نقوس المهدي
كاتب
لعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر، أنّ البلاغة بلغت أوج عظمتها في عهد من أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، العالم الثبت أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471 ه والذي «نظر ميمنة ويسرة فلم يجد من مسائل هذه الفنون إلا نتفاً مبعثرة لا تسمن ولا تغني من جوع، فشمر عن ساعد الجد، وجمع متفرقاتها، وأقام بناءها على أسس متينة، وركز دعائمها على أرض جدد لا تنهار، وأملى من القواعد ما شاء الله أن يملي في كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، وأحكم بنيانها بضرب الأمثلة والشواهد، حتى أناف بها على اليفاع، وقرن فيهما بين العلم والعمل، إذ رأى أن مسائل الفنون لا يستقر لها قرار إلا بكثرة الأمثلة والنماذج، فالصور الإجمالية التي تؤخذ من القواعد، إن لم تؤيدها الصور التفصيلية التي تستفاد من النماذج، لا تتمثل في الأذهان حق التمثل، ولا تنجلي حقيقتها تمام الانجلاء».
ولعل هذه الأمثلة التي تخلق نوعاً من التجانس والألفة بين الفنون والشواهد تبين مدى فحولة هذا القطب في التفكير، فالطريقة التي ابتدعها لم يتم ترويضها أو استئناسها من قبل، وما خلفه من تراث علمي ونتاج أدبي يدل على سعة ثقافته وخصوبة فكره، كما يدل على أنه بصير بمذاهب الكلام، عارف بمطارح الإساءة والإحسان. ولقد ذاعت شهرته في التأليف وسارت مؤلفاته في كل صقع ووادٍ، وأجبرّ كتاب الطبقات والتراجم أن يكثروا من ذكر اسمه في مصنفاتهم، ويطنبوا في وصفه بالذكاء والنبوغ ورهافة الحس ولطافة التخيل. ولقد استمد الجرجاني أجرأ الكُتّاب قريحة أيديولوجيته من التراث الإسلامي، واستعان في دراسته البلاغية بما كتب في النقد والبلاغة والإعجاز قبله، يمده بالجديد فيها ذوق مثقف، وحس لغوي دقيق، وقد قرأ الكثير من دواوين الشعر، وعكف على التراث الثقافي قبله، وهضمه وتمثله، وانعكس ذلك واضحاً على ما كتبه. كما تأثر عبد القاهر في بعض نواحي تفكيره البلاغي والنقدي بالثقافة الإغريقية ولا سيما بحوث أرسطو». فلقد ترجم كتابي «الخطابة» و «الشعر» لأرسطو إلى العربية، الأول في القرن الثالث الهجري، والآخر في القرن الرابع. ويعتبر كتاب عبد القاهر الجرجاني «أسرار البلاغة» أول محاولة جادة ترمي للتمييز بين أقسام البلاغة وفروعها، حيث نجد أن مؤلفه المتفنن في ضروب الخطاب قد قام بدراسة موضوعاتها دراسة وافية متأنية مكنته من اقتناص هذا الجنس من العلم، فقد انسجم سمتها وكشف لنا عن بهرجها وزينتها بيراعه المفطور على الإبداع الذي جمع ما شتّ من بعيدها وطرح الواغش عن صورتها، «فالإمام عبد القاهر لم يؤلف كتاب «أسرار البلاغة» لغرض ديني أو مسألة تتعلق بإعجاز القرآن، وإنما ألفه لغاية بلاغية، ووضع الأصول والقوانين، وبيان الأقسام، وذكر الفروق بين العبارات والفنون البيانية. وقد وفق الإمام عبد القاهر في إبراز الجودة الأدبية التي تأثر بصورها البيانية في نفس متذوقها، ولذلك نجده قد أوغل في الصور البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز أيّما تفصيل، ولم يغفل الحديث عن الجناس والسجع والطباق، وقد ذكرها لبيان مزيتها وحسنها عندما يطلبها المعنى».
ويبدو أن الإمام عبد القاهر قد أقدم على تأليف «أسرار البلاغة» بعد تأليفه لكتاب «دلائل الإعجاز» الذي سما إلى العلياء، وناطح الجوزاء شكلاً ومضموناً والذي نشأ وترعرع تحت كنف القرآن الذي دوّن فيه نظريته عن النظم، ساطعاً فيه بأن إعجاز القرآن الكريم يكمن في نظمه وليس في فصاحته، وكان المنهج الذي اتخذه في تأليف «الدلائل» هو «أن يكرر ويعيد الحديث عن النظم، ويكثر من الأمثلة والشرح ليقرب الفكرة ويقنع بها الناس مع ذكر الدليل تلو الدليل في وضوح لإثبات أنّ القرآن معجز في نفسه، وأنه معجز في كل زمان ومكان، ويناقش مذهب القائلين بالصرفة ويبطل حججهم بالأدلة العقلية والنقلية من القرآن الكريم والشعر الرصين». أما كتابه «أسرار البلاغة» فهو بحث خالص في موضوعات علم البيان، بالإضافة إلى بعض ألوان من البديع هي: الجناس والسجع والطباق.
ولعل هذه الأمثلة التي تخلق نوعاً من التجانس والألفة بين الفنون والشواهد تبين مدى فحولة هذا القطب في التفكير، فالطريقة التي ابتدعها لم يتم ترويضها أو استئناسها من قبل، وما خلفه من تراث علمي ونتاج أدبي يدل على سعة ثقافته وخصوبة فكره، كما يدل على أنه بصير بمذاهب الكلام، عارف بمطارح الإساءة والإحسان. ولقد ذاعت شهرته في التأليف وسارت مؤلفاته في كل صقع ووادٍ، وأجبرّ كتاب الطبقات والتراجم أن يكثروا من ذكر اسمه في مصنفاتهم، ويطنبوا في وصفه بالذكاء والنبوغ ورهافة الحس ولطافة التخيل. ولقد استمد الجرجاني أجرأ الكُتّاب قريحة أيديولوجيته من التراث الإسلامي، واستعان في دراسته البلاغية بما كتب في النقد والبلاغة والإعجاز قبله، يمده بالجديد فيها ذوق مثقف، وحس لغوي دقيق، وقد قرأ الكثير من دواوين الشعر، وعكف على التراث الثقافي قبله، وهضمه وتمثله، وانعكس ذلك واضحاً على ما كتبه. كما تأثر عبد القاهر في بعض نواحي تفكيره البلاغي والنقدي بالثقافة الإغريقية ولا سيما بحوث أرسطو». فلقد ترجم كتابي «الخطابة» و «الشعر» لأرسطو إلى العربية، الأول في القرن الثالث الهجري، والآخر في القرن الرابع. ويعتبر كتاب عبد القاهر الجرجاني «أسرار البلاغة» أول محاولة جادة ترمي للتمييز بين أقسام البلاغة وفروعها، حيث نجد أن مؤلفه المتفنن في ضروب الخطاب قد قام بدراسة موضوعاتها دراسة وافية متأنية مكنته من اقتناص هذا الجنس من العلم، فقد انسجم سمتها وكشف لنا عن بهرجها وزينتها بيراعه المفطور على الإبداع الذي جمع ما شتّ من بعيدها وطرح الواغش عن صورتها، «فالإمام عبد القاهر لم يؤلف كتاب «أسرار البلاغة» لغرض ديني أو مسألة تتعلق بإعجاز القرآن، وإنما ألفه لغاية بلاغية، ووضع الأصول والقوانين، وبيان الأقسام، وذكر الفروق بين العبارات والفنون البيانية. وقد وفق الإمام عبد القاهر في إبراز الجودة الأدبية التي تأثر بصورها البيانية في نفس متذوقها، ولذلك نجده قد أوغل في الصور البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز أيّما تفصيل، ولم يغفل الحديث عن الجناس والسجع والطباق، وقد ذكرها لبيان مزيتها وحسنها عندما يطلبها المعنى».
ويبدو أن الإمام عبد القاهر قد أقدم على تأليف «أسرار البلاغة» بعد تأليفه لكتاب «دلائل الإعجاز» الذي سما إلى العلياء، وناطح الجوزاء شكلاً ومضموناً والذي نشأ وترعرع تحت كنف القرآن الذي دوّن فيه نظريته عن النظم، ساطعاً فيه بأن إعجاز القرآن الكريم يكمن في نظمه وليس في فصاحته، وكان المنهج الذي اتخذه في تأليف «الدلائل» هو «أن يكرر ويعيد الحديث عن النظم، ويكثر من الأمثلة والشرح ليقرب الفكرة ويقنع بها الناس مع ذكر الدليل تلو الدليل في وضوح لإثبات أنّ القرآن معجز في نفسه، وأنه معجز في كل زمان ومكان، ويناقش مذهب القائلين بالصرفة ويبطل حججهم بالأدلة العقلية والنقلية من القرآن الكريم والشعر الرصين». أما كتابه «أسرار البلاغة» فهو بحث خالص في موضوعات علم البيان، بالإضافة إلى بعض ألوان من البديع هي: الجناس والسجع والطباق.