي ليس إلا، لكنه الحكي الذي يعكس سعة معرفة شهرزاد وذكائها في الدفاع عن الأنثى. لقد وقع شهريار وهو يستمع لحكايات شهرزاد في الدهشة والترقب حتى قرر أن يؤجل قتل شهرزاد ليلة بعد أخرى تماهياً مع تداعيات السرد التي لا تكاد تنتهي. وبعد تمام الليالي كان الوله بالسرد قد تمكن من شهريار وأحاله من حالة الانتقام إلى حالة الانسجام مع من حوله، وخاصة النساء.
1/3 والاحتيال بالسرد هو ذاته ما يمارسه أبطال المقامات التي تقوم على الكدية والتسول. وظاهرة الكدية والتسول من الظواهر التي حفل بها المجتمع العربي منذ القرن الثالث كإفراز طبيعي لعصر كثُرت فيه التناقضات التي خلقت بدورها مجتمعا متبايناً في ظروفه ومستوياته . وقد عُرفت جماعة المكدين، على وجه الخصوص، التي كانت منتشرة في المجتمع العربي حينذاك، بأنواع الطرب والأدب والفكاهة واللهو والمجون . ومن هذا الجو استلهم مبدعو المقامات، سواء بديع الزمان الهمذاني أو من جاء بعده مثل الحريري، أحداث وشخصيات مقاماتهم فجاءت تعبيراً حاداً عن تناقضات مجتمعهم. فاللجوء للسرد كطريقة للتعبير عن واقعهم جاء خلاصة لعوامل موضوعية وتاريخية كثيرة نتج عنها المزج بين الواقع والمتخيل في ثنائية تكشف عمق التجربة السردية للمقامات. وهنا يأتي دور المتخيل في حركة تنزع إلى تأكيد هذا التباين عن طريق تجسيد نماذج هزلية تمثل بؤس الواقع المادي. إن المعطيات السردية في نصوص المقامات توحي بحضور الصور الواقعية عبر نمذجة الحالات الإنسانية التي لفظها المجتمع. ومن غير شك، فإن النظر إلى تاريخ نشوء المقامة يؤكد جذورها الواقعية التي جعلت منها نصاً يشابه الواقع عبر إعادة تمثيله، لكن بسخرية ومرارة تتمثل في الحالات الإنسانية التي يجسدها أبطال المقامات.
1/4 وما فعلته شهرزاد هو ذاته ما يفعله بطل المقامات مع اختلاف الغاية التي تحكم نص الليالي. فشهرزاد تبحث عن خلاصها من هلاك شهريار مستخدمة الحكي سلاحاً لتلهي أو لتصرف شهريار أو لتؤجل قتلها، في حين يمارس بطل المقامة تضليله لمستمعيه عبر السرد حتى يحصل على غايته المادية. ويذهب عبد الفتاح كيليطو إلى أن "السرد يضغط على المتلقي ويدفعه إلى القيام بعمل ما" ، لكن هذا العمل يختلف من موقف إلى آخر، فقد يتمثل في العطاء أو في الرغبة في المشاركة في الرواية، أو في الدفاع عن النفس كما فعلت شهرزاد. ونجد هذه الظاهرة أيضاً في نصوص أخرى قد تكون أقل حضوراً، لكنها، مع ذلك، تنبئ عن وجود هذا المنحى السردي. ففي كتاب ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي نجد حكاية الشجاء الخارجية مع زياد بن أبيه هذا نصها:
قال أبو محلم: أخبرني معتمر بن سليمان التيمي قال: لما جئ بالشجاء - وكانت امرأة من الخوارج - إلى زياد، قال لها: ما تقولين في أمير المؤمنين معاوية رضى الله عنه؟ قالت: ماذا أقول في رجل أنت خطيئةٌ من خطاياه! فقال بعض جلسائه: أيها الأمير، أحرقها بالنار، وقال بعضهم: اقطع يديها ورجليها، وقال بعضهم: اسمل عينيها. فضحكت حتى استلقت وقالت: عليكم لعنة الله! فقال لها زياد: مم تضحكين؟ قالت: كان جلساء فرعون خيراً من هؤلاء. قال لها: ولم؟ قالت: استشارهم في موسى فقالوا أرْجـِهْ وأخاه، وهؤلاء يقولون: اقطع يديها ورجليها واقتلها، فضحك منها وخلى سبيلها .
يقدم هذه النص حكاية الخلاص بالمقابلة بين الوقائع في نسق حكائي. فرغم تموضع الحكاية ضمن شخصيات تاريخية مؤثرة، فإن المرأة الخارجية تستدعي من الموروث ما تقيمه حجة على قمعية السلطة في زمنها. وهكذا تنجح في تعرية قمع السلطة رغم حدة خطابها. فهي هنا تحتال بسرد وقائع تناقض موقف السلطة، مبطلة في الوقت ذاته موقف جماعة السلطة، ومحرضة الأمير على أن يُخلي سبيلها، ليتحول سخطه إلى حالة من الرضا مثل الرضا الذي حل بشهريار وهو يتماهى مع سرد شهرزاد.
1/5 وفي أدبيات النقد الحديث يوظف عواد علي كلمة غواية في عنوان كتابه غواية المتخيل المسرحي دون أن يقدم تفسيراً مباشراً لدلالة الكلمة في السياق الذي يقدمه. غير أن عواد علي من خلال الكشف عن إستراتيجية ****theater أو ما وراء المسرح، يحاول التأكيد على أن غواية المسرح ليست في إيهامه بالواقع، بل في قدرته على الإبهار والدهشة من موقعه كمسرح ذي آليات تعكس جماليات المسرح وشعريته . ويتضح ذلك أكثر إذا عرفنا أن استراتيجية ما وراء المسرح تقوم على نقض الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل ليتحول المسرح إلى مسرح لا يخفي آلياته واستراتيجياته، على عكس المسرح الطبيعي الذي ينطوي على الإيهام بالواقع من خلال تأكيد واقعية المكان، ومنطق الحكاية، وتتابع الزمن، وعزل المتلقي عن فضاء المسرح.
ومن ناحية أخرى، يستخدم نبيل سليمان كلمة فتنة في كتابه النقدي فتنة السرد والنقد ، منطلقاً من مفهوم الوله والاختلاف الذي تخلفه لفظة (فتنة). فالموضوعات السردية المؤدلجة أو الثيمات ذات الصبغة الحساسة (دينية أو سياسية أو أخلاقية) هو ما اشتغل عليه الباحث تحت مسمى الفتنة التي تثير الاختلاف بسبب السرود التي تتبنى مثل هذا النوع من الثيمات. فبقدر تعلق الناس بها لجمال خطاباتها إلا أنها تثير نوعاً من الاختلاف قل أو كثر. وهكذا فإن الكاتب يرصد مظاهر الفتنة بين السرد وبين قرائه من منطلق أنها علاقة خارجية بين نص وقارئ. ولفظة الفتنة وإن كانت تتباين في أوجه كثيرة عن لفظة غواية، فإنها تأتي في سياق مشابه للفظة الغواية من حيث خروجها الدلالي من وجودها المعجمي إلى توظيف أرحب يكشف قدرة اللغة على تجاوز المألوف من الدلالات المعجمية. ورغم الاختلاف المعجمي بين الفتنة والغواية، فإن المفهوم الذي ركز عليه سليمان يقترب من ظلال الغواية بالمفهوم الذي تتبناه هذه الورقة. فالوله والتعلق بالشيء هو مدخل من مداخل الغواية مثلما هو من مكونات الفتنة. وفي المقامة، موضوع دراستنا هنا، ما يصل دلالة الغواية بدلالة الفتنة ولو بخيط رفيع يمكن أن تسقط معه بعض الفروق الدلالية الحادة.
وقد شاع مفهوم الغواية بظلال متباينة حتى في خارج نطاق السرد. ففي مقالة بعنوان "غوايات الدلالة ... " يقدم كمال شياع رؤية نقدية لمفهوم الفن التشكيلي لمرحلة ما بعد الحداثة موضحاً الأبعاد الدلالية في العلاقة بين الأجناس الفنية. فالدلالات التقليدية التي تحيل إلى المألوف والمرجعي لم تعد ممارسة منطقية في ظل التطورات الفلسفية والفنية لأعمال ما بعد الحداثة. فقد تطور الحقل الدلالي إلى فضاء من المغامرة وعدم اليقين المطلق كرؤية فلسفية تؤطر نمط التعبير التشكيلي القائم على التناص مع أشكال عديدة عُرفت بفضائها الدلالي المستقل كالنحت والتصوير الفوتوغرافي وغيرها من القنوات الإبداعية. فالحقل الدلالي في الفن التشكيلي ما بعد الحداثي قد خرج على سلطة الدلالة المباشرة وأحالها إلى فضاء من الاحتمالات التي تقود إلى تأويلات غير متناهية. ويمكن أن نخلص إلى أن الغواية الدلالية هي دفع المتلقي إلى ارتكاب جرأة التأويل وكسر هيمنة المفاهيم المرجعية السائدة في قراءة النتاجات الفنية الحديثة.
ما تقدم من توظيفات للفظة الغواية أو ما شابهها تختلف في بعض جوانبها عن المفهوم والتوظيف الذي تتبناه وتنتهجه هذه الورقة. فمفهوم الغواية السردية يقوم على البحث عن الإغراء بالسرد والتماهي معه بين سارد ومسرود له داخل بنية النص السردي. فكما أوضحنا من قبل تنطلق هذه الورقة من فهمها للغواية كمحصلة سردية داخل بنية النص السردي ذاته. فهي ردة فعل تجاه السرد من قبل متلق داخل النص السردي. ورغم تباين مفهومات الغواية في هذه التوظيفات، فإنها تتحد نحو فهم مشترك قوامه قراءة الإبداع من زاوية متجاوزة للقيم المألوفة في الحقول الدلالية سواء كانت معجمية أو فلسفية.
2. تتلخص المقامة البغدادية للحريري، وهي المقامة الثالثة عشرة، في حدث يسير يتجلى عبر السرد المفعم بزخم البلاغة وعنفوان اللغة. يروي الحارث بن همام حكاية امرأة أصابها الدهر بالفقر فجاءت إلى جماعة من الشعراء أو نخبة مثقفة تقدر براعة الخطاب البلاغي الذي يصدر عن هذه المرأة. ولذلك، فقد ساد الاعتقاد أنه بسبب اللغة لا الحكاية يحصل تأثير المقامة. غير أنه من الضروري أن ننظر للغة، في هذا السياق، لا باعتبارها لغة مزخرفة، بل لغة سياق حكائي، تنشد التأثير بالسرد، وتجسد مفهوم البيان الذي اعتبره الرسول (صلى الله عليه وسلم) سحراً عندما يكون موظفاً داخل سياق مؤثر. ومهما يكن فإن المقامة وهي تتمظهر باللغة تخطو خطوة أخرى في غاية الأهمية تكشف عن رحلة السرد من اللغة إلى الحكاية. فلغة المقامات عموماُ لغة مجلجلة، صاخبة تقوم على السجع وحشد هائل من المحسنات البديعية. لكن من خلال هذا الزخرف اللغوي تنبثق الحكاية، متجاوزة سياج اللغة إلى فضاء خصب من السرد. فالراوي، وهو مظهر مهم من مظاهر السرد، يؤكد نفوذ السرد في سياق المقامة، تاركاً موقع الرواية لينتقل إلى المشاركة في الفعل ، فيتعقب المرأة أثناء خروجها من مجلس الجماعة حتى تدخل مسجداً تنزع فيه ثياب الأنثى. فإذا نحن أمام أبي زيد السروجي الذي انكشف أمره للراوي بعد أن تلصص عليه عبر خصاصة الباب.
2/1 تبدأ المقامة بوصف الجو العام الذي يكشف مقومات السرد الأولية. فنتعرف على مشيخة الشعراء الذين سيمثلون مع الراوي الطرف المعادل في حكاية العجوز. لقد أضفى الراوي هالة من التقدير على جماعة الشعراء الذين وصفهم بالبراعة الأدبية. وهو وصف من شأنه أن يهيئ المتلقي لطبيعة الصراع الذي سينشأ بين المرأة ومشيخة الشعراء. وهو صراع تلعب اللغة فيه دوراً مهماً، لكن اللغة في هذه المقامة تكتسب أهمية خاصة من خلال وجودها في سياق السرد.
الخطوة الثانية في بنية السرد تتمثل في قدوم العجوز إلى مجلس الجماعة (الراوي ومشيخة الشعراء). وتتقدم العجوز للسرد دون أن تدخل في حوار مع الراوي أو الجماعة، فتروي حكايتها مع الزمن . واللافت للانتباه في النص هو المسكوت عنه. فالشيء المعلوم هو فقرها، لكن النص لا يقدم توقعاً أو حدساً لحالتها الراهنة. غير أن تلميح النص إلى قدومها ومن خلفها مجموعة من الصِـبية "لمحنا عجوزاً تقبل من البعد، وتُحضِرُ إحضار الجُرد ، وقد استتلتْ صِـبية أنحف من المغازل ، وأضعف من الجوازل " ، يُحيل إلى فضاء أعمق من خطاب اللغة وهو ما يضع الحكاية في سياق أكبر من حيزها المادي. فوجود أطفال أو صِـبية على هذا النحو من الهزال والضعف حالة واقعية دفعت الراوي والجماعة للتسليم بدلالة المشهد. لقد كان على العجوز، وهي تعي معضلة الواقع وكيف تهز وجدان المتلقي، أن ترسم صورة واقعية تجعل من ادعائها السردي صورة مؤثرة. فالسرد ليس لغة تحكي فقط، بل إنه تمثيل غير آلي للواقع محملاً بدلالة الإدانة. ويعود النص في نهايته إلى ذات النقطة التي انطلق منها، وكأنه نص دائري. فالعجوز وقد ظفرت بالعطايا، تركت الجماعة لتخرج من تنكرها، ولتتخلص من الصبية الذين رافقوها في بداية الحكاية: "حتى انتهتْ إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالزحام، فانغمست في الغُمار؛ واملستْ (أي تخلصت وانفلتت) من الصبية الأغمار" . ما يستوقفنا هنا هو لفظ الصِـبية، ففي بداية الحكاية وردت اللفظة نكرة "واستتلتْ صبية"، وفي النهاية اكتسبت التعريف "واملستْ من الصبية الأغمار". فتنكير لفظ الصبية أولاً، ثم تعريفه ثانياً هو موقف الراوي من المشهد الذي يتجلى أمامه. فالتنكر الذي قام به أبو زيد السروجي لم يكن مجرد تنكر مادي يطال تغيير ملامح الشخصية، بل تجاوزه إلى تأسيس سياق اجتماعي مؤثر. فالعجوز تومئ بأنها لا تسعى من أجل ذاتها، بل من أجل "صبية أنحف من المغازل، وأضعف من الجوازل". ووصفهم بالضعف يعود إما إلى تأثر الراوي وتعبيره عن المشهد مبالغة، أو أن أبا زيد السروجي قد نجح في أن يجعل الصبية يتقنون دور الحيلة باستكانتهم وعدم خروجهم عن النص الذي سيؤلفه سرداً أبو زيد السروجي ليجني من ورائه العطايا. لكن وقد اشتعل الحدس وزالت غواية السرد في نهاية النص، فإن الراوي قد غير موقفه فعرَّف الصبية ونسبهم إلى الجهل الذي سببه عدم الدراية (بحيلة ما) سيجتهد الراوي في الكشف عنها.
الخطوة الثالثة في بنية النص هي البحث عن السر. والتوقع بأن هناك سراً أو فخاً وقع فيه الراوي ومشيخة الشعراء، ليس إلا الخروج من حالة الانتشاء والافتتان بالسرد، لغة وحكاية، إلى واقعهم الذي يرى العالم وكأنه قائم على خدعة. وهذا يستدعي أن الخير مرادف للحظات التجلي التي يخرج الإنسان فيها من نسق الواقع إلى المتخيل، ومن المادي إلى المعنوي. فكلما اقترب الإنسان من الواقع اقترب من التناقض، وكلما انغمس في السرد حكاءً أو متلقياً سما فوق الواقع.
3. المقامة البغدادية خطاب سردي نثري يحوي مقومات أساسية متمثلة في راو وبطل وحدث يُروى. وهي ككل المقامات الأخرى سواء مقامات الهمذاني أو مقامات الحريري تنطوي على موضوع متكرر في كل أبعاده. وإذا كان الشكل أكثر حضوراً من المضمون من خلال بنية لغوية مليئة ببديع اللغة، فإن مضمونها لا يقل أهمية عن البنية اللغوية. وتعمد هذه المقامة إلى المراوحة بين النثر والشعر. فتبدأ نثراً، ثم تعيد حكايتها شعراً. غير أن الشعر يجد فرصة للتعبير لا عن حدث، بل عن مشاعر البطل سواء في حالة تنكره أو بعد جلاء أمره.
3/1 التنكر جـزء من طـبيعة بطل المقامات؛ وهو بطبيعته شخصية ساخرة تجسد حالة من حالات التناقض الاجتماعي. فالبـطل، وعلى مدى خمسين مقامة، يلون شخصيته حتى يصل إلى مبتغاه. وهذه الشخصيات المتقمَصة ذات خطاب لغوي واحد مهما تباينت مرجعيتها؛ بمعنى أن خطاب الشخصيات يظل بليغاً مهما تغير نمطها. وليس بوسعنا أن نتجاهل رغبة منشئ المقامات في استعراض بلاغته، فهو يؤكد أنه قد أنشأ "خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودُرره، وملح الأدب ونوادره …" . غير أن هذه المقامة، البغدادية، تستوقفنا كونها ربما الوحيدة التي يتقمص فيها البطل أبو زيد السروجي دور امرأة. كما أن هناك إشارة أخرى وردت في المقامة البغدادية تفيد بتقمص أبي زيد السروجي لشخصية الخنساء في سياق آخر. والتنكر ما هو، في بعض مظاهره، إلا هروب من مواجهة الآخر، أو تزييف للواقع عندما يغدو هذا الواقع ذاته قابلاً للتزييف والاحتيال. فجماعة الشعراء لم يكن لهم من دافع للبذل إلا بعد وقوعهم في سحر الاحتيال بالسرد. فالتنكر يمثل حالة من حالات الغواية سواء في معناها المعجمي أو في البعد السردي للمقامة. فالتضليل أو تزييف الحقيقة هو جوهر التنكر. غير أنه يتخذ بعداً خاصاً في السياق السردي الذي تتبناه المقامة. فهو وسيلة من وسائل السرد في هذه المقامة، بل إنه، بالأحرى، حيلة من حيل السرد التي تحولت إلى موضوع لا يمكن أن تنهض المقامة إلا به. ولهذا فإن الغواية السردية في هذا السياق تصبح استراتيجية نصية تقوم على المفارقة والإبهار. فشخصية البطل دائماً مبهرة سواء في سلوكها أو في مظهرها مما ينتج عنه التأثر والاندفاع إلى التسليم بصدقية الادعاء.
3/2 المقامة خطاب سردي تسيطر عليه اللغة بكل تجلياتها البيانية. ومن ثم فاللغة ذات وظيفة سردية يراوح الكاتب من خلالها بين السرد والوصف. فلسنا أمام سرد مطلق للحدث، بل إن الوصف هو أحد العناصر الرئيسة في خطاب المقامة. وللتفريق بين الجمل السردية وبين الجمل الوصفية يمكننا تتبع الجمل السردية التي يتحرك معها الحدث ليضيف للحكاية قدراً من النمو والتطور.
تبدأ المقامة البداية التقليدية (روى الحارث بن همام ...)، فالرواية شرط من شروط السرد، فبه يتهيأ المتلقي لسماع الراوية، وبه يعلن الراوي حضوره وسلطته على جماعة المتلقين.
قال: ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء ... لمحنا عجوزاً تُقبلُ من البُعد ... قالت: حيا الله المعارف ... قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها ... وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك ... قال الراوي: فوالله لقد صدَّعت أبياتها أعشار القلوب ... فلما افعوعم جيبها تبرا وأولاها كل منا برا، تولت يتلوها الأصاغر ... فكفلتُ لهم باستنباط السر ... ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهتْ إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالزحام، فانغمستْ في الغمار؛ واملستْ من الصبية الأغمار، ثم عاجتْ بخلو بال، إلى مسجد خال، فأماطت الجلباب، ونضت النقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب، وأرقب ما ستبدي من العجاب، فلما انسرت أُهبة الخفر ، رأيت محيا أبي زيد قد سفر فهممت بأن أهجم عليه، عَنِّفهُ على ما أجرى إليه، فاسلنقى اسلنقاء المتمردين، ثم رفع عقيرة المغردين ، واندفع ينشد ... .
توضح نقط الحذف (...) القفزات النصية التي تحوي جمل الوصف، وهي قفزات تطول وتقصر بحسب السياق. وهكذا فإن جمل السرد التي تشكل حركة الحكاية لا تزيد على خمس وعشرين جملة، تتركز أكثرها في نهاية المقامة؛ بمعنى أن سرد الحدث يبدأ بطيئاً ثم يتصاعد تدريجياً حتى يصل ذروة الكشف في نهايتها. وكلما كان السرد بطيئاً كان الوصف أكثر، والعكس هو ما يحدث عندما يحضر السرد، فيتضاءل الوصف إلى أدنى درجة أو ينعدم. لكن السؤال هو، لماذا هذه المزاوجة بين السرد والوصف؟ وهل من وظيفة للوصف غير وظيفة الاستعراض اللغوي؟
إذا كان السرد يمثل حركة الحكاية وزمن وقوعها، فإن الوصف يمثل روح السرد، فهو الثابت الذي يعطي للسرد قيمته الدلالية . فلو قدمت حكاية العجوز كسرد مطلق لما كانت إلا مجرد أفعال متتالية تعكس الحركة لكنها لا تفسرها. لقد نُظر كثيراً للمقامة على أنها مجرد استعراض لغوي بلاغي، ورغم صحة هذه الادعاء إلى حد ما، فإنه لا يجب أن نظل أسرى لهذه النظرة التقليدية. فالوصف "يتجاوز مجرد تمثيل الموجودات إلى مستوى أعمق من الرمزية وتمثيل القيم المجردة" .
يمثل الوصف في المقامة البغدادية بعداً مهما يسند حضور السرد. فإلى جانب الوظيفة التقليدية، الزخرفة، فإنه هنا يؤدي دوراً تفسيراً يكشف ظلال الحدث الذي بدأ بحضور العجوز. فحضورها الذي بهر الجماعة لا بد له من تفسير وصفي يرسم ملامح الشخصية وعمقها الاجتماعي:
"... أني من سروات القبائل، وسريات العقائل ، لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد: فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن نبا الناظر ؛ وجفا الحاجب وذهبت العين وفقدت الراحة، وصلد الزند ، ووهنت اليمين وضاع اليسار وبانت المرافق ، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب ..." .
هذا الوصف لحالة العجوز مهم لتبرير موقفها. فهو وصف يمثل حوارية توحي بتعدد الأصوات داخل نسيج المقامة. وبالطبع فنحن لا نتحدث عن حوارية باختينية مطلقة توحي بتعدد الظواهر الحوارية في هذه المقامة أو حتى في غيرها من المقامات. إن الحوارية تقتضي أفقاً روائياً أرحب حتى تتجسد فيه الملامح الحوارية من "تعايش للشخصيات، ووجهات نظر، ومراكز، وأيديولوجيات، وعلامات، وأساليب، ونظم كاملة القيمة" . وهو أمر لا يحتمله المتن الحكائي في المقامات. ومع ذلك، فإننا في المقامة البغدادية أمام مظهر حواري مبسط نرى فيه الراوي الحارث بن همام يسرد، بينما العجوز تسرد حيناً وتصف حيناً آخر. وبين السرد والوصف يحدث التوتر المطلوب لاستجلاب حضور المتلقي داخل المقامة، وخارج سياق المقامة أيضاً. فافتتان جماعة الشعراء هو افتتان بالوصف الذي هو موجه للمتلقي داخل بنية النص. بالإضافة إلى ذلك فأن الوصف يوحي بالإيهام بالحقيقة . فكلما بالغ أبو زيد السروجي / العجوز في الوصف، استطاع أن يبرر حضوره النصي. فالإيهام بمظهر العجوز، سواء بوصف الشكل أو الحالة، كان أحد العناصر التي استخدمتها هذه المقامة لتبرر اليقين. فالمرأة يقين بالنسبة لجماعة المتلقين داخل نص المقامة سرعان ما تحول في نهاية السرد، إلى وهم خالص. ولتأكيد الصورة استعان النص بحشد الأوصاف للتفسير تارة، وللإيهام تارة أخرى، فلم يبق أمام جماعة المتلقين إلا الوقوع في غواية النص.
4. السرد والمرأة ظـاهرة تكرسـت في النصوص السردية القديمة حتى بلغت ذروتها في ألف ليلة وليلة . وهي ظاهرة تقوم على استخدام المرأة للسرد كسلاح لتحقيق غرض ما قد يصل إلى حد إنقاذ ذاتها من القتل كما فعلت شهرزاد. وواضح من خلال استقراء العديد من النصوص (القديمة) أن المرأة لا تلجأ إلى السرد إلا عند حاجتها لبلوغ غرض ما. ومجمل هذه النصوص تتراوح ما بين موقف وحكاية تكون المرأة فيها طرفاً، في الغالب، قوياً ومنتصراً. ففي كتاب بلاغات النساء ، مثلاً، نظفر بعدد من هذه الحكايات التي نرى فيها المرأة تتسنم سلطة الحكي. ورغم أن عنوان الكتاب يستدعي دلالة اللغة التي تجعل لهذه النصوص قيمة بلاغية، فإن أهمية هذه البلاغة تكمن أساساً في كونها موظفة في سياق حكائي يقوم على المواجهة بين رجل وامرأة . فالبلاغة جزء من لعبة المرأة التي تسخرها لاحتواء سلطة الرجل. فلا أهمية لبلاغة المرأة لو لم تكن داخل نسق سردي سواء كان واضح المعالم أم ضعيف البنية. كما أن السرد بالمعنى السميائي أوسع من الصيغة التقليدية للسرد التي تحصره في جانب من جوانب القص كالوصف والحوار والشخصية. فالسرد سيميائياً قادر على استيعاب كل الأشكال والنظم الدالة سواء كانت في تكوينها ورؤيتها قديمة أو حديثة . فإذا كانت هذه النصوص لا تشكل حضوراً سردياً قوياً، فإنها لا يمكن أن تخرج عن نسق الحكي الذي يقوم على جدلية الواقع والمتخيل. فالواقع في هذا النوع من النصوص يتجسد في الحضور القوي للتاريخ من خلال شخوص تاريخية معلومة الدور سواء في السياق الاجتماعي أو السياسي، لكن القص هنا هو الأبرز حضوراً من خلال تركيز هذه النصوص على الأحداث الهامشية والفردية التي لا تشكل في الغالب ثقلاً وهماً جمعيَّاً. فهذا النوع من النصوص، التي توظف المرأة، تصنع من المرأة نصاً سردياً يقاوم سلطة الرجل وهيمنته. فالرجل هنا هو المتلقي وهو النقيض الذي تنهض عليه ثنائية الصراع في هذه النصوص. فنحن إذاً أمام مثلث قوامه المرأة والسرد والرجل. وكأن السرد هنا هو المحرض على كسر العلاقة النمطية بين الرجل والمرأة. ففي سياق السرد يقف الرجل مستلباً بالسرد وتقف المرأة في مركز قوة تملي حكايتها.
وإذا نظرنا إلى المقامة البغدادية نجد نوعاً من الحيلة التي تضع المرأة في قلب السرد. فالبطل أبو زيد السروجي يتنكر في زي امرأة ليحصل على ما يريد من مال. ورغم أن هذه واحدة من بين العديد من حيل أبي زيد السروجي التي يظهر فيها مرة واعظاً، ومرة خطيباً وأخرى شاعراً، وغيرها من الأدوار التي يتقمصها للوصول إلى غرضه، فإنه في هذه المقامة يفعل شيئاً مختلفاً تماماً. إنه هنا ليس الرجل، إنه يتقمص دور امرأة عجوز تسرد حكايتها. إن النص لا يفصح عن كيفية التحول، لكن من الضروري أن دراما التحول قد حدثت على نحو يشابه الواقع ويوجد الأثر المطلوب تحقيقه. فالزي والصوت والحركة واختفاء اللحية والشارب كلها مظاهر سكت النص عنها، واكتفى بلفظ العجوز وتأنيث الفعل (قالت) للدلالة على التحول. فالتحول، إذن، تم بالتجريد، لا بالوصف المادي. وهذا الاختزال يتكرر في غير موضع كاستراتيجية نصية لا بد من التنبه لدلالتها.
4/1 أين تقع المرأة في هذه المقامة؟ إذا تجاوزنا بلاغة الخطاب النثري ودققنا فيما وراء الخطاب، نكتشف دلالة الحكي ومضمون السرد. يصح أن نقول إن المرأة هنا تقوم بدور ما بالنيابة عن الرجل، أو رجل في صوت امرأة أو في شكل امرأة. وهي أيضاً تجسد معاناتها التي نتجت عن غياب دور الرجل في حياتها. فهي، إدعاءً، من عائلة كريمة، كان أهلها (من الرجال) يحتلون أعلى المراتب بين قومهم، لكن الدهر جار عليهم فتحولوا من غنى إلى فقر، ومن عزة إلى ذل، ولم يبق لها إلا الاستجداء. فالمرأة باتحادها مع السرد حققت الوظيفة التي من أجلها وظفت. لقد اُستخدمت المرأة لغواية الرجل، فتحولت من شفافيتها وحنوها إلى شيطان مخادع. لقد جسدت هذه المقامة كيد المرأة وخداعها، دون أن تكون حاضرة في السرد مطلقاً. فتحولت هي بدورها من مخادعة إلى مخدوعة، مثلها مثل مشيخة الشعراء. فالمرأة ليست فاعلة للغواية بمعناها المعجمي، بل هو حضورها المزعوم الذي جسد الغواية من خلال خطاب السرد.
إن السياق الذي وضعت فيه المرأة سياق واقعي يؤكد تبعيتها للرجل، لكن فعلها السردي يتناقض تماماً مع مضمون حكايتها. فهي عندما قدمت نفسها لجماعة الشعراء قدمتها على أنها من عائلة كريمة فأهلها وبعلها، على وجه الخصوص، يحتلون الصدر، كناية عن السيادة في قومهم. فهي لم تقل شيئاً عن ذاتها إلا أنها تحولت من كريمة بين أهلها إلى ذليلة بسبب ما حل بهم من فقر. وإذا كان هذا هو مضمون حكايتها، فإن فعلها السردي يبدو متناقضاً مع دورها المرسوم لها. فهي كبطلة قادرة على السيطرة عبر بلاغتها على النخبة المثقفة. فالمقامة لم تنتصر لها إلا بالقدر الذي أكسبتها عطايا رجال غير راغبين في العطاء أصلاً. ومهما يكن فإن السلطة الممنوحة لها، لم تلبث أن سُلبت منها وعادت لا شئ. فالنص الذي خلقها، سرعان ما وأدها. وإذا كان السرد قد أنقذ شهرزاد، فإن السرد هنا لم ينصف المرأة؛ لأنها لم تكن حاضرة في السرد أصلاً، بل كانت مجرد صورة خارجية سرعان ما بهتت وانمحت. وإذا كان شهريار قد أذعن لسلطة شهرزاد وسلم لها بالبراعة، فإن الحريري قد اغتال عبر السرد صورة الأنثى، أولاً بتقديمها كعجوز خالية من رونق الحياة، وثانياً بإقصائها من السرد كحضور حقيقي. لقد قُدمت المرأة في المقامة كضحية للرجل المحتال أبي زيد السروجي. ورغم انكشاف حيلته فقد ظلت النقمة تلاحق المرأة عندما تعاهد مشيخة الشعراء على محرمة العجائز . بينما الجاني الحقيقي أبو زيد السروجي ظفر بثناء الراوي: "فلما ظهرتُ على جلية أمره، وبديعة إمره ، وما زخرف في شعره من عذره، علمتُ أن شيطانه المريد، لا يسمع التفنيد، ولا يفعل إلا ما يريد
4/2 تتضح منذ البدء خلفية السرد المكانية وطبيعة المتلقين. تبدأ المقامة هكذا: "روى الحارث بن همام قال: ندوت بضواحي الزوراء، مع مشيخة من الشعراء، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري معهم ممار في مضمار ..." . فإلى جانب أن النص يوضح البيئة المكانية، فإنه يلتفت إلى مسألة في غاية الأهمية وهي جماعة المسرود لهم. فهم جماعة من أهل العلم والأدب معطية المقامة بذلك مبرراً قوياً في منطقية البناء اللغوي الكثيف، فمراعاة مقتضى الحال تبدو مسألة محسومة عند الحريري. إن هذه المقامة تمثل لعبة سردية واعية. فخطابها الجمالي مهما بدا مبالغاً في هذا السياق، فإنه لا ينفصل عن بنية النص الكبرى. إن الكاتب وهو راو ضمني يبني نصه في نسقين سردي وجمالي. فالنسق السردي هو المتجسد في آليات القص، بينما الجمالي هو تقديم هذا النسق السردي من خلال لغة جمالية. وهذا التوجه نجد ما يدعمه في ثنايا النص؛ إذ يقول الراوي الحارث بن همام بعد أن استمعوا إلى خطاب المرأة النثري: "فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك" . فالحكاية قد تمت بالنثر، لكن المقامة تعمد إلى تنويع الخطاب من أجل تكثيف مدى تأثير الحكاية. ومن هذا المنطلق يصبح تكرار سرد الحكاية مرة أخرى دلالة نصية تضاف إلى ظاهرة تكرار الجمل الوصفية لذات الحالة كما سيتضح لاحقاً. فنحن أمام لعبة سردية ذكية استطاعت أن تضيف إلى الحكاية النثرية ثراء دلالياً.
4/3 تثير قضية سرد الحكاية شعراً مسألة في غاية الأهمية. فإذا كان يمكننا القول إن الحكاية الشعرية في النص هي إعادة إنتاج للنص النثري، فإن الحكاية الشعرية بدورها تنطوي على امتداد نصي خارج سياق المقامة. تسرد العجوز حكايتها حتى تصل إلى:
ما بات جـار لـهــم ســاغباً ولا لروع ٍ قال: حـال الجريض
هنا ينفتح النص على فضاء من التناص. ففي قول العجوز "حال الجريض" استدعاء للمثل المشهور (حال الجريض دون القريض) . وأصل هذا المثل:
أن المنذر بن ماء السماء وقيل النعمان كان له يومان يوم بؤس ويوم نعمى، فمن لقيه في يوم بؤسه قتله ومن لقيه في يوم نعماه أغناه. فلقيه في يوم بؤسه الشاعر عبيد بن الأبرص، وكان من خاصته، فقال له المنذر وددت لو لقيتنا غير اليوم فتمن ما شئت غير نفسك. فقال الشاعر لا أعز علي من نفسي. فقال المنذر لا سبيل إلى ذلك، فأنشدني في شعرك. فقال عبيد: حال الجريض دون القريض. والجريض هو الغصة .
إن استدعاء هذا المثل في سياق الحديث عن أهلها يعطي دلالة الوقوف مع الآخر ومؤازرته وليس محاولة استغلال لحظة الاحتياج التي يمر بها. فالشاعر لا يحتاج في هذا اليوم إلا إلى النجاة من الهلاك. وهي مشابهة ولو من بعد عن حال من وقف محتاجاً بين يدي أهلها وبين من وقف بين يدي المنذر. ولذلك فهو تحريض لمشيخة الشعراء على أن يحذوا حذو أهلها في العطاء. فإذا كان أهلها قد أعطوا، فذلك مدعاة إلى أن يعطي كل من يرى أن له ذات السيادة. لقد أحكم النص غوايته عبر العديد من التقنيات. فإذا كانت اللغة هي المظهر الأول للغواية بالنسبة لمشيخة الشعراء، فإن السياق الاجتماعي للحكاية الذي قدمته العجوز / أبو زيد السروجي، ورسم أهلها كنموذج للعطاء، جعل الغواية السردية تبدو لذة تقترب من لذة الأخذ. فالجماعة لم تشعر بالعطاء وهي تعطي، لكنها شعرت بلذة الأخذ والتماهي مع السرد. وبهذه الصيغة تسقط الحدود الفاصلة بين فعلي العطاء والأخذ بفعل قدرة السرد على كسر المألوف واستخدام النموذج لا ظروف اللحظة كمرجعية لقياس درجة التسامي عند الإنسان. وهكذا يأتي التناص "ولا لروع قال: حال الجريض" ليؤكد عدم قدرة المنذر على العطاء. وإذا كان المنذر هو النموذج الذي كرسه النص للعطاء، فقد كسر أهل العجوز هذا النموذج، نموذج السيادة والقدرة على العطاء الذي يمثله المنذر. فالمنذر لم يستطع تجاوز محنته الذاتية وحالته المرضية. فطوَّع قوته لنزواته وتشاؤمه، فسقط بذلك النموذج وظهر الإنسان في داخله، وأصبح أهلها هم النموذج الذي على الشعراء الاقتراب منه بالعطاء.
4/4 تمثل هذه اللعبة السردية مدخلاً مهماً للحديث عن جماعة الساردين والمسرود لهم في النص. هناك ساردان في المقامة، هما: الراوي الغائب المتمثل في الكاتب، والراوي الحاضر المعلن عنه في النص صراحة وهو الحارث بن همام، غير أن هناك راوياً آخر تتم به الحكاية وهي هنا العجوز أو أبو زيد السروجي. لكل واحد من هؤلاء الساردين الثلاثة غاية يريد أن يحققها، لكن عبر الآخر. فالحريري يستعرض مهارته في صياغة خطاب جمالي عبر الراوي والبطل، كما أن الراوي الحارث بن همام هو المدخل النصي لأي مقامة تروى، فهو الذي تبدأ به المقامات عموماً عبر صيغ شتى (روى، حدَّث، حكى، أخبر ...). وعندما يبدأ الحارث بن همام برواية المقامة يتحد مع الراوي الضمني خارج النص ليصبح متلقياً بدوره لحكاية المرأة العجوز التي تضطلع هي بالرواية. وكونها راوية فلا بد للراوية من مسرود لهم وهم ينقسمون إلى مسرود لهم خارج النص وهم الذين يقصدهم الراوي الضمني بالخطاب السردي في المقامة، ومسرود لهم داخل النص وهم مشيخة الشعراء مع الراوي الحارث بن همام. غير أن إمكانية ظهور رواة آخرين في النص ظلت احتمالية مفتوحة. فالمسرود لهم داخل النص رغبوا في الانتقال من فعل الإنصات إلى فعل الرواية بعدما بهرهم خطاب المرأة. لقد طلبوا أن يكونوا رواة لها إن هي أرادت عطاياهم. وتوضح الجمل الحوارية بين العجوز وبين مستمعيها الدهشة والرغبة في الانتقال من التلقي إلى السرد ولو عن طريق إعادة إنتاجه بالرواية. فبعد أن حلت بهم فتنة السرد شعروا برغبتهم في تغيير موقعهم:
قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها، ومُلح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك، فقالت أفجر الصخر ولا فخر؛ فقلنا إن جعلتنا من رواتك، لم نبخل بمواساتك .
4/5 غواية السرد أو فتنته ظهرت جلية في سياق المقامة. فبالسرد وحده نالت المرأة ما شاءت من العطايا. وكما أسلفنا وقفت المرأة تروي حكايتها في البدء نثراً حتى إذا تمت، أقر الراوي بالوقوع في فتنة السرد: " قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعاراتها، وقلنا قد فتن كلامك فكيف إلحامك ، فقالت: أفجر الصخر ولا فخر؛ فقلنا: إن جعلتنا من رواتك لم نبخل بمواساتك" . لقد هام جماعة المتلقين بسبب بلاغة العبارة وملح الاستعارة. وهذا هو ظاهر النص، غير أن العبارة تنطوي على حكاية ذات دلالة، ظاهرها لغة مزخرفة، وباطنها فضح وكشف لزيف الواقع. فمهما يكن فإن النص لغة، واللغة مضمون، والمضمون هنا حكاية. فلا يجب أن ننفي سحر اللغة، بل يجب أن ننظر إليها في سياقها، والسياق هنا سرد. ولكي تبلغ الفتنة ذروتها فقد طلب جماعة المتلقين مجتمعين " قُلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك". وهذا يؤكد وقوع جماعة المتلقين في دائرة الغواية دون استثناء، بل إنهم جميعاً يريدون سماع الحكاية مرة أخرى، لكن شعراً هذه المرة. وهنا تتجلى سلطة الحكاية مرتين، مرة نثراً ومرة شعراً. لقد وضح تورط المتلقي وهو تورط فرضته اللغة باعتبار وظيفتها السردية أولاً، ثم باعتبار وظيفتها الجمالية ثانياً. فالفتنة قد تحققت بالنثر، وما تكرار الحكاية بالشعر إلا تماهياً مع اللغة في تجلٍ آخر من تجلياتها الجمالية.
5. تمثل لحظة الكشف في المقامة غزارة دلالية تشير إلى التحول من الخاص إلى العام. لقد استخدمت المقامة المسجد كمسرح للكشف عن الاحتيال الذي مارسته العجوز. نقرأ في المقامة: "ثم عاجت بخلو بال إلى مسجد خال. فأماطت الجلباب، ونضت النقاب وأنا ألمحها من خصاص الباب ، وأرقب ما ستبدي من العجاب" . ينطوي النص على مسألتين في غاية الأهمية هما، دلالة المسجد في النص، ثم المراقبة من خلال خصاص الباب.
5/1 بدءاً يمكن أن نتساءل عن دلالة حضور كلمة مسجد، وهل حضورها كان عفوياً أم أنه جاء لدلالة أرادها النص؟ من البديهي أن المسجد يملك حضوراً روحياً أساسياً في المجتمع الذي يتجه إليه النص. فإلى جانب كونه مكان عبادة، فهو أيضاً يرمز للطهر والنقاء الذي يتناقض مع ما تمارسه العجوز / أبو زيد السروجي. فالادعاء بشيء وممارسة شيء آخر هو ما يتناقض مع بنية الشخصية المسلمة المثالية. إن ما يلفت الانتباه هنا هو ورود كلمة المسجد في غير موقع السجع، وإلى مجيئها أيضاً مجردة من التعريف، فهل يقلل ذلك من حضورها الدلالي؟ واضح أن كلمة مسجد قد تخلصت من سلطة السجع باحتلالها موقعاً وسطاً في جملتها. ومن ناحية أخرى، فإن تعريف لفظة مسجد كان سيوجه معناها في النص توجيهاً آخر، ويحيلها إلى دلالة خاصة قد لا تخدم النص إلا في الحدود التي وظفت من أجلها. غير أن ورودها مهملة من التعريف قد شحن الكلمة بدلالات بعيدة الغور ومنح القارئ قدرة فائقة على التأويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن ورود كلمة مسجد في نص المقامة لم يكن عفوياً، فلو كان الأمر كذلك لأمكن أن نستبدل كلمة مسجد بكلمة مكان مطلقة من أي دلالات دينية أو تاريخية أو غيرها. وهكذا يصبح نص الجملة: "ثم عاجت بخلو بال، إلى مكان خال". فها هي الجملة قد استقامت، مستوفية كل شروطها اللغوية. فحلت كلمة مكان في موضع مسجد في سياق الجملة، لكنها لم تمنحنا المعنى الذي منحته كلمة مسجد. فالقضية ليست قضية موضع مادي، بل هي قضية تتمحور في رمز يستدعي سياقاً آخر خارج بنية النص. إن إطلاق كلمة مسجد من قيود التعريف والتخصيص، منحها دلالة محورية لا يمكن أن تمر دون استنطاقها. فنحن هنا أمام المسجد الرمز وليس المسجد الموضع رغم ما قد يشير إليه ظاهر النص. ولذلك، فإن النص ينطوي على ثنائية قوامها الصراع بين عالمين، دينية يمثلها المسجد بكل القيم التي يستدعيها، ودنيوية يمثلها الواقع بكل تناقضاته وبعده عن المثالية الدينية. فالصراع في النص ليس صراع محتال وجماعة لها مصالحها، بل هو صراع قيم وواقع لم يحسمه النص لأنه صراع لا نهائي. فلو انتهى هذا الصراع لم يعد هناك أصلاً حاجة لهذه الثنائية برمتها. فشرط وجود هذه الثنائية هو في صراعها. فبينما تعزز القيم ثقة الإنسان بالانتصار والثقة على قهر الشر، فإن الواقع يستمرئ تجاوزاته وكسر نمط المعيارية المثالية التي يحس الإنسان أمامها بضعفه وعجزه عن تجاوز سلطة الواقع.
5/2 المسألة الثانية تكمن في المراقبة التي كانت المرحلة الحاسمة في تجلي النص عن المفارقة. ففعل المراقبة يستدعي سرية الفعل، كما يستدعي فضح خصوصية الفرد. وتصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما تكون الحادثة بين رجل وامرأة. المراقبة في النص بين الراوي / الرجل وبين العجوز / الأنثى المزعومة. الرجل يقوم بفعل المراقبة والمرأة في شرطها النصي خاضعة لهذه الإرادة الذكورية. إذن نحن أمام رجل ينظر وامرأة تشكل المنظور إليها أو الصورة . إن هذه العلاقة بين الطرفين هي علاقة موروث ثقافي يجعل المرأة موضع نظرة الرجل، لكنها النظرة التي تتلون وفقاً للحظتها. فهي قد تكون نظرة إثارة حسية، أو نظرة انطباعية معنوية في غالبها سلبية. إن هذا الحضور الخاص للمرأة في المقامة ليس إلا بعضاً من حضورها السابق واللاحق في الآداب والفنون الإنسانية التي تكرس هذه النزعة الثقافية كأحد المسلمات والمفهومات العامة. وإذا كانت الفنون بمعناها العام قد تباينت في عرض صورة المرأة، فإن السينما على نحو خاص قد أسهمت في تكريس واضح لمفهوم اللعبة الدرامية القائمة على نوع من الإثارة النفسية والحسية لدى المشاهد. ومن هنا فقد نُظر للسينما على أنها مثل ثقب باب ينظر من خلاله الشخص عادة للتلصص واستراق النظر. ففي قاعة السينما يقبع المشاهد في الظلام متوحداً مع ذاته ينظر بنهم إلى صورة المرأة التي هي دائماً محل المنظور إليه . ورغم أن المشاهَـدة السينمائية طقس مشروع، فإن كون المرأة هي عنصر استقطاب ومجال نظر فيها يحيل إلى أن السينما نجحت بقدرة فائقة في استثمار تجارب الفنون السابقة في إبراز جسد المرأة دون كيانها الإنساني. فالعودة إلى تاريخ منجزات النحت العالمي أو الفن التشكيلي في عصر النهضة وما تلاه أو للتصوير الفوتوغرافي، أو النظر حتى للأعمال السردية العالمية والعربية كلها تؤكد تاريخية الانتهاك وسلطة الرجل الثقافية. وبالتأكيد فإن الأمر يتحول من مجرد تسلية وإثارة إلى تأكيد سلطة مشفوعة بحق انتهاك خصوصية المرأة. وفي مقال شهير للورا مولفي بعنوان "المتعة البصرية والسينما الروائية" قدمت الكاتبة دراسة عميقة لموقع المشاهد الرجل حيث تهتم السينما بتغذية وإشباع نهمه في النظر للمرأة على نحو مغر . ورغم التمايز بين المُشاهد في السينما وبين الراوي في هذه المقامة، فإن مولفي تنظر للمشاهد في دراستها القائمة على منهج التحليل النفسي على أنه حالة نفسية يمارس طقسه بتفرد مطلق فهو بعيد عن الفعل الاجتماعي، محاط بمتعته وشبقه، بينما الراوي هنا نجده في موقع الفاعل الاجتماعي الذي ينظر للمرأة ضمن حالة ارتياب موروثة عامة. وعلى الرغم أيضاً من التباين الصارخ بين تهميش المرأة في السينما وبين استخدامها في هذه المقامة، فإن السياق العام يؤكد نوعاً من التهميش وانتهاك الخصوصية. ففي هذه المقامة يؤدي الراوي دور المشاهد السينمائي، فهو يراقب المرأة عبر خصاصة الباب بتلذذ ناتج عن كشف السر الذي سيدين الممارسة. فهو يمارس سلطته بوصفه رجلاً قادرا على فضح غواية المرأة وحيلتها. فعدم الثقة في المرأة وثم في فعلها ربما يكون الدافع الخفي وراء هذا الموقف غير الأخلاقي من قبل الراوي. وربما يفسر هذا استمرار نقمة الراوي وجماعة الشعراء في ردة فعلهم نحو العجائز دون أن يلقى أبو زيد السروجي أي توبيخ رغم انكشاف خدعته.
6. قيل من قديم إن أعذب الشعر أكذبه. ويمكن أن يقال إن أعذب السرد ما وافق الهوى. السرد مبالغة، والمبالغة كذب، والكذب حجب للحقيقة. وفي أساس البلاغة "رَوَى عليه الكذب: أي كذب عليه، وفلان لا يُروى عليه كذب" . وكلما بالغ السارد في سرده استزاد المسرود له من المبالغة تحت تأثير الرغبة في التفاعل مع السرد. ففي المقامات يحتال المكدي بالسرد ليغري ويغوي الناس بالعطاء. ومن المؤكد أن قص المرأة في المقامة البغدادية قد وافق هوى في نفوس مشيخة الشعراء أقله إعجابهم بسبك الحكاية تارة نثراً وتارة أخرى شعراً. فعبر سلسلة من الكنايات خلقت العجوز صورة تضج بالمبالغة. لقد كان قصها ارتداداً لواقع مزيف لا تملك منه شيئاً إلا أن تسرده. والكنايات عموماً تحتل مساحة واسعة من المقامة. فهل من دلالة يمكن التقاطها غير وظيفتها البلاغية؟ يُعرِّف أهل البلاغة الكناية بأنها "كلام مجازي، أريد به معنى مجازياً أشد بلاغة، مع جواز إرادة معناه الأصلي القريب الظاهر، إذ لا قرينة تمنع من ذلك" . ويمكن أن نقرأ الكناية في هذه المقامة على أنها تعبير مجازي لتضخيم الصورة والمراوحة بين واقعين، واقع يملك فيسود وواقع يحتاج فيسأل. لقد كانت الكنايات في هذا السياق السردي هي مفتاح العالم الذي تبحث عنه المرأة وهي تقص واقعة التحول من السيادة إلى السؤال. ونتيجة لذلك، تستطيع المرأة أن تبهر، وتصدم، وتغوي، وتغري بالعطاء. إن أهمية كنايات النص تكمن في أنها ليست مبتورة السياق، بل إنها جزء من سياق سردي يكشف ويضخم جور الواقع. فتتحول وظيفة الكناية من البلاغي المبهر إلى الدلالي المؤثر. تقول العجوز:
"إني من سروات القبائل، وسريات العقائل، لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد: فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن، نبا الناظر؛ وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفُقدت الراحة، وصلد الزند ووهنت اليمين وضاع اليسار، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب ..." .
من خلال هذا المقتبس تفتتح المرأة حكايتها بالحديث عن نقيضين؛ هما واقع له السيادة وما يتبعها من كرم ومروءة وشرف، وواقع مسحوق وفقر مدقع وما يتبعه من تبعات السؤال ومذلته. والانتقال من المجد إلى الذل نص مسكوت عنه لعدم أهميته في خطابها السردي. وهي تلجأ لذلك لأنها تتحدث عن واقع مختلق لا تملك له أي تفاصيل فضلاً عن البوح بها. ولأن العجوز تروي لتغري، ثم تبالغ لتغوي، فإنها تسعى إلى ردم فجوة التفاصيل بالتعبير عنها بسلطة الزمن التي تحيل البحث عن التفاصيل إلى أمر غير مهم أمام ما أحدثه الزمن من جرح غائر في جسد حكايتها. لقد عبرت عن غياب التفاصيل بقسوة الزمن "فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن، نبا الناظر ..." . فالتعبير بالزمن هنا هو زحزحة المسؤولية من الفعل البشري إلى الفعل الميتافيزيقي. ولذلك، فإن التعبير بالكناية عن تحول الأمر اقتضى ثلاث جُمل كانت كافية لهز ثقة متلقي الحكاية في الواقع الذي تفاعل معه باعتباره الحلم الذي يتوق إليه. أما الواقع الآخر فهو العالم الذي بسطت المرأة فيه القول بالكناية تارة وبغيرها تارة أخرى. والدلالة لا تحتاج إلى تفسير إلا بالقدر الذي نتذكر أنها في موقف السؤال، والسؤال يقتضي الإسهاب فيما آلت إليه حالتها.
6/1 لقد بُنيت المقامة على لحظة توتر حاد، وهي لحظة النهاية التي سعى النص إلى الوصول إليها. وإذا كان هناك من نواة للنص فهي في الخروج من غواية السرد إلى حقيقة الواقع. فبعد سماع حكاية العجوز يكاد النص يلفظ أنفاسه. ها هي العجوز الآن تتأهب للذهاب بعد أن انقضت حاجتها. يقول الحارث بن همام:
فلما افعوعم جيبها تبرا، أولاها كل منا برا، تولت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشكر فاغر، فاشرأبت الجماعة بعد مَمَرَّها، إلى سبرها لتبلو مواقع برِّها، فكفلتُ لهم باستنباط السر المرموز .
يستعيد النص بهذه الحركة وهجه بعد أن خفت أو كاد. فالمسرود لهم أخذوا يخرجون من تأثير الغواية السردية إلى واقع الحدس بخطر ما. فهناك عقدة تتمثل في سر خفي يسعى النص إلى كشفه. والسر هو المفارقة التي ينتهي بها النص. ففي النهاية يخرج أبو زيد السروجي من التنكر إلى الحقيقة، ومن السرد إلى الواقع. فلم يكن هدف النص هو سرد حكاية فقط، بل كان الهدف هو إحداث المفارقة وفضح زيف الواقع. فالتنكر الذي مارسه أبو زيد السروجي يحيل إلى شئ واحد هو أن الواقع يخفي حقيقته. فما الصورة التي نراها إلا حالة نجح السرد في فضحها. فالمتقابلان في النص هما (أبو زيد السروجي والعجوز) أو الواقع والمتخيل، الأول يمثل الواقع بكل رداءاته، والثاني، يمثل صورة السرد التي تفضح وتُغري أيضاً بالنقاء والتسامي. فالبذل سمة وفضيلة لم يألفها واقع أبي زيد السروجي، فكان السرد محرضاً على تعاطيه. فإذا كان مشيخة الشعراء قد تحفظوا عند سماع السرد الأول، فقد أقبلوا بيقين مطلق إلى التسليم بسحر السرد وغوايته في المرة الثانية. لكن المواجهة بين جماعة الشعراء وحقيقة الواقع كانت مخيبة للآمال. لقد أحسوا بالخديعة لأن حيلة السرد قد انطلت عليهم.
6/2 إذا كانت الغواية في نص المقامة قد قامت على خدعة مارسها أبو زيد السروجي، فإن هناك أبعاداً أخرى للغواية نلحظها في ألف ليلة وليلة. فالغواية في حيزها السردي في نص الليالي قد أحدثت متعة ما صرفت رغبة شهريار التدميرية إلى تعايش أكثر منطقية مع من حوله. كما أن الغواية بالمفهوم السردي يمكن أن تنهض على قوة الحجة وبراعة الاستدلال التي تُفحم وتُـقنع مغيِّـرة مجرى الحكاية. وهذا ما نجده في نص المرأة الخارجية أو في بعض نصوص بلاغات النساء، أو في نصوص أخرى كثيرة منتشرة في كتب الأدب. فهذه النصوص تمنحنا القدرة على اختراق المفهوم المعجمي للغواية وتلمس دلالات أخرى ضمن سياقات سردية عديدة.
6/3 يمكننا بعد ما تقدم أن نستنتج أن السرد في عالم المقامات فضح لطبقية الواقع. ورغم أن نصوص المقامات لا تفصح عن هاجسها، فإن تأويلها بصراع بين واقعين يصبح مقبولاً. فصيغة المقامات المتكررة تؤكد أن هناك جدلاً بين واقعين، واقع متعال يقابله آخر مهمش يفرز فئة المكدين والمشتغلين بالسؤال. إن الاحتيال بالسرد ظاهرة متكررة في المقامات، كما أن الوقوع في غوايته سمة متكررة. السرد، إذن، عالم من المبالغات العذبة التي تغري بالنزوح من الواقع إلى المتخيل. فليس السرد في النهاية إلا ما نحلم به ولا نكف أنفسنا عن الوقوع في غوايته.
7. لقد كشفت هذه المقامة حاجتنا إلى قراءة تراثنا السردي قراءة جادة تضع في الاعتبار السياقات التاريخية والاجتماعية التي تشكل المفتاح الحقيقي والمرجعية المنطقية لفهم أبنيته ومنطلقاته. إن هذه المقامة جزء من تراث سردي نشأ تحت وطأة ظروف اجتماعية وسياسية خاصة شكلت وجدانه وجسدت رؤيته. فهو سرد ناتج عن عصره، يحمل هوية ثقافية واجتماعية، بدءاً من اللغة التي تطبع عالمه وانتهاءً بالثيمات التي تحدد اهتماماته. إن سرد المقامات يتميز عن غيره من السرود القديمة بلعبة الموتيف التي تتكرر على نحو دقيق في كل نصوص المقامات. فالبطل نموذج للمحتال، والكنايات لغة واصفة للمتخيل، والحدث يتطور دائماً نحو الكشف عن خدعة، وهي كلها سمات موضوعية وفنية تتكرر في سرد المقامات. وهذه المقامة تنسجم مع سرد المقامات عموماً في شكلها ومضمونها، محتفظة بخصوصية تتمثل في توظيف المرأة من خلال تنكر البطل السروجي في هيئة عجوز دردبيس على حد تعبير المقامة البغدادية.
7/1 ركز هذا البحث في معالجته لهذه المقامة على مفهوم الغواية السردية عبر قراءة البنية السردية والبعد الموضوعي الذي يشكل خلفية مهمة للمقامة. فقد تجلت الغواية في الوله الذي حل بالمسرود لهم داخل نص المقامة، بدءاً من تعلقهم بمظهر اللغة، وانتهاءً بإحكام النص لغوايته من خلال رسم خطوط واضحة المعالم للبعدين الاجتماعي والتاريخي في جسد المقامة. فكشفت المقامة بذلك عن العديد من التفاصيل التي بلورت عمقاً يتجاوز مجرد المتعة السطحية التي دائماً ما يُنظر للمقامة من خلالها. وهكذا فإن المقامة تتحول من خطاب متعة بلاغية إلى خطاب إدانة سردية. هذا الخطاب يتجسد من خلال مفهوم الغواية الذي ينطوي على صراع بين طرفين أحدهما يروي والآخر يتلقى. غير أن هذين الطرفين يعيشان في حالة متوترة تعكس عمق الصراع الذي نتبينه بصفاء تام من خلال خطاب السرد الذي يفضح وينزع أقنعة الواقع الواحد تلو الآخر.
---------------------------------
الهوامش والمراجع
الحريري، مقدمة مقامات الحريري، (ص 7).
ابن قتيبة، عيون الأخبار. بيروت: دار الكتب العلمية، 1986م، ج1، (ص 43).
الفيروزآبادي، مجد الدين. القاموس المحيط. بيروت: دار الفكر، 1995م، (ص 1187).
يشترك في هذا العديد من المعاجم. انظر تاج العروس، القاموس المحيط، معجم لين، وغيرها.
الفيروزآبادي، (ص 1161).
رضا، محمد. معجم متن اللغة. ج2. بيروت: مكتبة الحياة، 1958م، (ص 688).
انظر A Compendious Syriac Dictionary. Ed, J Payne Smith. London, Oxford University Press, 1988, p. 532.
Koehler, Ludwig. Lexicon in Veteris Testamenti: Libros. Leiden, Brill, 1985, p. 876.
رضا، محمد. (ص687). انظر أيضاً القاموس المحيط، مادة (روي) وغيره من المعاجم.
الجوهري، إسماعيل بن حماد. الصحاح. ت: أحمد عبد الغفور عطار، 1956م، (2364-2365).
المعجم الوسيط، مجلد الثاني، (ص 667). (يقال: روى عليه الكذب: كذب عليه، والراوي: راوي الحديث أو
الشعر حامله وناقله (والراوية): مؤنث الراوي.
إيماناً من الباحث أنه يمكن تطوير اللغة وتطويعها، فإنه يرى إمكانية استخدام الغاوية بمعنى راوية الحديث دلالة
على قرب المعنى الأصلي بين نقل الماء ونقل الحديث وروايته.
هوليبيك، ماري لاهي. أنوثة شهرزاد: رؤيا ألف ليلة وليلة. ت: عابد خزندار. القاهرة: المكتب المصري
الحديث للطباعة والنشر، 1996م، (ص 31).
المصدر السابق، (ص 30).
13 البمبي، علي عبد الرءوف علي. المقامات وباكورة قصص الشطار الأسبانية. كتاب الرياض، العدد 48،
ديسمبر 1997م، (ص 15 - 16).
السعافين، إبراهيم. أصول المقامات. بيروت: دار المناهل، 1987م، (ص 38)
انظر كتاب إبراهيم السعافين. أصول المقامات. وخاصة الفصل الأول، (ص 25 - 111).
كيليطو، عبد الفتاح، الغائب: دراسة في مقامة للحريري. الدار البيضاء: دار توبقال، 1987م، (ص 75).
القالي، أبو علي. ذيل الأمالي والنوادر. بيروت: دار الأفاق الجديدة، (ص 174). انظر أيضاً حكاية آمنة بنت
الشريد مع معاوية، بلاغات النساء، طيفور الخرساني، ت: د. عبد الحميد هنداوي (ص 133- 136).
علي، عواد. غواية المتخيل المسرحي: مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد. بيروت: المركز الثقافي
العربي، 1997م.
المصدر السابق، (ص 46).
سليمان، نبيل. فتنة السرد والنقد. سورية: دار الحوار، 1994م.
شياع، كامل. "غوايات الدلالة: علي عسّاف ولغة ما بعد اللوحة". أبواب. العدد 18، (خريف 1998)،
(ص 192).
على عكس ما تصوره بعض النقاد من سلبية الراوي في المقامات، فإن الراوي يشارك في بناء الحدث. فهو
ليس مجرد راوٍ عن بعد، بل هو راو يؤدي وظيفته النصية بدقة، بل إنه غالباً ما يتواطأ مع البطل كما هو
الحال في هذه المقامة. انظر، البمبي، علي عبد الرءوف، المقامات وباكورة قصص الشطار الأسبانية، كتاب
الرياض، العدد 48، ديسمبر 1997م، (ص 25).
انظر عبد الفتاح كيليطو. الغائب. يقول كيليطو في معرض حديثه عن المقامة الكوفية: "هناك قاعدة شبه عامة
وهي أن السرد يكون جواباً عن سؤال أي تلبية لرغبة أو طلب قد يكتسي صيغة الأمر" (ص 49). وهذا
المعيار ينسحب على الجزء الثاني من المقامة البغدادية حيث يطلب الراوي ومعه مشيخة الشعراء أن تروي لهم
العجوز الحكاية شعراً. لكن الطريف أن العجوز تبدأ حكايتها في مقدمة المقامة البغدادية دون أن يُطلب منها
ذلك. راجع نص المقامة.
أي تعدو عدو الجرد وهي الخيل القصار الشعور.
أي استتبعت.
جمع مغزل.
جمع جوزل وهو فرخ الحمامة.
الحريري، أبو محمد القاسم بن على. شرح مقامات الحريري. بيروت: دار الفكر، 1992، (ص 131).
المصدر السابق، (ص 139).
رغم أن الشعر يحضر لا كشاهد، بل كجزء أو مرادف للحكاية المنثورة كما هو الحال في المقامة التي نحن
بصدد الحديث عنها.
الحريري، (ص 10).
انظر الأبيات التي يبرر فيها أبو زيد السروجي فعله بعد أن انكشف أمره (المقامة البغدادية ص 138 من شرح مقامات الحريري. يقول السروجي: وتارة أنا صخر وتارة أخت صخر.
أي نظم الشعر، يقال ألحم الشعر أي نظمه.
امتلأ جيبها جداً.
التبر، الذهب.
أي يتبعها الأولاد.
أي انكشفت.
أي هيئة الحياء والمراد بها النقاب.
أي ظهر وانكشف.
أي نام على ظهره منبسطاً.
العقيرة هي الصوت.
المصدر السابق، (ص 131 - 138).
قاسم، سيزا. بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ. القاهرة: دار التنوير للطباعة والنشر،
1985، (ص 113).
المصدر السابق، (ص 110).
المصدر السابق، (ص 110).
جمع سراة وسرى وهو السخي ذو المروءة.
جمع سرية وهي الرفيعة القدر.
جمع عقيلة وهي الكريمة.
أي تجافى وتباعد، والناظر المراد به من كان ينظر إليهم نظر إجلال وإعظام.
أي الخادم.
في هذا السياق تعني المال أو الذهب.
كناية عن الخيبة.
أي ضعفت القوة.
فارقت.
ما يرتفق به.
الثنية هي الفتية من النوق والناب المسنة.
الحريري، (ص 132).
نسبة إلى النقد الحواري الذي قال به الناقد السوفيتي مخائيل باختين (1895-1975). ويقوم هذا النقد على نظرية ترى (أن العمل الأدبي، والروائي بوجه خاص، إطار تتفاعل فيه مجموعة من الأصوات أو الخطابات المتعددة إذ تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح فئوية وغيرها". انظر ذلك في كتاب ليل الناقد الأدبي. د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 2، 2000م، (ص 211).
علي، عواد، (ص 15).
قاسم، سيزا، (ص 111).
انظر الفصل الثالث "الجسد بوصفه قيمة ثقافية" من كتاب د. عبد الله الغذامي. المرأة واللغة. بيروت: المركز
الثقافي العربي، 1996م. في هذا الفصل يقدم د. الغذامي من خلال حكاية الجارية تودد في ألف ليلة وليلة (من
الليلة 370 إلى الليلة 453) صورة لانتصار المرأة عبر السرد، مستخدمة الحركة المسرحية من "الإطراق
والصمت و التظاهر بالعجز والوهن" (ص 90) إلى جانب سلطة اللغة ذات السياق السردي القائم على المحاورة
بين الجارية وصفوة علماء عصر هارون الرشيد.
انظر العقد الفريد، والأغاني، ونهاية الأرب، وبلوغ الأرب، وعيون الأخبار، وأمالي القالي، وغيرها من مراجع
الأدب. ففيها مادة وفيرة تجسد غزارة تراث العرب القصصي. ففي هذه القصص ما هو مختلق متخيل، وفيها ما
يختلط الواقع بالخيال، وفيها ما يظهر فيه التاريخ من خلال حضور شخصيات بعينها كالخلفاء والولاة والقادة.
طيفور الخرساني، أحمد بن أبي طاهر. بلاغات النساء. القاهرة: دار الفضيلة، 1998م.
انظر بلاغات النساء (ص 32، 37، 41، 67، 124 ...).
القاضي، محمد. "جمالية النص السردي في رسالة الغفران للمعري". علامات في النقد. مجلد 8، جزء 31،
(ص 99).
الحريري، (ص 139).
الأمر بالكسر الشيء العجيب.
الحريري، (ص 139).
معارض.
قاسم، سيزا، (ص 131).
المصدر السابق، (ص 133- 134).
الأصفهاني، أبو الفرج. الأغاني. ت: علي السباعي وآخرون. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ج 22،
ص87-91).
روي بأكثر من صفة، انظر مثلاً الأغاني. الجزء 22، (ص87-91)، وانظر أيضاً كتاب الأمثال، لأبي عبيد
القاسم بن سلام، (ص319)، و(ص341).
سويدان، سامي. في دلالية القصص وشعرية السرد. بيروت: دار الآداب، 1991م، (ص 192- 194). انظر
خاصة حديثه عن تعدد رواة النص السردي.
الحريري، (ص 133 - 134).
أي نظمك للشعر، يقال ألحم الشعر أي نظمه.
المصدر السابق، (ص 133- 134).
مالت ورجعت.
أي بقلب خال.
شقوقه.
المصدر السابق، (ص 137).
Mulvey, Laura. Visual and Other Pleasures. Bloomington, Indiana University Press, 1989, (p. 19).
لقد عقبت لورا مولفي على هذه الدراسة بدراسة أخرى تعالج فيها موقع المشاهدة الأنثى في السينما بعد أن
ثارت العديد من التساؤلات حول غيابها عن طقس المشاهدة. ما الذي يحدث عندما تنظر المرأة للرجل، كان هذا
هو السؤال الذي أجابت عليه هذه الدراسة بتوسع. انظر المصدر السابق.
انظر هذه الدراسة منشورة في الكتاب المشار إليه آنفاً. عنوان الدراسة الأصلي هو
Narrative Cinema. Visual Pleasures and
الزمخشري، أساس البلاغة. (ص260).
دعكور، نديم حسين. اللغة العربية: قواعد، بلاغة، عروض. بيروت: 1991م، (ص 154).
الحريري، (ص 132).
المصدر السابق، (ص 132).
المصدر السابق، (ص 137).
(... إن الكلام مصايد القلوب ...)
1. إذا كان الإنسان أهم ثنائية في هذا العالم، فإن السرد فضاء لكل ثنائيات العالم. ففيه يتم فصل الخطاب، ويحضر الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ويتخلق العالم وجهاً آخر للحياة في كل تجلياتها. فعندما يتوتر الواقع يأتي السرد ليدون اختراقاته عبر تشريح الواقع، وفضح خطاباته المؤدلجة. وإذا كان السرد تمثيلاً للواقع، فإنه ليس تمثيلاً آلياً، بل إنه تمثيل له غاياته ودلالاته. وهو بتعدد دلالاته، وبإحكام بنائه يصبح غواية من لا غواية له. ففي ألف ليلة وليلة ونصوص المقامات، خاصة، تتجلى ظاهرة الغواية السردية على نحو واضح. فشهريار تنحرف غايته من القتل إلى التسامح بفعل السرد، والاحتيال بالسرد أيضاً هو نهج أبطال المقامات. وقبل الشروع في الحديث عن المقامة البغدادية للحريري بوصفها نموذجاً لما تمثله الغواية السردية، يجدر بنا أن نتوقف على عتبات الغواية كمفهوم معجمي، ثم تحديد مسارها وعلاقتها بالسرد من خلال قراءتها وفق سياقات نصية بعينها.
1/1 الغواية في معناها المعجمي تعني الضلال أو الانحراف عن الحق، غير أن من معاني الجذر (غ و ي)، كما أورده صاحب القاموس المحيط، ما يتحد مع الجذر (ر و ي) الذي يـُـشتق منه الفعل رَوَى، أصل السرد والرواية. فهل هناك علاقة ما تُـبين تداخلات الجذرين الدلالية؟ من الاشتقاقات التي يعطيها الجذر (غ و ي) نجد (انغوى) بمعنى انهوى ومال. والميل هو انصهار المرء في هوى ذات أو شيء ما، والتماهي مع السرد ينتج عنه التعلق والوله. لكن الاشتقاق الذي يعنينا بدرجة أكبر هنا هو لفظ الغاوية بمعنى الراوية، وهو معنى يستدعي التساؤل حول علاقة الجذر (غ و ي) بالجذر (ر و ي). فإذا كانت (غوي) تعني ضل، فإن (روي) في الأصل تجسد معنى الارتواء بالماء، وهما معنيان متباينان. لكن القاموس يفسر الغاوية بمعنى الراوية على أنها المزادة فيها الماء أو الجمل الذي يُستقى عليه ، بل إن صاحب متن اللغة يضيف "الراوية: الرَّجل المستقِي بكسر القاف" . والجذر (ر و ي) يعني في الأساس الارتواء بالماء، وهو نفس المعنى في اللغات السامية كالسريانية والعبرية والإثيوبية ، لكن العربية تنفرد بتطور نوعي في معنى الجذر (ر و ي) عن طريق نقل اللفظ من المادي إلى المعنوي على سبيل الاستعارة. فنظفر بـ(روى أي حدَّث) أو رواية الحديث ونقله . فرواية الحديث، سواء كانت شعراً أو نثراً، هي نقل أيضاً ينتج عنه ارتواء نفسي. وهكذا فإنه يمكن النظر إلى الغاوية بمعنى الراوية على أنها الوسيلة التي تنقل ليس الماء، بل الحديث أيضاً إذ أن الجذر يسمح بهذا التمدد والمشابهة. وتكون الهاء في الراوية للمبالغة أو لدلالة التأنيث . وهكذا فإن معنى الغاوية ، وربما يجوز أن نضيف الغاوي، أي الراوية أو الراوي، يمكن أن ينصرف إلى رواية المختلق والمتخيل؛ أي ما هو مفارق للواقع أو خارق للعادة. فقلب الواقع والإيهام بحضوره هو الغواية التي تنتجها الراوية / الغاوية. وهكذا، فإن معنى ما تقوم به الغاوية / الراوية يمكن أن ينصرف من الضلالة التي تورث الخسران إلى تصوير الواقع وفق نسق سردي تحكمه رؤية ذاتية مطلقة. ومن طبيعة الرؤية الذاتية في السرد خاصة، هو خروجها على الموضوعية التي نجدها عنصراً أساسياً عند المؤرخ مثلاً. فرواية المؤرخ ليست هوى، بل وثائق تُضبط وتُـقرأ وفق منهج معين. وهذا عكس الراوي / الراوية الذي لا تشغله الحقيقة الموضوعية في شئ. فهو يقرأ التاريخ أو يختلق التاريخ الذي يوافق طبيعة روايته، مع الاعتماد على إسقاطات واقعية تشكل وجهة النظر التي يؤمن بها.
1/2 يجب أن نؤكد بدءاً أن غواية السرد التي نحن بصدد الحديث عنها تحل بالمتلقي داخل بنية النص، وليس خارجها. فالمتلقي داخل النص هو الذي يكون عرضة للغواية وفقاً لبيئة النص السردية. كما أنه ليس شرطاً أن تتحقق هذه الغواية في كل النصوص السردية، فقد لا تتحقق لأسباب متعددة منها انتفاء وجود مسرود لهم داخل النص. فهناك نصوص سردية تتوجه فقط لمتلق خارج النص، فتكون العلاقة بين راوٍ ضمني أو متكلم وبين قارئ. وتختلف طقوس هذه العلاقة تماماً عما نزعم أنه يمثل غواية داخل بنية النص السردي. فالغواية التي يعول هذا البحث على كشفها هي غواية تتحكم في ردة فعل المسرود له أو لهم داخل النص السردي.
وبطبيعة الحال فإن هناك أكثر من سابقة نصية يلعب السرد فيها دور الغواية. وهذه النصوص تتراوح بين نصوص محدودة المعالم السردية كالمقامات والحكايات والنوادر التي تنتشر في كتب الأدب وبين نصوص تتعدد فيها مناحي السرد ومنطلقاته وتقنياته كما في ألف ليلة وليلة. ففي نص ألف ليلة وليلة تتجلى الغواية السردية بوضوح حاد مما يجعله نموذجاً يمكن أن يغني عن البحث عن نصوص أخرى للتدليل على مفهوم الغواية السردية. ففي نص الليالي تنحرف غاية شهريار من التدمير إلى التسامح، ومن القتل إلى العفو بفعل السرد. بل إن شهرزاد تنجح في أن تجعل شهريار "يتطور من الغريزة إلى الوعي، ومن الانفعال التلقائي إلى الحكم الإرادي" . فشهرزاد التي أدركت الخطر عزمت على أن تصرف شهريار عن قتل النساء بالحكي ليس إلا، لكنه الحكي الذي يعكس سعة معرفة شهرزاد وذكائها في الدفاع عن الأنثى. لقد وقع شهريار وهو يستمع لحكايات شهرزاد في الدهشة والترقب حتى قرر أن يؤجل قتل شهرزاد ليلة بعد أخرى تماهياً مع تداعيات السرد التي لا تكاد تنتهي. وبعد تمام الليالي كان الوله بالسرد قد تمكن من شهريار وأحاله من حالة الانتقام إلى حالة الانسجام مع من حوله، وخاصة النساء.
1/3 والاحتيال بالسرد هو ذاته ما يمارسه أبطال المقامات التي تقوم على الكدية والتسول. وظاهرة الكدية والتسول من الظواهر التي حفل بها المجتمع العربي منذ القرن الثالث كإفراز طبيعي لعصر كثُرت فيه التناقضات التي خلقت بدورها مجتمعا متبايناً في ظروفه ومستوياته . وقد عُرفت جماعة المكدين، على وجه الخصوص، التي كانت منتشرة في المجتمع العربي حينذاك، بأنواع الطرب والأدب والفكاهة واللهو والمجون . ومن هذا الجو استلهم مبدعو المقامات، سواء بديع الزمان الهمذاني أو من جاء بعده مثل الحريري، أحداث وشخصيات مقاماتهم فجاءت تعبيراً حاداً عن تناقضات مجتمعهم. فاللجوء للسرد كطريقة للتعبير عن واقعهم جاء خلاصة لعوامل موضوعية وتاريخية كثيرة نتج عنها المزج بين الواقع والمتخيل في ثنائية تكشف عمق التجربة السردية للمقامات. وهنا يأتي دور المتخيل في حركة تنزع إلى تأكيد هذا التباين عن طريق تجسيد نماذج هزلية تمثل بؤس الواقع المادي. إن المعطيات السردية في نصوص المقامات توحي بحضور الصور الواقعية عبر نمذجة الحالات الإنسانية التي لفظها المجتمع. ومن غير شك، فإن النظر إلى تاريخ نشوء المقامة يؤكد جذورها الواقعية التي جعلت منها نصاً يشابه الواقع عبر إعادة تمثيله، لكن بسخرية ومرارة تتمثل في الحالات الإنسانية التي يجسدها أبطال المقامات.
1/4 وما فعلته شهرزاد هو ذاته ما يفعله بطل المقامات مع اختلاف الغاية التي تحكم نص الليالي. فشهرزاد تبحث عن خلاصها من هلاك شهريار مستخدمة الحكي سلاحاً لتلهي أو لتصرف شهريار أو لتؤجل قتلها، في حين يمارس بطل المقامة تضليله لمستمعيه عبر السرد حتى يحصل على غايته المادية. ويذهب عبد الفتاح كيليطو إلى أن "السرد يضغط على المتلقي ويدفعه إلى القيام بعمل ما" ، لكن هذا العمل يختلف من موقف إلى آخر، فقد يتمثل في العطاء أو في الرغبة في المشاركة في الرواية، أو في الدفاع عن النفس كما فعلت شهرزاد. ونجد هذه الظاهرة أيضاً في نصوص أخرى قد تكون أقل حضوراً، لكنها، مع ذلك، تنبئ عن وجود هذا المنحى السردي. ففي كتاب ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي نجد حكاية الشجاء الخارجية مع زياد بن أبيه هذا نصها:
قال أبو محلم: أخبرني معتمر بن سليمان التيمي قال: لما جئ بالشجاء - وكانت امرأة من الخوارج - إلى زياد، قال لها: ما تقولين في أمير المؤمنين معاوية رضى الله عنه؟ قالت: ماذا أقول في رجل أنت خطيئةٌ من خطاياه! فقال بعض جلسائه: أيها الأمير، أحرقها بالنار، وقال بعضهم: اقطع يديها ورجليها، وقال بعضهم: اسمل عينيها. فضحكت حتى استلقت وقالت: عليكم لعنة الله! فقال لها زياد: مم تضحكين؟ قالت: كان جلساء فرعون خيراً من هؤلاء. قال لها: ولم؟ قالت: استشارهم في موسى فقالوا أرْجـِهْ وأخاه، وهؤلاء يقولون: اقطع يديها ورجليها واقتلها، فضحك منها وخلى سبيلها .
يقدم هذه النص حكاية الخلاص بالمقابلة بين الوقائع في نسق حكائي. فرغم تموضع الحكاية ضمن شخصيات تاريخية مؤثرة، فإن المرأة الخارجية تستدعي من الموروث ما تقيمه حجة على قمعية السلطة في زمنها. وهكذا تنجح في تعرية قمع السلطة رغم حدة خطابها. فهي هنا تحتال بسرد وقائع تناقض موقف السلطة، مبطلة في الوقت ذاته موقف جماعة السلطة، ومحرضة الأمير على أن يُخلي سبيلها، ليتحول سخطه إلى حالة من الرضا مثل الرضا الذي حل بشهريار وهو يتماهى مع سرد شهرزاد.
1/5 وفي أدبيات النقد الحديث يوظف عواد علي كلمة غواية في عنوان كتابه غواية المتخيل المسرحي دون أن يقدم تفسيراً مباشراً لدلالة الكلمة في السياق الذي يقدمه. غير أن عواد علي من خلال الكشف عن إستراتيجية ****theater أو ما وراء المسرح، يحاول التأكيد على أن غواية المسرح ليست في إيهامه بالواقع، بل في قدرته على الإبهار والدهشة من موقعه كمسرح ذي آليات تعكس جماليات المسرح وشعريته . ويتضح ذلك أكثر إذا عرفنا أن استراتيجية ما وراء المسرح تقوم على نقض الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل ليتحول المسرح إلى مسرح لا يخفي آلياته واستراتيجياته، على عكس المسرح الطبيعي الذي ينطوي على الإيهام بالواقع من خلال تأكيد واقعية المكان، ومنطق الحكاية، وتتابع الزمن، وعزل المتلقي عن فضاء المسرح.
ومن ناحية أخرى، يستخدم نبيل سليمان كلمة فتنة في كتابه النقدي فتنة السرد والنقد ، منطلقاً من مفهوم الوله والاختلاف الذي تخلفه لفظة (فتنة). فالموضوعات السردية المؤدلجة أو الثيمات ذات الصبغة الحساسة (دينية أو سياسية أو أخلاقية) هو ما اشتغل عليه الباحث تحت مسمى الفتنة التي تثير الاختلاف بسبب السرود التي تتبنى مثل هذا النوع من الثيمات. فبقدر تعلق الناس بها لجمال خطاباتها إلا أنها تثير نوعاً من الاختلاف قل أو كثر. وهكذا فإن الكاتب يرصد مظاهر الفتنة بين السرد وبين قرائه من منطلق أنها علاقة خارجية بين نص وقارئ. ولفظة الفتنة وإن كانت تتباين في أوجه كثيرة عن لفظة غواية، فإنها تأتي في سياق مشابه للفظة الغواية من حيث خروجها الدلالي من وجودها المعجمي إلى توظيف أرحب يكشف قدرة اللغة على تجاوز المألوف من الدلالات المعجمية. ورغم الاختلاف المعجمي بين الفتنة والغواية، فإن المفهوم الذي ركز عليه سليمان يقترب من ظلال الغواية بالمفهوم الذي تتبناه هذه الورقة. فالوله والتعلق بالشيء هو مدخل من مداخل الغواية مثلما هو من مكونات الفتنة. وفي المقامة، موضوع دراستنا هنا، ما يصل دلالة الغواية بدلالة الفتنة ولو بخيط رفيع يمكن أن تسقط معه بعض الفروق الدلالية الحادة.
وقد شاع مفهوم الغواية بظلال متباينة حتى في خارج نطاق السرد. ففي مقالة بعنوان "غوايات الدلالة ... " يقدم كمال شياع رؤية نقدية لمفهوم الفن التشكيلي لمرحلة ما بعد الحداثة موضحاً الأبعاد الدلالية في العلاقة بين الأجناس الفنية. فالدلالات التقليدية التي تحيل إلى المألوف والمرجعي لم تعد ممارسة منطقية في ظل التطورات الفلسفية والفنية لأعمال ما بعد الحداثة. فقد تطور الحقل الدلالي إلى فضاء من المغامرة وعدم اليقين المطلق كرؤية فلسفية تؤطر نمط التعبير التشكيلي القائم على التناص مع أشكال عديدة عُرفت بفضائها الدلالي المستقل كالنحت والتصوير الفوتوغرافي وغيرها من القنوات الإبداعية. فالحقل الدلالي في الفن التشكيلي ما بعد الحداثي قد خرج على سلطة الدلالة المباشرة وأحالها إلى فضاء من الاحتمالات التي تقود إلى تأويلات غير متناهية. ويمكن أن نخلص إلى أن الغواية الدلالية هي دفع المتلقي إلى ارتكاب جرأة التأويل وكسر هيمنة المفاهيم المرجعية السائدة في قراءة النتاجات الفنية الحديثة.
ما تقدم من توظيفات للفظة الغواية أو ما شابهها تختلف في بعض جوانبها عن المفهوم والتوظيف الذي تتبناه وتنتهجه هذه الورقة. فمفهوم الغواية السردية يقوم على البحث عن الإغراء بالسرد والتماهي معه بين سارد ومسرود له داخل بنية النص السردي. فكما أوضحنا من قبل تنطلق هذه الورقة من فهمها للغواية كمحصلة سردية داخل بنية النص السردي ذاته. فهي ردة فعل تجاه السرد من قبل متلق داخل النص السردي. ورغم تباين مفهومات الغواية في هذه التوظيفات، فإنها تتحد نحو فهم مشترك قوامه قراءة الإبداع من زاوية متجاوزة للقيم المألوفة في الحقول الدلالية سواء كانت معجمية أو فلسفية.
2. تتلخص المقامة البغدادية للحريري، وهي المقامة الثالثة عشرة، في حدث يسير يتجلى عبر السرد المفعم بزخم البلاغة وعنفوان اللغة. يروي الحارث بن همام حكاية امرأة أصابها الدهر بالفقر فجاءت إلى جماعة من الشعراء أو نخبة مثقفة تقدر براعة الخطاب البلاغي الذي يصدر عن هذه المرأة. ولذلك، فقد ساد الاعتقاد أنه بسبب اللغة لا الحكاية يحصل تأثير المقامة. غير أنه من الضروري أن ننظر للغة، في هذا السياق، لا باعتبارها لغة مزخرفة، بل لغة سياق حكائي، تنشد التأثير بالسرد، وتجسد مفهوم البيان الذي اعتبره الرسول (صلى الله عليه وسلم) سحراً عندما يكون موظفاً داخل سياق مؤثر. ومهما يكن فإن المقامة وهي تتمظهر باللغة تخطو خطوة أخرى في غاية الأهمية تكشف عن رحلة السرد من اللغة إلى الحكاية. فلغة المقامات عموماُ لغة مجلجلة، صاخبة تقوم على السجع وحشد هائل من المحسنات البديعية. لكن من خلال هذا الزخرف اللغوي تنبثق الحكاية، متجاوزة سياج اللغة إلى فضاء خصب من السرد. فالراوي، وهو مظهر مهم من مظاهر السرد، يؤكد نفوذ السرد في سياق المقامة، تاركاً موقع الرواية لينتقل إلى المشاركة في الفعل ، فيتعقب المرأة أثناء خروجها من مجلس الجماعة حتى تدخل مسجداً تنزع فيه ثياب الأنثى. فإذا نحن أمام أبي زيد السروجي الذي انكشف أمره للراوي بعد أن تلصص عليه عبر خصاصة الباب.
2/1 تبدأ المقامة بوصف الجو العام الذي يكشف مقومات السرد الأولية. فنتعرف على مشيخة الشعراء الذين سيمثلون مع الراوي الطرف المعادل في حكاية العجوز. لقد أضفى الراوي هالة من التقدير على جماعة الشعراء الذين وصفهم بالبراعة الأدبية. وهو وصف من شأنه أن يهيئ المتلقي لطبيعة الصراع الذي سينشأ بين المرأة ومشيخة الشعراء. وهو صراع تلعب اللغة فيه دوراً مهماً، لكن اللغة في هذه المقامة تكتسب أهمية خاصة من خلال وجودها في سياق السرد.
الخطوة الثانية في بنية السرد تتمثل في قدوم العجوز إلى مجلس الجماعة (الراوي ومشيخة الشعراء). وتتقدم العجوز للسرد دون أن تدخل في حوار مع الراوي أو الجماعة، فتروي حكايتها مع الزمن . واللافت للانتباه في النص هو المسكوت عنه. فالشيء المعلوم هو فقرها، لكن النص لا يقدم توقعاً أو حدساً لحالتها الراهنة. غير أن تلميح النص إلى قدومها ومن خلفها مجموعة من الصِـبية "لمحنا عجوزاً تقبل من البعد، وتُحضِرُ إحضار الجُرد ، وقد استتلتْ صِـبية أنحف من المغازل ، وأضعف من الجوازل " ، يُحيل إلى فضاء أعمق من خطاب اللغة وهو ما يضع الحكاية في سياق أكبر من حيزها المادي. فوجود أطفال أو صِـبية على هذا النحو من الهزال والضعف حالة واقعية دفعت الراوي والجماعة للتسليم بدلالة المشهد. لقد كان على العجوز، وهي تعي معضلة الواقع وكيف تهز وجدان المتلقي، أن ترسم صورة واقعية تجعل من ادعائها السردي صورة مؤثرة. فالسرد ليس لغة تحكي فقط، بل إنه تمثيل غير آلي للواقع محملاً بدلالة الإدانة. ويعود النص في نهايته إلى ذات النقطة التي انطلق منها، وكأنه نص دائري. فالعجوز وقد ظفرت بالعطايا، تركت الجماعة لتخرج من تنكرها، ولتتخلص من الصبية الذين رافقوها في بداية الحكاية: "حتى انتهتْ إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالزحام، فانغمست في الغُمار؛ واملستْ (أي تخلصت وانفلتت) من الصبية الأغمار" . ما يستوقفنا هنا هو لفظ الصِـبية، ففي بداية الحكاية وردت اللفظة نكرة "واستتلتْ صبية"، وفي النهاية اكتسبت التعريف "واملستْ من الصبية الأغمار". فتنكير لفظ الصبية أولاً، ثم تعريفه ثانياً هو موقف الراوي من المشهد الذي يتجلى أمامه. فالتنكر الذي قام به أبو زيد السروجي لم يكن مجرد تنكر مادي يطال تغيير ملامح الشخصية، بل تجاوزه إلى تأسيس سياق اجتماعي مؤثر. فالعجوز تومئ بأنها لا تسعى من أجل ذاتها، بل من أجل "صبية أنحف من المغازل، وأضعف من الجوازل". ووصفهم بالضعف يعود إما إلى تأثر الراوي وتعبيره عن المشهد مبالغة، أو أن أبا زيد السروجي قد نجح في أن يجعل الصبية يتقنون دور الحيلة باستكانتهم وعدم خروجهم عن النص الذي سيؤلفه سرداً أبو زيد السروجي ليجني من ورائه العطايا. لكن وقد اشتعل الحدس وزالت غواية السرد في نهاية النص، فإن الراوي قد غير موقفه فعرَّف الصبية ونسبهم إلى الجهل الذي سببه عدم الدراية (بحيلة ما) سيجتهد الراوي في الكشف عنها.
الخطوة الثالثة في بنية النص هي البحث عن السر. والتوقع بأن هناك سراً أو فخاً وقع فيه الراوي ومشيخة الشعراء، ليس إلا الخروج من حالة الانتشاء والافتتان بالسرد، لغة وحكاية، إلى واقعهم الذي يرى العالم وكأنه قائم على خدعة. وهذا يستدعي أن الخير مرادف للحظات التجلي التي يخرج الإنسان فيها من نسق الواقع إلى المتخيل، ومن المادي إلى المعنوي. فكلما اقترب الإنسان من الواقع اقترب من التناقض، وكلما انغمس في السرد حكاءً أو متلقياً سما فوق الواقع.
3. المقامة البغدادية خطاب سردي نثري يحوي مقومات أساسية متمثلة في راو وبطل وحدث يُروى. وهي ككل المقامات الأخرى سواء مقامات الهمذاني أو مقامات الحريري تنطوي على موضوع متكرر في كل أبعاده. وإذا كان الشكل أكثر حضوراً من المضمون من خلال بنية لغوية مليئة ببديع اللغة، فإن مضمونها لا يقل أهمية عن البنية اللغوية. وتعمد هذه المقامة إلى المراوحة بين النثر والشعر. فتبدأ نثراً، ثم تعيد حكايتها شعراً. غير أن الشعر يجد فرصة للتعبير لا عن حدث، بل عن مشاعر البطل سواء في حالة تنكره أو بعد جلاء أمره.
3/1 التنكر جـزء من طـبيعة بطل المقامات؛ وهو بطبيعته شخصية ساخرة تجسد حالة من حالات التناقض الاجتماعي. فالبـطل، وعلى مدى خمسين مقامة، يلون شخصيته حتى يصل إلى مبتغاه. وهذه الشخصيات المتقمَصة ذات خطاب لغوي واحد مهما تباينت مرجعيتها؛ بمعنى أن خطاب الشخصيات يظل بليغاً مهما تغير نمطها. وليس بوسعنا أن نتجاهل رغبة منشئ المقامات في استعراض بلاغته، فهو يؤكد أنه قد أنشأ "خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودُرره، وملح الأدب ونوادره …" . غير أن هذه المقامة، البغدادية، تستوقفنا كونها ربما الوحيدة التي يتقمص فيها البطل أبو زيد السروجي دور امرأة. كما أن هناك إشارة أخرى وردت في المقامة البغدادية تفيد بتقمص أبي زيد السروجي لشخصية الخنساء في سياق آخر. والتنكر ما هو، في بعض مظاهره، إلا هروب من مواجهة الآخر، أو تزييف للواقع عندما يغدو هذا الواقع ذاته قابلاً للتزييف والاحتيال. فجماعة الشعراء لم يكن لهم من دافع للبذل إلا بعد وقوعهم في سحر الاحتيال بالسرد. فالتنكر يمثل حالة من حالات الغواية سواء في معناها المعجمي أو في البعد السردي للمقامة. فالتضليل أو تزييف الحقيقة هو جوهر التنكر. غير أنه يتخذ بعداً خاصاً في السياق السردي الذي تتبناه المقامة. فهو وسيلة من وسائل السرد في هذه المقامة، بل إنه، بالأحرى، حيلة من حيل السرد التي تحولت إلى موضوع لا يمكن أن تنهض المقامة إلا به. ولهذا فإن الغواية السردية في هذا السياق تصبح استراتيجية نصية تقوم على المفارقة والإبهار. فشخصية البطل دائماً مبهرة سواء في سلوكها أو في مظهرها مما ينتج عنه التأثر والاندفاع إلى التسليم بصدقية الادعاء.
3/2 المقامة خطاب سردي تسيطر عليه اللغة بكل تجلياتها البيانية. ومن ثم فاللغة ذات وظيفة سردية يراوح الكاتب من خلالها بين السرد والوصف. فلسنا أمام سرد مطلق للحدث، بل إن الوصف هو أحد العناصر الرئيسة في خطاب المقامة. وللتفريق بين الجمل السردية وبين الجمل الوصفية يمكننا تتبع الجمل السردية التي يتحرك معها الحدث ليضيف للحكاية قدراً من النمو والتطور.
تبدأ المقامة البداية التقليدية (روى الحارث بن همام ...)، فالرواية شرط من شروط السرد، فبه يتهيأ المتلقي لسماع الراوية، وبه يعلن الراوي حضوره وسلطته على جماعة المتلقين.
قال: ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء ... لمحنا عجوزاً تُقبلُ من البُعد ... قالت: حيا الله المعارف ... قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها ... وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك ... قال الراوي: فوالله لقد صدَّعت أبياتها أعشار القلوب ... فلما افعوعم جيبها تبرا وأولاها كل منا برا، تولت يتلوها الأصاغر ... فكفلتُ لهم باستنباط السر ... ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهتْ إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالزحام، فانغمستْ في الغمار؛ واملستْ من الصبية الأغمار، ثم عاجتْ بخلو بال، إلى مسجد خال، فأماطت الجلباب، ونضت النقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب، وأرقب ما ستبدي من العجاب، فلما انسرت أُهبة الخفر ، رأيت محيا أبي زيد قد سفر فهممت بأن أهجم عليه، عَنِّفهُ على ما أجرى إليه، فاسلنقى اسلنقاء المتمردين، ثم رفع عقيرة المغردين ، واندفع ينشد ... .
توضح نقط الحذف (...) القفزات النصية التي تحوي جمل الوصف، وهي قفزات تطول وتقصر بحسب السياق. وهكذا فإن جمل السرد التي تشكل حركة الحكاية لا تزيد على خمس وعشرين جملة، تتركز أكثرها في نهاية المقامة؛ بمعنى أن سرد الحدث يبدأ بطيئاً ثم يتصاعد تدريجياً حتى يصل ذروة الكشف في نهايتها. وكلما كان السرد بطيئاً كان الوصف أكثر، والعكس هو ما يحدث عندما يحضر السرد، فيتضاءل الوصف إلى أدنى درجة أو ينعدم. لكن السؤال هو، لماذا هذه المزاوجة بين السرد والوصف؟ وهل من وظيفة للوصف غير وظيفة الاستعراض اللغوي؟
إذا كان السرد يمثل حركة الحكاية وزمن وقوعها، فإن الوصف يمثل روح السرد، فهو الثابت الذي يعطي للسرد قيمته الدلالية . فلو قدمت حكاية العجوز كسرد مطلق لما كانت إلا مجرد أفعال متتالية تعكس الحركة لكنها لا تفسرها. لقد نُظر كثيراً للمقامة على أنها مجرد استعراض لغوي بلاغي، ورغم صحة هذه الادعاء إلى حد ما، فإنه لا يجب أن نظل أسرى لهذه النظرة التقليدية. فالوصف "يتجاوز مجرد تمثيل الموجودات إلى مستوى أعمق من الرمزية وتمثيل القيم المجردة" .
يمثل الوصف في المقامة البغدادية بعداً مهما يسند حضور السرد. فإلى جانب الوظيفة التقليدية، الزخرفة، فإنه هنا يؤدي دوراً تفسيراً يكشف ظلال الحدث الذي بدأ بحضور العجوز. فحضورها الذي بهر الجماعة لا بد له من تفسير وصفي يرسم ملامح الشخصية وعمقها الاجتماعي:
"... أني من سروات القبائل، وسريات العقائل ، لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد: فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن نبا الناظر ؛ وجفا الحاجب وذهبت العين وفقدت الراحة، وصلد الزند ، ووهنت اليمين وضاع اليسار وبانت المرافق ، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب ..." .
هذا الوصف لحالة العجوز مهم لتبرير موقفها. فهو وصف يمثل حوارية توحي بتعدد الأصوات داخل نسيج المقامة. وبالطبع فنحن لا نتحدث عن حوارية باختينية مطلقة توحي بتعدد الظواهر الحوارية في هذه المقامة أو حتى في غيرها من المقامات. إن الحوارية تقتضي أفقاً روائياً أرحب حتى تتجسد فيه الملامح الحوارية من "تعايش للشخصيات، ووجهات نظر، ومراكز، وأيديولوجيات، وعلامات، وأساليب، ونظم كاملة القيمة" . وهو أمر لا يحتمله المتن الحكائي في المقامات. ومع ذلك، فإننا في المقامة البغدادية أمام مظهر حواري مبسط نرى فيه الراوي الحارث بن همام يسرد، بينما العجوز تسرد حيناً وتصف حيناً آخر. وبين السرد والوصف يحدث التوتر المطلوب لاستجلاب حضور المتلقي داخل المقامة، وخارج سياق المقامة أيضاً. فافتتان جماعة الشعراء هو افتتان بالوصف الذي هو موجه للمتلقي داخل بنية النص. بالإضافة إلى ذلك فأن الوصف يوحي بالإيهام بالحقيقة . فكلما بالغ أبو زيد السروجي / العجوز في الوصف، استطاع أن يبرر حضوره النصي. فالإيهام بمظهر العجوز، سواء بوصف الشكل أو الحالة، كان أحد العناصر التي استخدمتها هذه المقامة لتبرر اليقين. فالمرأة يقين بالنسبة لجماعة المتلقين داخل نص المقامة سرعان ما تحول في نهاية السرد، إلى وهم خالص. ولتأكيد الصورة استعان النص بحشد الأوصاف للتفسير تارة، وللإيهام تارة أخرى، فلم يبق أمام جماعة المتلقين إلا الوقوع في غواية النص.
4. السرد والمرأة ظـاهرة تكرسـت في النصوص السردية القديمة حتى بلغت ذروتها في ألف ليلة وليلة . وهي ظاهرة تقوم على استخدام المرأة للسرد كسلاح لتحقيق غرض ما قد يصل إلى حد إنقاذ ذاتها من القتل كما فعلت شهرزاد. وواضح من خلال استقراء العديد من النصوص (القديمة) أن المرأة لا تلجأ إلى السرد إلا عند حاجتها لبلوغ غرض ما. ومجمل هذه النصوص تتراوح ما بين موقف وحكاية تكون المرأة فيها طرفاً، في الغالب، قوياً ومنتصراً. ففي كتاب بلاغات النساء ، مثلاً، نظفر بعدد من هذه الحكايات التي نرى فيها المرأة تتسنم سلطة الحكي. ورغم أن عنوان الكتاب يستدعي دلالة اللغة التي تجعل لهذه النصوص قيمة بلاغية، فإن أهمية هذه البلاغة تكمن أساساً في كونها موظفة في سياق حكائي يقوم على المواجهة بين رجل وامرأة . فالبلاغة جزء من لعبة المرأة التي تسخرها لاحتواء سلطة الرجل. فلا أهمية لبلاغة المرأة لو لم تكن داخل نسق سردي سواء كان واضح المعالم أم ضعيف البنية. كما أن السرد بالمعنى السميائي أوسع من الصيغة التقليدية للسرد التي تحصره في جانب من جوانب القص كالوصف والحوار والشخصية. فالسرد سيميائياً قادر على استيعاب كل الأشكال والنظم الدالة سواء كانت في تكوينها ورؤيتها قديمة أو حديثة . فإذا كانت هذه النصوص لا تشكل حضوراً سردياً قوياً، فإنها لا يمكن أن تخرج عن نسق الحكي الذي يقوم على جدلية الواقع والمتخيل. فالواقع في هذا النوع من النصوص يتجسد في الحضور القوي للتاريخ من خلال شخوص تاريخية معلومة الدور سواء في السياق الاجتماعي أو السياسي، لكن القص هنا هو الأبرز حضوراً من خلال تركيز هذه النصوص على الأحداث الهامشية والفردية التي لا تشكل في الغالب ثقلاً وهماً جمعيَّاً. فهذا النوع من النصوص، التي توظف المرأة، تصنع من المرأة نصاً سردياً يقاوم سلطة الرجل وهيمنته. فالرجل هنا هو المتلقي وهو النقيض الذي تنهض عليه ثنائية الصراع في هذه النصوص. فنحن إذاً أمام مثلث قوامه المرأة والسرد والرجل. وكأن السرد هنا هو المحرض على كسر العلاقة النمطية بين الرجل والمرأة. ففي سياق السرد يقف الرجل مستلباً بالسرد وتقف المرأة في مركز قوة تملي حكايتها.
وإذا نظرنا إلى المقامة البغدادية نجد نوعاً من الحيلة التي تضع المرأة في قلب السرد. فالبطل أبو زيد السروجي يتنكر في زي امرأة ليحصل على ما يريد من مال. ورغم أن هذه واحدة من بين العديد من حيل أبي زيد السروجي التي يظهر فيها مرة واعظاً، ومرة خطيباً وأخرى شاعراً، وغيرها من الأدوار التي يتقمصها للوصول إلى غرضه، فإنه في هذه المقامة يفعل شيئاً مختلفاً تماماً. إنه هنا ليس الرجل، إنه يتقمص دور امرأة عجوز تسرد حكايتها. إن النص لا يفصح عن كيفية التحول، لكن من الضروري أن دراما التحول قد حدثت على نحو يشابه الواقع ويوجد الأثر المطلوب تحقيقه. فالزي والصوت والحركة واختفاء اللحية والشارب كلها مظاهر سكت النص عنها، واكتفى بلفظ العجوز وتأنيث الفعل (قالت) للدلالة على التحول. فالتحول، إذن، تم بالتجريد، لا بالوصف المادي. وهذا الاختزال يتكرر في غير موضع كاستراتيجية نصية لا بد من التنبه لدلالتها.
4/1 أين تقع المرأة في هذه المقامة؟ إذا تجاوزنا بلاغة الخطاب النثري ودققنا فيما وراء الخطاب، نكتشف دلالة الحكي ومضمون السرد. يصح أن نقول إن المرأة هنا تقوم بدور ما بالنيابة عن الرجل، أو رجل في صوت امرأة أو في شكل امرأة. وهي أيضاً تجسد معاناتها التي نتجت عن غياب دور الرجل في حياتها. فهي، إدعاءً، من عائلة كريمة، كان أهلها (من الرجال) يحتلون أعلى المراتب بين قومهم، لكن الدهر جار عليهم فتحولوا من غنى إلى فقر، ومن عزة إلى ذل، ولم يبق لها إلا الاستجداء. فالمرأة باتحادها مع السرد حققت الوظيفة التي من أجلها وظفت. لقد اُستخدمت المرأة لغواية الرجل، فتحولت من شفافيتها وحنوها إلى شيطان مخادع. لقد جسدت هذه المقامة كيد المرأة وخداعها، دون أن تكون حاضرة في السرد مطلقاً. فتحولت هي بدورها من مخادعة إلى مخدوعة، مثلها مثل مشيخة الشعراء. فالمرأة ليست فاعلة للغواية بمعناها المعجمي، بل هو حضورها المزعوم الذي جسد الغواية من خلال خطاب السرد.
إن السياق الذي وضعت فيه المرأة سياق واقعي يؤكد تبعيتها للرجل، لكن فعلها السردي يتناقض تماماً مع مضمون حكايتها. فهي عندما قدمت نفسها لجماعة الشعراء قدمتها على أنها من عائلة كريمة فأهلها وبعلها، على وجه الخصوص، يحتلون الصدر، كناية عن السيادة في قومهم. فهي لم تقل شيئاً عن ذاتها إلا أنها تحولت من كريمة بين أهلها إلى ذليلة بسبب ما حل بهم من فقر. وإذا كان هذا هو مضمون حكايتها، فإن فعلها السردي يبدو متناقضاً مع دورها المرسوم لها. فهي كبطلة قادرة على السيطرة عبر بلاغتها على النخبة المثقفة. فالمقامة لم تنتصر لها إلا بالقدر الذي أكسبتها عطايا رجال غير راغبين في العطاء أصلاً. ومهما يكن فإن السلطة الممنوحة لها، لم تلبث أن سُلبت منها وعادت لا شئ. فالنص الذي خلقها، سرعان ما وأدها. وإذا كان السرد قد أنقذ شهرزاد، فإن السرد هنا لم ينصف المرأة؛ لأنها لم تكن حاضرة في السرد أصلاً، بل كانت مجرد صورة خارجية سرعان ما بهتت وانمحت. وإذا كان شهريار قد أذعن لسلطة شهرزاد وسلم لها بالبراعة، فإن الحريري قد اغتال عبر السرد صورة الأنثى، أولاً بتقديمها كعجوز خالية من رونق الحياة، وثانياً بإقصائها من السرد كحضور حقيقي. لقد قُدمت المرأة في المقامة كضحية للرجل المحتال أبي زيد السروجي. ورغم انكشاف حيلته فقد ظلت النقمة تلاحق المرأة عندما تعاهد مشيخة الشعراء على محرمة العجائز . بينما الجاني الحقيقي أبو زيد السروجي ظفر بثناء الراوي: "فلما ظهرتُ على جلية أمره، وبديعة إمره ، وما زخرف في شعره من عذره، علمتُ أن شيطانه المريد، لا يسمع التفنيد، ولا يفعل إلا ما يريد
4/2 تتضح منذ البدء خلفية السرد المكانية وطبيعة المتلقين. تبدأ المقامة هكذا: "روى الحارث بن همام قال: ندوت بضواحي الزوراء، مع مشيخة من الشعراء، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري معهم ممار في مضمار ..." . فإلى جانب أن النص يوضح البيئة المكانية، فإنه يلتفت إلى مسألة في غاية الأهمية وهي جماعة المسرود لهم. فهم جماعة من أهل العلم والأدب معطية المقامة بذلك مبرراً قوياً في منطقية البناء اللغوي الكثيف، فمراعاة مقتضى الحال تبدو مسألة محسومة عند الحريري. إن هذه المقامة تمثل لعبة سردية واعية. فخطابها الجمالي مهما بدا مبالغاً في هذا السياق، فإنه لا ينفصل عن بنية النص الكبرى. إن الكاتب وهو راو ضمني يبني نصه في نسقين سردي وجمالي. فالنسق السردي هو المتجسد في آليات القص، بينما الجمالي هو تقديم هذا النسق السردي من خلال لغة جمالية. وهذا التوجه نجد ما يدعمه في ثنايا النص؛ إذ يقول الراوي الحارث بن همام بعد أن استمعوا إلى خطاب المرأة النثري: "فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك" . فالحكاية قد تمت بالنثر، لكن المقامة تعمد إلى تنويع الخطاب من أجل تكثيف مدى تأثير الحكاية. ومن هذا المنطلق يصبح تكرار سرد الحكاية مرة أخرى دلالة نصية تضاف إلى ظاهرة تكرار الجمل الوصفية لذات الحالة كما سيتضح لاحقاً. فنحن أمام لعبة سردية ذكية استطاعت أن تضيف إلى الحكاية النثرية ثراء دلالياً.
4/3 تثير قضية سرد الحكاية شعراً مسألة في غاية الأهمية. فإذا كان يمكننا القول إن الحكاية الشعرية في النص هي إعادة إنتاج للنص النثري، فإن الحكاية الشعرية بدورها تنطوي على امتداد نصي خارج سياق المقامة. تسرد العجوز حكايتها حتى تصل إلى:
ما بات جـار لـهــم ســاغباً ولا لروع ٍ قال: حـال الجريض
هنا ينفتح النص على فضاء من التناص. ففي قول العجوز "حال الجريض" استدعاء للمثل المشهور (حال الجريض دون القريض) . وأصل هذا المثل:
أن المنذر بن ماء السماء وقيل النعمان كان له يومان يوم بؤس ويوم نعمى، فمن لقيه في يوم بؤسه قتله ومن لقيه في يوم نعماه أغناه. فلقيه في يوم بؤسه الشاعر عبيد بن الأبرص، وكان من خاصته، فقال له المنذر وددت لو لقيتنا غير اليوم فتمن ما شئت غير نفسك. فقال الشاعر لا أعز علي من نفسي. فقال المنذر لا سبيل إلى ذلك، فأنشدني في شعرك. فقال عبيد: حال الجريض دون القريض. والجريض هو الغصة .
إن استدعاء هذا المثل في سياق الحديث عن أهلها يعطي دلالة الوقوف مع الآخر ومؤازرته وليس محاولة استغلال لحظة الاحتياج التي يمر بها. فالشاعر لا يحتاج في هذا اليوم إلا إلى النجاة من الهلاك. وهي مشابهة ولو من بعد عن حال من وقف محتاجاً بين يدي أهلها وبين من وقف بين يدي المنذر. ولذلك فهو تحريض لمشيخة الشعراء على أن يحذوا حذو أهلها في العطاء. فإذا كان أهلها قد أعطوا، فذلك مدعاة إلى أن يعطي كل من يرى أن له ذات السيادة. لقد أحكم النص غوايته عبر العديد من التقنيات. فإذا كانت اللغة هي المظهر الأول للغواية بالنسبة لمشيخة الشعراء، فإن السياق الاجتماعي للحكاية الذي قدمته العجوز / أبو زيد السروجي، ورسم أهلها كنموذج للعطاء، جعل الغواية السردية تبدو لذة تقترب من لذة الأخذ. فالجماعة لم تشعر بالعطاء وهي تعطي، لكنها شعرت بلذة الأخذ والتماهي مع السرد. وبهذه الصيغة تسقط الحدود الفاصلة بين فعلي العطاء والأخذ بفعل قدرة السرد على كسر المألوف واستخدام النموذج لا ظروف اللحظة كمرجعية لقياس درجة التسامي عند الإنسان. وهكذا يأتي التناص "ولا لروع قال: حال الجريض" ليؤكد عدم قدرة المنذر على العطاء. وإذا كان المنذر هو النموذج الذي كرسه النص للعطاء، فقد كسر أهل العجوز هذا النموذج، نموذج السيادة والقدرة على العطاء الذي يمثله المنذر. فالمنذر لم يستطع تجاوز محنته الذاتية وحالته المرضية. فطوَّع قوته لنزواته وتشاؤمه، فسقط بذلك النموذج وظهر الإنسان في داخله، وأصبح أهلها هم النموذج الذي على الشعراء الاقتراب منه بالعطاء.
4/4 تمثل هذه اللعبة السردية مدخلاً مهماً للحديث عن جماعة الساردين والمسرود لهم في النص. هناك ساردان في المقامة، هما: الراوي الغائب المتمثل في الكاتب، والراوي الحاضر المعلن عنه في النص صراحة وهو الحارث بن همام، غير أن هناك راوياً آخر تتم به الحكاية وهي هنا العجوز أو أبو زيد السروجي. لكل واحد من هؤلاء الساردين الثلاثة غاية يريد أن يحققها، لكن عبر الآخر. فالحريري يستعرض مهارته في صياغة خطاب جمالي عبر الراوي والبطل، كما أن الراوي الحارث بن همام هو المدخل النصي لأي مقامة تروى، فهو الذي تبدأ به المقامات عموماً عبر صيغ شتى (روى، حدَّث، حكى، أخبر ...). وعندما يبدأ الحارث بن همام برواية المقامة يتحد مع الراوي الضمني خارج النص ليصبح متلقياً بدوره لحكاية المرأة العجوز التي تضطلع هي بالرواية. وكونها راوية فلا بد للراوية من مسرود لهم وهم ينقسمون إلى مسرود لهم خارج النص وهم الذين يقصدهم الراوي الضمني بالخطاب السردي في المقامة، ومسرود لهم داخل النص وهم مشيخة الشعراء مع الراوي الحارث بن همام. غير أن إمكانية ظهور رواة آخرين في النص ظلت احتمالية مفتوحة. فالمسرود لهم داخل النص رغبوا في الانتقال من فعل الإنصات إلى فعل الرواية بعدما بهرهم خطاب المرأة. لقد طلبوا أن يكونوا رواة لها إن هي أرادت عطاياهم. وتوضح الجمل الحوارية بين العجوز وبين مستمعيها الدهشة والرغبة في الانتقال من التلقي إلى السرد ولو عن طريق إعادة إنتاجه بالرواية. فبعد أن حلت بهم فتنة السرد شعروا برغبتهم في تغيير موقعهم:
قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها، ومُلح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك، فقالت أفجر الصخر ولا فخر؛ فقلنا إن جعلتنا من رواتك، لم نبخل بمواساتك .
4/5 غواية السرد أو فتنته ظهرت جلية في سياق المقامة. فبالسرد وحده نالت المرأة ما شاءت من العطايا. وكما أسلفنا وقفت المرأة تروي حكايتها في البدء نثراً حتى إذا تمت، أقر الراوي بالوقوع في فتنة السرد: " قال الحارث بن همام: فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعاراتها، وقلنا قد فتن كلامك فكيف إلحامك ، فقالت: أفجر الصخر ولا فخر؛ فقلنا: إن جعلتنا من رواتك لم نبخل بمواساتك" . لقد هام جماعة المتلقين بسبب بلاغة العبارة وملح الاستعارة. وهذا هو ظاهر النص، غير أن العبارة تنطوي على حكاية ذات دلالة، ظاهرها لغة مزخرفة، وباطنها فضح وكشف لزيف الواقع. فمهما يكن فإن النص لغة، واللغة مضمون، والمضمون هنا حكاية. فلا يجب أن ننفي سحر اللغة، بل يجب أن ننظر إليها في سياقها، والسياق هنا سرد. ولكي تبلغ الفتنة ذروتها فقد طلب جماعة المتلقين مجتمعين " قُلنا لها: قد فتن كلامك فكيف إلحامك". وهذا يؤكد وقوع جماعة المتلقين في دائرة الغواية دون استثناء، بل إنهم جميعاً يريدون سماع الحكاية مرة أخرى، لكن شعراً هذه المرة. وهنا تتجلى سلطة الحكاية مرتين، مرة نثراً ومرة شعراً. لقد وضح تورط المتلقي وهو تورط فرضته اللغة باعتبار وظيفتها السردية أولاً، ثم باعتبار وظيفتها الجمالية ثانياً. فالفتنة قد تحققت بالنثر، وما تكرار الحكاية بالشعر إلا تماهياً مع اللغة في تجلٍ آخر من تجلياتها الجمالية.
5. تمثل لحظة الكشف في المقامة غزارة دلالية تشير إلى التحول من الخاص إلى العام. لقد استخدمت المقامة المسجد كمسرح للكشف عن الاحتيال الذي مارسته العجوز. نقرأ في المقامة: "ثم عاجت بخلو بال إلى مسجد خال. فأماطت الجلباب، ونضت النقاب وأنا ألمحها من خصاص الباب ، وأرقب ما ستبدي من العجاب" . ينطوي النص على مسألتين في غاية الأهمية هما، دلالة المسجد في النص، ثم المراقبة من خلال خصاص الباب.
5/1 بدءاً يمكن أن نتساءل عن دلالة حضور كلمة مسجد، وهل حضورها كان عفوياً أم أنه جاء لدلالة أرادها النص؟ من البديهي أن المسجد يملك حضوراً روحياً أساسياً في المجتمع الذي يتجه إليه النص. فإلى جانب كونه مكان عبادة، فهو أيضاً يرمز للطهر والنقاء الذي يتناقض مع ما تمارسه العجوز / أبو زيد السروجي. فالادعاء بشيء وممارسة شيء آخر هو ما يتناقض مع بنية الشخصية المسلمة المثالية. إن ما يلفت الانتباه هنا هو ورود كلمة المسجد في غير موقع السجع، وإلى مجيئها أيضاً مجردة من التعريف، فهل يقلل ذلك من حضورها الدلالي؟ واضح أن كلمة مسجد قد تخلصت من سلطة السجع باحتلالها موقعاً وسطاً في جملتها. ومن ناحية أخرى، فإن تعريف لفظة مسجد كان سيوجه معناها في النص توجيهاً آخر، ويحيلها إلى دلالة خاصة قد لا تخدم النص إلا في الحدود التي وظفت من أجلها. غير أن ورودها مهملة من التعريف قد شحن الكلمة بدلالات بعيدة الغور ومنح القارئ قدرة فائقة على التأويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن ورود كلمة مسجد في نص المقامة لم يكن عفوياً، فلو كان الأمر كذلك لأمكن أن نستبدل كلمة مسجد بكلمة مكان مطلقة من أي دلالات دينية أو تاريخية أو غيرها. وهكذا يصبح نص الجملة: "ثم عاجت بخلو بال، إلى مكان خال". فها هي الجملة قد استقامت، مستوفية كل شروطها اللغوية. فحلت كلمة مكان في موضع مسجد في سياق الجملة، لكنها لم تمنحنا المعنى الذي منحته كلمة مسجد. فالقضية ليست قضية موضع مادي، بل هي قضية تتمحور في رمز يستدعي سياقاً آخر خارج بنية النص. إن إطلاق كلمة مسجد من قيود التعريف والتخصيص، منحها دلالة محورية لا يمكن أن تمر دون استنطاقها. فنحن هنا أمام المسجد الرمز وليس المسجد الموضع رغم ما قد يشير إليه ظاهر النص. ولذلك، فإن النص ينطوي على ثنائية قوامها الصراع بين عالمين، دينية يمثلها المسجد بكل القيم التي يستدعيها، ودنيوية يمثلها الواقع بكل تناقضاته وبعده عن المثالية الدينية. فالصراع في النص ليس صراع محتال وجماعة لها مصالحها، بل هو صراع قيم وواقع لم يحسمه النص لأنه صراع لا نهائي. فلو انتهى هذا الصراع لم يعد هناك أصلاً حاجة لهذه الثنائية برمتها. فشرط وجود هذه الثنائية هو في صراعها. فبينما تعزز القيم ثقة الإنسان بالانتصار والثقة على قهر الشر، فإن الواقع يستمرئ تجاوزاته وكسر نمط المعيارية المثالية التي يحس الإنسان أمامها بضعفه وعجزه عن تجاوز سلطة الواقع.
5/2 المسألة الثانية تكمن في المراقبة التي كانت المرحلة الحاسمة في تجلي النص عن المفارقة. ففعل المراقبة يستدعي سرية الفعل، كما يستدعي فضح خصوصية الفرد. وتصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما تكون الحادثة بين رجل وامرأة. المراقبة في النص بين الراوي / الرجل وبين العجوز / الأنثى المزعومة. الرجل يقوم بفعل المراقبة والمرأة في شرطها النصي خاضعة لهذه الإرادة الذكورية. إذن نحن أمام رجل ينظر وامرأة تشكل المنظور إليها أو الصورة . إن هذه العلاقة بين الطرفين هي علاقة موروث ثقافي يجعل المرأة موضع نظرة الرجل، لكنها النظرة التي تتلون وفقاً للحظتها. فهي قد تكون نظرة إثارة حسية، أو نظرة انطباعية معنوية في غالبها سلبية. إن هذا الحضور الخاص للمرأة في المقامة ليس إلا بعضاً من حضورها السابق واللاحق في الآداب والفنون الإنسانية التي تكرس هذه النزعة الثقافية كأحد المسلمات والمفهومات العامة. وإذا كانت الفنون بمعناها العام قد تباينت في عرض صورة المرأة، فإن السينما على نحو خاص قد أسهمت في تكريس واضح لمفهوم اللعبة الدرامية القائمة على نوع من الإثارة النفسية والحسية لدى المشاهد. ومن هنا فقد نُظر للسينما على أنها مثل ثقب باب ينظر من خلاله الشخص عادة للتلصص واستراق النظر. ففي قاعة السينما يقبع المشاهد في الظلام متوحداً مع ذاته ينظر بنهم إلى صورة المرأة التي هي دائماً محل المنظور إليه . ورغم أن المشاهَـدة السينمائية طقس مشروع، فإن كون المرأة هي عنصر استقطاب ومجال نظر فيها يحيل إلى أن السينما نجحت بقدرة فائقة في استثمار تجارب الفنون السابقة في إبراز جسد المرأة دون كيانها الإنساني. فالعودة إلى تاريخ منجزات النحت العالمي أو الفن التشكيلي في عصر النهضة وما تلاه أو للتصوير الفوتوغرافي، أو النظر حتى للأعمال السردية العالمية والعربية كلها تؤكد تاريخية الانتهاك وسلطة الرجل الثقافية. وبالتأكيد فإن الأمر يتحول من مجرد تسلية وإثارة إلى تأكيد سلطة مشفوعة بحق انتهاك خصوصية المرأة. وفي مقال شهير للورا مولفي بعنوان "المتعة البصرية والسينما الروائية" قدمت الكاتبة دراسة عميقة لموقع المشاهد الرجل حيث تهتم السينما بتغذية وإشباع نهمه في النظر للمرأة على نحو مغر . ورغم التمايز بين المُشاهد في السينما وبين الراوي في هذه المقامة، فإن مولفي تنظر للمشاهد في دراستها القائمة على منهج التحليل النفسي على أنه حالة نفسية يمارس طقسه بتفرد مطلق فهو بعيد عن الفعل الاجتماعي، محاط بمتعته وشبقه، بينما الراوي هنا نجده في موقع الفاعل الاجتماعي الذي ينظر للمرأة ضمن حالة ارتياب موروثة عامة. وعلى الرغم أيضاً من التباين الصارخ بين تهميش المرأة في السينما وبين استخدامها في هذه المقامة، فإن السياق العام يؤكد نوعاً من التهميش وانتهاك الخصوصية. ففي هذه المقامة يؤدي الراوي دور المشاهد السينمائي، فهو يراقب المرأة عبر خصاصة الباب بتلذذ ناتج عن كشف السر الذي سيدين الممارسة. فهو يمارس سلطته بوصفه رجلاً قادرا على فضح غواية المرأة وحيلتها. فعدم الثقة في المرأة وثم في فعلها ربما يكون الدافع الخفي وراء هذا الموقف غير الأخلاقي من قبل الراوي. وربما يفسر هذا استمرار نقمة الراوي وجماعة الشعراء في ردة فعلهم نحو العجائز دون أن يلقى أبو زيد السروجي أي توبيخ رغم انكشاف خدعته.
6. قيل من قديم إن أعذب الشعر أكذبه. ويمكن أن يقال إن أعذب السرد ما وافق الهوى. السرد مبالغة، والمبالغة كذب، والكذب حجب للحقيقة. وفي أساس البلاغة "رَوَى عليه الكذب: أي كذب عليه، وفلان لا يُروى عليه كذب" . وكلما بالغ السارد في سرده استزاد المسرود له من المبالغة تحت تأثير الرغبة في التفاعل مع السرد. ففي المقامات يحتال المكدي بالسرد ليغري ويغوي الناس بالعطاء. ومن المؤكد أن قص المرأة في المقامة البغدادية قد وافق هوى في نفوس مشيخة الشعراء أقله إعجابهم بسبك الحكاية تارة نثراً وتارة أخرى شعراً. فعبر سلسلة من الكنايات خلقت العجوز صورة تضج بالمبالغة. لقد كان قصها ارتداداً لواقع مزيف لا تملك منه شيئاً إلا أن تسرده. والكنايات عموماً تحتل مساحة واسعة من المقامة. فهل من دلالة يمكن التقاطها غير وظيفتها البلاغية؟ يُعرِّف أهل البلاغة الكناية بأنها "كلام مجازي، أريد به معنى مجازياً أشد بلاغة، مع جواز إرادة معناه الأصلي القريب الظاهر، إذ لا قرينة تمنع من ذلك" . ويمكن أن نقرأ الكناية في هذه المقامة على أنها تعبير مجازي لتضخيم الصورة والمراوحة بين واقعين، واقع يملك فيسود وواقع يحتاج فيسأل. لقد كانت الكنايات في هذا السياق السردي هي مفتاح العالم الذي تبحث عنه المرأة وهي تقص واقعة التحول من السيادة إلى السؤال. ونتيجة لذلك، تستطيع المرأة أن تبهر، وتصدم، وتغوي، وتغري بالعطاء. إن أهمية كنايات النص تكمن في أنها ليست مبتورة السياق، بل إنها جزء من سياق سردي يكشف ويضخم جور الواقع. فتتحول وظيفة الكناية من البلاغي المبهر إلى الدلالي المؤثر. تقول العجوز:
"إني من سروات القبائل، وسريات العقائل، لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب، ويمطون الظهر، ويولون اليد: فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن، نبا الناظر؛ وجفا الحاجب، وذهبت العين، وفُقدت الراحة، وصلد الزند ووهنت اليمين وضاع اليسار، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب ..." .
من خلال هذا المقتبس تفتتح المرأة حكايتها بالحديث عن نقيضين؛ هما واقع له السيادة وما يتبعها من كرم ومروءة وشرف، وواقع مسحوق وفقر مدقع وما يتبعه من تبعات السؤال ومذلته. والانتقال من المجد إلى الذل نص مسكوت عنه لعدم أهميته في خطابها السردي. وهي تلجأ لذلك لأنها تتحدث عن واقع مختلق لا تملك له أي تفاصيل فضلاً عن البوح بها. ولأن العجوز تروي لتغري، ثم تبالغ لتغوي، فإنها تسعى إلى ردم فجوة التفاصيل بالتعبير عنها بسلطة الزمن التي تحيل البحث عن التفاصيل إلى أمر غير مهم أمام ما أحدثه الزمن من جرح غائر في جسد حكايتها. لقد عبرت عن غياب التفاصيل بقسوة الزمن "فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهراً لبطن، نبا الناظر ..." . فالتعبير بالزمن هنا هو زحزحة المسؤولية من الفعل البشري إلى الفعل الميتافيزيقي. ولذلك، فإن التعبير بالكناية عن تحول الأمر اقتضى ثلاث جُمل كانت كافية لهز ثقة متلقي الحكاية في الواقع الذي تفاعل معه باعتباره الحلم الذي يتوق إليه. أما الواقع الآخر فهو العالم الذي بسطت المرأة فيه القول بالكناية تارة وبغيرها تارة أخرى. والدلالة لا تحتاج إلى تفسير إلا بالقدر الذي نتذكر أنها في موقف السؤال، والسؤال يقتضي الإسهاب فيما آلت إليه حالتها.
6/1 لقد بُنيت المقامة على لحظة توتر حاد، وهي لحظة النهاية التي سعى النص إلى الوصول إليها. وإذا كان هناك من نواة للنص فهي في الخروج من غواية السرد إلى حقيقة الواقع. فبعد سماع حكاية العجوز يكاد النص يلفظ أنفاسه. ها هي العجوز الآن تتأهب للذهاب بعد أن انقضت حاجتها. يقول الحارث بن همام:
فلما افعوعم جيبها تبرا، أولاها كل منا برا، تولت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشكر فاغر، فاشرأبت الجماعة بعد مَمَرَّها، إلى سبرها لتبلو مواقع برِّها، فكفلتُ لهم باستنباط السر المرموز .
يستعيد النص بهذه الحركة وهجه بعد أن خفت أو كاد. فالمسرود لهم أخذوا يخرجون من تأثير الغواية السردية إلى واقع الحدس بخطر ما. فهناك عقدة تتمثل في سر خفي يسعى النص إلى كشفه. والسر هو المفارقة التي ينتهي بها النص. ففي النهاية يخرج أبو زيد السروجي من التنكر إلى الحقيقة، ومن السرد إلى الواقع. فلم يكن هدف النص هو سرد حكاية فقط، بل كان الهدف هو إحداث المفارقة وفضح زيف الواقع. فالتنكر الذي مارسه أبو زيد السروجي يحيل إلى شئ واحد هو أن الواقع يخفي حقيقته. فما الصورة التي نراها إلا حالة نجح السرد في فضحها. فالمتقابلان في النص هما (أبو زيد السروجي والعجوز) أو الواقع والمتخيل، الأول يمثل الواقع بكل رداءاته، والثاني، يمثل صورة السرد التي تفضح وتُغري أيضاً بالنقاء والتسامي. فالبذل سمة وفضيلة لم يألفها واقع أبي زيد السروجي، فكان السرد محرضاً على تعاطيه. فإذا كان مشيخة الشعراء قد تحفظوا عند سماع السرد الأول، فقد أقبلوا بيقين مطلق إلى التسليم بسحر السرد وغوايته في المرة الثانية. لكن المواجهة بين جماعة الشعراء وحقيقة الواقع كانت مخيبة للآمال. لقد أحسوا بالخديعة لأن حيلة السرد قد انطلت عليهم.
6/2 إذا كانت الغواية في نص المقامة قد قامت على خدعة مارسها أبو زيد السروجي، فإن هناك أبعاداً أخرى للغواية نلحظها في ألف ليلة وليلة. فالغواية في حيزها السردي في نص الليالي قد أحدثت متعة ما صرفت رغبة شهريار التدميرية إلى تعايش أكثر منطقية مع من حوله. كما أن الغواية بالمفهوم السردي يمكن أن تنهض على قوة الحجة وبراعة الاستدلال التي تُفحم وتُـقنع مغيِّـرة مجرى الحكاية. وهذا ما نجده في نص المرأة الخارجية أو في بعض نصوص بلاغات النساء، أو في نصوص أخرى كثيرة منتشرة في كتب الأدب. فهذه النصوص تمنحنا القدرة على اختراق المفهوم المعجمي للغواية وتلمس دلالات أخرى ضمن سياقات سردية عديدة.
6/3 يمكننا بعد ما تقدم أن نستنتج أن السرد في عالم المقامات فضح لطبقية الواقع. ورغم أن نصوص المقامات لا تفصح عن هاجسها، فإن تأويلها بصراع بين واقعين يصبح مقبولاً. فصيغة المقامات المتكررة تؤكد أن هناك جدلاً بين واقعين، واقع متعال يقابله آخر مهمش يفرز فئة المكدين والمشتغلين بالسؤال. إن الاحتيال بالسرد ظاهرة متكررة في المقامات، كما أن الوقوع في غوايته سمة متكررة. السرد، إذن، عالم من المبالغات العذبة التي تغري بالنزوح من الواقع إلى المتخيل. فليس السرد في النهاية إلا ما نحلم به ولا نكف أنفسنا عن الوقوع في غوايته.
7. لقد كشفت هذه المقامة حاجتنا إلى قراءة تراثنا السردي قراءة جادة تضع في الاعتبار السياقات التاريخية والاجتماعية التي تشكل المفتاح الحقيقي والمرجعية المنطقية لفهم أبنيته ومنطلقاته. إن هذه المقامة جزء من تراث سردي نشأ تحت وطأة ظروف اجتماعية وسياسية خاصة شكلت وجدانه وجسدت رؤيته. فهو سرد ناتج عن عصره، يحمل هوية ثقافية واجتماعية، بدءاً من اللغة التي تطبع عالمه وانتهاءً بالثيمات التي تحدد اهتماماته. إن سرد المقامات يتميز عن غيره من السرود القديمة بلعبة الموتيف التي تتكرر على نحو دقيق في كل نصوص المقامات. فالبطل نموذج للمحتال، والكنايات لغة واصفة للمتخيل، والحدث يتطور دائماً نحو الكشف عن خدعة، وهي كلها سمات موضوعية وفنية تتكرر في سرد المقامات. وهذه المقامة تنسجم مع سرد المقامات عموماً في شكلها ومضمونها، محتفظة بخصوصية تتمثل في توظيف المرأة من خلال تنكر البطل السروجي في هيئة عجوز دردبيس على حد تعبير المقامة البغدادية.
7/1 ركز هذا البحث في معالجته لهذه المقامة على مفهوم الغواية السردية عبر قراءة البنية السردية والبعد الموضوعي الذي يشكل خلفية مهمة للمقامة. فقد تجلت الغواية في الوله الذي حل بالمسرود لهم داخل نص المقامة، بدءاً من تعلقهم بمظهر اللغة، وانتهاءً بإحكام النص لغوايته من خلال رسم خطوط واضحة المعالم للبعدين الاجتماعي والتاريخي في جسد المقامة. فكشفت المقامة بذلك عن العديد من التفاصيل التي بلورت عمقاً يتجاوز مجرد المتعة السطحية التي دائماً ما يُنظر للمقامة من خلالها. وهكذا فإن المقامة تتحول من خطاب متعة بلاغية إلى خطاب إدانة سردية. هذا الخطاب يتجسد من خلال مفهوم الغواية الذي ينطوي على صراع بين طرفين أحدهما يروي والآخر يتلقى. غير أن هذين الطرفين يعيشان في حالة متوترة تعكس عمق الصراع الذي نتبينه بصفاء تام من خلال خطاب السرد الذي يفضح وينزع أقنعة الواقع الواحد تلو الآخر.
---------------------------------
الهوامش والمراجع
الحريري، مقدمة مقامات الحريري، (ص 7).
ابن قتيبة، عيون الأخبار. بيروت: دار الكتب العلمية، 1986م، ج1، (ص 43).
الفيروزآبادي، مجد الدين. القاموس المحيط. بيروت: دار الفكر، 1995م، (ص 1187).
يشترك في هذا العديد من المعاجم. انظر تاج العروس، القاموس المحيط، معجم لين، وغيرها.
الفيروزآبادي، (ص 1161).
رضا، محمد. معجم متن اللغة. ج2. بيروت: مكتبة الحياة، 1958م، (ص 688).
انظر A Compendious Syriac Dictionary. Ed, J Payne Smith. London, Oxford University Press, 1988, p. 532.
Koehler, Ludwig. Lexicon in Veteris Testamenti: Libros. Leiden, Brill, 1985, p. 876.
رضا، محمد. (ص687). انظر أيضاً القاموس المحيط، مادة (روي) وغيره من المعاجم.
الجوهري، إسماعيل بن حماد. الصحاح. ت: أحمد عبد الغفور عطار، 1956م، (2364-2365).
المعجم الوسيط، مجلد الثاني، (ص 667). (يقال: روى عليه الكذب: كذب عليه، والراوي: راوي الحديث أو
الشعر حامله وناقله (والراوية): مؤنث الراوي.
إيماناً من الباحث أنه يمكن تطوير اللغة وتطويعها، فإنه يرى إمكانية استخدام الغاوية بمعنى راوية الحديث دلالة
على قرب المعنى الأصلي بين نقل الماء ونقل الحديث وروايته.
هوليبيك، ماري لاهي. أنوثة شهرزاد: رؤيا ألف ليلة وليلة. ت: عابد خزندار. القاهرة: المكتب المصري
الحديث للطباعة والنشر، 1996م، (ص 31).
المصدر السابق، (ص 30).
13 البمبي، علي عبد الرءوف علي. المقامات وباكورة قصص الشطار الأسبانية. كتاب الرياض، العدد 48،
ديسمبر 1997م، (ص 15 - 16).
السعافين، إبراهيم. أصول المقامات. بيروت: دار المناهل، 1987م، (ص 38)
انظر كتاب إبراهيم السعافين. أصول المقامات. وخاصة الفصل الأول، (ص 25 - 111).
كيليطو، عبد الفتاح، الغائب: دراسة في مقامة للحريري. الدار البيضاء: دار توبقال، 1987م، (ص 75).
القالي، أبو علي. ذيل الأمالي والنوادر. بيروت: دار الأفاق الجديدة، (ص 174). انظر أيضاً حكاية آمنة بنت
الشريد مع معاوية، بلاغات النساء، طيفور الخرساني، ت: د. عبد الحميد هنداوي (ص 133- 136).
علي، عواد. غواية المتخيل المسرحي: مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد. بيروت: المركز الثقافي
العربي، 1997م.
المصدر السابق، (ص 46).
سليمان، نبيل. فتنة السرد والنقد. سورية: دار الحوار، 1994م.
شياع، كامل. "غوايات الدلالة: علي عسّاف ولغة ما بعد اللوحة". أبواب. العدد 18، (خريف 1998)،
(ص 192).
على عكس ما تصوره بعض النقاد من سلبية الراوي في المقامات، فإن الراوي يشارك في بناء الحدث. فهو
ليس مجرد راوٍ عن بعد، بل هو راو يؤدي وظيفته النصية بدقة، بل إنه غالباً ما يتواطأ مع البطل كما هو
الحال في هذه المقامة. انظر، البمبي، علي عبد الرءوف، المقامات وباكورة قصص الشطار الأسبانية، كتاب
الرياض، العدد 48، ديسمبر 1997م، (ص 25).
انظر عبد الفتاح كيليطو. الغائب. يقول كيليطو في معرض حديثه عن المقامة الكوفية: "هناك قاعدة شبه عامة
وهي أن السرد يكون جواباً عن سؤال أي تلبية لرغبة أو طلب قد يكتسي صيغة الأمر" (ص 49). وهذا
المعيار ينسحب على الجزء الثاني من المقامة البغدادية حيث يطلب الراوي ومعه مشيخة الشعراء أن تروي لهم
العجوز الحكاية شعراً. لكن الطريف أن العجوز تبدأ حكايتها في مقدمة المقامة البغدادية دون أن يُطلب منها
ذلك. راجع نص المقامة.
أي تعدو عدو الجرد وهي الخيل القصار الشعور.
أي استتبعت.
جمع مغزل.
جمع جوزل وهو فرخ الحمامة.
الحريري، أبو محمد القاسم بن على. شرح مقامات الحريري. بيروت: دار الفكر، 1992، (ص 131).
المصدر السابق، (ص 139).
رغم أن الشعر يحضر لا كشاهد، بل كجزء أو مرادف للحكاية المنثورة كما هو الحال في المقامة التي نحن
بصدد الحديث عنها.
الحريري، (ص 10).
انظر الأبيات التي يبرر فيها أبو زيد السروجي فعله بعد أن انكشف أمره (المقامة البغدادية ص 138 من شرح مقامات الحريري. يقول السروجي: وتارة أنا صخر وتارة أخت صخر.
أي نظم الشعر، يقال ألحم الشعر أي نظمه.
امتلأ جيبها جداً.
التبر، الذهب.
أي يتبعها الأولاد.
أي انكشفت.
أي هيئة الحياء والمراد بها النقاب.
أي ظهر وانكشف.
أي نام على ظهره منبسطاً.
العقيرة هي الصوت.
المصدر السابق، (ص 131 - 138).
قاسم، سيزا. بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ. القاهرة: دار التنوير للطباعة والنشر،
1985، (ص 113).
المصدر السابق، (ص 110).
المصدر السابق، (ص 110).
جمع سراة وسرى وهو السخي ذو المروءة.
جمع سرية وهي الرفيعة القدر.
جمع عقيلة وهي الكريمة.
أي تجافى وتباعد، والناظر المراد به من كان ينظر إليهم نظر إجلال وإعظام.
أي الخادم.
في هذا السياق تعني المال أو الذهب.
كناية عن الخيبة.
أي ضعفت القوة.
فارقت.
ما يرتفق به.
الثنية هي الفتية من النوق والناب المسنة.
الحريري، (ص 132).
نسبة إلى النقد الحواري الذي قال به الناقد السوفيتي مخائيل باختين (1895-1975). ويقوم هذا النقد على نظرية ترى (أن العمل الأدبي، والروائي بوجه خاص، إطار تتفاعل فيه مجموعة من الأصوات أو الخطابات المتعددة إذ تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح فئوية وغيرها". انظر ذلك في كتاب ليل الناقد الأدبي. د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 2، 2000م، (ص 211).
علي، عواد، (ص 15).
قاسم، سيزا، (ص 111).
انظر الفصل الثالث "الجسد بوصفه قيمة ثقافية" من كتاب د. عبد الله الغذامي. المرأة واللغة. بيروت: المركز
الثقافي العربي، 1996م. في هذا الفصل يقدم د. الغذامي من خلال حكاية الجارية تودد في ألف ليلة وليلة (من
الليلة 370 إلى الليلة 453) صورة لانتصار المرأة عبر السرد، مستخدمة الحركة المسرحية من "الإطراق
والصمت و التظاهر بالعجز والوهن" (ص 90) إلى جانب سلطة اللغة ذات السياق السردي القائم على المحاورة
بين الجارية وصفوة علماء عصر هارون الرشيد.
انظر العقد الفريد، والأغاني، ونهاية الأرب، وبلوغ الأرب، وعيون الأخبار، وأمالي القالي، وغيرها من مراجع
الأدب. ففيها مادة وفيرة تجسد غزارة تراث العرب القصصي. ففي هذه القصص ما هو مختلق متخيل، وفيها ما
يختلط الواقع بالخيال، وفيها ما يظهر فيه التاريخ من خلال حضور شخصيات بعينها كالخلفاء والولاة والقادة.
طيفور الخرساني، أحمد بن أبي طاهر. بلاغات النساء. القاهرة: دار الفضيلة، 1998م.
انظر بلاغات النساء (ص 32، 37، 41، 67، 124 ...).
القاضي، محمد. "جمالية النص السردي في رسالة الغفران للمعري". علامات في النقد. مجلد 8، جزء 31،
(ص 99).
الحريري، (ص 139).
الأمر بالكسر الشيء العجيب.
الحريري، (ص 139).
معارض.
قاسم، سيزا، (ص 131).
المصدر السابق، (ص 133- 134).
الأصفهاني، أبو الفرج. الأغاني. ت: علي السباعي وآخرون. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ج 22،
ص87-91).
روي بأكثر من صفة، انظر مثلاً الأغاني. الجزء 22، (ص87-91)، وانظر أيضاً كتاب الأمثال، لأبي عبيد
القاسم بن سلام، (ص319)، و(ص341).
سويدان، سامي. في دلالية القصص وشعرية السرد. بيروت: دار الآداب، 1991م، (ص 192- 194). انظر
خاصة حديثه عن تعدد رواة النص السردي.
الحريري، (ص 133 - 134).
أي نظمك للشعر، يقال ألحم الشعر أي نظمه.
المصدر السابق، (ص 133- 134).
مالت ورجعت.
أي بقلب خال.
شقوقه.
المصدر السابق، (ص 137).
Mulvey, Laura. Visual and Other Pleasures. Bloomington, Indiana University Press, 1989, (p. 19).
لقد عقبت لورا مولفي على هذه الدراسة بدراسة أخرى تعالج فيها موقع المشاهدة الأنثى في السينما بعد أن
ثارت العديد من التساؤلات حول غيابها عن طقس المشاهدة. ما الذي يحدث عندما تنظر المرأة للرجل، كان هذا
هو السؤال الذي أجابت عليه هذه الدراسة بتوسع. انظر المصدر السابق.
انظر هذه الدراسة منشورة في الكتاب المشار إليه آنفاً. عنوان الدراسة الأصلي هو
Narrative Cinema. Visual Pleasures and
الزمخشري، أساس البلاغة. (ص260).
دعكور، نديم حسين. اللغة العربية: قواعد، بلاغة، عروض. بيروت: 1991م، (ص 154).
الحريري، (ص 132).
المصدر السابق، (ص 132).
المصدر السابق، (ص 137).