نقوس المهدي
كاتب
أما و قد ألقينا أضواء على بعض المظاهر أو الظواهر لهذا العهد في بحثنا قبل هذا.. فإننا سنحاول الآن- تجسيما لتلك الظواهر و إبراز بعض معطياتها حيث ان الماهية لا تتحقق خارجيا إلا في أفرادها كما يقول المناطقة- تقديم شخصيتين من مثقفي و مفكري هذه الحقبة كنموذجين لشعراء و أدبائها تمثل احداهما الصورة العامة لشخصية الفقيه الأديب في نظر رجالات تلك العصور. أو بتعبير آخر، تمثل الظاهرة الثانية مما كنا أشرنا إليه في الحديث قبل هذا، من أن المجالات الأدبية شعرا و نثرا تحتل من الحركة الثقافية العامة المرتبة الثانوية... بينما تمثل الشخصية الثانية المدرسة الموسوعية التي انبثقت أو نشأت في الأندلس و ترعرعت و استطالت بالمغرب لعهد المرابطين.
ثم هاتان الشخصيتان المختارتان معا كانت احتضنتهما مدينة فاس العاصمة العلمية الفكرية لما قبل و بعد تاريخ الوجود العربي في المغرب و إحداهما من مواليد هذه المدينة و من دفنائها و أعني بها شخصية ابي زكرياء يحيى بن الزيتوني و ثانيتهما و إن لم تكن من مواليد فاس فهي بها قضت نحبها بعد أن ترعرت عبقريتها بها بالإضافة إلى أن شهرتها العلمية الأدبية بل و الفكرية عامة. لـتكتمل أو ( لم يتوفر لها البروز و الظهور إلا حين قدر لها أن تقيم بفاس و يتعلق الأمر بأكبر فيلسوف عقلاني مغربي لعهدئذ و أعني به أبا بكر محمد بن الصائغ المعروف بابن باجة التجيبي السرقسطي الذي حاول في فلسفته التوفيق بين العقل و الدين كما سنرى.
و بالمناسبة أود أن أثير هذا السؤال الآتي حول مفهوم مواطنة الأدباء و رجال الفكر. و لمن تكون رعويتهم المساقط رؤوسهم حتى ولو لم ينشأوا فيها و لم تشهد تلك المساقط بالتالي مختلف التطورات المتعاقبة عليهم و المؤثرات المتباينة التي تعاورت أحداثهم وحياتهم و ساهمت في تكوين شخصيتهم و بلورت أهدافهم أم يجب أن تنسب تلك الرعوية لمناشئهم و مقاماتهم حيث شبوا و ترعرعوا و تفتحت عقولهم الواعية على الحياة و تذوقت نفوسهم طعومها، و بوتقت اتجاهات هذه العقول لتتخذ هذا النوع من الاشكال دون ذاك..
و من الواضح الجلي أن لكل من المواطنين على الأدب و الفكر حقوقا و عليهما تجاههما واجبات. و من الصعب إنكار آثار كل منهما على حياة الفرد و ربما حتى في اختيار اتجاهاته الواعية الإرادية.
بله اللاواعية و اللإرادية، ثم إذا كان أبو تمام قد أصاب كبد الصواب و دغدغ منطقة الإحساس لدى كل إنسان حين أرسل هذه النفحة العاطفية التي أودعها بيتيه بل نفسيه الشاعرين هاتين.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى = ما الحـب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى = و حنينه أبدا لأول منـــــزل
و إذا كان ابن الرومي بدوره قد أصاب المحز حين أبرز بعض الأسباب مضمون بيتي الطائي في قطعته أي ابن الرومي الخالدة التي منها:
و حبب أوطان الرجال إليهـــم = مأرب قضاها الشباب هنالكـا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمـــو = عهود الصبا فيها فحنوا لذالكـا
ثم إذا كان بسط هذه العاطفة المشبوبة لدى كل الكائنات من ذوات الإحساس و التميز الواعيين أو الغريزيين صاحب هذا البيت الشعري الذي غاب عني الآن صاحبه
بلاد بها نبطــت علي تمائمــي = وأول أرض من جلدي ترابهــا
إذا كان ذلك في جملته و تفصيله حقا و إلى أبعد الحدود فإن حقوق مقام الأديب و المفكر عليهما. وخاصة إذا كان ذوي آثار بارزة و قوية في تكوين الشخصية التي من اجلها سلطت عليهما الأضواء و في تكامل الذاتية التي بسبب هذا التكامل أصبحا ممن يشار إليهما بالبنان.
و إذا كانت بالإضافة إلى ذلك تتواجد أهداف هذه الشخصية و تلك الذاتية و تتغيا رغبة واحدة وتنشد نفس المصائر و تسعى لإيجاد الجو الملائم و المناسب لإبراز عبقرية هذا الأديب أو ذاك المفكر ثم بلورة هذه العبقرية و مميزاتها أن هذه الحقوق ربما كانت أسمى بكثير من العاطفة الاخرى لأن هذه تربط الأديب و المفكر بواقعهما و تعطي عواطفهما و احاسيسهما صورا مرئية مجسمة قد تكون مصداق ذلك الواقع أو تكون متجانسة معه بينما تظل عواطف المولد و مسقط الرأس مجرد احاسيس معتمة باهتة، قد تشد الأديب أو المفكر إلى الأرض دون ان تجلعه يحس مواقع إقدامه فوق هذه الأرض فعواطفه نحوها هي إذن مجرد غوالم للطفولة التي تظل تراود الإنسان إلى حين مفارقته هذه الحياة و هي عواطف في الحقيقة المجردة- لا تعني سوى الانسياب و الهروب...
و لكن – و مع ذلك – فهناك جوانب لا تخلو من جاذبية في غوالم الطفولة هذه و هذا ما حملنا على اعتماد العاطفتين معا، واعتبار النسبتين معا، و لذلك فسنعتبر في عداد شعراء و أدباء المغرب كل من احتظنته مولدا أو مقاما و تنشئة و وفاة... و بناء على هذا الأساس انبهنا في اختيارنا لشعراء المغرب و أدبائه لعهد المرابطين إلى خصوص هاتين الشخصيتين الزيتوني و ابن باجة.
و إذا كنا لم ندرج سواهما ضمن ادباء هذا العهد على الرغم من وجود هذا السوى من امثال ابن حبوس الفاسي الذي عاش فترة غير وجيزة من حياته الأدبية في هذه الحقبة فلأننا راعينا نصوص أولئك الذين عاصرت شهرتهم هذه الدولة لا مجرد الذين أبصروا نور الحياة في عهده و لما تتفتح شخصياتهم الفكرية إلا بعد أفول نجم المرابطين و بزوغ أعلام الوحدين و هؤلاء في الحقيقة هم جل شعراء و أدباء و مفكري دولة الموحدين ... و نقتصر في هذا المقال على تناول شخصية ابن الزيتوني على ان نخصص بحثنا المقبل إن شاء الله لابن باجة نظرا لتعدد مناحي شخصيته و تباين مجالات تفكيره و اختصاصاته الموسوعية.
و الفقيه الأديب الشاعر أبو زكرياء يحب ابن الزيتوني أحد الذين تتجسم فيهم ظاهرتا تاريخ الأدب العربي أنترو بولوجيا ظاهرة انعدام تحديد تاريخ الولادة إذ هو مجهول تاريخها و ظاهرة ضياع الآثار.
و ظاهرة إهمال تاريخ الولادة ظاهرة عامة –تقريبا- في كل تراجم رجالات الفكر العربي والإسلامي لما قبل عصر النهضة الحديثة فإنه إذا كان مؤلفو الطبقات و مؤرخو الآداب قد اعتنوا عناية غير قليلة بتاريخ الوفيات و إلى الدرجة التي أفردوا لها المجلدات الضخمة كوفيات الاعيان و أبناء الزمان لابن خلكان أحمد البرمكي الأربيلي ( 1211م-1281م) فإنهم فيما يخص تاريخ الولادة درجوا على أن يعرجوا عليه إلا في الأقل النادر و عندما يتعلق الأمر بخصوص الأباطرة و الملوك و الولادة و رجال الحكم غالبا... و لعل ذلك يرجع...
أولا : لعدم اهتمام الأسر العربية قديما، بتسجيل تاريخ مواليدها لدى وفادة أولئك المواليد على الدنيا.
و ثانيا: يرجع إلى عدم التيقن مما ستؤول إليه حياة أولئك المواليد من حيث تحقيقهم لشهرة تثير الانتباه و تستحق الاهتمام و من خمول ذكر و انكفاء ذاتية ينتهيان بصاحبهما إلى إهماله و اللامبالاة به.
و منطلق التاريخ إنما كان أصلا و أساسا لتسجيل الظاهر غير العادية التي منِ شأنها أن تثير الانتباه، و من ثمة تدعو إلى التمحيص الدرس و السؤال أو لتسجيل المواقف المثيرة الحاسمة التي قد تصبح معالم و مصابيح يهتدى بها أو مشاعل نورانية تأخذ بيد السارين في مضارب الجهل و متاهات الحياة.
و ما كان للناس في تلك العهود القديمة أن يتنبأوا –منذ الولادة- بمخايل الذكاء و ملامح العبقرية اللتين تجعلان من الأفراد العاديين اعلاما مرموقين... و من هنا أهمل تاريخ ولادة مترجمنا ابن الزيتوني كما اهمل تاريخ ولادة الكثيرين من امثاله .
أما ظاهرة ضياع آثار أدبائنا و مفكرينا – و بالأخص نحن المغاربة- و معها ضياع الوثائق والمراجع و المستندات فإنها عامة فاشية في كل أطوار تاريخنا و في مختلف مناحيه السياسية والعسكرية و الاجتماعية و العلمية و الأدبية أيضا و لا سيما في الحقبة الواقعة ما بين بداية الوجود للسكان الأصليين أو الأول أعني البربر و قيام دولتي الموحدين و بني مرين اللتين ترجع أرومتهما أيضا إلى الأصول البربرية الزناتية.
و هذه الظاهرة انطقت جميع من تناولوا تاريخنا الأدبي بالدرس بالشكوى من هذا الضياع والغموض ثم من الغريب أن هذه الشكوى رافقت حركة التدوين في المغرب، فمنذ القرن السابع الهجري سجلها ابن عبد المالك المراكشي (634هـ-703هـ) صاحب كتاب الذيل و التكملة لكتابي الموصول و الصلة، حيث قال في هذه الكلمات الصارخة، (...و كان بفاس من الفقهاء والأعلام الأجلة أعيان الأنام، ما ليس في غيرها من بلدان الإسلام إذ هي قاعدة المغرب. و دار العلم و الأدب، لكن أهلها أهملوا ذكر محاسن علمائها و أغفلوا تخليد مفاخر فقهائهم..)(1) .
و هكذا يحيط الغموض بتاريخ ولادة يحيى بن الزيتوني كما أحاط الغموض بآثاره و وفاته. وصاحب الجذوة الذي من الممكن القول بأن عنه استقى كل من تناولوا حياة هذا الرجل بالذكر لم يزد في تحليته عن قوله: ( أبو زكريا يحيى بن الزيتوني الأديب )... ثم نقل نص ابن بسام ( أوفد على اشبيلية أيام ملوك الأندلس و له شعر بديع و تصرف مطبوع و كان حاضر الجواب ذكي الشهاب) و اود القصة التي يقال أنها حدثت بين ابن الزيتوني و أبي الوليد بن زيدون و إمام وبين يدي المعتمد بن عباد و علق عليها بجملة واحدة، دون الإشارة لا إلى تاريخ ولادته ولا إلى تاريخ وفاته.
وكان المنتظر من صاحب كتاب النبوغ المغربي أن يبذل جهودا أكبر لالقاء أضواء على حياة الرجل لا أن يكتفي هو الآخر بمجرد إيراد كلمات الجذوة بالنص و الحرف مع الإشارة إلى أنه كان أديبا أريحيا خفيف الروح رقيق الحاشية متطرفا حسن المذهب دون الإتيان بأي دليل على هذه الأوصاف من أثار الرجل الأدبية شعرا أو نثرا.
و إذا صحت المناظرة المشار إليها توا، و افترضنا أنها حدثت –و المعتمد بقصره باشبيلية فإن من المؤكد أن ابن الزيتوني كان حيا مابين سنة (464هـ و هي سنة تتويج ابن عباد و سنة 484م سنة إزعاجه من طرف المرابطين من ملكه إلى أغمات حيث فرضوا عليه هناك الإقامة الجبرية كما هو معلوم.
و إذا فرضنا أن تاريخ معدل النبوغ لتلك العهود كان يتراوح مابين الثلاثين و الأربعين سنة من عمر الفرد ففي الإمكان تقدير سن ولادته في العقد الرابع من القرن الخامس الهجري، سيما وقد ورد ما يؤكد أن صاحبنا كان من مادحي المعتمد ابن المعتمد و أنه قد استنجزه الوعد في قوله:
سفينة الوعد في بحر الرجا وقفـت
أمنن بريح من الإنجاز يجريهـا
أما آثار الرجل الأدبية فكل ما أمكن العثور عليه هو أولا هذا البيت الشعري الذي رووه مفردا و المذكور قبله ثم قصة المناظرة التي قالوا عنها و عن تأثيرها أنها أخجلت أبا الوليد وجعلت الحاضرين يستخفهم الطرب(2) .
وهي في نظرنا لا تستحق هذا الوصف وإن كان من الممكن الاستدلال بها على ذكاء الرجل و معرفته لما وراء الحروف في مقام الغمز و اللمز.
ثم ثالثا و أخيرا نجد له هذه الأبيات التي رواها صاحب الذخيرة و نقلها ابن القاضي على أنها مطلع قصيدة لم أعثر عليها أنا وقد جاء فيها:
فقت الهلال بذا الجمال برأســه = وجرحت باللحظ الغزال بأسه
لم أبق دمعا في سواها و لا جرى = قلم بغير ثناء في قرطاســــه
فلقيت من كلفى به مالم يكـــن = يلقى سحيم من بني حسحاســـة
ما البحتري ران أرق نسيمـــه = و أجاد في أوصاف عين (طماسة) (3)
بارق من شعري منه موقعــــا = و أدق منه في حلى أنفاســــه
و هذه النبيذ التي أثبتوها من شعره لا توحي بما اطلقوه عليه من اوصاف صفاء الطبع، و براعة شاعرية و إنما ترى ألفاظا رصفت لتكون نظما مهلهلا يساق أو يقال السيف أمضى من العصى ولا الثريا كالثرى إذ شتان بين شعري الرجلين و انه لا قياس مع وجود الفارق .
إلا ان إيراد ترجمته في الجذوة ضمن تراجم الفقهاء و كان الوصف الفقهي في تلك العهود أسمى ما يطمح إليه رجال الثقافة و الفكر قد يشعر بأن الرجل كامن ذا آثار أدبية و شعرية قد تكون رائقة من غير هذه الأبيات كان يعرفها مرافقوه و معاصروه بما استحق عليها ما أطلقوه عليه من نعوت العبقرية و النبوغ ثم قد تكون أتت عليها يد النسيان أو الإهمال بسبب التحاشي بالظهور بمظهر الشعر في عصر لم تنفق فيه سوى الفقه بفروعه و لم ينل فيه حظوة سوى المنضوين تحت لواء هذه العلوم و إضرابها من علوم الدين و الشريعة.
و لعل الحركة الإحيائية و البعث للتراث التي تباشرها مختلف الشخصيات المهتمة بتاريخ هذا الجناح من العالم العربي و الإسلامي ستفض غبار الإهمال عن كنوزها المخبوءة و تعمل على تسليط مزيد الأضواء على المخزون من ذخائر الأدب المغربي في كافة مجالاته و مختلف فروعه و ما هذا على همة الطامحين بعزيز.
(1) مجلة دعوة الحق صفحة 28 العدد 6. السنة الثانية.
(2) أنظر الجذوة صفحة 337 الطبعة الحجرية الفاسية فقد أورد ابن القاضي المناظرة هناك
(3) طماس : هو ابن اخي ابراهيم ابن العباس و كان البحتري يتولع بوصف عوره..(الجذوة)
دعوة الحق - العدد 220
ثم هاتان الشخصيتان المختارتان معا كانت احتضنتهما مدينة فاس العاصمة العلمية الفكرية لما قبل و بعد تاريخ الوجود العربي في المغرب و إحداهما من مواليد هذه المدينة و من دفنائها و أعني بها شخصية ابي زكرياء يحيى بن الزيتوني و ثانيتهما و إن لم تكن من مواليد فاس فهي بها قضت نحبها بعد أن ترعرت عبقريتها بها بالإضافة إلى أن شهرتها العلمية الأدبية بل و الفكرية عامة. لـتكتمل أو ( لم يتوفر لها البروز و الظهور إلا حين قدر لها أن تقيم بفاس و يتعلق الأمر بأكبر فيلسوف عقلاني مغربي لعهدئذ و أعني به أبا بكر محمد بن الصائغ المعروف بابن باجة التجيبي السرقسطي الذي حاول في فلسفته التوفيق بين العقل و الدين كما سنرى.
و بالمناسبة أود أن أثير هذا السؤال الآتي حول مفهوم مواطنة الأدباء و رجال الفكر. و لمن تكون رعويتهم المساقط رؤوسهم حتى ولو لم ينشأوا فيها و لم تشهد تلك المساقط بالتالي مختلف التطورات المتعاقبة عليهم و المؤثرات المتباينة التي تعاورت أحداثهم وحياتهم و ساهمت في تكوين شخصيتهم و بلورت أهدافهم أم يجب أن تنسب تلك الرعوية لمناشئهم و مقاماتهم حيث شبوا و ترعرعوا و تفتحت عقولهم الواعية على الحياة و تذوقت نفوسهم طعومها، و بوتقت اتجاهات هذه العقول لتتخذ هذا النوع من الاشكال دون ذاك..
و من الواضح الجلي أن لكل من المواطنين على الأدب و الفكر حقوقا و عليهما تجاههما واجبات. و من الصعب إنكار آثار كل منهما على حياة الفرد و ربما حتى في اختيار اتجاهاته الواعية الإرادية.
بله اللاواعية و اللإرادية، ثم إذا كان أبو تمام قد أصاب كبد الصواب و دغدغ منطقة الإحساس لدى كل إنسان حين أرسل هذه النفحة العاطفية التي أودعها بيتيه بل نفسيه الشاعرين هاتين.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى = ما الحـب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى = و حنينه أبدا لأول منـــــزل
و إذا كان ابن الرومي بدوره قد أصاب المحز حين أبرز بعض الأسباب مضمون بيتي الطائي في قطعته أي ابن الرومي الخالدة التي منها:
و حبب أوطان الرجال إليهـــم = مأرب قضاها الشباب هنالكـا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمـــو = عهود الصبا فيها فحنوا لذالكـا
ثم إذا كان بسط هذه العاطفة المشبوبة لدى كل الكائنات من ذوات الإحساس و التميز الواعيين أو الغريزيين صاحب هذا البيت الشعري الذي غاب عني الآن صاحبه
بلاد بها نبطــت علي تمائمــي = وأول أرض من جلدي ترابهــا
إذا كان ذلك في جملته و تفصيله حقا و إلى أبعد الحدود فإن حقوق مقام الأديب و المفكر عليهما. وخاصة إذا كان ذوي آثار بارزة و قوية في تكوين الشخصية التي من اجلها سلطت عليهما الأضواء و في تكامل الذاتية التي بسبب هذا التكامل أصبحا ممن يشار إليهما بالبنان.
و إذا كانت بالإضافة إلى ذلك تتواجد أهداف هذه الشخصية و تلك الذاتية و تتغيا رغبة واحدة وتنشد نفس المصائر و تسعى لإيجاد الجو الملائم و المناسب لإبراز عبقرية هذا الأديب أو ذاك المفكر ثم بلورة هذه العبقرية و مميزاتها أن هذه الحقوق ربما كانت أسمى بكثير من العاطفة الاخرى لأن هذه تربط الأديب و المفكر بواقعهما و تعطي عواطفهما و احاسيسهما صورا مرئية مجسمة قد تكون مصداق ذلك الواقع أو تكون متجانسة معه بينما تظل عواطف المولد و مسقط الرأس مجرد احاسيس معتمة باهتة، قد تشد الأديب أو المفكر إلى الأرض دون ان تجلعه يحس مواقع إقدامه فوق هذه الأرض فعواطفه نحوها هي إذن مجرد غوالم للطفولة التي تظل تراود الإنسان إلى حين مفارقته هذه الحياة و هي عواطف في الحقيقة المجردة- لا تعني سوى الانسياب و الهروب...
و لكن – و مع ذلك – فهناك جوانب لا تخلو من جاذبية في غوالم الطفولة هذه و هذا ما حملنا على اعتماد العاطفتين معا، واعتبار النسبتين معا، و لذلك فسنعتبر في عداد شعراء و أدباء المغرب كل من احتظنته مولدا أو مقاما و تنشئة و وفاة... و بناء على هذا الأساس انبهنا في اختيارنا لشعراء المغرب و أدبائه لعهد المرابطين إلى خصوص هاتين الشخصيتين الزيتوني و ابن باجة.
و إذا كنا لم ندرج سواهما ضمن ادباء هذا العهد على الرغم من وجود هذا السوى من امثال ابن حبوس الفاسي الذي عاش فترة غير وجيزة من حياته الأدبية في هذه الحقبة فلأننا راعينا نصوص أولئك الذين عاصرت شهرتهم هذه الدولة لا مجرد الذين أبصروا نور الحياة في عهده و لما تتفتح شخصياتهم الفكرية إلا بعد أفول نجم المرابطين و بزوغ أعلام الوحدين و هؤلاء في الحقيقة هم جل شعراء و أدباء و مفكري دولة الموحدين ... و نقتصر في هذا المقال على تناول شخصية ابن الزيتوني على ان نخصص بحثنا المقبل إن شاء الله لابن باجة نظرا لتعدد مناحي شخصيته و تباين مجالات تفكيره و اختصاصاته الموسوعية.
و الفقيه الأديب الشاعر أبو زكرياء يحب ابن الزيتوني أحد الذين تتجسم فيهم ظاهرتا تاريخ الأدب العربي أنترو بولوجيا ظاهرة انعدام تحديد تاريخ الولادة إذ هو مجهول تاريخها و ظاهرة ضياع الآثار.
و ظاهرة إهمال تاريخ الولادة ظاهرة عامة –تقريبا- في كل تراجم رجالات الفكر العربي والإسلامي لما قبل عصر النهضة الحديثة فإنه إذا كان مؤلفو الطبقات و مؤرخو الآداب قد اعتنوا عناية غير قليلة بتاريخ الوفيات و إلى الدرجة التي أفردوا لها المجلدات الضخمة كوفيات الاعيان و أبناء الزمان لابن خلكان أحمد البرمكي الأربيلي ( 1211م-1281م) فإنهم فيما يخص تاريخ الولادة درجوا على أن يعرجوا عليه إلا في الأقل النادر و عندما يتعلق الأمر بخصوص الأباطرة و الملوك و الولادة و رجال الحكم غالبا... و لعل ذلك يرجع...
أولا : لعدم اهتمام الأسر العربية قديما، بتسجيل تاريخ مواليدها لدى وفادة أولئك المواليد على الدنيا.
و ثانيا: يرجع إلى عدم التيقن مما ستؤول إليه حياة أولئك المواليد من حيث تحقيقهم لشهرة تثير الانتباه و تستحق الاهتمام و من خمول ذكر و انكفاء ذاتية ينتهيان بصاحبهما إلى إهماله و اللامبالاة به.
و منطلق التاريخ إنما كان أصلا و أساسا لتسجيل الظاهر غير العادية التي منِ شأنها أن تثير الانتباه، و من ثمة تدعو إلى التمحيص الدرس و السؤال أو لتسجيل المواقف المثيرة الحاسمة التي قد تصبح معالم و مصابيح يهتدى بها أو مشاعل نورانية تأخذ بيد السارين في مضارب الجهل و متاهات الحياة.
و ما كان للناس في تلك العهود القديمة أن يتنبأوا –منذ الولادة- بمخايل الذكاء و ملامح العبقرية اللتين تجعلان من الأفراد العاديين اعلاما مرموقين... و من هنا أهمل تاريخ ولادة مترجمنا ابن الزيتوني كما اهمل تاريخ ولادة الكثيرين من امثاله .
أما ظاهرة ضياع آثار أدبائنا و مفكرينا – و بالأخص نحن المغاربة- و معها ضياع الوثائق والمراجع و المستندات فإنها عامة فاشية في كل أطوار تاريخنا و في مختلف مناحيه السياسية والعسكرية و الاجتماعية و العلمية و الأدبية أيضا و لا سيما في الحقبة الواقعة ما بين بداية الوجود للسكان الأصليين أو الأول أعني البربر و قيام دولتي الموحدين و بني مرين اللتين ترجع أرومتهما أيضا إلى الأصول البربرية الزناتية.
و هذه الظاهرة انطقت جميع من تناولوا تاريخنا الأدبي بالدرس بالشكوى من هذا الضياع والغموض ثم من الغريب أن هذه الشكوى رافقت حركة التدوين في المغرب، فمنذ القرن السابع الهجري سجلها ابن عبد المالك المراكشي (634هـ-703هـ) صاحب كتاب الذيل و التكملة لكتابي الموصول و الصلة، حيث قال في هذه الكلمات الصارخة، (...و كان بفاس من الفقهاء والأعلام الأجلة أعيان الأنام، ما ليس في غيرها من بلدان الإسلام إذ هي قاعدة المغرب. و دار العلم و الأدب، لكن أهلها أهملوا ذكر محاسن علمائها و أغفلوا تخليد مفاخر فقهائهم..)(1) .
و هكذا يحيط الغموض بتاريخ ولادة يحيى بن الزيتوني كما أحاط الغموض بآثاره و وفاته. وصاحب الجذوة الذي من الممكن القول بأن عنه استقى كل من تناولوا حياة هذا الرجل بالذكر لم يزد في تحليته عن قوله: ( أبو زكريا يحيى بن الزيتوني الأديب )... ثم نقل نص ابن بسام ( أوفد على اشبيلية أيام ملوك الأندلس و له شعر بديع و تصرف مطبوع و كان حاضر الجواب ذكي الشهاب) و اود القصة التي يقال أنها حدثت بين ابن الزيتوني و أبي الوليد بن زيدون و إمام وبين يدي المعتمد بن عباد و علق عليها بجملة واحدة، دون الإشارة لا إلى تاريخ ولادته ولا إلى تاريخ وفاته.
وكان المنتظر من صاحب كتاب النبوغ المغربي أن يبذل جهودا أكبر لالقاء أضواء على حياة الرجل لا أن يكتفي هو الآخر بمجرد إيراد كلمات الجذوة بالنص و الحرف مع الإشارة إلى أنه كان أديبا أريحيا خفيف الروح رقيق الحاشية متطرفا حسن المذهب دون الإتيان بأي دليل على هذه الأوصاف من أثار الرجل الأدبية شعرا أو نثرا.
و إذا صحت المناظرة المشار إليها توا، و افترضنا أنها حدثت –و المعتمد بقصره باشبيلية فإن من المؤكد أن ابن الزيتوني كان حيا مابين سنة (464هـ و هي سنة تتويج ابن عباد و سنة 484م سنة إزعاجه من طرف المرابطين من ملكه إلى أغمات حيث فرضوا عليه هناك الإقامة الجبرية كما هو معلوم.
و إذا فرضنا أن تاريخ معدل النبوغ لتلك العهود كان يتراوح مابين الثلاثين و الأربعين سنة من عمر الفرد ففي الإمكان تقدير سن ولادته في العقد الرابع من القرن الخامس الهجري، سيما وقد ورد ما يؤكد أن صاحبنا كان من مادحي المعتمد ابن المعتمد و أنه قد استنجزه الوعد في قوله:
سفينة الوعد في بحر الرجا وقفـت
أمنن بريح من الإنجاز يجريهـا
أما آثار الرجل الأدبية فكل ما أمكن العثور عليه هو أولا هذا البيت الشعري الذي رووه مفردا و المذكور قبله ثم قصة المناظرة التي قالوا عنها و عن تأثيرها أنها أخجلت أبا الوليد وجعلت الحاضرين يستخفهم الطرب(2) .
وهي في نظرنا لا تستحق هذا الوصف وإن كان من الممكن الاستدلال بها على ذكاء الرجل و معرفته لما وراء الحروف في مقام الغمز و اللمز.
ثم ثالثا و أخيرا نجد له هذه الأبيات التي رواها صاحب الذخيرة و نقلها ابن القاضي على أنها مطلع قصيدة لم أعثر عليها أنا وقد جاء فيها:
فقت الهلال بذا الجمال برأســه = وجرحت باللحظ الغزال بأسه
لم أبق دمعا في سواها و لا جرى = قلم بغير ثناء في قرطاســــه
فلقيت من كلفى به مالم يكـــن = يلقى سحيم من بني حسحاســـة
ما البحتري ران أرق نسيمـــه = و أجاد في أوصاف عين (طماسة) (3)
بارق من شعري منه موقعــــا = و أدق منه في حلى أنفاســــه
و هذه النبيذ التي أثبتوها من شعره لا توحي بما اطلقوه عليه من اوصاف صفاء الطبع، و براعة شاعرية و إنما ترى ألفاظا رصفت لتكون نظما مهلهلا يساق أو يقال السيف أمضى من العصى ولا الثريا كالثرى إذ شتان بين شعري الرجلين و انه لا قياس مع وجود الفارق .
إلا ان إيراد ترجمته في الجذوة ضمن تراجم الفقهاء و كان الوصف الفقهي في تلك العهود أسمى ما يطمح إليه رجال الثقافة و الفكر قد يشعر بأن الرجل كامن ذا آثار أدبية و شعرية قد تكون رائقة من غير هذه الأبيات كان يعرفها مرافقوه و معاصروه بما استحق عليها ما أطلقوه عليه من نعوت العبقرية و النبوغ ثم قد تكون أتت عليها يد النسيان أو الإهمال بسبب التحاشي بالظهور بمظهر الشعر في عصر لم تنفق فيه سوى الفقه بفروعه و لم ينل فيه حظوة سوى المنضوين تحت لواء هذه العلوم و إضرابها من علوم الدين و الشريعة.
و لعل الحركة الإحيائية و البعث للتراث التي تباشرها مختلف الشخصيات المهتمة بتاريخ هذا الجناح من العالم العربي و الإسلامي ستفض غبار الإهمال عن كنوزها المخبوءة و تعمل على تسليط مزيد الأضواء على المخزون من ذخائر الأدب المغربي في كافة مجالاته و مختلف فروعه و ما هذا على همة الطامحين بعزيز.
(1) مجلة دعوة الحق صفحة 28 العدد 6. السنة الثانية.
(2) أنظر الجذوة صفحة 337 الطبعة الحجرية الفاسية فقد أورد ابن القاضي المناظرة هناك
(3) طماس : هو ابن اخي ابراهيم ابن العباس و كان البحتري يتولع بوصف عوره..(الجذوة)
دعوة الحق - العدد 220