نقوس المهدي
كاتب
كان الموحدون في حاجة إلى دعم الفلاسفة لإنجاز ثورتهم الثقافية التي كانت ترتكز على عملية نقدية واسعة النطاق في فهم الدين والتعامل معه، وفي خلق نقاش داخل المجتمع يضع حداً لاستئثار الفقهاء بالرأي ويفسح المجال لأساليب ومذاهب أخرى من التفكير. وكانت النتيجة أن برزت اتجاهات في الحياة الفكرية. لم يضطهد الموحدون فقهاء المالكية ولم يستغنوا عنهم، إذ نجد عدداً منهم مقربين إلى الدولة. لكن برز المذهب الموحدي، وبذلت جهود في سبيل التعريف به وتدريسه، وبرز المذهب الظاهري الذي ربما كان الخلفاء الموحدون يتعاطفون معه، وظهر الاتجاه الصوفي الذي سيعرف تنامياً مطرداً في القرن السادس، وظهر الاتجاه الفلسفي والعقلاني الذي نلحظ آثاره في ازدهار عدد من العلوم. بحيث يمكن القول إن الموحدين، برغم تشبثهم بمذهبهم، تميزوا بنوع من تفتح الفكر والتسامح، في وقت كان فيه مثل هذا المفهوم غير وارد.
ولذا نجد عبد المومن يستدعي ابن رشد، وهو مازال في طور الشباب، إلى الحضور بجانبه عند إقدامه على تأسيس بعض المعاهد بمراكش في سنة 548/1153، فهل دعاه بقصد الاستشارة أم بقصد إشراكه في التدريس؟ لا تجيبنا المصادر على هذا السؤال، والذي يلفت النظر هو هذا الامتياز الذي حظي به الفيلسوف من لدن أول خليفة موحدي. وعند تولي أبي يعقوب يوسف الخلافة، كان إلى جانبه الفيلسوف ابن طفيل بصفته طبيباً وفيلسوفاً ومستشاراً ونديماً، حتى قيل إنه لربما كان يتحلى بصفة الوزير، وقال عنه عبدالواحد المراكشي: "وأن أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له، بلغني أنه يقيم في القصر عنده أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر".
وكذلك الشأن بالنسبة لابن رشد الذي دعي لبلاط أبي يعقوب يوسف، الذي قابله بكل ما ينبغي من العطف والتشجيع، وكلفه بشرح نصوص أرسطو الفلسفية. وعبارة "المعجب" تبين مدى اهتمام هذا الخليفة بالفلسفة. يقول المراكشي راويا عن ابن رشد ذاته: "استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً، فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة".
واستمر نفس الموقف في عهد يعقوب المنصور، ولربما اعترض علينا بما حصل لابن رشد من نكبة على يده، والواقع أن كلمة نكبة التي استعملها بعض المؤرخين ربما كانت كبيرة، كل ما هنالك أن المنصور، لأسباب سياسية طارئة وظروف خاصة، اضطر لإرضاء الفئات المعادية للفيلسوف، والتظاهر بالغضب عليه وإبعاده لمدة عن قرطبة؛ ومن المعروف عن المنصور أنه كان ذا حس سياسي قوي يضطره إلى تغيير مواقفه والتعرض للتناقض في سلوكه.
فهو مع عقيدة المهدي وهو ضدها، وهو مع الصالحين والأولياء، وهو مع الفقهاء، ولو كان ساخطاً في قرارة نفسه على ابن رشد لحاكمه محاكمة قاسية قد تنتهي بإعدامه، كما حدث لمفكرين آخرين من قبل بالمشرق والمغرب، ولكن المنصور كرئيس دولة وكرجل سياسي لم يجد بداً، وهو في الأندلس، من إرضاء فئة من العلماء والفقهاء على حساب ابن رشد، دون أن يشتد في القساوة على هذا الأخير؛ فلما رجع إلى مراكش، كما يقول "المعجب"، "نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه".
يتضح من كل ذلك أن الاتجاه الحقيقي للدولة الموحدية، على الأقل في عهد ازدهارها، كان منصباً على رعاية الفلسفة والعلوم البحتة وتقريب أصحابها، بل إن بعض خلفائها، وبخاصة يوسف بن عبد المومن، ساهموا شخصياً في تثبيت هذا الاتجاه، ويكفي أن ننظر إلى الصورة التي رسمها لنا المراكشي عن هذا الخليفة:
"وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة سخياً وجواداً، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الأموال، هذا مع إيثار للعلم شديد، وتعطش إليه مفرط، صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، ـ الشك مني ـ إما البخاري أو مسلم، وأغلب ظني أنه البخاري، حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن. هذا مع ذكر جمل من الفقه، وكان له مشاركة في علم الأدب واتساع في حفظ اللغة وتبحر في علم النحو حسبما تقدم، ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيراً من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، فاستظهر من الكتاب المعروف "بالملكي" أكثره، مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل، ثم تخطى ذلك إلى ماهو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي".
إذن، وجدت الفلسفة والعلوم البحثة حماية فعلية من لدن الموحدين، الذين اهتموا بها اهتمام الإطلاع والتذوق واقتربوا منها فكرياً، فأتمموا ما بدأه المرابطون الذين كانت رعايتهم تنصب على الفلسفة كأشخاص أكثر مما كانت تنصب على الفلسفة والتنويه بها. يكفي أن نقرأ ما قاله عنها عبد الواحد المراكشي في تضاعيف كتابه.
يتضح لنا من خلال هاته النظرة العجلى أن دور المغرب في عهد الدولتين المرابطية والموحدية كان حاسماً في إخراج الفلسفة من السجن الذي كانت مضطرة إلى الانزواء في ظلماته أثناء العهود السابقة بالأندلس، وفي بروز أكبر الأعلام الذين يعتز بهم الأندلس والغرب الإسلامي بوجه عام في هذا الميدان؛ ولكن ذلك الدور لم يقف عند هذا الحد، بل أتى ثماره، وحتى إذ تورع الناس أمام الملأ عن التعاطي إلى الفلسفة، فقد احتفظوا من المنهاج الفلسفي بتوجيهاته وتخطيطاته في تناول عدد من القضايا في ميادين مختلفة، واتجهوا إلى دراسة عدد من العلوم التي تتوقف على العقل مثل علم الكلام وعلم الأصول.
* دراسات في الحضارة الإسلامية وثقافة الغرب الإسلامي، بتصرف،
محمد زنيبر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية
ولذا نجد عبد المومن يستدعي ابن رشد، وهو مازال في طور الشباب، إلى الحضور بجانبه عند إقدامه على تأسيس بعض المعاهد بمراكش في سنة 548/1153، فهل دعاه بقصد الاستشارة أم بقصد إشراكه في التدريس؟ لا تجيبنا المصادر على هذا السؤال، والذي يلفت النظر هو هذا الامتياز الذي حظي به الفيلسوف من لدن أول خليفة موحدي. وعند تولي أبي يعقوب يوسف الخلافة، كان إلى جانبه الفيلسوف ابن طفيل بصفته طبيباً وفيلسوفاً ومستشاراً ونديماً، حتى قيل إنه لربما كان يتحلى بصفة الوزير، وقال عنه عبدالواحد المراكشي: "وأن أمير المؤمنين أبو يعقوب شديد الشغف به والحب له، بلغني أنه يقيم في القصر عنده أياماً ليلاً ونهاراً لا يظهر".
وكذلك الشأن بالنسبة لابن رشد الذي دعي لبلاط أبي يعقوب يوسف، الذي قابله بكل ما ينبغي من العطف والتشجيع، وكلفه بشرح نصوص أرسطو الفلسفية. وعبارة "المعجب" تبين مدى اهتمام هذا الخليفة بالفلسفة. يقول المراكشي راويا عن ابن رشد ذاته: "استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً، فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة".
واستمر نفس الموقف في عهد يعقوب المنصور، ولربما اعترض علينا بما حصل لابن رشد من نكبة على يده، والواقع أن كلمة نكبة التي استعملها بعض المؤرخين ربما كانت كبيرة، كل ما هنالك أن المنصور، لأسباب سياسية طارئة وظروف خاصة، اضطر لإرضاء الفئات المعادية للفيلسوف، والتظاهر بالغضب عليه وإبعاده لمدة عن قرطبة؛ ومن المعروف عن المنصور أنه كان ذا حس سياسي قوي يضطره إلى تغيير مواقفه والتعرض للتناقض في سلوكه.
فهو مع عقيدة المهدي وهو ضدها، وهو مع الصالحين والأولياء، وهو مع الفقهاء، ولو كان ساخطاً في قرارة نفسه على ابن رشد لحاكمه محاكمة قاسية قد تنتهي بإعدامه، كما حدث لمفكرين آخرين من قبل بالمشرق والمغرب، ولكن المنصور كرئيس دولة وكرجل سياسي لم يجد بداً، وهو في الأندلس، من إرضاء فئة من العلماء والفقهاء على حساب ابن رشد، دون أن يشتد في القساوة على هذا الأخير؛ فلما رجع إلى مراكش، كما يقول "المعجب"، "نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه".
يتضح من كل ذلك أن الاتجاه الحقيقي للدولة الموحدية، على الأقل في عهد ازدهارها، كان منصباً على رعاية الفلسفة والعلوم البحتة وتقريب أصحابها، بل إن بعض خلفائها، وبخاصة يوسف بن عبد المومن، ساهموا شخصياً في تثبيت هذا الاتجاه، ويكفي أن ننظر إلى الصورة التي رسمها لنا المراكشي عن هذا الخليفة:
"وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة سخياً وجواداً، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الأموال، هذا مع إيثار للعلم شديد، وتعطش إليه مفرط، صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، ـ الشك مني ـ إما البخاري أو مسلم، وأغلب ظني أنه البخاري، حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن. هذا مع ذكر جمل من الفقه، وكان له مشاركة في علم الأدب واتساع في حفظ اللغة وتبحر في علم النحو حسبما تقدم، ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيراً من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، فاستظهر من الكتاب المعروف "بالملكي" أكثره، مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل، ثم تخطى ذلك إلى ماهو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي".
إذن، وجدت الفلسفة والعلوم البحثة حماية فعلية من لدن الموحدين، الذين اهتموا بها اهتمام الإطلاع والتذوق واقتربوا منها فكرياً، فأتمموا ما بدأه المرابطون الذين كانت رعايتهم تنصب على الفلسفة كأشخاص أكثر مما كانت تنصب على الفلسفة والتنويه بها. يكفي أن نقرأ ما قاله عنها عبد الواحد المراكشي في تضاعيف كتابه.
يتضح لنا من خلال هاته النظرة العجلى أن دور المغرب في عهد الدولتين المرابطية والموحدية كان حاسماً في إخراج الفلسفة من السجن الذي كانت مضطرة إلى الانزواء في ظلماته أثناء العهود السابقة بالأندلس، وفي بروز أكبر الأعلام الذين يعتز بهم الأندلس والغرب الإسلامي بوجه عام في هذا الميدان؛ ولكن ذلك الدور لم يقف عند هذا الحد، بل أتى ثماره، وحتى إذ تورع الناس أمام الملأ عن التعاطي إلى الفلسفة، فقد احتفظوا من المنهاج الفلسفي بتوجيهاته وتخطيطاته في تناول عدد من القضايا في ميادين مختلفة، واتجهوا إلى دراسة عدد من العلوم التي تتوقف على العقل مثل علم الكلام وعلم الأصول.
* دراسات في الحضارة الإسلامية وثقافة الغرب الإسلامي، بتصرف،
محمد زنيبر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية