نقوس المهدي
كاتب
نحاول هنا إبراز مظاهر النصية في مقامات الحريري، من خلال الكشف في نصها عن بعدي الكتابية والتماسك الدلالي، اللذين يكاد يجمع عليهما المشتغلون بالدراسات النصية من علماء لغة النص، والسيميائيين وغيرهم، كخصيصيتين جوهريتين من خصائص النص. وإن يكن التماسك الدلالي يعبر عن طبيعة النصّ، فإن الكتابة تشير إلى نشأته، وتعدّ مسؤولة – إلى حد كبير – عن تحقيق وحدة النص، وتماسكه، ووضوح بنيته، فضلاً على تثبيته، وتسوير حدود بدايته وحدود انتهائه، وبالتالي الاحتفاظ به كاملاً ومتميزاً.
وعلى الرغم من اعتقادنا فرادة النص الأدبي، وتميزه عن غيره من الممارسات اللغوية، إذ هو (رسالة ناجمة عن نظام محدد من المفاهيم والشِّفرات)(1)، أو بعبارة ثانية (وحدة معقدة من الخطاب.. عمل تركيبي.. وحدة شاملة.. تخضع لعملية تشفير خاصة، تؤدي إلى وجود ما نطلق عليه قصيدة أو قصة أو غيرها)(2). فإننا سنعول ابتداءً على آراء اللسانيين – مع الاستعانة بعد ذلك بآراء السيميائيين – من أجل الكشف عن أهمية التماسك الدلالي لتحقيق النصية. وقد اخترنا أن نبدأ به، لدوره في الكشف عن طبيعة النص، وتوضيح حقيقته أيضاً.
أولاً : التماسك الدلالي:
يقرر هاليدي، ورقية حسن أنه: (إذا كانت الجملة وحدة نحوية، فإن النص ليس وحدة نحوية أوسع، أو مجرد مجموع جمل أو جملة كبرى، وإنما هو وحدة من نوع مختلف، وحدة دلالية Semantic Unit الوحدة التي لها معنىMeaning في سياق context)(3).
ويعرفان النص في موضع آخر من الكتاب نفسه بقولهما : إنه "أي مقطع passage منطوق أو مكتوب يشكل كلاً متحداً united whole)(4).ويقول عنه بعض اللغويين الإسبان: Lozono – Grisixa: (النص هو القول اللغوي، المكتفي بذاته، والمكتمل في دلالته)(5).
ويقول هارتمان P. Hartmann في تعريف النص هو : (قطعة ما ذات دلالة وذات وظيفة، وبالتالي هي قطعة مثمرة من الكلام)(6). ويعرفه H. Brinker بقوله : هو (تتابع متماسك من علامات لغوية لا تدخل (لا تحتضنها) تحت آية وحدة لغوية أخرى أشمل)(7).
وحده فاينريش H. Weinrich بأنه (تكوين حتمي يحدد بعضه بعضاً، إذ تستلزم عناصره بعضها بعضا لفهم الكل)(8).
وأوضح فان ديك أن النص متتالية من الأقوال – مكتوبة أو ملفوظة – تساهم في نوع من الاستمرارية الزمنية، وتمتلك نوعاً من الوحدة، وتؤدي وظيفة محددة باعتبارها نتاج متكلم أو كاتب أو نتاج عدة من المتكلمين(9).
ويقول السيميائي الروسي لوتمان L. Lotman في إطار حديثه عن خاصية التميز أو التحدد demarcation التي تعد في رأيه إحدى ثلاث خصائص رئيسة للنصية : (إن النص ينطوي على معنى نصي لا يقبل التجزئة، ومن هذه الناحية يمكن اعتباره وحدة إشارية متكاملة. فكون النص قصة أو رواية أو وثيقة أو صلاة يعني أنه يضطلع بوظيفة ثقافية ما وأنه يوصّل معنى متكاملاً)(10).
ويلاحظ أن تعريفات الباحثين السابقين وأقوالهم على اختلاف انتماءاتهم العلمية تكاد تجتمع حول أهمية مفهوم التماسك بجوانبه المتعددة النحوية والدلالية، والتداولية في تحقيق النصية، حيث يحقق إطراد النص واستمراره وتشابك مكوناته وعناصره على نحو يشكل وحدة كلية. ولقد أولى بوجراند / دريسلر مفهوم التماسك أهمية كبيرة، فعندما حددا سبعة معايير للنصية – أي ما يصير به الملفوظ نصاً – جاء في مقدمتها التماسك بنوعيه النحوي والدلالي (لما لهما من صلة وثيقة بالنص)(11). إذ احتل الربط النحوي Cohesion أو السبك المعيار الأول، ومثل التماسك الدلالي Coherence أو التلاحم المعيار الثاني(12).
ويشير المعيار الأول إلى الربط الذي يتم على المستوى السطحي للنص، بواسطة أدوات الربط (الروابط) النحوية، كحروف العطف، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، والتعريف، وطرق الوصل والفصل، والأبنية الدالة على الزمان والمكان وغيرها. يقول دو بوجراند (وسائل التضام تشتمل على هيئة نحوية كالمركبات والتراكيب والجمل، وعلى أمور مثل التكرار والألفاظ الكنائية والأدوات والإحالة المشتركة والحذف والروابط)(13).
ويلاحظ أن هذا الربط النحوي ذو جوهر دلالي أيضاً، فهو (خاصية دلالية للخطاب، تعتمد على فهم كل جملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجمل الأخرى)(14). أي أن العلاقات التي تقوم بين الجمل والعبارات في أي متتالية نصية ترتكز على أسس دلالية. يقول فان ديك : (إن المقياس الأهم في تحديد وحدة النص يهم مضمونه)(15).
ويشير المعيار الثاني Coherence إلى التماسك أو التلاحم الدلالي، الذي يتم على مستوى البنية العميقة للنص، أي على مستوى التصورات والمفاهيم التي تشكل عالم النص إذ يقول دو بوجراند ودريسلر عن هذا المعيار : (ويختص بالاستمرارية المتحققة في عالم النص textual world ويعني بها الاستمرارية الدلالية التي تتجلى في منظومة المفاهيم Concepts والعلاقات Relations الرابطة بين هذه المفاهيم)(16).
ويرى فان ديك أن التماسك (يتحدد على مستوى الدلالات حين يتعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين التصورات والتطابقات والمقارنات والتشابهات في المجال التصوري، كما يتحدد على مستوى الإحالة أيضاً أي ما تحيل إليه الوحدات المادية في متوالية نصية)(17).
ويحدد دو بوجراند وسائل تحقيق التماسك الدلالي خلال هذا المعيار فيما يأتي:
1 ) العناصر المنطقية كالسببية والعموم والخصوص.
2 ) معلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات والمواقف.
3 ) السعي إلى التماسك فيما يتصل بالتجربة الإنسانية، ويتدعم بتفاعل المعلومات التي يعرضها النص مع المعرفة السابقة بالعالم)(18).
ويتفرع عن التسليم بشرط التماسك الدلالي الذي بدا واضحاً من خلال أقوال اللسانيين والسيميائيين السابقة، الذين عبروا عن النص بأنه وحدة دلالية، أو Ideologeme أي (وحدة ايديولوجية)(19) - على حد قول كريستيفا - المسائل التالية التي تفيد مناقشتها في تحديد طبيعة النص وتوضيح خصائصه:
1 – مسألة طول النص وقصره: فلم يعد مهماً – على ضوء اشتراطهم السابق – طول النص أو قصره، وإنما اكتمال دلالته. يعلن فإن ديك رفضه لفكرة تقييد النص بطول معين قائلاً : (لن نحترم هذا التقييد، فيمكن أن يتركب النص من جملة واحدة، أو حتى من كلمة واحدة، كما في حالة الأمر "تعال" مثلاً.. وليس من العسير أن نلاحظ بشكل عام أن حكاية أو رواية تكون نصاً واحداً)(20).
ويقول هاليدي ورقية حسن:
(يمكن – للنص – أن يكون أي شيء، من مثل واحد حتى مسرحية بأكملها، من نداء استغاثة، حتى مجموع المناقشة الحاصلة طوال يوم في لقاء هيئة)(21).
ويقول بعض اللغويين الأسبان Lozono – Grisixa (إن علينا أن نضحي بفكرة الطول في سبيل الوصول للنص المستدير المكتمل الذي يحقق مقصديه قائله في عملية التواصل اللغوية)(22).
وبناءً على ما سبق، فإن أدنى وحده نصية في اللغة العربية هي الجملة، لأن الوحدة الدلالية التي تقدم معنى مفيداً – أو مكتملاً – صالحاً للتداول في اللغة العربية لا تقل عن الجملة، حتى وإن تبدت على هيئة كلمة، فإن المتلقي يقوم بإكمالها – من عنده – لتصير جملة. وقد يطول النص فيصل إلى كتاب كامل، يحتوي على معنى تام، ويعبر عن مقصدية مؤلفه، وأوضح مثال له الأعمال الأدبية الطويلة كما هي الحال في الرواية والمسرحية.
2 – مسألة انغلاقية النص: ويلاحظ أنه انغلاق شكلي، يقف على سطح النص، ويقصد به تحدده المادي ببداية واضحة ونهاية واضحة أيضاً، يتوزع الفضاء النصي بينهما إلى أجزاء أو وحدات نصية قابلة للتجزئة أيضاً. ابتداءً بالفقرات، وانتهاءً بالجملة ؛ أصغر وحدة نصية في اللغة العربية.
ويوضح بعض اللغويين الأسبانLozono – Grisixa ترتب هذه الفكرة على التماسك الدلالي السابق، وأنها تقع على مستوى سطح النص أو التركيب لا على مستوى دلالته، يقولان :
(وقد تستخدم في هذا المجال فكرة انغلاقه على نفسه كمحور لتحديد هذا الاكتمال، لا بمعنى عدم قبوله للتأويلات المختلفة، وإنما بمعنى اكتفائه بذاته)(23). وذكر بحيري أنه قد (أطلق على النص مصطلح "المنغلق على ذاته" أي المكتفي بذاته)(24). ولكن ذلك يتوجه في رأينا – وفق مبدأ التحدد Demarcation لدى لوتمان- ليعني أن النص هو تلك (الوحدة الكبرى التي ترتسم حدودها عن طريق تعيين الفواصل والقواطع الملموسة لاتصالها)(25). والتي تشتمل أيضاً على معنى تام لا يقبل التجزئة، ويؤدي وظيفة ثقافية ما. أما البنية الدلالية للنص، فيغلب عليها الوصف خاصة لدى السيميائيين مثل بارت وكريستيفا بأنها إنتاجية أي ناتجة عن تفاعل القارئ بوصفه عدّة نصوص مجتمعة مع النص الذي يواجهه، كما توصف بأنها منفتحة على نصوص متعددة سابقة عليها خلال ما يسمى بالتناص أو التفاعل النصي، الذي يراه دو بوجراند (أهم العناصر في نظرية أنواع النصوص، ذلك أن النصوص إنما تكتب بحسب رأيه في إطار خبرة سابقة)(26).
ذلك فضلاً على ما تتيحه كتابة النصوص من فرصة واسعة لانطلاق نشاط القراءة، ودخول القارئ كعنصر فعّال في تحقيق إمكانات النص وتجسيد دلالاته، واستكشاف رموزه وإشاراته.
3 – الخاصية البنيوية للنص : ويرتبط بوجود الحدود الواضحة المسيجة للنص فضلاً على تماسكه الدلالي، بروز بنيته، التي تشير إلى وحدته، وإلى وجود نظام من العلاقات يحكم تتابع عناصره وترابط مكوناته الرئيسة، يقول لوتمان في إطار حديثه عن الخاصية البنيوية للنص، وهي إحدى الخصائص الثلاث الرئيسة للنص المشار إليها آنفاً: (إنَّ النص لا يمثل مجرد متوالية Sequence من مجموعة علامات تقع بين حدين فاصلين. فالتنظيم الداخلي الذي يحيله إلى مستوى متراكب أفقياً في كل بنيوي موحد لازم للنص، فبروز البنية شرط أساسي لتكوين النص)(27).
ولذلك توصف قطعة ما من اللغة بالنصية، عندما تتجلى خلالها بنية كبرى ذات وحدة كلية شاملة. (فإن متتاليات الجمل التي تمتلك أبنية كبرى وحدها التي تسمى من الوجهة النظرية نصوصاً)(28). وكما تطلق تسمية الأبنية الكبرى Macro- Structure على الوحدات البنيوية الشاملة للنص، يقترح د. صلاح فضل إطلاق مصطلح Micro- Structure الأبنية الصغرى على (أبنية المتتاليات والأجزاء للتمييز بينها وبين الأبنية النصية الكبرى)(29).
ثانياً : الكتابة والنصية :
ترتبط النصية بالكتابة – في رأي معظم المشتغلين بدراسة النص – ارتباطاً أساسياً، يقول فان ديك: (إن المقصود بالنص عادةً – في اللغة المتداولة – هو أساساً النصوص المكتوبة أو المطبوعة)(30). ويقول بول ريكور: (لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة. إن هذا التثبيت – حسب هذا التعريف – أمر مؤسس للنص ذاته ومقوّم له)(31). ويذكر جون لاينز أن مصطلح (نص) يشير إلى اللغة المدونة المكتوبة(32).
ويوضح رولان بارت مفهوم النص بقوله : (إنه السطح الظاهري للنتاج الأدبي، نسيج الكلمات المنظومة في التأليف، والمنسقة بحيث تفرض شكلاً ثابتاً ووحيداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً)(33). ثم يعلل ارتباط النص بالكتابة قائلاً (ليس النص في نهاية الأمر إلا جسماً مدركاً بالحاسة البصرية. وهو مرتبط تشكيلاً بالكتابة "النص المكتوب"، ربما لأن مجرد رسم الحروف ولو أنه يبقى تخطيطاً فهو إيحاء بالكلام وبتشابك النسيج، اشتقاقياً "النص" يعني نسيجاً)(34). فالكتابة فضلاً على ما توفره للنص من استقرار وحفظ واكتمال، وما تضفيه عليه من شرعية واحترام، تجعله بمثابة العقد أحياناً، كرواسب أو آثار من قداسة الكتابة في المجتمعات القديمة(35). لا تكتفي فقط بما أشار إليه بارت من الإيحاء بتشابك النسيج اللغوي، وإنما تحققه على نحو فعال، وتظهره متجسداً للعيان. إن الكتابة تحقق أيقونية الخطاب، عندما تحقق اكتماله واستقلاله بذاته، وتحبسه في حيز مرئي يوفر له الثبات المرئي والمادي، ويمثل (النص المكتوب كلمات مؤلف ما في شكل حيز نهائي أو أخير أو مغلق في عالم خاص به، أي أنه أيقونة لغوية، ترى ولا تسمع، ويشكل وحدة بذاته)(36). ولا يتحقق ذلك في الخطاب الشفهي (فالصوت يقاوم عملية اختزاله إلى شيء أو أيقونة، إنه حدث مستمر)(37)، كما أنه لا يمكن الفصل بينه وبين سياقاته خارج النصية.
وعندما تقوم الكتابة – وفق جودي Goody – بنقل (اللغة من المجال السمعي إلى المجال البصري فإنها تسمح بسبر أغوار الكلمات والجمل في سياقاتها الأصلية Original context)(38)، وتتيح فرصة واسعة لدراسة بنية النص والعلاقات بين مكوناته وعناصره، فالكتابة تحقق نصية الخطاب، عندما تستنقذه من الاندياح في محيط غير لغوي من ظروف الزمان والمكان وملابساتهما، وتحول دون افتقاره إلى ذلك السياق المقامي Context of situation، لتجعل له سياقاً نصياً Context أو ما يعبر عنه أحياناً بالسياق الأصلي Original context.
فالخطاب الشفاهي إنما تجري تنميته، ويتم تفسيره من خارجه، حيث تمارس تلك السياقات الخارج النصية هيمنتها وتوجيهها له، ويتوجب من أجل إكماله وتفسيره ربطها به. (واللغة مليئة بما يؤمن الارتباط بين الخطاب وبين ظرفيته الزمانية والمكانية، فأسماء الإشارة وظروف الزمان والمكان والضمائر وأزمنة الأفعال، وعموماً كل الأدلة التعيينية والوصفية والإشارية تعمل على ربط الخطاب وترسيخ علاقته بالواقع الزماني والمكاني الذي يحيط بوجوده كخطاب)(39).
أما النص وقد حققت الكتابة – كما تقدم – نصيته، واكتماله ووحدته، وأبرزت بنيته ونظامه، فإنما يتم التركيز عليه في ذاته، ليتحقق تأويله انطلاقاً من داخله، وعبر قراءته.
وبينما تؤدي وسائل الربط اللغوية دورها في ربط الخطاب بالسياق الخارج النصي، تؤدي دورها في النص - على نحو داخلي – يقوي تماسكه، ويؤكد وحدته.
إن الكتابة قد (أطلق عليها الخطاب المستقل بذاته، في مقابل القول الشفهي الذي لا يستقل بذاته أبداً، بل يكمن دائماً في وجود غير لفظي)(40).
وفي مقابل ما تمارسه الكتابة على النص من انغلاقية على المستوى الشكلي، أي على مستوى سطح النص كما قدمنا، فإنها تحقق انفتاحه على المستوى الدلالي، وتدخل القارئ إلى عالمه على نحو فعال، ليبدأ نشاط خاص بالكتابة فقط هو القراءة والتأويل.
ويناقش بول ريكور – من وجهة نظر تأويلية – علاقة النص بالكتابة، ويرفض أن يقف على السطح من تقدير دورها في تحقيق النصية من خلال ما ذكره الآخرون من أن (المكتوب يحافظ على الخطاب، ويجعل منه سجلاً جاهزاً للذاكرة الفردية والجماعية. وقد أضاف البعض أيضاً بأن تخطيط الرموز يمكن من ترجمة تحليلية ومميزة لكل السمات المتتالية والخفية للغة ويزيد بذلك من فعاليتها)(41). ويقرر ابتداء أن الكتابة ليست مجرد تثبيت للكلام أو تسجيل له، وإنما هي – كما ذكر دريدا أيضاً لكن من منطلق مختلف ولأغراض مغايرة(42) - فعالية نصية موازية لفعالية الكلام، مستقلة ومختلفة عنه تماماً. يقول ريكور: (إن الكتابة هي إنجاز مقارن للكلام ومواز له، أي إنجاز يحل محله بل ويتقاطع معه إن صح التعبير، ولهذا السبب أمكننا القول سابقاً إن ما يتم تثبيته في الكتابة هو الخطاب باعتباره نية تقصد إصدار قول ما، وإن الكتابة هي تسجيل مباشر لهذه النية القصدية، حتى لو ابتدأت الكتابة تاريخياً وسيكولوجياً بتسجيل خطي لرموز الكلام وإشاراته. هذه الاستقلالية المميزة التي تجعلها تأخذ مكان الكلام، هي التي تطابق ولادة النص)(43).
أي أن الكتابة تسجل فقط المعنى القصدي لخطاب لم نقله، واخترنا ابتداء كتابته، ولذلك فهي انجاز مستقل تماماً، يحل محل فعل الكلام. ويرى أن تقدير دور الكتابة يجب أن يذهب أبعد من ذلك، (فإن استقلال النص من الدائرة الشفوية يخلق انقلاباً حقيقياً يمس كلاً من العلاقات التي تربط بين اللغة والعالم، والعلاقة التي تربط اللغة بكل الذوات المعنية بالخطاب، أي ذات المؤلف وذات القارئ)(44). فإن فعل القراءة لا يبدأ إلا مع النص (الكتابي) الذي يختفي منه مؤلفه، أما الخطاب الشفاهي الذي يوجد فيه المؤلف المتكلم فيعتمد استنطاق معانيه على الحوار معه، أي أن القراءة مع النص تحل محل الحوار مع المؤلف في الخطاب الشفاهي.
ثم يوضح ريكور الآلية التي تفتح بها الكتابة النص أمام القراءة بأنه إذا كان الخطاب الشفوي يعتمد على العلاقة الإحالية (المرجعية) للغة على العالم أو الواقع الخارجي، إذ لا يكتسب الخطاب دلالته الكاملة إلا بهذه الظرفية الزمانية والمكانية. مما يلتوي بالمعنى المثالي Ideal للخطاب في اتجاه الإحالة الواقعية، ويصبح للكلام وظيفة (التعيين الوصفي الإشاري) الذي يخدم إبراز ذلك الشيء الذي نتكلم عنه. فإنه عندما يحل النص محل الكلام تتوقف حركة الإحالة في اتجاه الإشارة الوصفية (بفعل تقاطعها مع النص مثلما يتوقف الحوار بفعل اصطدامه بالنص أيضاً.
من هنا بالضبط ستكون مهمة القراءة – باعتبارها تأويلاً – هي إقامة الإحالة وتأسيسها. وعلى أي حال. فإن النص داخل هذا التعليق حيث يتغير اتجاه الإحالة – يبقى معلقاً في الهواء – إذا صحّ القول – أي خارج العالم أو بدون عالم. وبفعل هذا التعطيل الذي يمس علاقة النص بالعالم، يصبح كل نص حراً في إقامة علاقات مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتحل محل الواقع الزماني والمكاني الذي يشير إليه الكلام الفعلي الحيّ)(45).
وثمة ربط أيضاً بين الكتابية والقراءة، يسهم في تعليل الربط السابق بين الكتابة والنصية نجده لدى جادامر، يتضح من مثل قوله التالي: (إن كل مكتوب هو موضوع تأويل بامتياز.. ولا يمكن لأفق معنى الفهم أن يحد لا بما كان يقصده المؤلف، ولا بأفق المرسل إليه الذي كتب النص أساساً من أجله)(46).
وقوله : (إن تفوق الكتابة المنهجي يستند إلى واقع كون المسألة التأويلية تظهر فيها، في أكثر تعابيرها صفاءً، مجردة عن كل عنصر نفساني. الكتابة هي المثالية المجردة للغة.. فبالكتابة تكتسب اللغة ملكة الانفصال عن فعل تشكلها.. وفي التدوين لا يكون معنى ما يقال حاضراً إلا لذاته، منفصلاً تماماً عن العوامل الانفعالية التي للتعبير وللتواصل)(47).
وسنحاول الآن الكشف عن مظاهر النصية في مقامات الحريري، واخترنا البدء بالحديث عن الكتابة بوصفها المسؤولة في رأينا عن التماسك الدلالي ونصية المقامات في مجملها.
أولاً : كتابية المقامات:
يلاحظ ابتداءً أن فكرة الإنتاج الكتابي لمقامات الحريري قد استقرت في أذهان عدد من المؤرخين، وراجت لديهم؛ فيذكر ابن خلكان: (لما عمل الحريري المقامات أنشأها على أربعين مقامة وحملها من البصرة إلى بغداد، وادّعاها، فلم يصدق ذلك جماعة من أدباء بغداد وقالوا : إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه، فادعاها. فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال : أنا رجل منشئ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة بعينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زماناً كثيراً، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك فقام وهو خجلان.. فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن إليه، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة)(48).
وقال ابن خلكان أيضاً : (رأيت في شهور سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات، وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب أيضاً بخطه على ظهرها أنه صنفها للوزير جمال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير المسترشد.. ولا شك أن هذه الرواية أصح لكونها بخط المصنّف)(49). ويهمنا من خلال الاقتباسين السابقين من ترجمة الحريري لابن خلكان، تأكيده على كتابية المقامات، من خلال القصة التي رواها، ومن خلال رؤيته لنسخة كاملة بخط الحريري. وكذلك تأكيده على وصف الحريري بأنه منشئ، يكتب – كما ظهر من الاقتباس الأول- وفق دواعي نفسه، لا إجابة لمتطلبات خارجية، ولذلك لم يصلح للعمل في الديوان.
وذكر ياقوت الحموي نقله عمن سمع من الحريري قوله بأنه ابتدأ عمل مقاماته بالمقامة الحرامية، التي أنشأها محاكاة لحال شحاذ بليغ ومكد فصيح ورد عليهم في البصرة، في مسجد بني حرام. يقول الحريري : (فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكان أول شيء صنعته)(50).
وذكر ياقوت أيضاً أن ابن الجوزي قد أورد هذه الحكاية في تاريخه، (وزاد فيها أن الحريري عرض هذه المقامة الحرامية على أنو شروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها، وأمره أن يضيف إليها ما شاكلها، فأتمها خمسين مقامة)(51).
ويلاحظ أيضاً أن المؤرخين السابقين: ابن خلكان، وياقوت الحموي، قد أشارا خلال بحثهما عمن قدم إليه الحريري كتابه إلى إنتاج الحريري لمقاماته على نحو كتابي، قام به منفرداً، على عادة المؤلفين الكتّاب. كذلك يروي الشريشي عن بعض أشياخه- وكان حافظاً أديباً – تفضيله البديع على الحريري، لأن مقامات الأول ارتجال، ومقامات الأخير كتابة(52).
وقد أفرد الحريري – على عادة المؤلفين الكتّاب – لكتابه مقدمة وخاتمة، تكرر فيها وصفه لعمله في المقامات بأنه إنشاء أي كتابة، في سياقات متعددة، على النحو التالي(53):
- "أشار من إشارته حكم وطاعته غنم إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع" ص12.
- "وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خامدة وروية ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة" ص12.
- "إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات" ص13.
- "ولم أودعه من الأشعار الأجنبية إلا بيتين فذين، أسست عليهما بنية المقامة الحلوانية" ص13.
- "وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة.. " ص14.
- "فأي حرج عليّ من أنشأ ملحاً للتنبيه لا للتمويه" ص 15.
ويقول في الخاتمة : (وهذا آخر المقامات التي أنشأتها بالاغترار) ص566. ونستنتج من تلك السياقات ما يأتي:
1 – إن الحريري قد سلك في إنتاج مقاماته مسلكاً كتابياً، وأنه قد أنتجها دفعة واحدة كتاباً كاملاً. ويؤكد ذلك أيضاً أننا نجده في المقدمة حيث يعلن خطته يشير إلى قارئيه وبضمير الغائب أيضاً، فيقول: (وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه) ص13.
2 – كان الحريري على وعي بتميز جنس المقامة عن غيره، وبأن للمقامة بنية مستقلة.
3 – التوشيح والتزيين مرتبط بكتابة المقامات، والكتابة تعين عليه.
ويشهد متن المقامات احتفاء واضحاً بالكتابة، من أول مظاهره: التفكير الكتابي في الأغراض الأدبية الشفوية، فقد أعاد الحريري إنتاج بعض الأغراض الشفوية على نحو كتابي، فقدّم في المقامة السمرقندية خطبة مهملة بدون نقط جاء فيها: "الحمد لله الممدوح الأسماء، الممدوح الآلاء، الواسع العطاء.. مالك الأمم ومصوّر الرّمم.. ومهلك عاد وإرم. أدرك كلَّ سرّ علمه ووسع كل مصر حلمّه.. ) ص285.
ومثل هذه الخطبة كان يجب أن يتم إرسالها واستقبالها على نحو كتابي، أي عبر ثنائية الكتابة والقراءة. ولكن السروجي خطب بها يوم الجمعة في سمرقند، محققا بذلك العجب الذي يستحق أن يذكر في القصص. قال الحارث بن همام : (فلما رأيت الخطبة نخبة بلا سقط، وعروساً بغير نقط، دعاني الإعجاب بنظمها العجيب إلى استجلاء وجه الخطيب. فأخذت أتوسمه جداً، وأقلب الطرف فيه مجداً إلى أن وضح لي بصدق العلامات، أنه شيخنا صاحب المقامات) ص290. فإصدار هذه الخطبة يحتاج إلى مثل السروجي، واستقبالها على نحو تام صحيح يحتاج إلى مثل الحارث بن همام، ولذلك كانت السبب في تعارفهما والتقائهما في هذه المقامة.
ومارس هذا التفكير الكتابي أيضاً في الخطبة التي ألقاها أيضاً في المقامة الواسطية، فكانت - على حدّ وصف الحارث – خطبة (بديعة النظام، عرية من الإعجام) ص301. يحتاج استقبالها إلى إدراك بصري، وقد لا يتمكن الاستماع من الكشف عن سر الصنعة فيها.
كذلك نجده – خلال المقامة الحلبية – يعمل عقله الكتابي في الشعر – رغم عراقته في الشفاهية التي نشأ عند العرب خلالها – وينتج منه أنماطاً كتابية على النحو التالي :
1 – أنشد أكبر أصيبيته (تلاميذه) أبياتاً عواطل، مفتتحها :
أعدد لحسادك حد السلاح وأورد الآمل ورد السّماح
2 – وأنشد آخر الأبيات العرائس (أي التي كل حروفها منقوطة، فقد شبهها بالعروس). يروي الحارث بن همام : (ثم قال لابنه نويرة : يا قمر الدويرة : اجل الأبيات العرائس، وإن لم يكن نفائس، فبري القلم وقط، ثم احتجر اللوح وخط:
فتنتني فجننتني تجنّي
شغفتني بجفن ظبي غضيض
-------------
بتجن يفتن غبّ تجنيّ
غنج يتقضى تغيض جفني
فلما نظر الشيخ إلى ما حبره، وتصفح ما زبره، قال له : بورك فيك من طلا، كما بورك في لا ولا) ص 497 – 198.
3 – الأبيات الأخياف ( والمراد هنا ذوات الكلمتين إحداهما منقوطة والأخرى بغير نقط ). يروي الحارث بن همام أن السروجي قال لابنه قطرب: (ارقم الأبيات الأخياف، وتجنب الخلاف. فأخذ القلم ورقم :
اسمح فبثُ السماح زين ولا تخب آملا تضيّف..
4 – الأبيات المتآئيم (أي المتماثلة لأن كل لفظين منهما مجنسان تجنيساً خطياً ) ص499 هامش.
يروي الحارث : (ثم نادى يا عشمشم أيا عطر منشم.. اكتب الأبيات المتائيم ولا تكن من المشائيم. فتناول القلم المثقف وكتب ولم يتوقف :
زينت زينب بقدٍّ يقدُّ وتلاه ويلاه نهد يهدُّ..
فطفق الشيخ يتأمل ما سطره،ويقلب فيه نظره. فلما استحسن خطه، واستصح ضبطه قال له : لا شلّ عشرك، ولا خبث نشرك.. ) 499 – 500.
ويندرج في هذا الإطار أن يكتب بالشعر رسائل، منها واحدة إلى الحارث وصحبه في المقامة الدمياطية. ص46. وأخرى إلى الوالي في المقامة الرحبية. ص105. وثالثة في المقامة العمانية إلى المولود. ص416. وهكذا احتوت مقامات الحريري على ممارسة لأجناس أدبية شفاهية من خلال تفكير كتابي. ربما كان والتر أونج يصف أمثالها أو قريباً منها بقوله: (والأشخاص الذين استوعبوا الكتابة لا يكتبون فقط بل يتكلمون بالطريقة الكتابية بمعنى أنهم ينظمون بدرجات متفاوتة، تعبيرهم الشفاهي في أنماط فكرية ولغوية لم تكن لتتأتى لهم لو لم يكونوا ممارسين للكتابة)(54).
كذلك نجده – في متن المقامات – يربط بين القصص والكتابة، مع الإشارة إلى مناقب الكتابة، وشروط القصص الذي يستحق التدوين. يروي الحارث في المقامة الكوفية: (قال أبو زيد السروجي: فهل سمعتم يا أولي الألباب، بأعجب من هذا العجاب؟ فقلنا: لا والذي عنده علم الكتاب. فقال: أثبتوها في عجائب الاتفاق، وخلدوها بطون الأوراق، فما سيّر مثلها في الآفاق، فأحضرنا الدواة وأساودها، ورقشنا الحكاية على ما سردها) ص53. وفي ذلك إعلاء لشأن الكتابة ولدورها في تخليد الآثار، ولشأن هذا القصص أيضاً، فليس كل ما يستمع له يستحق أن يصير مكتوباً، وإنما يكتب فقط العجيب منه. وقال الحارث بن همام في ختام المقامة المعرّية مبئراً لقصتها: (فلم أر أعجب منها في تصاريف الأسفار، ولا قرأت مثلها في تصانيف الأسفار) ص86. فمثل هذا القصص العجيب – في رأيه – لا يدرك إلا بحاسة الإبصار، من خلال القراءة في الأسفار (الكتب القيّمة)، أو بالرؤية خلال الارتحال. وكأن الرحلة أيضاً كتاب مفتوح. وفيه إشارة أيضاً إلى أن أعاجيب السفر والقصص يجب أن تدون في الكتب.
ويروي الحارث عن مقامة السروجي الشيرازية: (ثم فجر من ينابيع الأدب والنكت النخب، ما جلب به بدائع العجب، واستوجب أن يكتب بذوب الذهب) ص374.
ففي سياق القصص لا يستحق أن يكتب سوى العجب. وكتابة القصص بالذهب - تدنيه في المخيلة العربية – من المعلقات، لتصبح المقامات في هذا السياق ديواناً آخر من دواوين العرب.
كذلك تملأ أجواء الكتابة فضاءات مقامات عديدة، فنجد مجالس العلم في المقامة البصرية، حيث يصف مجتمعاً كتابياً في مسجد البصرة : يقول الحارث : (وكان إذ ذاك مأهول المساند، مشفوه الموارد.. يسمع في أرجائه صرير الأقلام) ص549. وكذلك في المقامة الفرضية يدور الحوار التالي بين السروجي والشيخ الحزين (لانقراض العلم ودروسه، وأفول أقماره وشموسه) ص149. الذي يقدمه الحارث تقديماً غير مباشر، بواسطة التلخيص : (فأبرز رقعة من كمه، وأقسم بأبيه وأمه، لقد أنزلها بأعلام المدارس، فما امتازوا عن الأعلام الدوارس) ص149. ثم يروي الحارث : (وأحضر الدواة والأقلام، وقال قد ملأت الجراب، فأمل الجواب) ص153.
وثمة فضاء آخر له ارتباط وثيق بالكتابة، وبالعمل على تطوير الصنعة فيها، هو ديوان الإنشاء، حيث يوجد محترفو الكتابة من الكتّاب والمنشئين، ونجده خلال المقامات التالية :
1 – المقامة الفراتية : وتدور أحداثها حين يخرج الراوي مع جماعة من الكتاب في رحلة نهرية إلى سقى الفرات، من أجل استقصاء خراج بعض الأرضين هناك. وينعقد في هذه المقامة نقاش حول المفاضلة بين كتابة الإنشاء وكتابة الحساب، يظهر فيه فضل السروجي وعلمه بالكتابة. ص213.
2 – المقامة المراغية : وتقع أحداثها في ديوان النظر (أي المكاتبات والمراجعات) بالمراغة. وتدور فيها مناقشة حول قضية القديم والحديث بعد أن طرحت من قبل كثيراً في مجال الشعر.. ويملي فيها السروجي على الكتاب – بناءً على اقتراح أحدهم – رسالة رقطاء (حروف إحدى كلمتيها يعّمها النقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قط) ص61.
3 – المقامة القهقرية: وتدور المطارحة فيها على رسالة قهقرية، تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها قد نسجها السروجي. قال الراوي في وصفها وتبئيرها: (فلما صدع برسالته الفريدة، وأملوحته المفيدة، علمنا كيف يتفاضل الإنشاء، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) ص174.
4 – المقامة الرقطاء: وتدور حول رسالة رقطاء أخرى من إنشاء السروجي، قدمها لوالي طوس، في قصة طويلة، ثم أملاها على الحارث بن همام بعد أن لازمه مدة من الزمن. ص258.
وامتداداً لأجواء الكتابية في مقامات الحريري، يشيع توظيف الكتابة وأدواتها في التصوير الفني خلال متنها، مثال قول السروجي عن ابنه في المقامة الصعدية: (إن ابني هذا كالقلم الردى، والسيف الصدي) ص392. ووصف الحارث بن همام للسروجي في المقامة القهقرية: (برته الهموم، ولوحته السَّموم،حتى عاد أنحل من قلم، وأقحل من جلم) ص168. ويصور الحارث لقاءه بالسروجي في المقامة الفرضية قائلاً : (فلما دلّ شعاعه على شمسه، ونمّ عنوانه بسرّ طرسه) ص145. ويقول الحارث في المقامة الصورية عند دخوله دار المكدّين (فرابني عنوان الصحيفة، ومرأى هذه الطريفة) ص309 – 310. ويقول في المقامة الرملية واصفاً لقاءه بالسروجي (فعانقته عناق اللام للألف) ص326. ويلخص الحارث سيرته قائلاً : حبب إلى مذ سعت قدمي، ونفث قلمي، أن أتخذ الأدب شرعة) ص400.
ومع ذلك لا نستطيع أن نزعم احتواء المقامات على أجناس أدبية كتابية فقط، أو شفوية حاول المؤلف تطويعها للكتابة كما قدمنا، فقد اكتظت المقامات بالأغراض الأدبية التي تغلب عليها الشفاهية، فلا تكاد تخلو منها مقامة. وكما وجدت في مقامات الحريري، فضاءات كتابية كمجالس العلم والدواوين،وجدت فضاءات شفوية كالصحراء، والأندية. يصف الحارث طبيعة الثقافة الشفوية التي تسود الأندية بقوله في المقامة الدينارية: (نظمني وأخدانا لى ناد.. فبينما نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد أطراف الأسانيد) ص32. ولذلك جاء وصف الراوي للبطل يجمع في شخصيته أغراض الأدب الشفاهية والكتابية معاً، كمثل قوله عنه في المقامة المراغية : (إنه من إذا أنشأ وشى، وإذا عبّر حبّر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى اخترع خرع) ص59.
فمن الكتابة قوله: إذا أنشأ وشى، وإذا عبّر حبّر.
ومن الشفاهية قوله: إن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده.
وربما يرجع امتزاجهما في شخصيته إلى ما يأتي : -
1 – تأصل التقاليد الشفاهية في الأدب العربي ورسوخها الناتج عن قدمها، وسبقها الزمني الواضح للتقاليد الكتابية.
2 – تحقيق مفهوم الأديب الكامل، الذي يجمع بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر، والذي أطلق عليه في الأندلس ذا الوزارتين أو الرياستين، وقد حرص الحريري على تحقيق هذا الوصف لنفسه ولبطله السروجي.
3 – تحقيق مفهوم الإحماض الذي ينبني عليه تصور الأدب عند المؤلفين العرب، والذي ذكره الحريري بقوله: (وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه) ص13. والإحماض (هو الانتقال من أسلوب إلى آخر، مأخوذ من إحماض الإبل، وهو انتقالها من مرعى نبات حلو إلى مالح). ص13 هامش. ولذلك أعلن في المقدمة أنه ضمّن مقاماته أغراضاً متعددة من الملح والنوادر والأمثال والأحاجي والفتاوى والخطب والرسائل والمواعظ والأشعار وغيرها مما يتجاور فيه الشفاهي والكتابي، وذلك ليتحول كتابه إلى ديوان للأدب شأن معظم مؤلفات ابن قتيبية والجاحظ والمبرد والثعالبي وابن بسام الشنتريني وغيرهم.
ثانياً : التماسك الدلالي أو وحدة النص :
تبدو مقامات الحريري – إلى حد كبير – نصاً واحداً متماسكاً لكنه مكون من عدة نصوص لا من متتاليات من الجمل كما هو معهود في سائر النصوص، وترجع نصيتها - في رأينا – إلى إبداعها على نحو كتابي، كما ذكرنا من قبل. وقد سبق أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف إلى ملاحظة خضوع مقامات الحريري إلى بناء محكم وتصميم مسبق بقوله : (وإنّ من يقرأ مقامات الحريري كلها، ويتعقبه فيها يعرف أنه ألفها جميعاً عملاً واحداً، وحقاً لا يبدو الربط واضحاً بين مقامة وتاليتها.
غير أننا إذا فحصنا مقامات الحريري وجدناه يرتبها ويرقمها، فتلك المقامة الأولى، وتلك المقامة الخمسون، وكل مقامة بينهما تأخذ رقمها الخاص، وهذا معناه البناء المحكم ذو الحلقات، ونراه في الحلقة الأولى أو المقامة الأولى وهي المقامة الصنعانية يقوم بالتعريف بين الحارث بن همام وأبي زيد.
ونراه يعرضه علينا في المقامة التاسعة والأربعين وهي المقامة الساسانية، وقد بلغ من الكبر عتياً، فأحضر ابنه وأوصاه أن يقوم على حرفة الكدية من بعده.
وواضح أن الحريري يعدّنا بهذه المقامة للإشراف على نهاية عمله وخاتمة تأليفه.. ونقرأ في المقامة الخمسين فإذا الحريري يعرض علينا أبا زيد وهو يتوب إلى الله من صنعته، ويندم على ما تقدم من ذنوبه فيها.. وبذلك تنتهي المقامات، وقد أهّل الحريري لنهايتها خير تأهيل كما افتتحها خير افتتاح، فهو في أولها يعرّف البطل براويته وفي خاتمتها يفرق بينهما، وهو يعدّ للخاتمة بالمقامة الساسانية، كما أسلفنا. وكل ذلك دليل بين على أن الحريري صنع مقاماته بشكل بناء متكامل، له أول واضح وله آخر واضح)(55).
فالحريري – وقد وضع نصب عينيه التجربة الفنية لبديع الزمان الهمذاني في أدب المقامات، منذ مقدمة كتابه، وأفاد منها، وتناص معها خلال مقاماته كما سنوضح – بدأ تجربته الفنية في كتابة المقامات من حيث انتهي بديع الزمان، فسار في إبداعها على نحو واضح، قد تكشفت له موضوعة الكدية، كما تكشف له البناء المثال للمقامة، بشخصيتيها الرئيستين. وسلك في تحقيق ذلك مسلكاً كتابياً، نتج عنه البناء المتكامل، أو البنية الواضحة التي اشترطها لوتمان لتحقيق النصية، والتماسك الدلالي الذي اشترطه جل علماء النص، كما قدمنا. ويتحقق فيه على وجه الخصوص شرط فان ديك الذي يوضحه قوله : (وبعبارة أخرى نقول عن النص في نهاية المطاف بأنه منسجم عندما نجد فيه تعبيراً عن مسار محتمل للأحداث)(56).
فقد لاحظ الدكتور شوقي ضيف تعبير نص المقامات عن مسار محتمل للأحداث. ومن الواضح أنه ركز على أثر التطور الطبيعي لشخصية البطل (أبي زيد السروجي) في إحداث الربط بين مقاماته وتكوين الوحدة الدلالية لها. وتتفق هذه النظرة - فضلاً على وجاهتها – مع تصور الحريري لأدب المقامة الذي أعلنه في مقدمة كتابه، الذي يولي البطل أهمية كبيرة، فهو المسؤول عن نشأة المقامات، كما أن الراوي هو المسؤول عن روايتها.
ونضيف إلى ما ذكره أستاذنا ما لاحظناه من أن المقامات تبدأ وتستمر والسروجي بعيد عن وطنه بسبب استيلاء الصليبيين (الروم / العلوج) عليه، ولا تنتهي المقامات إلا بعد أن يجلو العلوج عن سروج، ويعود السروجي إلى وطنه، ويتوب من كديته. وفي هذا مطابقة للتصور الإسلامي الذي يحرص على التوبة وحسن الختام، وتتطابق عودة الغائب إلى موطنه، وعودة الإنسان إلى رحم أمه الأرض.
وربما كان تعليل ذلك أيضاً أن الكدية ذنب يجب أن يتوب منه البطل، كما أن تزوير الأحداث واختراع القصص ذنب يجب أن يستغفر منه المؤلف في خاتمة كتابه، وذلك كله من آثار ورع المؤلف الضمني، وربما الحقيقي أيضاً. وثمة نص له أهميته الفائقة في الدلالة على وعي الحريري بأن مقاماته تقدم سيرة بطله السروجي يرد في المقامة الرقطاء إذ يقول البطل للراوي : (وإذا كنت قد استربت بعدتي، وأغراك ظن السوء بمباعدتي، فأصغ لقصص سيرتي الممتدة، وأضفها إلى أخبار الفرج بعد الشّدة) ص261.
وتظهر أهمية التقدير السابق لدور البطل في تحقيق الترابط بين الوحدات النصية التي يتألف منها النص الكلي لمقامات الحريري، عندما نوازن بينها وبين مقامات البديع، فنجد الثانية وقد افتقدت فيها شخصية البطل حركيتها واتساقها مما أسهم في تفكيك بنيتها وعدم تأسيسها لنص جامع لوحداتها النصية المستقلة. إذ تأخذ مقامات الهمذاني النسق البنائي المعروف بالتنضيد Enfilage وهو نسق عريق في الشفاهية، يرتبط بتوزيع السرد على أيام. حيث توجد مقاماته متجاورة مستقلة غير متفاعلة، دوائر مغلقة متتابعة دون ما خط سردي ينتظمها، ويعبر عن تطور الحبكة، المرتبطة بالشخصية الرئيسة فيها، ولذلك لا يمكن النظر إليها كنص واحد متكامل، وإنما هي نصوص متعددة، نتجت عن تفكير شفاهي راكم بينها، وأضاف بعضها إلى بعض دون ما نظام محدد.
ويلاحظ أن الحريري، ربما لإضافته الكتابة إلى التقاليد الشفاهية الراسخة في الأدب العربي، وربما لأنه كان متوزعاً بين التأثر ببديع الزمان الهمذاني الذي ابتدع المقامة السردية، وبين التأثر بابن المقفع في كتابه القصصي (كليلة ودمنة) الذي عرفه الحريري، وذكر في مقدمة كتابه أنه من جنس الحكايات (الموضوعات عن العجماوات والجمادات) ص15. قد جاءت مقاماته تكاد تنتظمها بنيتان سرديتان:
أ – بنية كبرى للكتاب: تكاد تحقق نسق التأطير من خلال حكاية إطارية، تبدأ من التقاء الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في المقامة الأولى، وافتراقهما بعد توبة الأخير في المقامة الخمسين، وهذه البنية مغلقة تضع حداً ابتدائياً لنص المقامات، كما تضع لها حدّ النهاية. وربما أفاد الحريري هذه البنية المسيّجة للنص من كتاب كليلة ودمنة الذي ذكره في مقدمة كتابه.
ب – بنية التنضيد : التي تضم بنيات سردية صغرى، متجاورة منظومة في سلك واحد، تتتابع حباته متجاورة، متسلسلة أحياناً تربط بينها علاقات، أو منفصلة مستقلة غالباً، ولكن الجامع بينها جميعاً هو شخصيتا البطل والراوي، وموضوعة الكدية على تنوع عناصرها. وهذه البنية مفتوحة تسمح بإدماج المزيد من المقامات في متن الكتاب.
وهاتان البنيتان الخاصتان بالمقامات أو السرد، تنضاف إليهما المقدمة والخاتمة، لتتألف منهما مجتمعة البنية الكلية للكتاب.
ولأن مقامات الحريري تشكل نصاً متكاملاً، وحدة دلالية مستقلة، لذلك يمكن استخلاص وظائف بروبية functions Propian تتألف من مجموعها وحدة النص، على النحو التالي :
1 – تعارف الراوي والبطل (المقامة الأولى).
2 – توطد الصلة بينهما، واتضاح أبعاد شخصية البطل، وانتقاله من الشباب إلى الشيب. (المقامة الثانية).
3 – توالي المقامات وتتابعها.
4 – الوصيّة (المقامة التاسعة والأربعون).
5 – التوبة (المقامة الخمسون).
6 – الفراق الأبدي (المقامة الخمسون).
ويمكن أن نبحث عن نظام لتوالي المقامات خلال البنية الثانية على النحو التالي :
أ – بدأت المقامات بالمقامة الصنعانية؛ لأن صنعاء فيما يقال (أول بلدة صنعت بعد الطوفان) ص17 هامش، واختتمت بالبصرية حيث موطن الراوي والمؤلف الحقيقي، ومنها انتهى البطل إلى سروج.
ب – التزم المؤلف ربما للجانب الديني من شخصيته، وربما لتأثمه من اختراع القصص الذي ظنه أباطيل كما في الخاتمة أن يورد مقامة وعظية بعد إيراد عشر مقامات في الكدية، وكأنها ممحصة لها أو مكفرة عنها، ذلك مع البدء بمقامة وعظية على النحو التالي :
الأولى : (الصنعانيّة).
الحادية عشرة : (الساويّة)
الحادية والعشرون : (الرازيّة)
الحادية والثلاثون : (الرمليّة)
الحادية والأربعون : (التنيسيّة)
ولا تشذ عن هذا النظام سوى المقامة السمرقندية التي جاء ترتيبها الثامنة والعشرين بين مقاماته.
ج – ترابط بعض المقامات المتجاورة على النحو التالي:
1 – يبدو ترابط المقامة الحادية والثلاثين (الرمليّة) والمقامة الثانية والثلاثين (الطيبيّة). فالأولى تقع أحداثها في مكة المكرمة، حيث مناسك الحج، والثانية فضاؤها المدينة المنورة، حيث زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشير مطلع المقامة الثانية إلى هذا الترابط، فقد حكى الحارث بن همام قال: (أجمعت حين قضيت مناسك الحج، وأقمت وظائف العج والثج، أن أقصد طيبة مع رفقة من بني شيبة، لأزور قبر المصطفى، وأخرج من قبيل من حج وجفا) ص329.
2 – يربط بين المقامة الخامسة والعشرين (الكرجيّة) والمقامة السادسة والعشرين (الرقطاء) أن يكون الفضاء الزمني لأحداث كل منهما فصل الشتاء.
3 – يربط بين المقامة الثالثة والأربعين (البكرية) والمقامة الرابعة والأربعين (الشتوية) أن تمثل الصحراء فضاء لأحداث كل منهما.
4 – يربط بين المقامة الثامنة والأربعين (الحراميّة) والمقامة الخمسين (البصرية) وقوع أحداثهما في البصرة. خاصة وقد تضمنت الأولى حنين الراوي إلى البصرة ومدحه لها، وذهابه إليها، كما تضمنت الثانية حنين البطل إلى البصرة حيث رزق التوبة ببركة دعاء أهلها له، ومن ثم مدحه لهم.
وثمة أمر له دلالته على طبيعة الإنتاج الكتابي للمقامات، وحرص الحريري على تماسك بنائها ووحدتها الدلالية من خلال احتوائها على مسار محتمل للأحداث، وامتدادها في خط صاعد. هو ما يرويه الشريشي من أن المقامة الحرامية هي أول مقامة أنشأها الحريري(57). لكن الحريري وضعها – بعد ذلك في موضعها المناسب من الكتاب، فجاء ترتيبها فيه الثامنة والأربعين بين مقاماته، وقد اضطر إلى الفصل بينها وبين المقامة الخمسين بالمقامة الوصيّة لأهميتها في التمهيد للنهاية وارتباطها بالاختتام والفراق.
5 – تمثل المقامة المغربية (السادسة عشرة) تمهيداً للمقامة القهقرية (السابعة عشرة)، من حيث مادة العرض الأدبي، الذي كان في الأولى (ما لا يستحيل بالانعكاس) الذي تطور في الثانية – بمزيد من الإطالة والتعقيد – إلى رسالة قهقرية.
6 – ترتبط المقامتان التاسعة والعشرون (الواسطيّة) والثلاثون (الصوريّة) عن طريق وقوع أحداث كل منهما في فضاء متماثل. إذ تتم أحداث الأولى في خان، وتتم أحداث الثانية في مكان يماثله هو دار المكدّين، وفي كلتا المقامتين يقام عرس.
7 – تتفق المقامتان : الخامسة والثلاثون (الشيرازيّة)، والسادسة والثلاثون (الملطيّة) في موضوع العرض الأدبي، إذ احتوتا على الإلغاز، وكما ألغز السروجي في المقامة الأولى عن الخمر شعراً (ص 375- 376)، وقدّم حل اللغز شعراً ص 377 :
قتل مثلي يا صاح مزج المدام ليس قتلي بلهزم وسنان
نجد الحارث في مطلع المقامة التالية يقول : (رأيت تسعة رهط قد سبؤوا قهوة، وارتبؤوا ربوة.. وطفقت أفيض بقدحي مع قداحهم، وأستشفي برياحهم لابراحهم) ص379- 380. ويخاطبهم السروجي بقوله : (اعلموا يا ذوي الشمائل الأدبية، والشمول الذهبية) ص380. فقد شغل الحريري كلتا المقامتين بموضوع أثير في المقامات هو الخمر.
8 – يصلح قول ولد السروجي في المقامة الزبيديّة :
وكم أرصدتني شركاً لصيد
فعدت وفي حبائلي السباع
إحالة – كما في النصوص الكتابية – إلى ما سبق من استخدام السروجي لابنه موضوعاً للاحتيال في كديته المتعددة كما في الرحبيّة والشعريّة وغيرهما.
9 – إذا كانت فكرة توبة البطل قد تحققت في المقامة الخمسين الأخيرة، فقد وردت من قبل – مما يشكل تمهيداً لها – في المقامة الحادية والأربعين (التنيسيّة) في وعظ السروجي نثراً وشعراً. ص435 – 437. وقبلها في المقامة الثانية عشرة (الدمشقية) في قوله شعراً :
ولذ بالمتاب أمام الذهاب
فمن دقّ باب كريم فتح
وهذا ما تحقق في المقامة الأخيرة.
هوامش
1 - د. صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص. الطبعة الأولى. الكويت. سلسلة عالم المعرفة. 1413 – 1992. ص233.
2 – د. صلاح فضل: المرجع السابق. ص 241.
3 – د. جميل عبدالمجيد. البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصيّة. الطبعة الأولى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998. ص68.
4 – د. جميل عبدالمجيد. المرجع السابق. ص 71.
5 – د. صلاح فضل. المرجع سابق. ص 232.
6 – د. سعيد حسن بحيري. علم لغة النص. المفاهيم والاتجاهات. الطبعة الأولى. القاهرة. الشركة المصرية العالمية للنشر. لونجمان. 1997. ص101 – 102.
7 – د. سعيد بحيري. المرجع السابق. ص 109.
8 – نفسه. ص 108.
9 – فان ديك. النص بنياته ووظائفه. ترجمة: د. محمد العمري. ضمن كتاب في نظرية الأدب. مقالات ودراسات. الطبعة الأولى. الرياض. سلسلة كتاب الرياض. 1997. ص 61 – 62.
10 – صبري حافظ. التناص وإشاريات العمل الأدبي. مجلة ألف. ع4. القاهرة. الجامعة الأمريكية. ربيع 1984. ص 20 – 21.
11 – دي بوجراند، روبرت. النص والخطاب والإجراء. ترجمة: د. تمام حسّان. الطبعة الأولى. القاهرة. عالم الكتب. 1998. ص 106.
12 – دي بوجراند. المرجع السابق. ص103.
13 – نفسه. ص 103.
14 – د. سعيد بحيري. مرجع سابق. ص123.
15 – فان ديك. مرجع سابق. ص 61.
16 – د. جميل عبدالمجيد. مرجع سابق. ص141.
17 – فان ديك. مرجع سابق. ص122.
18 – دي بوجراند. مرجع سابق. ص 103.
19 – د. صلاح فضل. مرجع سابق. ص 229. وانظر القسم الأول من هذا البحث الخاص بمبحث (التفاعل النصي من كريستيفا إلى جينيت).
20 – فان ديك. مرجع سابق. ص 61 – 62.
21 – محمد خطابي. لسانيات النص : مدخل إلى انسجام الخطاب. الطبعة الأولى. بيروت. المركز الثقافي العربي. 1991. ص 13. وانظر أيضاً : د. جميل عبدالمجيد : المرجع السابق. ص69.
22 – د. صلاح فضل. مرجع سابق. ص 232.
23 – نفسه. 232.
24 – د. سعيد بحيري. مرجع سابق. ص 104.
25 – نفسه. ص 104.
26 – يوسف نور عوض. نظرية النقد الأدبي الحديث. الطبعة الأولى. القاهرة. دار الأمين. 1994. ص 102.
27 – د. صلاح فضل : مرجع سابق. ص 234. وانظر: د. صبري حافظ. مرجع سابق. ص 21، د. سعيد بحيري : مرجع سابق. ص 117.
28 – د صلاح فضل : مرجع سابق. ص 255.
29 – المرجع السابق والصفحة.
30 – فان ديك. مرجع سابق. ص 60.
31 – ريكور، بول : النص والتأويل. ترجمة منصف عبدالحق. مجلة العرب والفكر العالمي. بيروت. مركز الإنماء القومي. العدد الثالث. صيف 1988. ص 37.
32 – د. محمد العبد : اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة. الطبعة الأولى. القاهرة. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. 1990. ص28.
33 – بارت، رولان : نظرية النص. ترجمة محمد خير البقاعي. ضمن كتاب آفاق التناصية، المفهوم والمنظور. الطبعة الأولى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998. ص 30.
34 – بارت : مرجع سابق. ص 30 – 31.
35 – د. محمد العبد : مرجع سابق. ص 28.
36 – د. محمد رجب النجار: التراث القصصي في الأدب العربي. المجلد الأول. الطبعة الأولى. الكويت. ذات السلاسل. 1995. ص40.
37 – أونج، والتر. الشفاهية والكتابية. ترجمة د. حسن البنا عز الدين. الطبعة الأولى، الكويت. عالم المعرفة. 1994. ص 280.
38 – د. محمد العبد: مرجع سابق. ص 27.
39 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 39.
40 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 280.
41 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 38.
42 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 288.
43 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 38.
44 – نفسه. ص 38.
45 - نفسه. ص 39.
46 - نفسه. ص 28.
47 - نفسه. ص 26.
48 – ابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. تحقيق إحسان عباس. بيروت. ج4. ص 64.
49 – ابن خلكان : المصدر السابق. ج4. ص
50 – ياقوت الحموي: معجم الأدباء. الطبعة الثالثة. بيروت.دار الفكر 1440هـ،1980م، ج16. ص 263، وانظر ص 264.
51 – ياقوت الحموي : المصدر السابق. ج 16. ص 264.
52 – الشريشي، أبو العباس : شرح مقامات الحريري. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. بيروت. المكتبة العصريّة. 1992. ج1. ص24.
53 – اعتمدت الدراسة على المصدر الرئيس التالي :
- الحريري، أبو محمد : مقامات الحريري. الطبعة الأولى. بيروت. دار الكتب العلمية. 1992.
54 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 126.
55 – د.شوقي ضيف: المقامة، القاهرة. دار المعارف. 1976. ص 49–53.
56 – فان، ديك : مرجع سابق. ص 73.
57 – الشريشي، أبو العباس. مصدر سابق. ص26.
د. عمر عبدالواحد
وعلى الرغم من اعتقادنا فرادة النص الأدبي، وتميزه عن غيره من الممارسات اللغوية، إذ هو (رسالة ناجمة عن نظام محدد من المفاهيم والشِّفرات)(1)، أو بعبارة ثانية (وحدة معقدة من الخطاب.. عمل تركيبي.. وحدة شاملة.. تخضع لعملية تشفير خاصة، تؤدي إلى وجود ما نطلق عليه قصيدة أو قصة أو غيرها)(2). فإننا سنعول ابتداءً على آراء اللسانيين – مع الاستعانة بعد ذلك بآراء السيميائيين – من أجل الكشف عن أهمية التماسك الدلالي لتحقيق النصية. وقد اخترنا أن نبدأ به، لدوره في الكشف عن طبيعة النص، وتوضيح حقيقته أيضاً.
أولاً : التماسك الدلالي:
يقرر هاليدي، ورقية حسن أنه: (إذا كانت الجملة وحدة نحوية، فإن النص ليس وحدة نحوية أوسع، أو مجرد مجموع جمل أو جملة كبرى، وإنما هو وحدة من نوع مختلف، وحدة دلالية Semantic Unit الوحدة التي لها معنىMeaning في سياق context)(3).
ويعرفان النص في موضع آخر من الكتاب نفسه بقولهما : إنه "أي مقطع passage منطوق أو مكتوب يشكل كلاً متحداً united whole)(4).ويقول عنه بعض اللغويين الإسبان: Lozono – Grisixa: (النص هو القول اللغوي، المكتفي بذاته، والمكتمل في دلالته)(5).
ويقول هارتمان P. Hartmann في تعريف النص هو : (قطعة ما ذات دلالة وذات وظيفة، وبالتالي هي قطعة مثمرة من الكلام)(6). ويعرفه H. Brinker بقوله : هو (تتابع متماسك من علامات لغوية لا تدخل (لا تحتضنها) تحت آية وحدة لغوية أخرى أشمل)(7).
وحده فاينريش H. Weinrich بأنه (تكوين حتمي يحدد بعضه بعضاً، إذ تستلزم عناصره بعضها بعضا لفهم الكل)(8).
وأوضح فان ديك أن النص متتالية من الأقوال – مكتوبة أو ملفوظة – تساهم في نوع من الاستمرارية الزمنية، وتمتلك نوعاً من الوحدة، وتؤدي وظيفة محددة باعتبارها نتاج متكلم أو كاتب أو نتاج عدة من المتكلمين(9).
ويقول السيميائي الروسي لوتمان L. Lotman في إطار حديثه عن خاصية التميز أو التحدد demarcation التي تعد في رأيه إحدى ثلاث خصائص رئيسة للنصية : (إن النص ينطوي على معنى نصي لا يقبل التجزئة، ومن هذه الناحية يمكن اعتباره وحدة إشارية متكاملة. فكون النص قصة أو رواية أو وثيقة أو صلاة يعني أنه يضطلع بوظيفة ثقافية ما وأنه يوصّل معنى متكاملاً)(10).
ويلاحظ أن تعريفات الباحثين السابقين وأقوالهم على اختلاف انتماءاتهم العلمية تكاد تجتمع حول أهمية مفهوم التماسك بجوانبه المتعددة النحوية والدلالية، والتداولية في تحقيق النصية، حيث يحقق إطراد النص واستمراره وتشابك مكوناته وعناصره على نحو يشكل وحدة كلية. ولقد أولى بوجراند / دريسلر مفهوم التماسك أهمية كبيرة، فعندما حددا سبعة معايير للنصية – أي ما يصير به الملفوظ نصاً – جاء في مقدمتها التماسك بنوعيه النحوي والدلالي (لما لهما من صلة وثيقة بالنص)(11). إذ احتل الربط النحوي Cohesion أو السبك المعيار الأول، ومثل التماسك الدلالي Coherence أو التلاحم المعيار الثاني(12).
ويشير المعيار الأول إلى الربط الذي يتم على المستوى السطحي للنص، بواسطة أدوات الربط (الروابط) النحوية، كحروف العطف، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، والتعريف، وطرق الوصل والفصل، والأبنية الدالة على الزمان والمكان وغيرها. يقول دو بوجراند (وسائل التضام تشتمل على هيئة نحوية كالمركبات والتراكيب والجمل، وعلى أمور مثل التكرار والألفاظ الكنائية والأدوات والإحالة المشتركة والحذف والروابط)(13).
ويلاحظ أن هذا الربط النحوي ذو جوهر دلالي أيضاً، فهو (خاصية دلالية للخطاب، تعتمد على فهم كل جملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجمل الأخرى)(14). أي أن العلاقات التي تقوم بين الجمل والعبارات في أي متتالية نصية ترتكز على أسس دلالية. يقول فان ديك : (إن المقياس الأهم في تحديد وحدة النص يهم مضمونه)(15).
ويشير المعيار الثاني Coherence إلى التماسك أو التلاحم الدلالي، الذي يتم على مستوى البنية العميقة للنص، أي على مستوى التصورات والمفاهيم التي تشكل عالم النص إذ يقول دو بوجراند ودريسلر عن هذا المعيار : (ويختص بالاستمرارية المتحققة في عالم النص textual world ويعني بها الاستمرارية الدلالية التي تتجلى في منظومة المفاهيم Concepts والعلاقات Relations الرابطة بين هذه المفاهيم)(16).
ويرى فان ديك أن التماسك (يتحدد على مستوى الدلالات حين يتعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين التصورات والتطابقات والمقارنات والتشابهات في المجال التصوري، كما يتحدد على مستوى الإحالة أيضاً أي ما تحيل إليه الوحدات المادية في متوالية نصية)(17).
ويحدد دو بوجراند وسائل تحقيق التماسك الدلالي خلال هذا المعيار فيما يأتي:
1 ) العناصر المنطقية كالسببية والعموم والخصوص.
2 ) معلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات والمواقف.
3 ) السعي إلى التماسك فيما يتصل بالتجربة الإنسانية، ويتدعم بتفاعل المعلومات التي يعرضها النص مع المعرفة السابقة بالعالم)(18).
ويتفرع عن التسليم بشرط التماسك الدلالي الذي بدا واضحاً من خلال أقوال اللسانيين والسيميائيين السابقة، الذين عبروا عن النص بأنه وحدة دلالية، أو Ideologeme أي (وحدة ايديولوجية)(19) - على حد قول كريستيفا - المسائل التالية التي تفيد مناقشتها في تحديد طبيعة النص وتوضيح خصائصه:
1 – مسألة طول النص وقصره: فلم يعد مهماً – على ضوء اشتراطهم السابق – طول النص أو قصره، وإنما اكتمال دلالته. يعلن فإن ديك رفضه لفكرة تقييد النص بطول معين قائلاً : (لن نحترم هذا التقييد، فيمكن أن يتركب النص من جملة واحدة، أو حتى من كلمة واحدة، كما في حالة الأمر "تعال" مثلاً.. وليس من العسير أن نلاحظ بشكل عام أن حكاية أو رواية تكون نصاً واحداً)(20).
ويقول هاليدي ورقية حسن:
(يمكن – للنص – أن يكون أي شيء، من مثل واحد حتى مسرحية بأكملها، من نداء استغاثة، حتى مجموع المناقشة الحاصلة طوال يوم في لقاء هيئة)(21).
ويقول بعض اللغويين الأسبان Lozono – Grisixa (إن علينا أن نضحي بفكرة الطول في سبيل الوصول للنص المستدير المكتمل الذي يحقق مقصديه قائله في عملية التواصل اللغوية)(22).
وبناءً على ما سبق، فإن أدنى وحده نصية في اللغة العربية هي الجملة، لأن الوحدة الدلالية التي تقدم معنى مفيداً – أو مكتملاً – صالحاً للتداول في اللغة العربية لا تقل عن الجملة، حتى وإن تبدت على هيئة كلمة، فإن المتلقي يقوم بإكمالها – من عنده – لتصير جملة. وقد يطول النص فيصل إلى كتاب كامل، يحتوي على معنى تام، ويعبر عن مقصدية مؤلفه، وأوضح مثال له الأعمال الأدبية الطويلة كما هي الحال في الرواية والمسرحية.
2 – مسألة انغلاقية النص: ويلاحظ أنه انغلاق شكلي، يقف على سطح النص، ويقصد به تحدده المادي ببداية واضحة ونهاية واضحة أيضاً، يتوزع الفضاء النصي بينهما إلى أجزاء أو وحدات نصية قابلة للتجزئة أيضاً. ابتداءً بالفقرات، وانتهاءً بالجملة ؛ أصغر وحدة نصية في اللغة العربية.
ويوضح بعض اللغويين الأسبانLozono – Grisixa ترتب هذه الفكرة على التماسك الدلالي السابق، وأنها تقع على مستوى سطح النص أو التركيب لا على مستوى دلالته، يقولان :
(وقد تستخدم في هذا المجال فكرة انغلاقه على نفسه كمحور لتحديد هذا الاكتمال، لا بمعنى عدم قبوله للتأويلات المختلفة، وإنما بمعنى اكتفائه بذاته)(23). وذكر بحيري أنه قد (أطلق على النص مصطلح "المنغلق على ذاته" أي المكتفي بذاته)(24). ولكن ذلك يتوجه في رأينا – وفق مبدأ التحدد Demarcation لدى لوتمان- ليعني أن النص هو تلك (الوحدة الكبرى التي ترتسم حدودها عن طريق تعيين الفواصل والقواطع الملموسة لاتصالها)(25). والتي تشتمل أيضاً على معنى تام لا يقبل التجزئة، ويؤدي وظيفة ثقافية ما. أما البنية الدلالية للنص، فيغلب عليها الوصف خاصة لدى السيميائيين مثل بارت وكريستيفا بأنها إنتاجية أي ناتجة عن تفاعل القارئ بوصفه عدّة نصوص مجتمعة مع النص الذي يواجهه، كما توصف بأنها منفتحة على نصوص متعددة سابقة عليها خلال ما يسمى بالتناص أو التفاعل النصي، الذي يراه دو بوجراند (أهم العناصر في نظرية أنواع النصوص، ذلك أن النصوص إنما تكتب بحسب رأيه في إطار خبرة سابقة)(26).
ذلك فضلاً على ما تتيحه كتابة النصوص من فرصة واسعة لانطلاق نشاط القراءة، ودخول القارئ كعنصر فعّال في تحقيق إمكانات النص وتجسيد دلالاته، واستكشاف رموزه وإشاراته.
3 – الخاصية البنيوية للنص : ويرتبط بوجود الحدود الواضحة المسيجة للنص فضلاً على تماسكه الدلالي، بروز بنيته، التي تشير إلى وحدته، وإلى وجود نظام من العلاقات يحكم تتابع عناصره وترابط مكوناته الرئيسة، يقول لوتمان في إطار حديثه عن الخاصية البنيوية للنص، وهي إحدى الخصائص الثلاث الرئيسة للنص المشار إليها آنفاً: (إنَّ النص لا يمثل مجرد متوالية Sequence من مجموعة علامات تقع بين حدين فاصلين. فالتنظيم الداخلي الذي يحيله إلى مستوى متراكب أفقياً في كل بنيوي موحد لازم للنص، فبروز البنية شرط أساسي لتكوين النص)(27).
ولذلك توصف قطعة ما من اللغة بالنصية، عندما تتجلى خلالها بنية كبرى ذات وحدة كلية شاملة. (فإن متتاليات الجمل التي تمتلك أبنية كبرى وحدها التي تسمى من الوجهة النظرية نصوصاً)(28). وكما تطلق تسمية الأبنية الكبرى Macro- Structure على الوحدات البنيوية الشاملة للنص، يقترح د. صلاح فضل إطلاق مصطلح Micro- Structure الأبنية الصغرى على (أبنية المتتاليات والأجزاء للتمييز بينها وبين الأبنية النصية الكبرى)(29).
ثانياً : الكتابة والنصية :
ترتبط النصية بالكتابة – في رأي معظم المشتغلين بدراسة النص – ارتباطاً أساسياً، يقول فان ديك: (إن المقصود بالنص عادةً – في اللغة المتداولة – هو أساساً النصوص المكتوبة أو المطبوعة)(30). ويقول بول ريكور: (لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة. إن هذا التثبيت – حسب هذا التعريف – أمر مؤسس للنص ذاته ومقوّم له)(31). ويذكر جون لاينز أن مصطلح (نص) يشير إلى اللغة المدونة المكتوبة(32).
ويوضح رولان بارت مفهوم النص بقوله : (إنه السطح الظاهري للنتاج الأدبي، نسيج الكلمات المنظومة في التأليف، والمنسقة بحيث تفرض شكلاً ثابتاً ووحيداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً)(33). ثم يعلل ارتباط النص بالكتابة قائلاً (ليس النص في نهاية الأمر إلا جسماً مدركاً بالحاسة البصرية. وهو مرتبط تشكيلاً بالكتابة "النص المكتوب"، ربما لأن مجرد رسم الحروف ولو أنه يبقى تخطيطاً فهو إيحاء بالكلام وبتشابك النسيج، اشتقاقياً "النص" يعني نسيجاً)(34). فالكتابة فضلاً على ما توفره للنص من استقرار وحفظ واكتمال، وما تضفيه عليه من شرعية واحترام، تجعله بمثابة العقد أحياناً، كرواسب أو آثار من قداسة الكتابة في المجتمعات القديمة(35). لا تكتفي فقط بما أشار إليه بارت من الإيحاء بتشابك النسيج اللغوي، وإنما تحققه على نحو فعال، وتظهره متجسداً للعيان. إن الكتابة تحقق أيقونية الخطاب، عندما تحقق اكتماله واستقلاله بذاته، وتحبسه في حيز مرئي يوفر له الثبات المرئي والمادي، ويمثل (النص المكتوب كلمات مؤلف ما في شكل حيز نهائي أو أخير أو مغلق في عالم خاص به، أي أنه أيقونة لغوية، ترى ولا تسمع، ويشكل وحدة بذاته)(36). ولا يتحقق ذلك في الخطاب الشفهي (فالصوت يقاوم عملية اختزاله إلى شيء أو أيقونة، إنه حدث مستمر)(37)، كما أنه لا يمكن الفصل بينه وبين سياقاته خارج النصية.
وعندما تقوم الكتابة – وفق جودي Goody – بنقل (اللغة من المجال السمعي إلى المجال البصري فإنها تسمح بسبر أغوار الكلمات والجمل في سياقاتها الأصلية Original context)(38)، وتتيح فرصة واسعة لدراسة بنية النص والعلاقات بين مكوناته وعناصره، فالكتابة تحقق نصية الخطاب، عندما تستنقذه من الاندياح في محيط غير لغوي من ظروف الزمان والمكان وملابساتهما، وتحول دون افتقاره إلى ذلك السياق المقامي Context of situation، لتجعل له سياقاً نصياً Context أو ما يعبر عنه أحياناً بالسياق الأصلي Original context.
فالخطاب الشفاهي إنما تجري تنميته، ويتم تفسيره من خارجه، حيث تمارس تلك السياقات الخارج النصية هيمنتها وتوجيهها له، ويتوجب من أجل إكماله وتفسيره ربطها به. (واللغة مليئة بما يؤمن الارتباط بين الخطاب وبين ظرفيته الزمانية والمكانية، فأسماء الإشارة وظروف الزمان والمكان والضمائر وأزمنة الأفعال، وعموماً كل الأدلة التعيينية والوصفية والإشارية تعمل على ربط الخطاب وترسيخ علاقته بالواقع الزماني والمكاني الذي يحيط بوجوده كخطاب)(39).
أما النص وقد حققت الكتابة – كما تقدم – نصيته، واكتماله ووحدته، وأبرزت بنيته ونظامه، فإنما يتم التركيز عليه في ذاته، ليتحقق تأويله انطلاقاً من داخله، وعبر قراءته.
وبينما تؤدي وسائل الربط اللغوية دورها في ربط الخطاب بالسياق الخارج النصي، تؤدي دورها في النص - على نحو داخلي – يقوي تماسكه، ويؤكد وحدته.
إن الكتابة قد (أطلق عليها الخطاب المستقل بذاته، في مقابل القول الشفهي الذي لا يستقل بذاته أبداً، بل يكمن دائماً في وجود غير لفظي)(40).
وفي مقابل ما تمارسه الكتابة على النص من انغلاقية على المستوى الشكلي، أي على مستوى سطح النص كما قدمنا، فإنها تحقق انفتاحه على المستوى الدلالي، وتدخل القارئ إلى عالمه على نحو فعال، ليبدأ نشاط خاص بالكتابة فقط هو القراءة والتأويل.
ويناقش بول ريكور – من وجهة نظر تأويلية – علاقة النص بالكتابة، ويرفض أن يقف على السطح من تقدير دورها في تحقيق النصية من خلال ما ذكره الآخرون من أن (المكتوب يحافظ على الخطاب، ويجعل منه سجلاً جاهزاً للذاكرة الفردية والجماعية. وقد أضاف البعض أيضاً بأن تخطيط الرموز يمكن من ترجمة تحليلية ومميزة لكل السمات المتتالية والخفية للغة ويزيد بذلك من فعاليتها)(41). ويقرر ابتداء أن الكتابة ليست مجرد تثبيت للكلام أو تسجيل له، وإنما هي – كما ذكر دريدا أيضاً لكن من منطلق مختلف ولأغراض مغايرة(42) - فعالية نصية موازية لفعالية الكلام، مستقلة ومختلفة عنه تماماً. يقول ريكور: (إن الكتابة هي إنجاز مقارن للكلام ومواز له، أي إنجاز يحل محله بل ويتقاطع معه إن صح التعبير، ولهذا السبب أمكننا القول سابقاً إن ما يتم تثبيته في الكتابة هو الخطاب باعتباره نية تقصد إصدار قول ما، وإن الكتابة هي تسجيل مباشر لهذه النية القصدية، حتى لو ابتدأت الكتابة تاريخياً وسيكولوجياً بتسجيل خطي لرموز الكلام وإشاراته. هذه الاستقلالية المميزة التي تجعلها تأخذ مكان الكلام، هي التي تطابق ولادة النص)(43).
أي أن الكتابة تسجل فقط المعنى القصدي لخطاب لم نقله، واخترنا ابتداء كتابته، ولذلك فهي انجاز مستقل تماماً، يحل محل فعل الكلام. ويرى أن تقدير دور الكتابة يجب أن يذهب أبعد من ذلك، (فإن استقلال النص من الدائرة الشفوية يخلق انقلاباً حقيقياً يمس كلاً من العلاقات التي تربط بين اللغة والعالم، والعلاقة التي تربط اللغة بكل الذوات المعنية بالخطاب، أي ذات المؤلف وذات القارئ)(44). فإن فعل القراءة لا يبدأ إلا مع النص (الكتابي) الذي يختفي منه مؤلفه، أما الخطاب الشفاهي الذي يوجد فيه المؤلف المتكلم فيعتمد استنطاق معانيه على الحوار معه، أي أن القراءة مع النص تحل محل الحوار مع المؤلف في الخطاب الشفاهي.
ثم يوضح ريكور الآلية التي تفتح بها الكتابة النص أمام القراءة بأنه إذا كان الخطاب الشفوي يعتمد على العلاقة الإحالية (المرجعية) للغة على العالم أو الواقع الخارجي، إذ لا يكتسب الخطاب دلالته الكاملة إلا بهذه الظرفية الزمانية والمكانية. مما يلتوي بالمعنى المثالي Ideal للخطاب في اتجاه الإحالة الواقعية، ويصبح للكلام وظيفة (التعيين الوصفي الإشاري) الذي يخدم إبراز ذلك الشيء الذي نتكلم عنه. فإنه عندما يحل النص محل الكلام تتوقف حركة الإحالة في اتجاه الإشارة الوصفية (بفعل تقاطعها مع النص مثلما يتوقف الحوار بفعل اصطدامه بالنص أيضاً.
من هنا بالضبط ستكون مهمة القراءة – باعتبارها تأويلاً – هي إقامة الإحالة وتأسيسها. وعلى أي حال. فإن النص داخل هذا التعليق حيث يتغير اتجاه الإحالة – يبقى معلقاً في الهواء – إذا صحّ القول – أي خارج العالم أو بدون عالم. وبفعل هذا التعطيل الذي يمس علاقة النص بالعالم، يصبح كل نص حراً في إقامة علاقات مع كل النصوص الأخرى التي تأتي لتحل محل الواقع الزماني والمكاني الذي يشير إليه الكلام الفعلي الحيّ)(45).
وثمة ربط أيضاً بين الكتابية والقراءة، يسهم في تعليل الربط السابق بين الكتابة والنصية نجده لدى جادامر، يتضح من مثل قوله التالي: (إن كل مكتوب هو موضوع تأويل بامتياز.. ولا يمكن لأفق معنى الفهم أن يحد لا بما كان يقصده المؤلف، ولا بأفق المرسل إليه الذي كتب النص أساساً من أجله)(46).
وقوله : (إن تفوق الكتابة المنهجي يستند إلى واقع كون المسألة التأويلية تظهر فيها، في أكثر تعابيرها صفاءً، مجردة عن كل عنصر نفساني. الكتابة هي المثالية المجردة للغة.. فبالكتابة تكتسب اللغة ملكة الانفصال عن فعل تشكلها.. وفي التدوين لا يكون معنى ما يقال حاضراً إلا لذاته، منفصلاً تماماً عن العوامل الانفعالية التي للتعبير وللتواصل)(47).
وسنحاول الآن الكشف عن مظاهر النصية في مقامات الحريري، واخترنا البدء بالحديث عن الكتابة بوصفها المسؤولة في رأينا عن التماسك الدلالي ونصية المقامات في مجملها.
أولاً : كتابية المقامات:
يلاحظ ابتداءً أن فكرة الإنتاج الكتابي لمقامات الحريري قد استقرت في أذهان عدد من المؤرخين، وراجت لديهم؛ فيذكر ابن خلكان: (لما عمل الحريري المقامات أنشأها على أربعين مقامة وحملها من البصرة إلى بغداد، وادّعاها، فلم يصدق ذلك جماعة من أدباء بغداد وقالوا : إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه، فادعاها. فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال : أنا رجل منشئ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة بعينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زماناً كثيراً، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك فقام وهو خجلان.. فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن إليه، واعتذر من عيه وحصره في الديوان بما لحقه من المهابة)(48).
وقال ابن خلكان أيضاً : (رأيت في شهور سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة المحروسة نسخة مقامات، وجميعها بخط مصنفها الحريري، وقد كتب أيضاً بخطه على ظهرها أنه صنفها للوزير جمال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة وزير المسترشد.. ولا شك أن هذه الرواية أصح لكونها بخط المصنّف)(49). ويهمنا من خلال الاقتباسين السابقين من ترجمة الحريري لابن خلكان، تأكيده على كتابية المقامات، من خلال القصة التي رواها، ومن خلال رؤيته لنسخة كاملة بخط الحريري. وكذلك تأكيده على وصف الحريري بأنه منشئ، يكتب – كما ظهر من الاقتباس الأول- وفق دواعي نفسه، لا إجابة لمتطلبات خارجية، ولذلك لم يصلح للعمل في الديوان.
وذكر ياقوت الحموي نقله عمن سمع من الحريري قوله بأنه ابتدأ عمل مقاماته بالمقامة الحرامية، التي أنشأها محاكاة لحال شحاذ بليغ ومكد فصيح ورد عليهم في البصرة، في مسجد بني حرام. يقول الحريري : (فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكان أول شيء صنعته)(50).
وذكر ياقوت أيضاً أن ابن الجوزي قد أورد هذه الحكاية في تاريخه، (وزاد فيها أن الحريري عرض هذه المقامة الحرامية على أنو شروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها، وأمره أن يضيف إليها ما شاكلها، فأتمها خمسين مقامة)(51).
ويلاحظ أيضاً أن المؤرخين السابقين: ابن خلكان، وياقوت الحموي، قد أشارا خلال بحثهما عمن قدم إليه الحريري كتابه إلى إنتاج الحريري لمقاماته على نحو كتابي، قام به منفرداً، على عادة المؤلفين الكتّاب. كذلك يروي الشريشي عن بعض أشياخه- وكان حافظاً أديباً – تفضيله البديع على الحريري، لأن مقامات الأول ارتجال، ومقامات الأخير كتابة(52).
وقد أفرد الحريري – على عادة المؤلفين الكتّاب – لكتابه مقدمة وخاتمة، تكرر فيها وصفه لعمله في المقامات بأنه إنشاء أي كتابة، في سياقات متعددة، على النحو التالي(53):
- "أشار من إشارته حكم وطاعته غنم إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع" ص12.
- "وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خامدة وروية ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة" ص12.
- "إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات" ص13.
- "ولم أودعه من الأشعار الأجنبية إلا بيتين فذين، أسست عليهما بنية المقامة الحلوانية" ص13.
- "وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة.. " ص14.
- "فأي حرج عليّ من أنشأ ملحاً للتنبيه لا للتمويه" ص 15.
ويقول في الخاتمة : (وهذا آخر المقامات التي أنشأتها بالاغترار) ص566. ونستنتج من تلك السياقات ما يأتي:
1 – إن الحريري قد سلك في إنتاج مقاماته مسلكاً كتابياً، وأنه قد أنتجها دفعة واحدة كتاباً كاملاً. ويؤكد ذلك أيضاً أننا نجده في المقدمة حيث يعلن خطته يشير إلى قارئيه وبضمير الغائب أيضاً، فيقول: (وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه) ص13.
2 – كان الحريري على وعي بتميز جنس المقامة عن غيره، وبأن للمقامة بنية مستقلة.
3 – التوشيح والتزيين مرتبط بكتابة المقامات، والكتابة تعين عليه.
ويشهد متن المقامات احتفاء واضحاً بالكتابة، من أول مظاهره: التفكير الكتابي في الأغراض الأدبية الشفوية، فقد أعاد الحريري إنتاج بعض الأغراض الشفوية على نحو كتابي، فقدّم في المقامة السمرقندية خطبة مهملة بدون نقط جاء فيها: "الحمد لله الممدوح الأسماء، الممدوح الآلاء، الواسع العطاء.. مالك الأمم ومصوّر الرّمم.. ومهلك عاد وإرم. أدرك كلَّ سرّ علمه ووسع كل مصر حلمّه.. ) ص285.
ومثل هذه الخطبة كان يجب أن يتم إرسالها واستقبالها على نحو كتابي، أي عبر ثنائية الكتابة والقراءة. ولكن السروجي خطب بها يوم الجمعة في سمرقند، محققا بذلك العجب الذي يستحق أن يذكر في القصص. قال الحارث بن همام : (فلما رأيت الخطبة نخبة بلا سقط، وعروساً بغير نقط، دعاني الإعجاب بنظمها العجيب إلى استجلاء وجه الخطيب. فأخذت أتوسمه جداً، وأقلب الطرف فيه مجداً إلى أن وضح لي بصدق العلامات، أنه شيخنا صاحب المقامات) ص290. فإصدار هذه الخطبة يحتاج إلى مثل السروجي، واستقبالها على نحو تام صحيح يحتاج إلى مثل الحارث بن همام، ولذلك كانت السبب في تعارفهما والتقائهما في هذه المقامة.
ومارس هذا التفكير الكتابي أيضاً في الخطبة التي ألقاها أيضاً في المقامة الواسطية، فكانت - على حدّ وصف الحارث – خطبة (بديعة النظام، عرية من الإعجام) ص301. يحتاج استقبالها إلى إدراك بصري، وقد لا يتمكن الاستماع من الكشف عن سر الصنعة فيها.
كذلك نجده – خلال المقامة الحلبية – يعمل عقله الكتابي في الشعر – رغم عراقته في الشفاهية التي نشأ عند العرب خلالها – وينتج منه أنماطاً كتابية على النحو التالي :
1 – أنشد أكبر أصيبيته (تلاميذه) أبياتاً عواطل، مفتتحها :
أعدد لحسادك حد السلاح وأورد الآمل ورد السّماح
2 – وأنشد آخر الأبيات العرائس (أي التي كل حروفها منقوطة، فقد شبهها بالعروس). يروي الحارث بن همام : (ثم قال لابنه نويرة : يا قمر الدويرة : اجل الأبيات العرائس، وإن لم يكن نفائس، فبري القلم وقط، ثم احتجر اللوح وخط:
فتنتني فجننتني تجنّي
شغفتني بجفن ظبي غضيض
-------------
بتجن يفتن غبّ تجنيّ
غنج يتقضى تغيض جفني
فلما نظر الشيخ إلى ما حبره، وتصفح ما زبره، قال له : بورك فيك من طلا، كما بورك في لا ولا) ص 497 – 198.
3 – الأبيات الأخياف ( والمراد هنا ذوات الكلمتين إحداهما منقوطة والأخرى بغير نقط ). يروي الحارث بن همام أن السروجي قال لابنه قطرب: (ارقم الأبيات الأخياف، وتجنب الخلاف. فأخذ القلم ورقم :
اسمح فبثُ السماح زين ولا تخب آملا تضيّف..
4 – الأبيات المتآئيم (أي المتماثلة لأن كل لفظين منهما مجنسان تجنيساً خطياً ) ص499 هامش.
يروي الحارث : (ثم نادى يا عشمشم أيا عطر منشم.. اكتب الأبيات المتائيم ولا تكن من المشائيم. فتناول القلم المثقف وكتب ولم يتوقف :
زينت زينب بقدٍّ يقدُّ وتلاه ويلاه نهد يهدُّ..
فطفق الشيخ يتأمل ما سطره،ويقلب فيه نظره. فلما استحسن خطه، واستصح ضبطه قال له : لا شلّ عشرك، ولا خبث نشرك.. ) 499 – 500.
ويندرج في هذا الإطار أن يكتب بالشعر رسائل، منها واحدة إلى الحارث وصحبه في المقامة الدمياطية. ص46. وأخرى إلى الوالي في المقامة الرحبية. ص105. وثالثة في المقامة العمانية إلى المولود. ص416. وهكذا احتوت مقامات الحريري على ممارسة لأجناس أدبية شفاهية من خلال تفكير كتابي. ربما كان والتر أونج يصف أمثالها أو قريباً منها بقوله: (والأشخاص الذين استوعبوا الكتابة لا يكتبون فقط بل يتكلمون بالطريقة الكتابية بمعنى أنهم ينظمون بدرجات متفاوتة، تعبيرهم الشفاهي في أنماط فكرية ولغوية لم تكن لتتأتى لهم لو لم يكونوا ممارسين للكتابة)(54).
كذلك نجده – في متن المقامات – يربط بين القصص والكتابة، مع الإشارة إلى مناقب الكتابة، وشروط القصص الذي يستحق التدوين. يروي الحارث في المقامة الكوفية: (قال أبو زيد السروجي: فهل سمعتم يا أولي الألباب، بأعجب من هذا العجاب؟ فقلنا: لا والذي عنده علم الكتاب. فقال: أثبتوها في عجائب الاتفاق، وخلدوها بطون الأوراق، فما سيّر مثلها في الآفاق، فأحضرنا الدواة وأساودها، ورقشنا الحكاية على ما سردها) ص53. وفي ذلك إعلاء لشأن الكتابة ولدورها في تخليد الآثار، ولشأن هذا القصص أيضاً، فليس كل ما يستمع له يستحق أن يصير مكتوباً، وإنما يكتب فقط العجيب منه. وقال الحارث بن همام في ختام المقامة المعرّية مبئراً لقصتها: (فلم أر أعجب منها في تصاريف الأسفار، ولا قرأت مثلها في تصانيف الأسفار) ص86. فمثل هذا القصص العجيب – في رأيه – لا يدرك إلا بحاسة الإبصار، من خلال القراءة في الأسفار (الكتب القيّمة)، أو بالرؤية خلال الارتحال. وكأن الرحلة أيضاً كتاب مفتوح. وفيه إشارة أيضاً إلى أن أعاجيب السفر والقصص يجب أن تدون في الكتب.
ويروي الحارث عن مقامة السروجي الشيرازية: (ثم فجر من ينابيع الأدب والنكت النخب، ما جلب به بدائع العجب، واستوجب أن يكتب بذوب الذهب) ص374.
ففي سياق القصص لا يستحق أن يكتب سوى العجب. وكتابة القصص بالذهب - تدنيه في المخيلة العربية – من المعلقات، لتصبح المقامات في هذا السياق ديواناً آخر من دواوين العرب.
كذلك تملأ أجواء الكتابة فضاءات مقامات عديدة، فنجد مجالس العلم في المقامة البصرية، حيث يصف مجتمعاً كتابياً في مسجد البصرة : يقول الحارث : (وكان إذ ذاك مأهول المساند، مشفوه الموارد.. يسمع في أرجائه صرير الأقلام) ص549. وكذلك في المقامة الفرضية يدور الحوار التالي بين السروجي والشيخ الحزين (لانقراض العلم ودروسه، وأفول أقماره وشموسه) ص149. الذي يقدمه الحارث تقديماً غير مباشر، بواسطة التلخيص : (فأبرز رقعة من كمه، وأقسم بأبيه وأمه، لقد أنزلها بأعلام المدارس، فما امتازوا عن الأعلام الدوارس) ص149. ثم يروي الحارث : (وأحضر الدواة والأقلام، وقال قد ملأت الجراب، فأمل الجواب) ص153.
وثمة فضاء آخر له ارتباط وثيق بالكتابة، وبالعمل على تطوير الصنعة فيها، هو ديوان الإنشاء، حيث يوجد محترفو الكتابة من الكتّاب والمنشئين، ونجده خلال المقامات التالية :
1 – المقامة الفراتية : وتدور أحداثها حين يخرج الراوي مع جماعة من الكتاب في رحلة نهرية إلى سقى الفرات، من أجل استقصاء خراج بعض الأرضين هناك. وينعقد في هذه المقامة نقاش حول المفاضلة بين كتابة الإنشاء وكتابة الحساب، يظهر فيه فضل السروجي وعلمه بالكتابة. ص213.
2 – المقامة المراغية : وتقع أحداثها في ديوان النظر (أي المكاتبات والمراجعات) بالمراغة. وتدور فيها مناقشة حول قضية القديم والحديث بعد أن طرحت من قبل كثيراً في مجال الشعر.. ويملي فيها السروجي على الكتاب – بناءً على اقتراح أحدهم – رسالة رقطاء (حروف إحدى كلمتيها يعّمها النقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قط) ص61.
3 – المقامة القهقرية: وتدور المطارحة فيها على رسالة قهقرية، تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها قد نسجها السروجي. قال الراوي في وصفها وتبئيرها: (فلما صدع برسالته الفريدة، وأملوحته المفيدة، علمنا كيف يتفاضل الإنشاء، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) ص174.
4 – المقامة الرقطاء: وتدور حول رسالة رقطاء أخرى من إنشاء السروجي، قدمها لوالي طوس، في قصة طويلة، ثم أملاها على الحارث بن همام بعد أن لازمه مدة من الزمن. ص258.
وامتداداً لأجواء الكتابية في مقامات الحريري، يشيع توظيف الكتابة وأدواتها في التصوير الفني خلال متنها، مثال قول السروجي عن ابنه في المقامة الصعدية: (إن ابني هذا كالقلم الردى، والسيف الصدي) ص392. ووصف الحارث بن همام للسروجي في المقامة القهقرية: (برته الهموم، ولوحته السَّموم،حتى عاد أنحل من قلم، وأقحل من جلم) ص168. ويصور الحارث لقاءه بالسروجي في المقامة الفرضية قائلاً : (فلما دلّ شعاعه على شمسه، ونمّ عنوانه بسرّ طرسه) ص145. ويقول الحارث في المقامة الصورية عند دخوله دار المكدّين (فرابني عنوان الصحيفة، ومرأى هذه الطريفة) ص309 – 310. ويقول في المقامة الرملية واصفاً لقاءه بالسروجي (فعانقته عناق اللام للألف) ص326. ويلخص الحارث سيرته قائلاً : حبب إلى مذ سعت قدمي، ونفث قلمي، أن أتخذ الأدب شرعة) ص400.
ومع ذلك لا نستطيع أن نزعم احتواء المقامات على أجناس أدبية كتابية فقط، أو شفوية حاول المؤلف تطويعها للكتابة كما قدمنا، فقد اكتظت المقامات بالأغراض الأدبية التي تغلب عليها الشفاهية، فلا تكاد تخلو منها مقامة. وكما وجدت في مقامات الحريري، فضاءات كتابية كمجالس العلم والدواوين،وجدت فضاءات شفوية كالصحراء، والأندية. يصف الحارث طبيعة الثقافة الشفوية التي تسود الأندية بقوله في المقامة الدينارية: (نظمني وأخدانا لى ناد.. فبينما نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد أطراف الأسانيد) ص32. ولذلك جاء وصف الراوي للبطل يجمع في شخصيته أغراض الأدب الشفاهية والكتابية معاً، كمثل قوله عنه في المقامة المراغية : (إنه من إذا أنشأ وشى، وإذا عبّر حبّر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى اخترع خرع) ص59.
فمن الكتابة قوله: إذا أنشأ وشى، وإذا عبّر حبّر.
ومن الشفاهية قوله: إن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده.
وربما يرجع امتزاجهما في شخصيته إلى ما يأتي : -
1 – تأصل التقاليد الشفاهية في الأدب العربي ورسوخها الناتج عن قدمها، وسبقها الزمني الواضح للتقاليد الكتابية.
2 – تحقيق مفهوم الأديب الكامل، الذي يجمع بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر، والذي أطلق عليه في الأندلس ذا الوزارتين أو الرياستين، وقد حرص الحريري على تحقيق هذا الوصف لنفسه ولبطله السروجي.
3 – تحقيق مفهوم الإحماض الذي ينبني عليه تصور الأدب عند المؤلفين العرب، والذي ذكره الحريري بقوله: (وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه) ص13. والإحماض (هو الانتقال من أسلوب إلى آخر، مأخوذ من إحماض الإبل، وهو انتقالها من مرعى نبات حلو إلى مالح). ص13 هامش. ولذلك أعلن في المقدمة أنه ضمّن مقاماته أغراضاً متعددة من الملح والنوادر والأمثال والأحاجي والفتاوى والخطب والرسائل والمواعظ والأشعار وغيرها مما يتجاور فيه الشفاهي والكتابي، وذلك ليتحول كتابه إلى ديوان للأدب شأن معظم مؤلفات ابن قتيبية والجاحظ والمبرد والثعالبي وابن بسام الشنتريني وغيرهم.
ثانياً : التماسك الدلالي أو وحدة النص :
تبدو مقامات الحريري – إلى حد كبير – نصاً واحداً متماسكاً لكنه مكون من عدة نصوص لا من متتاليات من الجمل كما هو معهود في سائر النصوص، وترجع نصيتها - في رأينا – إلى إبداعها على نحو كتابي، كما ذكرنا من قبل. وقد سبق أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف إلى ملاحظة خضوع مقامات الحريري إلى بناء محكم وتصميم مسبق بقوله : (وإنّ من يقرأ مقامات الحريري كلها، ويتعقبه فيها يعرف أنه ألفها جميعاً عملاً واحداً، وحقاً لا يبدو الربط واضحاً بين مقامة وتاليتها.
غير أننا إذا فحصنا مقامات الحريري وجدناه يرتبها ويرقمها، فتلك المقامة الأولى، وتلك المقامة الخمسون، وكل مقامة بينهما تأخذ رقمها الخاص، وهذا معناه البناء المحكم ذو الحلقات، ونراه في الحلقة الأولى أو المقامة الأولى وهي المقامة الصنعانية يقوم بالتعريف بين الحارث بن همام وأبي زيد.
ونراه يعرضه علينا في المقامة التاسعة والأربعين وهي المقامة الساسانية، وقد بلغ من الكبر عتياً، فأحضر ابنه وأوصاه أن يقوم على حرفة الكدية من بعده.
وواضح أن الحريري يعدّنا بهذه المقامة للإشراف على نهاية عمله وخاتمة تأليفه.. ونقرأ في المقامة الخمسين فإذا الحريري يعرض علينا أبا زيد وهو يتوب إلى الله من صنعته، ويندم على ما تقدم من ذنوبه فيها.. وبذلك تنتهي المقامات، وقد أهّل الحريري لنهايتها خير تأهيل كما افتتحها خير افتتاح، فهو في أولها يعرّف البطل براويته وفي خاتمتها يفرق بينهما، وهو يعدّ للخاتمة بالمقامة الساسانية، كما أسلفنا. وكل ذلك دليل بين على أن الحريري صنع مقاماته بشكل بناء متكامل، له أول واضح وله آخر واضح)(55).
فالحريري – وقد وضع نصب عينيه التجربة الفنية لبديع الزمان الهمذاني في أدب المقامات، منذ مقدمة كتابه، وأفاد منها، وتناص معها خلال مقاماته كما سنوضح – بدأ تجربته الفنية في كتابة المقامات من حيث انتهي بديع الزمان، فسار في إبداعها على نحو واضح، قد تكشفت له موضوعة الكدية، كما تكشف له البناء المثال للمقامة، بشخصيتيها الرئيستين. وسلك في تحقيق ذلك مسلكاً كتابياً، نتج عنه البناء المتكامل، أو البنية الواضحة التي اشترطها لوتمان لتحقيق النصية، والتماسك الدلالي الذي اشترطه جل علماء النص، كما قدمنا. ويتحقق فيه على وجه الخصوص شرط فان ديك الذي يوضحه قوله : (وبعبارة أخرى نقول عن النص في نهاية المطاف بأنه منسجم عندما نجد فيه تعبيراً عن مسار محتمل للأحداث)(56).
فقد لاحظ الدكتور شوقي ضيف تعبير نص المقامات عن مسار محتمل للأحداث. ومن الواضح أنه ركز على أثر التطور الطبيعي لشخصية البطل (أبي زيد السروجي) في إحداث الربط بين مقاماته وتكوين الوحدة الدلالية لها. وتتفق هذه النظرة - فضلاً على وجاهتها – مع تصور الحريري لأدب المقامة الذي أعلنه في مقدمة كتابه، الذي يولي البطل أهمية كبيرة، فهو المسؤول عن نشأة المقامات، كما أن الراوي هو المسؤول عن روايتها.
ونضيف إلى ما ذكره أستاذنا ما لاحظناه من أن المقامات تبدأ وتستمر والسروجي بعيد عن وطنه بسبب استيلاء الصليبيين (الروم / العلوج) عليه، ولا تنتهي المقامات إلا بعد أن يجلو العلوج عن سروج، ويعود السروجي إلى وطنه، ويتوب من كديته. وفي هذا مطابقة للتصور الإسلامي الذي يحرص على التوبة وحسن الختام، وتتطابق عودة الغائب إلى موطنه، وعودة الإنسان إلى رحم أمه الأرض.
وربما كان تعليل ذلك أيضاً أن الكدية ذنب يجب أن يتوب منه البطل، كما أن تزوير الأحداث واختراع القصص ذنب يجب أن يستغفر منه المؤلف في خاتمة كتابه، وذلك كله من آثار ورع المؤلف الضمني، وربما الحقيقي أيضاً. وثمة نص له أهميته الفائقة في الدلالة على وعي الحريري بأن مقاماته تقدم سيرة بطله السروجي يرد في المقامة الرقطاء إذ يقول البطل للراوي : (وإذا كنت قد استربت بعدتي، وأغراك ظن السوء بمباعدتي، فأصغ لقصص سيرتي الممتدة، وأضفها إلى أخبار الفرج بعد الشّدة) ص261.
وتظهر أهمية التقدير السابق لدور البطل في تحقيق الترابط بين الوحدات النصية التي يتألف منها النص الكلي لمقامات الحريري، عندما نوازن بينها وبين مقامات البديع، فنجد الثانية وقد افتقدت فيها شخصية البطل حركيتها واتساقها مما أسهم في تفكيك بنيتها وعدم تأسيسها لنص جامع لوحداتها النصية المستقلة. إذ تأخذ مقامات الهمذاني النسق البنائي المعروف بالتنضيد Enfilage وهو نسق عريق في الشفاهية، يرتبط بتوزيع السرد على أيام. حيث توجد مقاماته متجاورة مستقلة غير متفاعلة، دوائر مغلقة متتابعة دون ما خط سردي ينتظمها، ويعبر عن تطور الحبكة، المرتبطة بالشخصية الرئيسة فيها، ولذلك لا يمكن النظر إليها كنص واحد متكامل، وإنما هي نصوص متعددة، نتجت عن تفكير شفاهي راكم بينها، وأضاف بعضها إلى بعض دون ما نظام محدد.
ويلاحظ أن الحريري، ربما لإضافته الكتابة إلى التقاليد الشفاهية الراسخة في الأدب العربي، وربما لأنه كان متوزعاً بين التأثر ببديع الزمان الهمذاني الذي ابتدع المقامة السردية، وبين التأثر بابن المقفع في كتابه القصصي (كليلة ودمنة) الذي عرفه الحريري، وذكر في مقدمة كتابه أنه من جنس الحكايات (الموضوعات عن العجماوات والجمادات) ص15. قد جاءت مقاماته تكاد تنتظمها بنيتان سرديتان:
أ – بنية كبرى للكتاب: تكاد تحقق نسق التأطير من خلال حكاية إطارية، تبدأ من التقاء الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في المقامة الأولى، وافتراقهما بعد توبة الأخير في المقامة الخمسين، وهذه البنية مغلقة تضع حداً ابتدائياً لنص المقامات، كما تضع لها حدّ النهاية. وربما أفاد الحريري هذه البنية المسيّجة للنص من كتاب كليلة ودمنة الذي ذكره في مقدمة كتابه.
ب – بنية التنضيد : التي تضم بنيات سردية صغرى، متجاورة منظومة في سلك واحد، تتتابع حباته متجاورة، متسلسلة أحياناً تربط بينها علاقات، أو منفصلة مستقلة غالباً، ولكن الجامع بينها جميعاً هو شخصيتا البطل والراوي، وموضوعة الكدية على تنوع عناصرها. وهذه البنية مفتوحة تسمح بإدماج المزيد من المقامات في متن الكتاب.
وهاتان البنيتان الخاصتان بالمقامات أو السرد، تنضاف إليهما المقدمة والخاتمة، لتتألف منهما مجتمعة البنية الكلية للكتاب.
ولأن مقامات الحريري تشكل نصاً متكاملاً، وحدة دلالية مستقلة، لذلك يمكن استخلاص وظائف بروبية functions Propian تتألف من مجموعها وحدة النص، على النحو التالي :
1 – تعارف الراوي والبطل (المقامة الأولى).
2 – توطد الصلة بينهما، واتضاح أبعاد شخصية البطل، وانتقاله من الشباب إلى الشيب. (المقامة الثانية).
3 – توالي المقامات وتتابعها.
4 – الوصيّة (المقامة التاسعة والأربعون).
5 – التوبة (المقامة الخمسون).
6 – الفراق الأبدي (المقامة الخمسون).
ويمكن أن نبحث عن نظام لتوالي المقامات خلال البنية الثانية على النحو التالي :
أ – بدأت المقامات بالمقامة الصنعانية؛ لأن صنعاء فيما يقال (أول بلدة صنعت بعد الطوفان) ص17 هامش، واختتمت بالبصرية حيث موطن الراوي والمؤلف الحقيقي، ومنها انتهى البطل إلى سروج.
ب – التزم المؤلف ربما للجانب الديني من شخصيته، وربما لتأثمه من اختراع القصص الذي ظنه أباطيل كما في الخاتمة أن يورد مقامة وعظية بعد إيراد عشر مقامات في الكدية، وكأنها ممحصة لها أو مكفرة عنها، ذلك مع البدء بمقامة وعظية على النحو التالي :
الأولى : (الصنعانيّة).
الحادية عشرة : (الساويّة)
الحادية والعشرون : (الرازيّة)
الحادية والثلاثون : (الرمليّة)
الحادية والأربعون : (التنيسيّة)
ولا تشذ عن هذا النظام سوى المقامة السمرقندية التي جاء ترتيبها الثامنة والعشرين بين مقاماته.
ج – ترابط بعض المقامات المتجاورة على النحو التالي:
1 – يبدو ترابط المقامة الحادية والثلاثين (الرمليّة) والمقامة الثانية والثلاثين (الطيبيّة). فالأولى تقع أحداثها في مكة المكرمة، حيث مناسك الحج، والثانية فضاؤها المدينة المنورة، حيث زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشير مطلع المقامة الثانية إلى هذا الترابط، فقد حكى الحارث بن همام قال: (أجمعت حين قضيت مناسك الحج، وأقمت وظائف العج والثج، أن أقصد طيبة مع رفقة من بني شيبة، لأزور قبر المصطفى، وأخرج من قبيل من حج وجفا) ص329.
2 – يربط بين المقامة الخامسة والعشرين (الكرجيّة) والمقامة السادسة والعشرين (الرقطاء) أن يكون الفضاء الزمني لأحداث كل منهما فصل الشتاء.
3 – يربط بين المقامة الثالثة والأربعين (البكرية) والمقامة الرابعة والأربعين (الشتوية) أن تمثل الصحراء فضاء لأحداث كل منهما.
4 – يربط بين المقامة الثامنة والأربعين (الحراميّة) والمقامة الخمسين (البصرية) وقوع أحداثهما في البصرة. خاصة وقد تضمنت الأولى حنين الراوي إلى البصرة ومدحه لها، وذهابه إليها، كما تضمنت الثانية حنين البطل إلى البصرة حيث رزق التوبة ببركة دعاء أهلها له، ومن ثم مدحه لهم.
وثمة أمر له دلالته على طبيعة الإنتاج الكتابي للمقامات، وحرص الحريري على تماسك بنائها ووحدتها الدلالية من خلال احتوائها على مسار محتمل للأحداث، وامتدادها في خط صاعد. هو ما يرويه الشريشي من أن المقامة الحرامية هي أول مقامة أنشأها الحريري(57). لكن الحريري وضعها – بعد ذلك في موضعها المناسب من الكتاب، فجاء ترتيبها فيه الثامنة والأربعين بين مقاماته، وقد اضطر إلى الفصل بينها وبين المقامة الخمسين بالمقامة الوصيّة لأهميتها في التمهيد للنهاية وارتباطها بالاختتام والفراق.
5 – تمثل المقامة المغربية (السادسة عشرة) تمهيداً للمقامة القهقرية (السابعة عشرة)، من حيث مادة العرض الأدبي، الذي كان في الأولى (ما لا يستحيل بالانعكاس) الذي تطور في الثانية – بمزيد من الإطالة والتعقيد – إلى رسالة قهقرية.
6 – ترتبط المقامتان التاسعة والعشرون (الواسطيّة) والثلاثون (الصوريّة) عن طريق وقوع أحداث كل منهما في فضاء متماثل. إذ تتم أحداث الأولى في خان، وتتم أحداث الثانية في مكان يماثله هو دار المكدّين، وفي كلتا المقامتين يقام عرس.
7 – تتفق المقامتان : الخامسة والثلاثون (الشيرازيّة)، والسادسة والثلاثون (الملطيّة) في موضوع العرض الأدبي، إذ احتوتا على الإلغاز، وكما ألغز السروجي في المقامة الأولى عن الخمر شعراً (ص 375- 376)، وقدّم حل اللغز شعراً ص 377 :
قتل مثلي يا صاح مزج المدام ليس قتلي بلهزم وسنان
نجد الحارث في مطلع المقامة التالية يقول : (رأيت تسعة رهط قد سبؤوا قهوة، وارتبؤوا ربوة.. وطفقت أفيض بقدحي مع قداحهم، وأستشفي برياحهم لابراحهم) ص379- 380. ويخاطبهم السروجي بقوله : (اعلموا يا ذوي الشمائل الأدبية، والشمول الذهبية) ص380. فقد شغل الحريري كلتا المقامتين بموضوع أثير في المقامات هو الخمر.
8 – يصلح قول ولد السروجي في المقامة الزبيديّة :
وكم أرصدتني شركاً لصيد
فعدت وفي حبائلي السباع
إحالة – كما في النصوص الكتابية – إلى ما سبق من استخدام السروجي لابنه موضوعاً للاحتيال في كديته المتعددة كما في الرحبيّة والشعريّة وغيرهما.
9 – إذا كانت فكرة توبة البطل قد تحققت في المقامة الخمسين الأخيرة، فقد وردت من قبل – مما يشكل تمهيداً لها – في المقامة الحادية والأربعين (التنيسيّة) في وعظ السروجي نثراً وشعراً. ص435 – 437. وقبلها في المقامة الثانية عشرة (الدمشقية) في قوله شعراً :
ولذ بالمتاب أمام الذهاب
فمن دقّ باب كريم فتح
وهذا ما تحقق في المقامة الأخيرة.
هوامش
1 - د. صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص. الطبعة الأولى. الكويت. سلسلة عالم المعرفة. 1413 – 1992. ص233.
2 – د. صلاح فضل: المرجع السابق. ص 241.
3 – د. جميل عبدالمجيد. البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصيّة. الطبعة الأولى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998. ص68.
4 – د. جميل عبدالمجيد. المرجع السابق. ص 71.
5 – د. صلاح فضل. المرجع سابق. ص 232.
6 – د. سعيد حسن بحيري. علم لغة النص. المفاهيم والاتجاهات. الطبعة الأولى. القاهرة. الشركة المصرية العالمية للنشر. لونجمان. 1997. ص101 – 102.
7 – د. سعيد بحيري. المرجع السابق. ص 109.
8 – نفسه. ص 108.
9 – فان ديك. النص بنياته ووظائفه. ترجمة: د. محمد العمري. ضمن كتاب في نظرية الأدب. مقالات ودراسات. الطبعة الأولى. الرياض. سلسلة كتاب الرياض. 1997. ص 61 – 62.
10 – صبري حافظ. التناص وإشاريات العمل الأدبي. مجلة ألف. ع4. القاهرة. الجامعة الأمريكية. ربيع 1984. ص 20 – 21.
11 – دي بوجراند، روبرت. النص والخطاب والإجراء. ترجمة: د. تمام حسّان. الطبعة الأولى. القاهرة. عالم الكتب. 1998. ص 106.
12 – دي بوجراند. المرجع السابق. ص103.
13 – نفسه. ص 103.
14 – د. سعيد بحيري. مرجع سابق. ص123.
15 – فان ديك. مرجع سابق. ص 61.
16 – د. جميل عبدالمجيد. مرجع سابق. ص141.
17 – فان ديك. مرجع سابق. ص122.
18 – دي بوجراند. مرجع سابق. ص 103.
19 – د. صلاح فضل. مرجع سابق. ص 229. وانظر القسم الأول من هذا البحث الخاص بمبحث (التفاعل النصي من كريستيفا إلى جينيت).
20 – فان ديك. مرجع سابق. ص 61 – 62.
21 – محمد خطابي. لسانيات النص : مدخل إلى انسجام الخطاب. الطبعة الأولى. بيروت. المركز الثقافي العربي. 1991. ص 13. وانظر أيضاً : د. جميل عبدالمجيد : المرجع السابق. ص69.
22 – د. صلاح فضل. مرجع سابق. ص 232.
23 – نفسه. 232.
24 – د. سعيد بحيري. مرجع سابق. ص 104.
25 – نفسه. ص 104.
26 – يوسف نور عوض. نظرية النقد الأدبي الحديث. الطبعة الأولى. القاهرة. دار الأمين. 1994. ص 102.
27 – د. صلاح فضل : مرجع سابق. ص 234. وانظر: د. صبري حافظ. مرجع سابق. ص 21، د. سعيد بحيري : مرجع سابق. ص 117.
28 – د صلاح فضل : مرجع سابق. ص 255.
29 – المرجع السابق والصفحة.
30 – فان ديك. مرجع سابق. ص 60.
31 – ريكور، بول : النص والتأويل. ترجمة منصف عبدالحق. مجلة العرب والفكر العالمي. بيروت. مركز الإنماء القومي. العدد الثالث. صيف 1988. ص 37.
32 – د. محمد العبد : اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة. الطبعة الأولى. القاهرة. دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع. 1990. ص28.
33 – بارت، رولان : نظرية النص. ترجمة محمد خير البقاعي. ضمن كتاب آفاق التناصية، المفهوم والمنظور. الطبعة الأولى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998. ص 30.
34 – بارت : مرجع سابق. ص 30 – 31.
35 – د. محمد العبد : مرجع سابق. ص 28.
36 – د. محمد رجب النجار: التراث القصصي في الأدب العربي. المجلد الأول. الطبعة الأولى. الكويت. ذات السلاسل. 1995. ص40.
37 – أونج، والتر. الشفاهية والكتابية. ترجمة د. حسن البنا عز الدين. الطبعة الأولى، الكويت. عالم المعرفة. 1994. ص 280.
38 – د. محمد العبد: مرجع سابق. ص 27.
39 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 39.
40 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 280.
41 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 38.
42 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 288.
43 – ريكور، بول : مرجع سابق. ص 38.
44 – نفسه. ص 38.
45 - نفسه. ص 39.
46 - نفسه. ص 28.
47 - نفسه. ص 26.
48 – ابن خلكان، شمس الدين أحمد بن محمد. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. تحقيق إحسان عباس. بيروت. ج4. ص 64.
49 – ابن خلكان : المصدر السابق. ج4. ص
50 – ياقوت الحموي: معجم الأدباء. الطبعة الثالثة. بيروت.دار الفكر 1440هـ،1980م، ج16. ص 263، وانظر ص 264.
51 – ياقوت الحموي : المصدر السابق. ج 16. ص 264.
52 – الشريشي، أبو العباس : شرح مقامات الحريري. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. بيروت. المكتبة العصريّة. 1992. ج1. ص24.
53 – اعتمدت الدراسة على المصدر الرئيس التالي :
- الحريري، أبو محمد : مقامات الحريري. الطبعة الأولى. بيروت. دار الكتب العلمية. 1992.
54 – أونج، والتر : مرجع سابق. ص 126.
55 – د.شوقي ضيف: المقامة، القاهرة. دار المعارف. 1976. ص 49–53.
56 – فان، ديك : مرجع سابق. ص 73.
57 – الشريشي، أبو العباس. مصدر سابق. ص26.
د. عمر عبدالواحد