نقوس المهدي
كاتب
«المقامة ارهاصة ليست للقصة فحسب، وانما للنقد والمسرح والمقالة وفنون اخرى» كما يراها الدكتور عباس مصطفى الصالحي في كتابه (البناء الفني للمقامة العربية في العصر العباسي) الصادر مؤخرا عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، ضمن سلسلة (الموسوعة الصغيرة).
وتناول المؤلف بشيء من التركيز (مقامات الهمذاني) لكونها المحاولة الرائدة في هذا المجال، متلمساً الخطوط العريضة التي انتهجها الهمذاني في بناء عمله الفني هذا، ثم انتقل الى (مقامات الحريري) الذي قام بترصين هذا الفن بناء واسلوبا، الامر الذي شجع على انتشارها في اقطار الوطن العربي والعالم الاسلامي خلال حياته، فصارت المقامة على يديه عملاً ناضجاً حسب رأي الصالحي، بينما لجأ غيره الى مماحكات لغوية وتعقيدات اسلوبية، كما فعل ابن الصيقل الجزري، او كتابة انماط اخرى كما فعل الزمخشري وابن الجوزي وابن الوردي والسيوطي.
ويشير المؤلف الى ان (المقامة) وردت في الشعر الجاهلي، ولكن بمفاهيم اخرى، فهي المجلس والسادة كما وردت في (لسان العرب). وقد بدأت (المقامة) لغويا تتخذ مفهومها الفني الهمذاني في القرن الرابع، وذكر ابن قتيبة مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك. وللصوفية (مقامات) ايضا مثل (التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والرضا والتوكل). والمقام معناه: مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات. وشرطه ان لا يرتقي من مقام الى مقام ما لم يستوف احكام ذلك المقام، كما يذكر معجم المصطلحات الصوفية.
ولم يكن الهمذاني فريدا في ميدان (المقامات)، فقد تصدى للكتابة في هذا الفن آخرون، واقربهم الى عصر الهمذاني ابو نصر عبد العزيز بن عمر السعدي، وابو القاسم عبد الله بن ناقيا الذي طبعت له تسع مقامات، بطلها اليشكري، ورواتها متعددون.
ويجد المؤلف ان الكاتب الفذ الذي يعود اليه الفضل في انتشار هذا الفن هو ابو محمد القاسم بن علي الحريري البصري.. واذا تجاوزنا العصر العباسي قليلاً، سنظفر بواحد ممن حاكى الحريري وهو ابن الصيقل الجزري الذي فرغ من (المقامات الزينية) وهي خمسون مقامة نسبها الى ابن نصر المصري، ورواها القاسم بن جريال الدمشقي، وموضوعاتها (الكدية، والادب، واللغة والفقه والطب والاحتيال واللصوصية). وقد درسها وحققها المؤلف ونال بها شهادة الدكتوراه في كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1974، وصدرت طبعتها عن دار المسيرة ببيروت عام .1980 لقد خرجت من المقامات الادبية الوان اخرى ذات اتجاه مختلف يمتاز بالصدق ووحدة الموضوع، ولكنها ابتعدت عن الكثير من خصائص البنية المقامية، ومنها ما نسب الى الغزالي من مقامات.. ثم كتب ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مقامات ليس فيها راو ولا بطل، وانما يبدأها بمخاطبة نفسه بكنيته، ثم يحرر في الاتجاه نفسه ابو الفرج عبد الرحمن المشهور بابن الجوزي، اما التيار الاخر الذي انبثق عن المقامات الادبية في قرون تلت العصر العباسي، فقد تمثل بمقامات ابن الوردي، وهي في عمومها اشبه بمقالات ادبية تعالج مسائل فكرية او قضايا عامة، مما جعله يميل نحو الترسل الذي لا يحفل بالصنعة اللفظية.
ويرى المؤلف ان (مقامات الهمذاني) قد بنيت بتخطيط مسبق، فلم يكن الهمذاني في اثناء كتابتها اسير العفوية منساقاً وراء قلمه، بل ادرك بثاقب بصيرته اجواء المجتمع الذي يعيشه، فهو كان في مجتمع يعاني من اصطراع وتضارب ادى الى الانفلات تارة، والى الانضباط تارة اخرى، بسبب انفتاح المجتمع على شعوب وامم شتى لم ينحرف الهمذاني مع تيارها، بل عقد العزم على معالجة ما اورثته هذه الاجواء من شتات فكري وتمزق اجتماعي واهتزاز في القيم والعوائد والمفاهيم التي افرزت شخوصا قلقة ضالة تحت وطأة الشعور بالتجاهل والانسحاق، كأبي فتح، الذي صار رمزا لشرائح واسعة في ذلك المجتمع، فاتخذه الهمذاني بطلا لمقاماته، ونصب معه (عيسى بن هشام) راوياً يلاحقه، مرافقاً ومؤنباً ومسلطاً الاضواء على تصرفاته، ما بطن منها وما ظهر.
و(مقامات الهمذاني) تعد النموذج الرائد في بناء الفن عبر مسيرته الطويلة التي ابتدأت في العصر العباسي في اواسط القرن الرابع الهجري، حتى العصر الحديث. وقد كانت هذه المقامات ذات اسلوب يضاهي الشعر سحراً وبياناً، زاخرة بالصور الرائعة التي برع في تخطيطها. ولتحسس بديع الزمان الهمذاني مجالات الانحراف في مجتمعه جعل عشرين مقامة منها مسرحا للكدية والاحتيال. وكان للنقد الاجتماعي فيها نصيب ايضا، مثلما كان لادب المقامة حضور واضح فيها.. وللالغاز التي كانت شائعة في عصرهم حظيت بمقامين هما (المغزلية) و (الصفرية).
ويخلص المؤلف الى القول بان مقامات الهمذاني نوع مكثف من انواع الادب. اما (مقامات الحريري) فهي خمسون مقامة صنفها ابو محمد القاسم بن علي الحريري البصري من اعلام القرن الخامس ـ السادس الهجري، وقد نسبت اكثر هذه المقامات الى المدن كالصنعانية والحلوانية والكوفية وغيرها، ونسبت ايضا الى النقد كالدينارية، ومسألة فقهية كالفرضية او الالغاز كاللغزية. كما نسبت الى نوع من الانشاء كالقهقرية والرقطاء، والى الشعر كالشعرية، والى علم كالنحوية، او جماعة كالفراتية والبدوية والساسانية، او الى موسم كالشتوية.. وفي ذلك لم يخرج الحريري عن النهج الذي سلكه الهمذاني في هذا المجال، وقد التزم الحريري بمعلمة اخرى من معالم المقامات. فجعل لمقاماته راويا سماه الحارث بن همام البصري، وبطلاً اسمه «ابو زيد المروجي».
ويجد المؤلف ان مضامين مقامات الحريري حملت عددا من الفنون في احشائها، ومن هذه الفنون القصة والمسرحية والنقد والمقالة والخطبة والوعظية.
وفي باب (المقامات الوعظية) يقدم المؤلف دراسة شاملة لمقامات الزمخشري التي تمثل تيارا مختلفا من المقامات، لخلوها من الراوي والبطل والرحلة والاغتراب والحوار والمفاجآت، وتكون الموضوعات والمواقف فيها مكرسة اساسا للوعظ، ومقامات ابن الجوزي التي تمثل مجموعة من النصوص ذات الدلالات العميقة في مجالات المعارف الدينية والحقائق الالهية. وقد انعكس حفظ ابن الجوزي للقرآن الكريم على اسلوبه، فاقتبس منه كثيرا اقتباسا بارعا وضمن مقاماته اشعارا وامثالا لا تحصى زيادة على التلميح بحوادث التاريخ وقصص الغابرين، مما يفيد موعظة ويزيد اعتبارا.
وحين نوازن بين القصيدة والمقامة نجد فيهما نقاط تشابه ونقاط اختلاف، منها (المستهل) و(الرحلة) و(النهاية) و(الوزن والقافية) و(التخفي والظهور).
وتناول المؤلف بشيء من التركيز (مقامات الهمذاني) لكونها المحاولة الرائدة في هذا المجال، متلمساً الخطوط العريضة التي انتهجها الهمذاني في بناء عمله الفني هذا، ثم انتقل الى (مقامات الحريري) الذي قام بترصين هذا الفن بناء واسلوبا، الامر الذي شجع على انتشارها في اقطار الوطن العربي والعالم الاسلامي خلال حياته، فصارت المقامة على يديه عملاً ناضجاً حسب رأي الصالحي، بينما لجأ غيره الى مماحكات لغوية وتعقيدات اسلوبية، كما فعل ابن الصيقل الجزري، او كتابة انماط اخرى كما فعل الزمخشري وابن الجوزي وابن الوردي والسيوطي.
ويشير المؤلف الى ان (المقامة) وردت في الشعر الجاهلي، ولكن بمفاهيم اخرى، فهي المجلس والسادة كما وردت في (لسان العرب). وقد بدأت (المقامة) لغويا تتخذ مفهومها الفني الهمذاني في القرن الرابع، وذكر ابن قتيبة مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك. وللصوفية (مقامات) ايضا مثل (التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والرضا والتوكل). والمقام معناه: مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات. وشرطه ان لا يرتقي من مقام الى مقام ما لم يستوف احكام ذلك المقام، كما يذكر معجم المصطلحات الصوفية.
ولم يكن الهمذاني فريدا في ميدان (المقامات)، فقد تصدى للكتابة في هذا الفن آخرون، واقربهم الى عصر الهمذاني ابو نصر عبد العزيز بن عمر السعدي، وابو القاسم عبد الله بن ناقيا الذي طبعت له تسع مقامات، بطلها اليشكري، ورواتها متعددون.
ويجد المؤلف ان الكاتب الفذ الذي يعود اليه الفضل في انتشار هذا الفن هو ابو محمد القاسم بن علي الحريري البصري.. واذا تجاوزنا العصر العباسي قليلاً، سنظفر بواحد ممن حاكى الحريري وهو ابن الصيقل الجزري الذي فرغ من (المقامات الزينية) وهي خمسون مقامة نسبها الى ابن نصر المصري، ورواها القاسم بن جريال الدمشقي، وموضوعاتها (الكدية، والادب، واللغة والفقه والطب والاحتيال واللصوصية). وقد درسها وحققها المؤلف ونال بها شهادة الدكتوراه في كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1974، وصدرت طبعتها عن دار المسيرة ببيروت عام .1980 لقد خرجت من المقامات الادبية الوان اخرى ذات اتجاه مختلف يمتاز بالصدق ووحدة الموضوع، ولكنها ابتعدت عن الكثير من خصائص البنية المقامية، ومنها ما نسب الى الغزالي من مقامات.. ثم كتب ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مقامات ليس فيها راو ولا بطل، وانما يبدأها بمخاطبة نفسه بكنيته، ثم يحرر في الاتجاه نفسه ابو الفرج عبد الرحمن المشهور بابن الجوزي، اما التيار الاخر الذي انبثق عن المقامات الادبية في قرون تلت العصر العباسي، فقد تمثل بمقامات ابن الوردي، وهي في عمومها اشبه بمقالات ادبية تعالج مسائل فكرية او قضايا عامة، مما جعله يميل نحو الترسل الذي لا يحفل بالصنعة اللفظية.
ويرى المؤلف ان (مقامات الهمذاني) قد بنيت بتخطيط مسبق، فلم يكن الهمذاني في اثناء كتابتها اسير العفوية منساقاً وراء قلمه، بل ادرك بثاقب بصيرته اجواء المجتمع الذي يعيشه، فهو كان في مجتمع يعاني من اصطراع وتضارب ادى الى الانفلات تارة، والى الانضباط تارة اخرى، بسبب انفتاح المجتمع على شعوب وامم شتى لم ينحرف الهمذاني مع تيارها، بل عقد العزم على معالجة ما اورثته هذه الاجواء من شتات فكري وتمزق اجتماعي واهتزاز في القيم والعوائد والمفاهيم التي افرزت شخوصا قلقة ضالة تحت وطأة الشعور بالتجاهل والانسحاق، كأبي فتح، الذي صار رمزا لشرائح واسعة في ذلك المجتمع، فاتخذه الهمذاني بطلا لمقاماته، ونصب معه (عيسى بن هشام) راوياً يلاحقه، مرافقاً ومؤنباً ومسلطاً الاضواء على تصرفاته، ما بطن منها وما ظهر.
و(مقامات الهمذاني) تعد النموذج الرائد في بناء الفن عبر مسيرته الطويلة التي ابتدأت في العصر العباسي في اواسط القرن الرابع الهجري، حتى العصر الحديث. وقد كانت هذه المقامات ذات اسلوب يضاهي الشعر سحراً وبياناً، زاخرة بالصور الرائعة التي برع في تخطيطها. ولتحسس بديع الزمان الهمذاني مجالات الانحراف في مجتمعه جعل عشرين مقامة منها مسرحا للكدية والاحتيال. وكان للنقد الاجتماعي فيها نصيب ايضا، مثلما كان لادب المقامة حضور واضح فيها.. وللالغاز التي كانت شائعة في عصرهم حظيت بمقامين هما (المغزلية) و (الصفرية).
ويخلص المؤلف الى القول بان مقامات الهمذاني نوع مكثف من انواع الادب. اما (مقامات الحريري) فهي خمسون مقامة صنفها ابو محمد القاسم بن علي الحريري البصري من اعلام القرن الخامس ـ السادس الهجري، وقد نسبت اكثر هذه المقامات الى المدن كالصنعانية والحلوانية والكوفية وغيرها، ونسبت ايضا الى النقد كالدينارية، ومسألة فقهية كالفرضية او الالغاز كاللغزية. كما نسبت الى نوع من الانشاء كالقهقرية والرقطاء، والى الشعر كالشعرية، والى علم كالنحوية، او جماعة كالفراتية والبدوية والساسانية، او الى موسم كالشتوية.. وفي ذلك لم يخرج الحريري عن النهج الذي سلكه الهمذاني في هذا المجال، وقد التزم الحريري بمعلمة اخرى من معالم المقامات. فجعل لمقاماته راويا سماه الحارث بن همام البصري، وبطلاً اسمه «ابو زيد المروجي».
ويجد المؤلف ان مضامين مقامات الحريري حملت عددا من الفنون في احشائها، ومن هذه الفنون القصة والمسرحية والنقد والمقالة والخطبة والوعظية.
وفي باب (المقامات الوعظية) يقدم المؤلف دراسة شاملة لمقامات الزمخشري التي تمثل تيارا مختلفا من المقامات، لخلوها من الراوي والبطل والرحلة والاغتراب والحوار والمفاجآت، وتكون الموضوعات والمواقف فيها مكرسة اساسا للوعظ، ومقامات ابن الجوزي التي تمثل مجموعة من النصوص ذات الدلالات العميقة في مجالات المعارف الدينية والحقائق الالهية. وقد انعكس حفظ ابن الجوزي للقرآن الكريم على اسلوبه، فاقتبس منه كثيرا اقتباسا بارعا وضمن مقاماته اشعارا وامثالا لا تحصى زيادة على التلميح بحوادث التاريخ وقصص الغابرين، مما يفيد موعظة ويزيد اعتبارا.
وحين نوازن بين القصيدة والمقامة نجد فيهما نقاط تشابه ونقاط اختلاف، منها (المستهل) و(الرحلة) و(النهاية) و(الوزن والقافية) و(التخفي والظهور).