نقوس المهدي
كاتب
من يطالع كتابه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء»، لا يغرب عن باله قيمة حازم القرطاجني واستراتيجية تحليله البلاغي، باعتباره عالماً باللغة والمنطق والعروض والشعر، إنه يأتي إلينا من مكانٍ آخر، وهو يقدم نظريّةً للقصيدة ككلّ، متأثِّراً بآراء فلاسفة المسلمين وموسيقيّيهم الذين نقلوا عن أرسطو وغيره آراءهم في الشعر وبلاغته وموسيقاه، في عصرٍ خفّت فيه خصومة المحدثين والقدماء، وبدا عنصر التخييل «دالاً أكبر» في التعريف الشعري الجديد عند العرب. وعلى حد تعبير عبد الرحمن بدوي، فإنه أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرض لتطبيقها في كتب البلاغة العربية الخالصة، فلأول مرة نجد في كتاب لأحد علماء البلاغة العربية الخُلَّص- غير الفلاسفة – عرضا وإفادة من نظريات أرسطو في البلاغة والشعر واستقصاءً بالغاً لها باهتمام وحسن فهم، ورغبة في التطبيق على البلاغة العربية والشعر العربي.
وإذا قصرنا نظرنا على رؤيته لمسائل العروض وإيقاع الشعر، فإنه أولى اهتمامه لإيقاع التناسب بين عناصر القصيدة، إذ أدخل التناسب في نسيج تصوُّره للوزن والإيقاع. يقول: «الشعر كلامٌ موزونٌ مقفّى، من شأنه أن يحبّب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه، أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصوّرة بحسن هيئة تأليف الكلام». ينفتح حازم القرطاجني في تعريفه للشعر على مدوّنة النقاد القدماء والفلاسفة ممّن تناولوا مفهوم الشعر وطبيعته، مرتكزاً على عنصري الوزن والمحاكاة في فهمه للقول الشعري ووظيفته. الوزن وحده لا يكفي لبناء الشعريّة، إلا إذا توافرت معه، وبحافزٍ منه، مُقدّمات الأثر الشعري، ولاسيما التناسب.
تأويل التناسب
ينتبِهُ حازم إلى خاصية التناسب التي تتولد من الوزن، وتساهم بكيفية جدلية مخصوصة في تنظيم البناء اللغوي للشعر، وشدّ المتلقي إليه. ونحن لا نشكّك في أن وعيه بالتناسب وقيمته في اللحن، كما في الشعر وأوزانه، وما يقوم به من دور إيجاد الملاءمة بين الأصوات من عدمها، إنما هو حصيلة تأثُّره بقراءة فيثاغورس وأتباعه الذين أشاعوا نظرية النسبة والتناسب العددي والنغمي بخواصّها وأعراضها وعناصرها الهندسية والمنطقية المتنوعة، من استقامة وإبدال وقلب وعكس وسواها، على غرار من سبقه من العلماء في الشعر والموسيقى والسماع، من أمثال الكندي والطوسي والحسن بن أحمد الكاتب وابن زيلة وصفيّ الدين الأرموي.
ففي نظره «كلّما وردت أنواع الشيء وضروبه مترتّبة على نظامٍ مُتشاكل وتأليفٍ مُتناسب، كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح له». فالتناسب، أو التشاكل بمعنى آخر، يتولّد من العناصر المتقابلة، ابتداء من الأصوات اللغوية المفردة، وانتهاء بالتراكيب المبنية على نسقٍ معيّنٍ في صورة تَناظُريّة تتيحها المتواليات الوزنية مع نسق آخر. يحدد حازم، هنا، جملة من القواعد التحويلية التي يترتّب عنها ذلك، مثل الحذف، والإضافة، والإبدال، والتعديل، والتقديم وغيرها في تفاعُلِ العناصر اللغويّة وتماسِّها من خلال «إسكان متحرك أو تحريك ساكن، أو زيادة في اللفظ أو نقص منه، أو عدل صيغة إلى أخرى، أو تقديم وتأخير، أو إبدال لفظة مكان أخرى، أو اجتماع أكثر من واحد من هذه التغييرات».
فإذن، من خلال التناسب – صوتيّاً وتركيبيّاً – ينشأ الإيقاع مُصاحباً بإلتذاذٍ وتعجيبٍ مُحرِّكين لنفس السامع، وكلّما كان هناك تنوُّعٌ في تشكيل الوزن والتباعد بين العناصر المتماثلة كان ذلك أخفّ على النفس وأبلغ أثراً فيها، لأنّ «النفس في النقلة من بعض الكلمة المتنوعة المجاري إلى بعض على قانون محدود راحةً شديدةً واستجداداً لنشاط السمع بالنقلة من حال إلى حال». فالمُقصِّدون من الشعراء، في نظره، هم من اقتدروا على تعليق بعض المعاني ببعض، و»اعتمدوا في القصائد أن يقسِّموا الكلام فيها إلى فصول ينحى بكلّ فصل منها منحى من المقاصد.. فالراحة حاصلة بها لافتتان الكلام في شتى مذاهبه المعنوية وضروب مبانيه النظمية. وبهذا التنوع في تتابع العناصر المتناسبة، يخلو الكلام من الكزازة أو السباطة بحسب اصطلاحاته.
هذا هو السبب في إلحاح حازم على التناسب في تصوُّره للوزن والإيقاع، بدءاً من الحروف التي إذا حسنت حسنت الفصول، وإذا كان كلُّ فصلٍ متناسباً في ذاته فينبغي أن يكون متناسباً مع غيره، فيرى أن تكون «متناسبة المسموعات والمفهومات حسنة الاطّراد غير متخاذلة النسج غير متميز بعضه من بعض، التميز الذي يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه لا يشمله وغيرَه من الأبيات بنية لفظية أو معنوية يتنزّل بها منه منزلة الصدر من العجز أو العجز من الصدر». ثُمّ تتدرَّج الفصول ويعقب ثانيها أوّلها كما لو كُنّا، بالفعل، نصعد أدراج القصيدة ونشتبك بسداها ولحمتها «كأنّها عِقْدٌ مُتّصل. تناسبُ حازم، هنا، تدرُّجيٌّ ترتيبيٌّ يصل فصول القصيدة بأمشاج الدّلالة ومواقع النفس منها: «أن يقدم من الفصول ما يكون للنفس به عناية بحسب الغرض المقصود بالكلام ويكون مع ذلك مُتأتياً حسب العبارة اللائقة بالمبدأ. ويتلوه الأهمّ فالأهمّ إلى أن تتصور التفاتة ونسبة بين فصلين تدعو إلى تقديم غير الأهم على الأهم. فهناك يترك القانون الأصلي في الترتيب. وتقديم الفصول القصار على الطوال أحسن من أن يكون الأمر بالعكس».
من ترتيب بيوت الفصل الواحد إلى ترتيب الفصول والموالاة بين بعضها بعضا وترتيب ما يقع فيها، يضع حازم يده على مضايق الكلام، فينبّه إلى الوعي بطرائقه وحيله الشكلية ـ الفنّية، حتّى لا يختلَّ نسق الكلام ولا يظهر التباين في أجزاء النظام. من هنا، يتّسع مفهوم البناء، عنده، ليشمل جميع صُعُد القصيدة الصوتية والتركيبية والدلالية، وذلك يظهر من بحثه في قواعد الصناعة النظمية وفق تصوُّرٍ في النظم يتجاوز معاني النحو المحصورة في حدود الجملة كما عند الجرجاني، إلى مجال أوسع يستوعب مفهوم الشعر بوصفه تَخْييلاً.
الخلفيّة الموسيقية للعروض
وهو يُقرّر قوانين بناء القصيدة، كان حازم يستدعي قواعد الموسيقى بالنظر إلى ما تتطلّبه القصيدة بوصفها معماراً إيقاعيّاً، من أطوار البداية والوسط والنهاية، أو القرار والتنمية والمحطّ، ومن تدرُّج النغمات وترتيبها، وما يحدث عبرها من انتقالاتٍ وطفرات متنوِّعة، كما يظهر ذلك في تحليله لقصيدة المتنبي التي يقول في مطلعها:
أُغالبُ فيكَ الشّوْقَ، والشّوْقُ أَغْلبُ وأعْجبُ مِنْ ذا الهَجْر، والوَصْلُ أَعْجَبُ
من هنا، أمكننا أن نفهم أنّ التناسب شرط الإيقاع، وهو يعني الوحدة ضمن التنوُّع. ولنا أن نسوق هذه الجملة من تجلّيات التناسب عند حازم، وهي: تناسب الألفاظ في الأصوات، والتناسب بين الكلمات والعبارات، وتناسب العبارات مع بعضها، والتناسب بين الدلالات في التركيب سواءً كان بين الألفاظ بعضها مع بعض أو العبارات والجمل، ثمّ التناسب بالصور مع بعضها بعضا، ومن نتاج هذه التجليّات يحدث التناسب الإيقاعي عابراً في اللغة والمعاني المقصودة، وذلك «بحسب إيقاع الحيل الشعريّة»، التي يعتمدها الشاعر لإنهاض النفوس سلباً أو إيجاباً.
ليس التناسب عند حازم، والحالة هذه، بعيداً عن الوعي بالأثر النّفسي، والإيقاعي رأساً، في مثل هذه الأبنية، وإلا لما كان منشغلاً تمام الانشغال بالتأثير الذي يُحْدثه الكلام الشعري في نفس السامع، كلّما جدّد حديثه عن التنويع في انتقال الشاعر من فصل إلى فصل، ومن حال إلى حال، ومن غرض إلى غرض. ولما كان مهتمّاً بمطالع القصائد التي يشترط فيها أن تكون «سالمة من الخرم، غير مفتقرة إلى ما قبلها»، ولا مهتمّاً ـ من جهةٍ أخرى ـ بوحدة البيت الشعري قدر اهتمامه بالقافية وبناء البيت عليها «مستقلة منفصلة عما بعدها أو متصلة به». ويمكن أن نزعم بأنَّ تصوُّره لعلم العروض مبنيٌّ على أساس التناسب، العددي والهندسي، ولهذا، تتخلّل كتابه نظراتٌ من علم الموسيقى ومفاهيمها، مثل حديثه عن القطر والركن والمقدار والزمان والأقدام. وعليه، يُفرّق حازم بين العَرُوض كقالبٍ نظريٍّ ثابت، والوزن بوصفه «زمان» المقادير المتساوية الذي يلحقه التغيير تبعاً لتجربة الإيقاع المعبّر عنه في القصيدة، وإن كان مفهوم الإيقاع يدلُّ عليه بأحد لوازمه (المقدار، الزمان، الأرجل).
ترتيباً على ذلك، نفهم مُسْتدركه في كثيرٍ من مبادئ العروض بفروعه الصغرى والكبرى معاً، من منظور استراتيجيّةٍ مُخالفةٍ لتصوّرات الخليل بن أحمد وتلامذته. لقد وجّه تحليله للعروض على أنّه معرفةٌ بـ«مجاري الأوزان وأبنيتها»، و«بما وقعَ في أوزان الشعر من ضروب التركيبات المتلائمة وأنواع الترتيبات المُناسبة»، و«بمقادير تناسب الأوزان وما يَسوغُ فيها من التغايير»، منفتحاً على علم البلاغة الذي وجد أنّ العروضيّين ظلّوا «فقراء» إليه لـ»تصحيح أصول صناعتهم»، فقاده ذلك إلى الوقوف على فهم المبدأ الذي يتحكّمُ بآليّات التشكيل الوزني ـ الإيقاعي وضروب تركيباته المتنوّعة على نحْوٍ من ذلك الوضع المتناسب والمُلذّ، وهو يقول: «وإنّما استعملت العرب من جميع ذلك ما خفّ وتناسب ولا يوجد أصلاً في ضروب التركيبات والوضع الذي للحركات والسكنات والأجزاء المؤتلفة من ذلك أفضلُ ممّا وضعته العرب من الأوزان». نكتشف من مثل هذا الفهم أنّه كان مُطّلعاً على صناعة الموسيقى، التي أفادته في تبيان الفروق الدقيقة بين الوحدات الوزنية، بين فعولات وفاعلات، وفعولن وفاعلن تمثيلاً.
لهذا السبب، لم يفُتْه أن يُقرّ بأنّ نظام الوزن في الشعر العربي يجري على وضْعٍ مُتناسبٍ يظهر في ترتيب شطري البيت ونهايتيه، العروض والضرب، وما يوحي به الفراغ بينهما من مراعاة الزمان الجاري بعدد الحركات والسكنات وقدرها المتساوي: يغدو الوزن عنده، بهذا المعنى، رديفاً للإيقاع. ورأى حازم أنَّهُ كلّما كان الاعتماد على السواكن وحفظ نظام الوزن بانبثاثها أثناء متحرّكاته بشكل مناسب لا نشاز أو اختلال فيه، طاب الكلام واعتدل، وبالتّالي اشتدّ ولع النفس به وتعجُّبها منه. وتلك «من الوجوه التي حسّنت موقع الكلام الموزون من النفس».
وفي هذا الاعتبار، أعاد بناء الدوائر العروضية على تقدير التجزئة المناسبة لها، وأعاد تسمية وحدات البيت الشعري، وأضاف إلى الخُماسي والسُّباعي جُزْءاً آخر هو التُّساعي (مُسْتَفْعِلاتُنْ) الذي نتج، في نظره، عن معرفة جهات التناسب في تأليف بعض المسموعات إلى بعضٍ وترتيبها. كما خالف الخليل بن أحمد في تركيب أو تجزئة جملة من البحور الشعرية كالمقتضب، والسريع، والمنسرح، مُعلِّلاً ذلك بأنّ البحور يجب أن تتركَّب أجزاؤها بـ «تناسب». أما بالنسبة إلى القافية، فقد أوجب «ألّا يوقع فيها إلّا ما يكون له موقعٌ من النفس بحسب الغرض»، وإلّا شغلت عن الالتفات إليه في موضع ليس من مثله في البيت «أشدّ تلبُّساً بعناية النفس»، وهو ما جعله يستحسن أن تكون القافية «غير مفتقرة إلى ما بعدها ولا مفتقرٌ ما بعدها إليها»، ويعيب – بالنتيجة- ما يصطلح عليه بالتضمين الذي هو «افتقار أوّل البيتين إلى الآخر»، بِمُسوِّغ أنَّ «تتمّة معناه في ضمن الآخر»، غير أنّ القبح في التضمين قد يقلّ أو يكثر بحسب شدّة الافتقار أو ضعفه، وأشدّ الافتقار، في نظره، هو افتقار بعض أجزاء الكلمة إلى بعض. وقد قاده ذلك إلى الكشف عن أحوال الطرق الجارية لبناء القافية في مذاهب الشعراء، فرأى أن المختار منها عندهم هو ما كان من «بناء البيت بأسره على القافية إذا لم يحتج فيه إلى مناسبة متقدّم، أو إذا احتيج وتيسّر وجه المناسبة»، إلا أنَّه وجد في بناء أكثر البيت على القافية ممّا «يقع فيه التكلُّف كثيراً»، ووجد أنّ أشدّ المآخذ في التكلُّف هو ما بُنِيَ أكثر البيت على أوّله ثُمّ استؤنف بعد ذلك النظر في القافية.
يربط القرطاجني مناقشته لبناء القافية بمدى ارتباطه بالمعنى وتطلُّبه إيَّاه بما يتأتّى له من حسن النّظْم، قائلاً: «إذ لكلّ معنى معانٍ تُناظره وتنتسب إليه على جهاتٍ من المماثلة والمناسبة والمخالفة والمضادّة والمشابهة والمقاسمة. فإذا وُضِع المعنى في القافية أو ما يلي القافية وحاول أن يُقابله ويجعل بإزائه في الصدر معنى على واحدٍ من هذه الأنحاء لم يبعد عليه أن يجد في المعاني ما يكون له علقةٌ بمعنى القافية وانتسابٌ إليه من بعض هذه الجهات، وعلقةٌ بما تقدّم من معنى البيت الذي قَبْله، أو بأنْ يقدّم على المعنى المقابل لمعنى القافية ما يكون له علقة بما تقدّم، يبني نظمه متلائماً بهذا». وليس عيباً أن يُلتجأ إلى «حِـيَلٍ» لطيفة لبناء القافية، شأن ذلك من يبني صدور الأبيات على أعجازها على وضْعٍ يليق بما تقدّمه ويناسبه، «ومن كان من شأنه أن يبني أواخر الأبيات على أوائلها فإنَّه يتطلَّب معنى يُناسب ما تقدّم ويمكن في عبارته مع ذلك أن يتأتّى في ما لا يُلائم تلك القافية منها أن تُؤخّر فتكون القافية، وكثيراً ما تتبع معانيَ من شأنُه هذا ألفاظُه في القوافي، وذلك عَيْب» .
وإجمالاً، فقد كان فهم حازم القرطاجني في مسائل العروض وإيقاع الشعري متقدّماً عن عصره، وهو يفوق بأشواط ما كانت عليه النظرية التقليدية للإيقاع التي استحوذ عليها العروض بقياساته الثابتة وشروحاته التي كانت تحجب أكثر مما تكشف.
وإذا قصرنا نظرنا على رؤيته لمسائل العروض وإيقاع الشعر، فإنه أولى اهتمامه لإيقاع التناسب بين عناصر القصيدة، إذ أدخل التناسب في نسيج تصوُّره للوزن والإيقاع. يقول: «الشعر كلامٌ موزونٌ مقفّى، من شأنه أن يحبّب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه، أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصوّرة بحسن هيئة تأليف الكلام». ينفتح حازم القرطاجني في تعريفه للشعر على مدوّنة النقاد القدماء والفلاسفة ممّن تناولوا مفهوم الشعر وطبيعته، مرتكزاً على عنصري الوزن والمحاكاة في فهمه للقول الشعري ووظيفته. الوزن وحده لا يكفي لبناء الشعريّة، إلا إذا توافرت معه، وبحافزٍ منه، مُقدّمات الأثر الشعري، ولاسيما التناسب.
تأويل التناسب
ينتبِهُ حازم إلى خاصية التناسب التي تتولد من الوزن، وتساهم بكيفية جدلية مخصوصة في تنظيم البناء اللغوي للشعر، وشدّ المتلقي إليه. ونحن لا نشكّك في أن وعيه بالتناسب وقيمته في اللحن، كما في الشعر وأوزانه، وما يقوم به من دور إيجاد الملاءمة بين الأصوات من عدمها، إنما هو حصيلة تأثُّره بقراءة فيثاغورس وأتباعه الذين أشاعوا نظرية النسبة والتناسب العددي والنغمي بخواصّها وأعراضها وعناصرها الهندسية والمنطقية المتنوعة، من استقامة وإبدال وقلب وعكس وسواها، على غرار من سبقه من العلماء في الشعر والموسيقى والسماع، من أمثال الكندي والطوسي والحسن بن أحمد الكاتب وابن زيلة وصفيّ الدين الأرموي.
ففي نظره «كلّما وردت أنواع الشيء وضروبه مترتّبة على نظامٍ مُتشاكل وتأليفٍ مُتناسب، كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح له». فالتناسب، أو التشاكل بمعنى آخر، يتولّد من العناصر المتقابلة، ابتداء من الأصوات اللغوية المفردة، وانتهاء بالتراكيب المبنية على نسقٍ معيّنٍ في صورة تَناظُريّة تتيحها المتواليات الوزنية مع نسق آخر. يحدد حازم، هنا، جملة من القواعد التحويلية التي يترتّب عنها ذلك، مثل الحذف، والإضافة، والإبدال، والتعديل، والتقديم وغيرها في تفاعُلِ العناصر اللغويّة وتماسِّها من خلال «إسكان متحرك أو تحريك ساكن، أو زيادة في اللفظ أو نقص منه، أو عدل صيغة إلى أخرى، أو تقديم وتأخير، أو إبدال لفظة مكان أخرى، أو اجتماع أكثر من واحد من هذه التغييرات».
فإذن، من خلال التناسب – صوتيّاً وتركيبيّاً – ينشأ الإيقاع مُصاحباً بإلتذاذٍ وتعجيبٍ مُحرِّكين لنفس السامع، وكلّما كان هناك تنوُّعٌ في تشكيل الوزن والتباعد بين العناصر المتماثلة كان ذلك أخفّ على النفس وأبلغ أثراً فيها، لأنّ «النفس في النقلة من بعض الكلمة المتنوعة المجاري إلى بعض على قانون محدود راحةً شديدةً واستجداداً لنشاط السمع بالنقلة من حال إلى حال». فالمُقصِّدون من الشعراء، في نظره، هم من اقتدروا على تعليق بعض المعاني ببعض، و»اعتمدوا في القصائد أن يقسِّموا الكلام فيها إلى فصول ينحى بكلّ فصل منها منحى من المقاصد.. فالراحة حاصلة بها لافتتان الكلام في شتى مذاهبه المعنوية وضروب مبانيه النظمية. وبهذا التنوع في تتابع العناصر المتناسبة، يخلو الكلام من الكزازة أو السباطة بحسب اصطلاحاته.
هذا هو السبب في إلحاح حازم على التناسب في تصوُّره للوزن والإيقاع، بدءاً من الحروف التي إذا حسنت حسنت الفصول، وإذا كان كلُّ فصلٍ متناسباً في ذاته فينبغي أن يكون متناسباً مع غيره، فيرى أن تكون «متناسبة المسموعات والمفهومات حسنة الاطّراد غير متخاذلة النسج غير متميز بعضه من بعض، التميز الذي يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه لا يشمله وغيرَه من الأبيات بنية لفظية أو معنوية يتنزّل بها منه منزلة الصدر من العجز أو العجز من الصدر». ثُمّ تتدرَّج الفصول ويعقب ثانيها أوّلها كما لو كُنّا، بالفعل، نصعد أدراج القصيدة ونشتبك بسداها ولحمتها «كأنّها عِقْدٌ مُتّصل. تناسبُ حازم، هنا، تدرُّجيٌّ ترتيبيٌّ يصل فصول القصيدة بأمشاج الدّلالة ومواقع النفس منها: «أن يقدم من الفصول ما يكون للنفس به عناية بحسب الغرض المقصود بالكلام ويكون مع ذلك مُتأتياً حسب العبارة اللائقة بالمبدأ. ويتلوه الأهمّ فالأهمّ إلى أن تتصور التفاتة ونسبة بين فصلين تدعو إلى تقديم غير الأهم على الأهم. فهناك يترك القانون الأصلي في الترتيب. وتقديم الفصول القصار على الطوال أحسن من أن يكون الأمر بالعكس».
من ترتيب بيوت الفصل الواحد إلى ترتيب الفصول والموالاة بين بعضها بعضا وترتيب ما يقع فيها، يضع حازم يده على مضايق الكلام، فينبّه إلى الوعي بطرائقه وحيله الشكلية ـ الفنّية، حتّى لا يختلَّ نسق الكلام ولا يظهر التباين في أجزاء النظام. من هنا، يتّسع مفهوم البناء، عنده، ليشمل جميع صُعُد القصيدة الصوتية والتركيبية والدلالية، وذلك يظهر من بحثه في قواعد الصناعة النظمية وفق تصوُّرٍ في النظم يتجاوز معاني النحو المحصورة في حدود الجملة كما عند الجرجاني، إلى مجال أوسع يستوعب مفهوم الشعر بوصفه تَخْييلاً.
الخلفيّة الموسيقية للعروض
وهو يُقرّر قوانين بناء القصيدة، كان حازم يستدعي قواعد الموسيقى بالنظر إلى ما تتطلّبه القصيدة بوصفها معماراً إيقاعيّاً، من أطوار البداية والوسط والنهاية، أو القرار والتنمية والمحطّ، ومن تدرُّج النغمات وترتيبها، وما يحدث عبرها من انتقالاتٍ وطفرات متنوِّعة، كما يظهر ذلك في تحليله لقصيدة المتنبي التي يقول في مطلعها:
أُغالبُ فيكَ الشّوْقَ، والشّوْقُ أَغْلبُ وأعْجبُ مِنْ ذا الهَجْر، والوَصْلُ أَعْجَبُ
من هنا، أمكننا أن نفهم أنّ التناسب شرط الإيقاع، وهو يعني الوحدة ضمن التنوُّع. ولنا أن نسوق هذه الجملة من تجلّيات التناسب عند حازم، وهي: تناسب الألفاظ في الأصوات، والتناسب بين الكلمات والعبارات، وتناسب العبارات مع بعضها، والتناسب بين الدلالات في التركيب سواءً كان بين الألفاظ بعضها مع بعض أو العبارات والجمل، ثمّ التناسب بالصور مع بعضها بعضا، ومن نتاج هذه التجليّات يحدث التناسب الإيقاعي عابراً في اللغة والمعاني المقصودة، وذلك «بحسب إيقاع الحيل الشعريّة»، التي يعتمدها الشاعر لإنهاض النفوس سلباً أو إيجاباً.
ليس التناسب عند حازم، والحالة هذه، بعيداً عن الوعي بالأثر النّفسي، والإيقاعي رأساً، في مثل هذه الأبنية، وإلا لما كان منشغلاً تمام الانشغال بالتأثير الذي يُحْدثه الكلام الشعري في نفس السامع، كلّما جدّد حديثه عن التنويع في انتقال الشاعر من فصل إلى فصل، ومن حال إلى حال، ومن غرض إلى غرض. ولما كان مهتمّاً بمطالع القصائد التي يشترط فيها أن تكون «سالمة من الخرم، غير مفتقرة إلى ما قبلها»، ولا مهتمّاً ـ من جهةٍ أخرى ـ بوحدة البيت الشعري قدر اهتمامه بالقافية وبناء البيت عليها «مستقلة منفصلة عما بعدها أو متصلة به». ويمكن أن نزعم بأنَّ تصوُّره لعلم العروض مبنيٌّ على أساس التناسب، العددي والهندسي، ولهذا، تتخلّل كتابه نظراتٌ من علم الموسيقى ومفاهيمها، مثل حديثه عن القطر والركن والمقدار والزمان والأقدام. وعليه، يُفرّق حازم بين العَرُوض كقالبٍ نظريٍّ ثابت، والوزن بوصفه «زمان» المقادير المتساوية الذي يلحقه التغيير تبعاً لتجربة الإيقاع المعبّر عنه في القصيدة، وإن كان مفهوم الإيقاع يدلُّ عليه بأحد لوازمه (المقدار، الزمان، الأرجل).
ترتيباً على ذلك، نفهم مُسْتدركه في كثيرٍ من مبادئ العروض بفروعه الصغرى والكبرى معاً، من منظور استراتيجيّةٍ مُخالفةٍ لتصوّرات الخليل بن أحمد وتلامذته. لقد وجّه تحليله للعروض على أنّه معرفةٌ بـ«مجاري الأوزان وأبنيتها»، و«بما وقعَ في أوزان الشعر من ضروب التركيبات المتلائمة وأنواع الترتيبات المُناسبة»، و«بمقادير تناسب الأوزان وما يَسوغُ فيها من التغايير»، منفتحاً على علم البلاغة الذي وجد أنّ العروضيّين ظلّوا «فقراء» إليه لـ»تصحيح أصول صناعتهم»، فقاده ذلك إلى الوقوف على فهم المبدأ الذي يتحكّمُ بآليّات التشكيل الوزني ـ الإيقاعي وضروب تركيباته المتنوّعة على نحْوٍ من ذلك الوضع المتناسب والمُلذّ، وهو يقول: «وإنّما استعملت العرب من جميع ذلك ما خفّ وتناسب ولا يوجد أصلاً في ضروب التركيبات والوضع الذي للحركات والسكنات والأجزاء المؤتلفة من ذلك أفضلُ ممّا وضعته العرب من الأوزان». نكتشف من مثل هذا الفهم أنّه كان مُطّلعاً على صناعة الموسيقى، التي أفادته في تبيان الفروق الدقيقة بين الوحدات الوزنية، بين فعولات وفاعلات، وفعولن وفاعلن تمثيلاً.
لهذا السبب، لم يفُتْه أن يُقرّ بأنّ نظام الوزن في الشعر العربي يجري على وضْعٍ مُتناسبٍ يظهر في ترتيب شطري البيت ونهايتيه، العروض والضرب، وما يوحي به الفراغ بينهما من مراعاة الزمان الجاري بعدد الحركات والسكنات وقدرها المتساوي: يغدو الوزن عنده، بهذا المعنى، رديفاً للإيقاع. ورأى حازم أنَّهُ كلّما كان الاعتماد على السواكن وحفظ نظام الوزن بانبثاثها أثناء متحرّكاته بشكل مناسب لا نشاز أو اختلال فيه، طاب الكلام واعتدل، وبالتّالي اشتدّ ولع النفس به وتعجُّبها منه. وتلك «من الوجوه التي حسّنت موقع الكلام الموزون من النفس».
وفي هذا الاعتبار، أعاد بناء الدوائر العروضية على تقدير التجزئة المناسبة لها، وأعاد تسمية وحدات البيت الشعري، وأضاف إلى الخُماسي والسُّباعي جُزْءاً آخر هو التُّساعي (مُسْتَفْعِلاتُنْ) الذي نتج، في نظره، عن معرفة جهات التناسب في تأليف بعض المسموعات إلى بعضٍ وترتيبها. كما خالف الخليل بن أحمد في تركيب أو تجزئة جملة من البحور الشعرية كالمقتضب، والسريع، والمنسرح، مُعلِّلاً ذلك بأنّ البحور يجب أن تتركَّب أجزاؤها بـ «تناسب». أما بالنسبة إلى القافية، فقد أوجب «ألّا يوقع فيها إلّا ما يكون له موقعٌ من النفس بحسب الغرض»، وإلّا شغلت عن الالتفات إليه في موضع ليس من مثله في البيت «أشدّ تلبُّساً بعناية النفس»، وهو ما جعله يستحسن أن تكون القافية «غير مفتقرة إلى ما بعدها ولا مفتقرٌ ما بعدها إليها»، ويعيب – بالنتيجة- ما يصطلح عليه بالتضمين الذي هو «افتقار أوّل البيتين إلى الآخر»، بِمُسوِّغ أنَّ «تتمّة معناه في ضمن الآخر»، غير أنّ القبح في التضمين قد يقلّ أو يكثر بحسب شدّة الافتقار أو ضعفه، وأشدّ الافتقار، في نظره، هو افتقار بعض أجزاء الكلمة إلى بعض. وقد قاده ذلك إلى الكشف عن أحوال الطرق الجارية لبناء القافية في مذاهب الشعراء، فرأى أن المختار منها عندهم هو ما كان من «بناء البيت بأسره على القافية إذا لم يحتج فيه إلى مناسبة متقدّم، أو إذا احتيج وتيسّر وجه المناسبة»، إلا أنَّه وجد في بناء أكثر البيت على القافية ممّا «يقع فيه التكلُّف كثيراً»، ووجد أنّ أشدّ المآخذ في التكلُّف هو ما بُنِيَ أكثر البيت على أوّله ثُمّ استؤنف بعد ذلك النظر في القافية.
يربط القرطاجني مناقشته لبناء القافية بمدى ارتباطه بالمعنى وتطلُّبه إيَّاه بما يتأتّى له من حسن النّظْم، قائلاً: «إذ لكلّ معنى معانٍ تُناظره وتنتسب إليه على جهاتٍ من المماثلة والمناسبة والمخالفة والمضادّة والمشابهة والمقاسمة. فإذا وُضِع المعنى في القافية أو ما يلي القافية وحاول أن يُقابله ويجعل بإزائه في الصدر معنى على واحدٍ من هذه الأنحاء لم يبعد عليه أن يجد في المعاني ما يكون له علقةٌ بمعنى القافية وانتسابٌ إليه من بعض هذه الجهات، وعلقةٌ بما تقدّم من معنى البيت الذي قَبْله، أو بأنْ يقدّم على المعنى المقابل لمعنى القافية ما يكون له علقة بما تقدّم، يبني نظمه متلائماً بهذا». وليس عيباً أن يُلتجأ إلى «حِـيَلٍ» لطيفة لبناء القافية، شأن ذلك من يبني صدور الأبيات على أعجازها على وضْعٍ يليق بما تقدّمه ويناسبه، «ومن كان من شأنه أن يبني أواخر الأبيات على أوائلها فإنَّه يتطلَّب معنى يُناسب ما تقدّم ويمكن في عبارته مع ذلك أن يتأتّى في ما لا يُلائم تلك القافية منها أن تُؤخّر فتكون القافية، وكثيراً ما تتبع معانيَ من شأنُه هذا ألفاظُه في القوافي، وذلك عَيْب» .
وإجمالاً، فقد كان فهم حازم القرطاجني في مسائل العروض وإيقاع الشعري متقدّماً عن عصره، وهو يفوق بأشواط ما كانت عليه النظرية التقليدية للإيقاع التي استحوذ عليها العروض بقياساته الثابتة وشروحاته التي كانت تحجب أكثر مما تكشف.