نقوس المهدي
كاتب
الملخص
يصعب علی الباحثين الإلمام بالعصر العباسي من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك لأن هذا العصر يمتد من عام 132 هـ إلی 656 هـ ويعتبر من أطول العصور السياسية التاريخية للعرب کما أن هذا العصر شهد تقلبات کثيرة ما يجعل الإحاطة به صعبا ناهيك عن ضياع بعض المعلومات الهامة بعد الهجوم المغولي علی الدولة العباسية وبعد أن رمی المغول بالکتب المصنفة في ذلک العصر إلی مياه الدجلة.
ولکن يمکن الإشارة إلی بعض الجوانب الثقافية من خلال الأدب والشعر الذي يمثل هذا الجانب من الحياة الإنسانية خير تمثيل.وهذا المقال يلقي ضوءا طفيفا علی الناحية الثقافية للعصر العباسي الأول ( 132م - 233 ).
الکلمات الدليلية: العصر العباسی، الثقافة، الفکر، الأدب، الترجمة.
التمهيد
قبل أن ندخل في هذا البحث لنوضّح كيفية الحياة الثقافية فى العصر العباسي الأوّل، يجب علينا أن نشير إلى الحياة العقلية قبيل الثورة، علما بأنّ الثورة التي أسقطت الدولة الأموية وأنشأت الدولة العباسية، كانت نتيجة لِلتطور العقلي من قبل؛ بمعنى أنّ الذى دعا إلى انحطاط بنى أمية وإلى ظهور الدولة الجديدة، هو بعينه تلك الحياة العقلية التي نسميّها عادة، الحياة العقلية العباسية؛ والحال أنّه لم ينشأ قيام بني العباس الحياة العقلية الجديدة وإنما الحياة الجديدة هي التى أقامت الدولة العبّاسية، وفي الحقيقه العصر العبّاسي هو أثر من آثار الحياة العقلية الجديده التي نشأت عنها ثورة عقلية وتفتّقت عنها ثورة سياسية، حتى قضت على الدولة الأموية.
وأثّرت تلك الثورة بدورها فى تنمية الحياة العقلية والعلمية والأدبية، حتى تفتّحت أجوائها؛ والسبب هو يرجع إلى اتّساع الجو وامتزاج ثقافات متعددّة التي أثرّت تأثيرا مباشرا على سير حركة الفكر والعلم والأدب فى العصر العّباسي الأوّل؛ والسبب الآخر هو تشجيع الخلفاء حركة الترجمة والنقل.
فشاعت فى تلك الأيام الثقافة العربية الإسلامية، كما انتشرت الثقافة اليونانية والثقافة الهندية ولاسيّما الثقافة الإيرانية بفصل المدارس والترجمات، وتشجيع الخلفاء، كما يقول جرجي زيدان: «يمتاز العصر العبّاسى الأوّل بأن من تولّى فيه عرش بغداد كان من الخلفاء العلماء، فرغبوا في العلم وإجلاس العلماء والأدباء وسهّلوا نزوحهم إليهم وأجروا الأرزاق عليهم وبالغوا في إكرامهم وقرّبوهم وجالسوهم وآكلوهم وحادثوهم وعولّوا على آرائهم. فلم يبق ذو قريحة أو علم وأدب إلّا يمّم دار السلام ونال جائزة أو هدية أو راتبا… وخلفاء العصر العباسى الأوّل من أكثر الملوك رغبةً فى العلم.»
والثّقافة الايرانية لعبت دوراً مهما في تلك الحقبة من الزّمن، وفي الحقيقة كانت الدولة العباسية على أكتاف الإيرانيين من النّاحية السيّاسية ومن الناحية الثقافية. وتوغّل الايرانيّون فى صلب الدولة العباسيِة.
فكان منهم القواد والوزراء والحجّاب والولاة والكتاب، «وكان للوزراء الفرس تأثير كبير في تلك النهضة. والفرس أهل مدنية قديمة، وكانوا يومئذٍ في نهضة علمية بدأت من زمن كسرى أنو شروان»
وأوّل من قام بدور الوزير «أبو سلمة الخلال وقد وزّر للخليفة أبي العباس السفّاح، ثم تلاه أبو أيّوب المورياني وقد وزّره الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور. ووزّر للمهدي يعقوب بن داوود ووزّر للرشيد يحيى بن خالد البرمكي وولده جعفر ووزّر للمأمون الحسن بن سهل؛ ولهم فضل كبير فى نشر الثقافة الايرانية».
فلا غرابة أن تأخذ الدولة العباسيّة وجها فارسيا في حياتها السياسية وفى حياتها الثقافية. وقامَ بتشديد هذا الوجه انتقال عاصمة الخلافة من الشام إلى العراق فى مدينة جديدة بناها المنصور وسمّاها بغداد، بجوار مدائن كسرى؛ إثر هذا التوغل أدخل الإيرانيون في نظام الخلافة، سياسة الحكم المطلق وجعلوا قصور الخلفاء فى بغداد أشبه بقصور الأكاسرة في المدائن كما أدخلوا في التنظيمات الإدارية الأنظمة المتّبعة في التنظيمات الفارسية ونرى هذه الظاهرة بوضوح كامل فى الدواوين، ونظام الحكم، وأسلوب الحرب والحياة الاجتماعية والأكل والشرب واللبس، كما بدلت مراسيم الأعياد، مجالس اللهو واللعب.
وأصبحت بغداد مركزا ثقافيا متقدما «ولم يكن مجدها إلا مناسبا مع درجة تقدّم الامبراطورية التي كانت هي عاصمتها». وعندما صارت بغداد الخلافة واشتدّ هذا الوجه الفارسي وامتد اللسان الأعجمي بألفاظ غريبة عن اللغُة العربية، التصقت بالغناء وآلات الطرب والمأكل والملبس وأنواع الزينة ويقول الجاحط: «ودولة بنى العباس أعجمية خراسانية».
وأصبحت حاجة المسلمين فى هذا العصر شديدة إلى الانفتاح على تراث الأمم المتطورّة وقداهتمّ الخلفاء العبّاسيون بترجمة جوانب مهمّة ممّا كانوا يحتاجون إليه في الشؤون السياسيّة والاجتماعية والطّب والفلك والنجوم والرّياضيات والفلسفة والمعارف والعلوم الأخرى. ولم يقتصر الأمر على تشجيع الخلفاء فحسب، فقد كان الاهتمام عاما وشاملاً بين فئات الناس في بغداد و البصرة و الكوفة وسائر أرجاء الامبراطورية الإسلامية. والسبب هو اتّساع الحياة العقلية التي ذكرناها والتي هي أدّت إلى ثورة سياسية. وممّا يؤيد هذا الكلام إنما نجد لدى مختلف العلماء المسلمين اطلاعا واسعا على مناهج البحث وأساليبه عند الأمم المختلفة ولاسيما الفرس واليونان.
فلم تمض مدة طويلة من الزمن استطاع المسلمون فيها أن ينقلوا جوانب عديدة من تراث الأمم المختلفة؛ تلك الجوانب المعروفة التي كانت فى مجالات العادات، والفلسفيات، والعلوم، والصناعات والمعارف عامةً، ممّا كان له الأثر البالغ فى نشأة اليقظه الفكرية إبّان هذا العصر، حيث ازدهرت إلى حّد لم تكن مقصورة على العلوم النقليّة وإنما تجاوزتها لتشمل فروع الثقافة والمدنية الشائعة آنذاك.
ومضى المترجمون يمارسون نشاطهم فى أماكن مختلفة ومراكز متبانية وكانت الترجمة قائمة بصورة رئيسية فى أديرة المسيحية وكذلك الكنائس التي نشأ فيها بعض الثقافات اليونانية وأشهر هذه المراكز: «الإسكندرية وجندي سابور وحرّان ونصيبين والرها» وأوّل من فتح باب الترجمة واعتنى به هو المنصور العباسي كما يقول المسعودى: " أوّل خليفة ترجم له كتب من اللغات الأعجمية إلى العربية ومنها كتاب " كليلة ودمنة" و"السند والهند" وكتب ارسطاطاليس بمجالاتها المختلفة كالمنطق والفلسفة وترجم أيضا له كتاب " المجسطي" لبطليموس وكتاب " الأرثماطيقى" وكتاب اقليدس، هو المنصور" وقد أصاب الترجمة شىء من الفتور بعد وفات المنصور حتى عصر الرشيد إلى أن نشأت الترجمة وتطورت برعاية الرشيد والبرامكة. وقدأسّس الرشيد خزانة الحكمة وجعلها مركزا للترجمة.
وقد غنم المسلمون فى هذه الفترة مخطوطات كثيرة أثناء غاراتهم على بلاد الروم خاصّة " أنقره" و" عمّورية" وبادروا إلى ترجمتها إلى العربية. كما شجّع البرامكة حركة الترجمة، بترجمة الكتب الهندية، ونقلت الأفكار الوثنية والدهرية والتناسخية إلى الثقافة العربية الإسلامية، التي كان لها الأثر الكبير فى المجالات الفكرية والعقائدية. وفى هذه الفترة أيضا ترجمت بعض الكتب فى مجال الزراعة ليحيى بن خالد البرمكي. ثم نجد البرامكة قد اهتمّوا بترجمة التراث الفارسي. وقد نقلت نماذج كثيرة فى الأدب والأخلاق وبعض القصص والحكايات مثل " ألف ليلة وليلة" و" سير الملوك" إلى العربية. ومن أشهر المترجمين فى مجال التراث الفارسي إلى العربية هم عبدالله بن مقفّع وآل نوبخت وموسى ويونس ابنا خالد واسحق بن يزيد وآل سهل وبنو شاكر وبنو موسى والبلاذري والفزاري.
تأثّر الأدباء والكتّاب فى كتاباتهم، ببعض الأفكار الفارسية المستمدة من الكتب المترجمة على يد ابن المقفّع وأمثاله ممّن ذكرناهم. وقد ظهر أثر السلوك الفارسي فى الإكثار من شرب الخمر والإقبال على الملذّات والغناء. وإذا كان هذا يشكّل خطرا مؤكدا على الخُلق الإسلامي الذي يدعو إلى المحافظة على الشخصية الإنسانية، فقد ظهر سلوك الزهد، ليتدارك خطر السلوك الأوّل ويحدُّ من الخراف الناس وفسقهم، بالتوجيه والإرشاد والدعوة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله. بدأ التيّار الفارسى جليا واضحا فى العادات والتقاليد العربية، حين «أصبح عيد النيروز، من الأعياد التي يحتفل بها العرب ويذكرونها فى تآليفهم ومدوناتهم .
وصار ينسبُ كلّ عمل فكري إلى النهضة الفارسية وآدابها. وهناك من ادّعى أنّ العرب الكتاب - إن وجدوا - فهم في الأصل من جذور فارسية وما كادت الثقافة الفارسية تنشر ملامحها الثقافية على الوجه العربي.
حتّى بدأت الثقافة الهندية تدخل رويدا رويدا إلى الحياة الإسلامية عن طريق بلاد فارس المحكمة الاتّصال بالعرب حيث التجارة المزدهرة والتأثير الفكري والفتح الإسلامي. تناول الجاحظ المؤثّرات الهندية فى الفكر العربى فيقول عن الهند: «إنها اشتهرت بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطلب، والخرط والنجر والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة. والقصص الهندي واضح الأثر فى بعض الأعمال العربية مثل: " كليلة ودمنة" " السندباد" " ملك الهند القتّال" و" السبّاح"، مع الكثير من الحِكَم التي ترجمت من الهندية إلى العربية." وتأتي الثقافة اليونانية فى المرتبة الثالثة، من حيث تأثر العرب بها. وكثرت الترجمة من اليونانية فى أيام الخليفة هارون الرشيد بتشجيع من وزيره المثقّف جعفر البرمكي.
وترجمت كتب كثيرة فى الطب. ولعّل السبب فى البداية بالترجمات، فى نطاق كتب الطب، يرجع إلى صلة أطبّاء جندي سابور بالخلفاء العباسيين. «فإنّ الخليفة العبّاسى المنصور قد استدعى جبريل بن بختيشوع ليكون طبيبا له. وظلّت أسرة بختيشوع الطبيّة قائمة مع ملوك بنى العباس وحين تولّى المأمون الخلافة، أنشأ بيت الحكمة معهدا للترجمة والنقل ونصب عليه حنين بن اسحق واسحق بن حنين وقد ترجمت شوامخ الكتب اليونانية إلى العربية وأشهرها كتاب «التنجيم» لبطليموس. ومن أشهر المترجمين من اليونانية والسريانيه هم ابن بختيشوع الذي كان من السريان والنساطرة ونقل كتبا كثيرة فى الطب؛ وحنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين اللذان نقلا كتبا كثيرة من السريانية إلى العربية»
وهذه الترجمات الفارسية والهندية واليونانية «كلّها كانت رافدة فكرية تصبُّ في معين الحقل الإسلامى الذي كان متطلّما إلى المعرفة، توّاقا إليها. ومن ثمّ لم يلبث الحقل الإسلامى إلا قليلاً حتى أضيف إلى معلومات هذه الأمم وارتقى بعلومها فى أتم صورة وأدقّها لكافّة طبقات الشعُب بكّل فئاته وأنواعه، سواء فى الكتاتيب والمساجد، أو المكتبات والدكاكين التابعة للورّاقين، وكانت الأموال تنفق لوضع العلم والأدب. " فازدهرت حركة التأليف ورواج التصنيف العلمى في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم والرياضيات ولمعت أسماءُ من العلماء الثقاة بقيت حتّى يومنا هذا مصادرُ يُرجع إليها في كلّ دراسة أو بحث. وقد تعطّرت الحياة العباسيّة بنفحة تلك النّسيمات الأعجمية. فأصبحت اللغة العربية قويّةً دقيق البناء، سهلة المنال، تطاوع إرادة الكتاب للتّعبير عمّا يجول بالخاطر والعقل والنفس ضمن آراء فلسفية علياء. وصارت لغة التخاطب الأدبي في أقطار مترامية الأطراف، تمتدّ من أواسط آسيا إلى شمالي افريقيا فالأندلس."
«ومن ميزات هذا العصر إطلاق الفكر من قيود التقليد، إلا مايمسّ الدولة أو الخلافة. ولذلك فقد تعدّدت البدع الدينية فى أيامهم من المجوس وغيرهم من الأفكار الوثنية وما إلى ذلك، غير الفرق الإسلامية وتعدادها؛ فكانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية، لا يكره الرجل على معتقده أو مذهبه، فربّما عدة إخوة فى بيت واحد وكلّ منهم على مذهب» النتيجة
کان العصر العباسي الأول ( 132هـ - 233هـ ) من العصور الذهبية لتنمية الفکر العربي وبسبب نقل العلوم المختلفة من اللغات المختلفة إلی اللغة العربية.وذلک لأن حاجة المسلمين أصبحت فى هذا العصر شديدة إلى الانفتاح على تراث الأمم المتطورّة وقداهتمّ الخلفاء العبّاسيون بترجمة جوانب مهمّة ممّا كانوا يحتاجون إليه في الشؤون السياسيّة والاجتماعية والطّب والفلك والنجوم والرّياضيات والفلسفة والمعارف والعلوم الأخرى. ولم يقتصر الأمر على تشجيع الخلفاء فحسب، فقد كان الاهتمام عاما وشاملاً بين فئات الناس في بغداد و البصرة و الكوفة وسائر أرجاء الامبراطورية الإسلامية. والسبب هو اتّساع الحياة العقلية التي أدّت إلى ثورة سياسية. وممّا يؤيد هذا الكلام إنما نجد لدى مختلف العلماء المسلمين اطلاعا واسعا على مناهج البحث وأساليبه عند الأمم المختلفة ولاسيما الفرس واليونان.
ملاحظة
سيد إبراهيم آرمن: أستاذ محاضر بجامعة آزاد الإسلامية في رودهن
يصعب علی الباحثين الإلمام بالعصر العباسي من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك لأن هذا العصر يمتد من عام 132 هـ إلی 656 هـ ويعتبر من أطول العصور السياسية التاريخية للعرب کما أن هذا العصر شهد تقلبات کثيرة ما يجعل الإحاطة به صعبا ناهيك عن ضياع بعض المعلومات الهامة بعد الهجوم المغولي علی الدولة العباسية وبعد أن رمی المغول بالکتب المصنفة في ذلک العصر إلی مياه الدجلة.
ولکن يمکن الإشارة إلی بعض الجوانب الثقافية من خلال الأدب والشعر الذي يمثل هذا الجانب من الحياة الإنسانية خير تمثيل.وهذا المقال يلقي ضوءا طفيفا علی الناحية الثقافية للعصر العباسي الأول ( 132م - 233 ).
الکلمات الدليلية: العصر العباسی، الثقافة، الفکر، الأدب، الترجمة.
التمهيد
قبل أن ندخل في هذا البحث لنوضّح كيفية الحياة الثقافية فى العصر العباسي الأوّل، يجب علينا أن نشير إلى الحياة العقلية قبيل الثورة، علما بأنّ الثورة التي أسقطت الدولة الأموية وأنشأت الدولة العباسية، كانت نتيجة لِلتطور العقلي من قبل؛ بمعنى أنّ الذى دعا إلى انحطاط بنى أمية وإلى ظهور الدولة الجديدة، هو بعينه تلك الحياة العقلية التي نسميّها عادة، الحياة العقلية العباسية؛ والحال أنّه لم ينشأ قيام بني العباس الحياة العقلية الجديدة وإنما الحياة الجديدة هي التى أقامت الدولة العبّاسية، وفي الحقيقه العصر العبّاسي هو أثر من آثار الحياة العقلية الجديده التي نشأت عنها ثورة عقلية وتفتّقت عنها ثورة سياسية، حتى قضت على الدولة الأموية.
وأثّرت تلك الثورة بدورها فى تنمية الحياة العقلية والعلمية والأدبية، حتى تفتّحت أجوائها؛ والسبب هو يرجع إلى اتّساع الجو وامتزاج ثقافات متعددّة التي أثرّت تأثيرا مباشرا على سير حركة الفكر والعلم والأدب فى العصر العّباسي الأوّل؛ والسبب الآخر هو تشجيع الخلفاء حركة الترجمة والنقل.
فشاعت فى تلك الأيام الثقافة العربية الإسلامية، كما انتشرت الثقافة اليونانية والثقافة الهندية ولاسيّما الثقافة الإيرانية بفصل المدارس والترجمات، وتشجيع الخلفاء، كما يقول جرجي زيدان: «يمتاز العصر العبّاسى الأوّل بأن من تولّى فيه عرش بغداد كان من الخلفاء العلماء، فرغبوا في العلم وإجلاس العلماء والأدباء وسهّلوا نزوحهم إليهم وأجروا الأرزاق عليهم وبالغوا في إكرامهم وقرّبوهم وجالسوهم وآكلوهم وحادثوهم وعولّوا على آرائهم. فلم يبق ذو قريحة أو علم وأدب إلّا يمّم دار السلام ونال جائزة أو هدية أو راتبا… وخلفاء العصر العباسى الأوّل من أكثر الملوك رغبةً فى العلم.»
والثّقافة الايرانية لعبت دوراً مهما في تلك الحقبة من الزّمن، وفي الحقيقة كانت الدولة العباسية على أكتاف الإيرانيين من النّاحية السيّاسية ومن الناحية الثقافية. وتوغّل الايرانيّون فى صلب الدولة العباسيِة.
فكان منهم القواد والوزراء والحجّاب والولاة والكتاب، «وكان للوزراء الفرس تأثير كبير في تلك النهضة. والفرس أهل مدنية قديمة، وكانوا يومئذٍ في نهضة علمية بدأت من زمن كسرى أنو شروان»
وأوّل من قام بدور الوزير «أبو سلمة الخلال وقد وزّر للخليفة أبي العباس السفّاح، ثم تلاه أبو أيّوب المورياني وقد وزّره الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور. ووزّر للمهدي يعقوب بن داوود ووزّر للرشيد يحيى بن خالد البرمكي وولده جعفر ووزّر للمأمون الحسن بن سهل؛ ولهم فضل كبير فى نشر الثقافة الايرانية».
فلا غرابة أن تأخذ الدولة العباسيّة وجها فارسيا في حياتها السياسية وفى حياتها الثقافية. وقامَ بتشديد هذا الوجه انتقال عاصمة الخلافة من الشام إلى العراق فى مدينة جديدة بناها المنصور وسمّاها بغداد، بجوار مدائن كسرى؛ إثر هذا التوغل أدخل الإيرانيون في نظام الخلافة، سياسة الحكم المطلق وجعلوا قصور الخلفاء فى بغداد أشبه بقصور الأكاسرة في المدائن كما أدخلوا في التنظيمات الإدارية الأنظمة المتّبعة في التنظيمات الفارسية ونرى هذه الظاهرة بوضوح كامل فى الدواوين، ونظام الحكم، وأسلوب الحرب والحياة الاجتماعية والأكل والشرب واللبس، كما بدلت مراسيم الأعياد، مجالس اللهو واللعب.
وأصبحت بغداد مركزا ثقافيا متقدما «ولم يكن مجدها إلا مناسبا مع درجة تقدّم الامبراطورية التي كانت هي عاصمتها». وعندما صارت بغداد الخلافة واشتدّ هذا الوجه الفارسي وامتد اللسان الأعجمي بألفاظ غريبة عن اللغُة العربية، التصقت بالغناء وآلات الطرب والمأكل والملبس وأنواع الزينة ويقول الجاحط: «ودولة بنى العباس أعجمية خراسانية».
وأصبحت حاجة المسلمين فى هذا العصر شديدة إلى الانفتاح على تراث الأمم المتطورّة وقداهتمّ الخلفاء العبّاسيون بترجمة جوانب مهمّة ممّا كانوا يحتاجون إليه في الشؤون السياسيّة والاجتماعية والطّب والفلك والنجوم والرّياضيات والفلسفة والمعارف والعلوم الأخرى. ولم يقتصر الأمر على تشجيع الخلفاء فحسب، فقد كان الاهتمام عاما وشاملاً بين فئات الناس في بغداد و البصرة و الكوفة وسائر أرجاء الامبراطورية الإسلامية. والسبب هو اتّساع الحياة العقلية التي ذكرناها والتي هي أدّت إلى ثورة سياسية. وممّا يؤيد هذا الكلام إنما نجد لدى مختلف العلماء المسلمين اطلاعا واسعا على مناهج البحث وأساليبه عند الأمم المختلفة ولاسيما الفرس واليونان.
فلم تمض مدة طويلة من الزمن استطاع المسلمون فيها أن ينقلوا جوانب عديدة من تراث الأمم المختلفة؛ تلك الجوانب المعروفة التي كانت فى مجالات العادات، والفلسفيات، والعلوم، والصناعات والمعارف عامةً، ممّا كان له الأثر البالغ فى نشأة اليقظه الفكرية إبّان هذا العصر، حيث ازدهرت إلى حّد لم تكن مقصورة على العلوم النقليّة وإنما تجاوزتها لتشمل فروع الثقافة والمدنية الشائعة آنذاك.
ومضى المترجمون يمارسون نشاطهم فى أماكن مختلفة ومراكز متبانية وكانت الترجمة قائمة بصورة رئيسية فى أديرة المسيحية وكذلك الكنائس التي نشأ فيها بعض الثقافات اليونانية وأشهر هذه المراكز: «الإسكندرية وجندي سابور وحرّان ونصيبين والرها» وأوّل من فتح باب الترجمة واعتنى به هو المنصور العباسي كما يقول المسعودى: " أوّل خليفة ترجم له كتب من اللغات الأعجمية إلى العربية ومنها كتاب " كليلة ودمنة" و"السند والهند" وكتب ارسطاطاليس بمجالاتها المختلفة كالمنطق والفلسفة وترجم أيضا له كتاب " المجسطي" لبطليموس وكتاب " الأرثماطيقى" وكتاب اقليدس، هو المنصور" وقد أصاب الترجمة شىء من الفتور بعد وفات المنصور حتى عصر الرشيد إلى أن نشأت الترجمة وتطورت برعاية الرشيد والبرامكة. وقدأسّس الرشيد خزانة الحكمة وجعلها مركزا للترجمة.
وقد غنم المسلمون فى هذه الفترة مخطوطات كثيرة أثناء غاراتهم على بلاد الروم خاصّة " أنقره" و" عمّورية" وبادروا إلى ترجمتها إلى العربية. كما شجّع البرامكة حركة الترجمة، بترجمة الكتب الهندية، ونقلت الأفكار الوثنية والدهرية والتناسخية إلى الثقافة العربية الإسلامية، التي كان لها الأثر الكبير فى المجالات الفكرية والعقائدية. وفى هذه الفترة أيضا ترجمت بعض الكتب فى مجال الزراعة ليحيى بن خالد البرمكي. ثم نجد البرامكة قد اهتمّوا بترجمة التراث الفارسي. وقد نقلت نماذج كثيرة فى الأدب والأخلاق وبعض القصص والحكايات مثل " ألف ليلة وليلة" و" سير الملوك" إلى العربية. ومن أشهر المترجمين فى مجال التراث الفارسي إلى العربية هم عبدالله بن مقفّع وآل نوبخت وموسى ويونس ابنا خالد واسحق بن يزيد وآل سهل وبنو شاكر وبنو موسى والبلاذري والفزاري.
تأثّر الأدباء والكتّاب فى كتاباتهم، ببعض الأفكار الفارسية المستمدة من الكتب المترجمة على يد ابن المقفّع وأمثاله ممّن ذكرناهم. وقد ظهر أثر السلوك الفارسي فى الإكثار من شرب الخمر والإقبال على الملذّات والغناء. وإذا كان هذا يشكّل خطرا مؤكدا على الخُلق الإسلامي الذي يدعو إلى المحافظة على الشخصية الإنسانية، فقد ظهر سلوك الزهد، ليتدارك خطر السلوك الأوّل ويحدُّ من الخراف الناس وفسقهم، بالتوجيه والإرشاد والدعوة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله. بدأ التيّار الفارسى جليا واضحا فى العادات والتقاليد العربية، حين «أصبح عيد النيروز، من الأعياد التي يحتفل بها العرب ويذكرونها فى تآليفهم ومدوناتهم .
وصار ينسبُ كلّ عمل فكري إلى النهضة الفارسية وآدابها. وهناك من ادّعى أنّ العرب الكتاب - إن وجدوا - فهم في الأصل من جذور فارسية وما كادت الثقافة الفارسية تنشر ملامحها الثقافية على الوجه العربي.
حتّى بدأت الثقافة الهندية تدخل رويدا رويدا إلى الحياة الإسلامية عن طريق بلاد فارس المحكمة الاتّصال بالعرب حيث التجارة المزدهرة والتأثير الفكري والفتح الإسلامي. تناول الجاحظ المؤثّرات الهندية فى الفكر العربى فيقول عن الهند: «إنها اشتهرت بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطلب، والخرط والنجر والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة. والقصص الهندي واضح الأثر فى بعض الأعمال العربية مثل: " كليلة ودمنة" " السندباد" " ملك الهند القتّال" و" السبّاح"، مع الكثير من الحِكَم التي ترجمت من الهندية إلى العربية." وتأتي الثقافة اليونانية فى المرتبة الثالثة، من حيث تأثر العرب بها. وكثرت الترجمة من اليونانية فى أيام الخليفة هارون الرشيد بتشجيع من وزيره المثقّف جعفر البرمكي.
وترجمت كتب كثيرة فى الطب. ولعّل السبب فى البداية بالترجمات، فى نطاق كتب الطب، يرجع إلى صلة أطبّاء جندي سابور بالخلفاء العباسيين. «فإنّ الخليفة العبّاسى المنصور قد استدعى جبريل بن بختيشوع ليكون طبيبا له. وظلّت أسرة بختيشوع الطبيّة قائمة مع ملوك بنى العباس وحين تولّى المأمون الخلافة، أنشأ بيت الحكمة معهدا للترجمة والنقل ونصب عليه حنين بن اسحق واسحق بن حنين وقد ترجمت شوامخ الكتب اليونانية إلى العربية وأشهرها كتاب «التنجيم» لبطليموس. ومن أشهر المترجمين من اليونانية والسريانيه هم ابن بختيشوع الذي كان من السريان والنساطرة ونقل كتبا كثيرة فى الطب؛ وحنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين اللذان نقلا كتبا كثيرة من السريانية إلى العربية»
وهذه الترجمات الفارسية والهندية واليونانية «كلّها كانت رافدة فكرية تصبُّ في معين الحقل الإسلامى الذي كان متطلّما إلى المعرفة، توّاقا إليها. ومن ثمّ لم يلبث الحقل الإسلامى إلا قليلاً حتى أضيف إلى معلومات هذه الأمم وارتقى بعلومها فى أتم صورة وأدقّها لكافّة طبقات الشعُب بكّل فئاته وأنواعه، سواء فى الكتاتيب والمساجد، أو المكتبات والدكاكين التابعة للورّاقين، وكانت الأموال تنفق لوضع العلم والأدب. " فازدهرت حركة التأليف ورواج التصنيف العلمى في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم والرياضيات ولمعت أسماءُ من العلماء الثقاة بقيت حتّى يومنا هذا مصادرُ يُرجع إليها في كلّ دراسة أو بحث. وقد تعطّرت الحياة العباسيّة بنفحة تلك النّسيمات الأعجمية. فأصبحت اللغة العربية قويّةً دقيق البناء، سهلة المنال، تطاوع إرادة الكتاب للتّعبير عمّا يجول بالخاطر والعقل والنفس ضمن آراء فلسفية علياء. وصارت لغة التخاطب الأدبي في أقطار مترامية الأطراف، تمتدّ من أواسط آسيا إلى شمالي افريقيا فالأندلس."
«ومن ميزات هذا العصر إطلاق الفكر من قيود التقليد، إلا مايمسّ الدولة أو الخلافة. ولذلك فقد تعدّدت البدع الدينية فى أيامهم من المجوس وغيرهم من الأفكار الوثنية وما إلى ذلك، غير الفرق الإسلامية وتعدادها؛ فكانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية، لا يكره الرجل على معتقده أو مذهبه، فربّما عدة إخوة فى بيت واحد وكلّ منهم على مذهب» النتيجة
کان العصر العباسي الأول ( 132هـ - 233هـ ) من العصور الذهبية لتنمية الفکر العربي وبسبب نقل العلوم المختلفة من اللغات المختلفة إلی اللغة العربية.وذلک لأن حاجة المسلمين أصبحت فى هذا العصر شديدة إلى الانفتاح على تراث الأمم المتطورّة وقداهتمّ الخلفاء العبّاسيون بترجمة جوانب مهمّة ممّا كانوا يحتاجون إليه في الشؤون السياسيّة والاجتماعية والطّب والفلك والنجوم والرّياضيات والفلسفة والمعارف والعلوم الأخرى. ولم يقتصر الأمر على تشجيع الخلفاء فحسب، فقد كان الاهتمام عاما وشاملاً بين فئات الناس في بغداد و البصرة و الكوفة وسائر أرجاء الامبراطورية الإسلامية. والسبب هو اتّساع الحياة العقلية التي أدّت إلى ثورة سياسية. وممّا يؤيد هذا الكلام إنما نجد لدى مختلف العلماء المسلمين اطلاعا واسعا على مناهج البحث وأساليبه عند الأمم المختلفة ولاسيما الفرس واليونان.
ملاحظة
سيد إبراهيم آرمن: أستاذ محاضر بجامعة آزاد الإسلامية في رودهن