نقوس المهدي
كاتب
1- يقول البروفيسور م. تييه, في تقديمه لهذا الكتاب (وهو بالأصل أطروحة دكتوراه عن ابن المقفع): "لا يتعلق الأمر عند ابن المقفع بتصحيح نظام سياسي, لأن لا شيء في فكره منهجي ومنظم. إذ هو عبارة عن نصائح موجهة للأمير...إنه حكايات خرافية يقتضي, الوقوف على معناها السياسي, القيام بعمل تأويلي." ويتابع: "إن الشأن السياسي بالنسبة لابن المقفع هو مؤسسة إنسانية, لا توجد مبادئها في الدين... فبينما يجعل أرسطو من السياسة علما معماريا, يضع ابن المقفع الأخلاق في الأساس".
لقد أحس هذا المسلم الشرقي عن صواب, يقول البروفيسور تييه, "بأن الشأن السياسي, في المجتمعات الإسلامية نفسها, لا يمكن أن يستخلص من الكتاب, وأن مصادره لا توجد في الدين. كان من اللائق قوله فيما مضى, ومن اللائق تدريسه اليوم".
2- ينقسم كتاب الدكتور حميد الدليمي, إلى قسمين اثنين, يضم كل منهما فصلان, حاول من خلالها الاجتهاد لتأويل بعض من نصوص ابن المقفع التأسيسية:
+ يتألف القسم الأول (نظرية السلطان") من فصلين اثنين:
°- بالفصل الأول ("في عقلانية السلطة والسلطان") يجزم المؤلف أن المرتكز العقلاني للسلطة السياسية, في فكر ابن المقفع, "ينحدر من طبيعة المجتمع نفسه, المقسم إلى حاكمين ومحكومين. إنها فكرة جديدة في المجتمع الإسلامي, وغريبة عن الإيديولوجيا المهيمنة. في الواقع, يقيم الإسلام ثنائية مؤمن/كافر لا ثنائية حاكم/محكوم. وباستبدال الأولى بالثانية, يبرهن ابن المقفع على الضرورة القصوى لوجود السلطان وجدواه".
إن السلطة السياسية ضرورية للحياة, بنظر ابن المقفع, وذلك لتحقيق "رخاء العامة, التي يعتبرها تفتقر إلى الكفاءة والاستقرار على حال". إلا أنه يرى أن "العقل هو الذي يؤسس السلطان لا الدين...أكثر من ذلك, يرى ابن المقفع أنه حيثما تغيب سلطة سياسية قوية, تضمن أمن الإنسان, لا يمكن أن تكون هناك سعادة, لأن شر البلاد بلاد لا خصب فيها ولا أمن". لذلك تراه ألح على قضايا الجيش, وتوحيد النظام القضائي, لينطلق منهما لتناول مسألة الدولة والمجتمع: "كيف تخلق الشرعية؟ بالطاعة. من يخلقها؟ المجتمع. ولصالح من؟ النخبة".
من هنا, فإن شرعية الأمير إنما تتأسس على الطاعة "التي يجب أن توليها العامة. بيد أن الطاعة لا يمكن أن تقدم إلا لمن أسماهم الملوك العظام. لا يستحق الأمير الطاعة إلا إذا استجاب لتطلعات العامة, والمهام المرتبطة بمرتبته". الأمير هنا مطالب باحترام اختصاصاته دون تجاوزها, "وإلا فقد دعا العديد من التجاوزات من هذا الجانب وذاك, إلى إراقة الدماء".
وإذا كان ابن المقفع يقسم المجتمع إلى حاكمين ومحكومين, "فلكي يشدد على ضرورة السلطان". ولما كان الناس, بخلاف الأمراء, مجبولون على "الشر والفتنة", فإن من شأن ذلك بلوغ درجات من الانحطاط, حيث ينقسم الناس حول الأشياء قاطبة, "إلا حول كراهية ملكهم". ويعتبر الدين الوسيلة "المضمونة التي تتخذها العامة مطية للوصول إلى ذلك, لأنه يأتيها بأكبر عدد من الأنصار, فضلا عن أنه من الصعب جدا محاربته".
لتجاوز هذه الوضعية, يؤكد ابن المقفع أن "على السلطان أن يقوم بتربية شعبه, لتجنب انحلال الرعايا, وضمان استقرار نظامه". إن على الأمير, يقول ابن المقفع, "أن يتحكم في الشعب, لتجنيب ملكه الخراب". ولما كان ضمن الشعب دائما فئة لن يكون لتربيتها أية نتيجة, فإنه "يجب على الأمير ألا يتردد في استعمال القوة مع هذه الفئة, الأشد دناءة من الشعب".
في حديثه عن النخبة, يرى ابن المقفع أن الوضع الاعتباري لها "يتبع طبيعة المجتمع. مادام المجتمع ينقسم إلى طبقات اجتماعية, فإن النخبة تتمتع بتفوق أخلاقي وتراتبي لا يناقش. إنها قمة المجتمع", لا بل إنها أس النظام الاجتماعي, المكون من الحكام والجيش والفقهاء, وهي منابت النخبة الثلاثة بامتياز. وتستمد النخبة تفوقها من وظيفتها الاجتماعية, التي تضمن الاستقرار للسلطان والمجتمع, عبر إرجاع مثيري القلائل والشقاقات إلى النظام, ولأنها مسموعة الكلمة.
أما عن طبيعة السلطان, فيلاحظ ابن المقفع أن الأمراء, البانين لسلطانهم على شرعية الانتماء إلى بيت الرسول, باعتبار ذلك "هبة من الله", يفرطون في الشرعنة الدينية. بل إنه يمضي لحد القول بأنه "ليس من الضروري البحث عن أصول السلطة السياسية في ميتافيزيقا ولو دينية, غير مؤكدة تماما. السلطة السياسية موجودة هنا, إنها أمر واقعي يومي, يشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية, ويخضع لتجاذباتها وصراعات مكوناتها".
السلطان, بنظر ابن المقفع, يكمن في الحكم والسيطرة, ويمنح لمالكه وضعا اعتباريا, يجعله "ساميا وعالي الرتبة في المجتمع. غير أن بعد السلطان بداخل الإنسان ليس عميقا. فهو ليس الدين, إذ لا ينفذ السلطان إلى داخل الشخص البشري: اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد الرعية, وأنه لا سلطان للملوك على القلوب". بهذا الجانب, يمكن فهم لماذا كان ابن المقفع يركز على الاستخبارات.
ويلاحظ ابن المقفع أن السلطان ليس إلا ما يفعله به الملوك أنفسهم. من هنا تمييز المؤلف بين الملك الفاسد والملك الكامل, الحكم العادل والحكم الظالم, المبنيان على قدرة السلطان على مراعاة مصالح العامة, وعدم نسيان الخصوم, سيما بالنسبة لولاة العهد المحاطين بالمنافقين والسدج: "ففي تاريخ الأمم الأخرى أمثلة كثيرة تشير إلى أن أولياء العهد, عندما يستلمون الحكم, يعتقدون أنهم قد استلموا منتوجا كاملا, مملكة مستقرة, وشعبا مطيعا".
إن المعيار الذي يصنف به ابن المقفع السلطان, هو معيار خلقي وعقلاني, والملك المدان أخلاقيا (بسبب عدم اعتبار مصالح الشعب ومستقبله) لا يمكن أن يدوم طويلا, والسلطان المرتكز على الدين والمعزز بالحزم, سلطان يحظى بالتقدير. من هذا المنطلق يميز ابن المقفع بين ملك الدين وملك الحزم والملك المبني على "الهوى": " وأما ملك الهوى, فلعب ساعة ودمار دهر". بالتالي, فإن الملك الذي يهمل المصلحة العامة, إنما "يهيئ الشروط للقتل والسرقة, وتضعضع الإيمان, والسفالة وعدم التدين".
°- بالفصل الثاني ("مأسسة المجتمع أو تأسيس الدولة"), يقر الدكتور الدليمي بأن الدولة في تصور ابن المقفع, ليست "مفهوما مجردا فقط, إذ لا يدرسها باعتبارها قوة فكرية, بل باعتبارها أيضا وأساسا فاعلا ملموسا في حياة الناس, بنية فعلية للمجتمع". من ثمة, اعتباره الدولة كبنية للهيمنة, وأيضا كبنية "دينامية بداخلها تنسج علاقات سلطة". القوة هنا قوة معقلنة, والعقل هو الذي يلجمها, ويروضها, ويوجهها الوجهة الصحيحة.
عمليا, فإن الدولة هي "مجموع المؤسسات التي تجسد السلطان والمجتمع, وظيفتها ضمان التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي, حتى يتمكن كل امرئ من الانشغال بالمهام الخاصة به, شرط لازم لضمان تفوق الملك. الدولة لا تختلط بالسلطان, ولا بمن بيده الملك/الملك, كما لا تشتغل باعتبارها مؤسسة شخصية. إنها مؤسسة يتجاوز دوامها من هي بيده".
أما مأسسة المجتمع, فهي "جعل العدالة تسوده, وهو ما كان ضروريا بعد الثورة. وإلا فأي شيء يمكن أن يميز العباسيين عن الأمويين؟".
من جهة أخرى, يطالب ابن المقفع بضرورة أن تأخذ الدولة شكلا إيديولوجيا, "لأنه بالانطلاق من مبدأ أن الحكم وإن كان يطال الأجساد, فالأبدان تفلت منه, ألا يجب تقوية السلطة على الأبدان بإيديولوجية تجدر الدولة في العقول, وتضمن بذلك استقرارا دائما. وإذن يجب على الدولة أن تراقب المعتقدات الكامنة التي تروج في المجتمع...بتعبير آخر, لا يجب على الدولة أن تظل في مستوى سطحي من العلاقات الاجتماعية والبيفردية, بل عليها أن تتجاوز ذلك إلى النفاذ إلى عمق كل فرد".
فلكي "تبقى الدولة, ولكي تتحكم في الناس, فإنها تحتاج إلى الإيديولوجيا. في الميدان السياسي, تعتبر الإيديولوجيا مصدر معتقدات للجماعات, وهي في هذا تلعب وظيفة المبرر لأفعال هذه الجماعات ذاتها".
وعن الإيديولوجيا السياسية الخاصة بالإسلام, يلاحظ الدكتور الدليمي, أنها كانت بالبداية مرتكزة على الدين. "فالقرآن يمتلك الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. إنه نص مطلق, كامل وكاف, ومن ثم ظاهرة أن ما من فكر أو تأمل أو فعل جديد, إلا ويجب أن يتخذه مرجعا". بالمرحلة اللاحقة من التطور الاجتماعي, "لم يؤد القرآن وظيفة المؤسس وحدها, بل صار مصدرا تغرف منه الإيديولوجيا, أي متنا من الأفكار, لشرعنة نشاط الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. ولهذا السبب صار أداة كبرى للصراع حول السلطة بين مختلف الأطراف".
وانطلاقا من "تحليل الفكرة الغامضة التي تجعل من الدين القاعدة الظاهرية للبنية السياسية, سيرجح ابن المقفع فكرة ضرورة بناء الدولة على قاعدة عقلانية, وذلك في سياق كان يشهد أكبر الصراعات الفكرية بين الدولة والإيديولوجيا".
من جانب آخر, فإن ابن المقفع عندما تسنى له "ابتكار الشأن السياسي", طالب بضرورة تخليق الدولة. لكن هل يتعلق الأمر هنا "بخاصية للفكر السياسي, أم بالاقتران التقليدي بين الأخلاق والسياسة في التقليد الشرقي؟".
إن بعض عناصر الجواب توجد في تحديد ابن المقفع لوظائف الدولة: الدولة كقوة, المفروض فيها الدفاع عن نفسها وعن رعاياها, ثم الدولة/الوسيلة, لبلوغ الرعايا مستوى الرخاء, بالتالي مطالبتها بتدبير معقلن للشأن العمومي, وتوزيع الثروة الاجتماعية بكيفية تجنب إفقار الرعايا.
إن تفوق الدولة هو من قوة رعاياها ومن قوة جيشها, "وعليه يجب تقوية هذا الجيش, والتصرف على نحو يتيح معرفة ويتيح احتمالا, فحص رغبات العامة ومطالبها". إن تركيز ابن المقفع على مؤسسة الجيش إنما يضمر خلفية لديه, مفادها إيكال الدولة للجيش, وليس لشخص الأمير, الذي قد يبلغ به ذلك مبلغ "التأليه". من هنا, تقتضي مأسسة الجيش أن يعتبر فئة اجتماعية مستقلة. وبما أنه هو الدولة, فإن فساده هو بالتأكيد, فسادها بالجملة والتفصيل.
أما عن المرتكز الديني للشأن السياسي, فإن الثابت أن الإسلام لا يفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي, بما أن السلطة تنتمي لله. "وإذا صرفنا النظر عن غموض الوضع الاعتباري لخلفاء النبي, فإن الخلفاء كانوا يتمتعون بسلطات سياسية, أكثر من السلطات الدينية التي كان يتمتع بها العلماء والفقهاء السياسيون".
إلا أن السيرورة التاريخية أبانت في الواقع مصلحتان: "مصلحة دينية, تريد الحفاظ على النفوذ الواحد والوحيد للدين, ومصلحة مؤسساتية/سياسية, تريد توسيع دائرة الشأن السياسي, دون أن تزعم مع ذلك تقليص الشأن الديني. وهذا الصراع يفترض وجود قطبين للفكر, هما: علماء السياسة/الكتاب, الذين يتدخلون في عملية المأسسة الاجتماعية, والعلماء/الفقهاء السياسيون, الذين يظل وضعهم الاعتباري ووظيفتهم في حاجة إلى تحديد".
امتدادا لذلك, يقول ابن المقفع, في مقارنته بين العقل والدين: "فصل ما بين الدين والرأي, أن الدين يسلم بالإيمان, وأن الرأي يثبت بالخصومة. فمن جعل الدين خصومة, فقد جعل الدين رأيا, ومن جعل الدين رأيا, فقد صار شارعا, ومن كان هو يشرع لنفسه الدين, فلا دين له. قد يشتبه الدين والرأي في أماكن, لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل".
نتيجة لذلك, يعترف ابن المقفع أن الرابط بين العقل والدين هو الأخلاق, "والأخلاق هي العقل والدين ممارسين في اليومي". إن ابن المقفع يعترف للعقل بنفس الوضع الاعتباري الذي يتمتع به الدين, "ويرى فيه وسيلة للوصول إلى السعادة في الحياة الدنيا. والعقل يسد ثغرات الدين, لأنه يتطور, بينما الدين ثابت لا يتغير. بدون العقل قد يكون الدين غير نافع".
+ بالقسم الثاني ("الأخلاق والسياسة: مشروع ابن المقفع"), نجد بالكتاب فصلين اثنين:
°- بالفصل الأول ("الملكية باعتبارها نظاما وحيدا") يلاحظ الدليمي أنه "لا مكان إطلاقا, في مسعى ابن المقفع, لشكل آخر من النظام السياسي غير الملكية, التي يطرحها باعتبارها واحدا وحيدا".
ولما كانت الملكية الفارسية هي المرجع الأساس في فكر ابن المقفع, فقد اعتبر "أن العظمة التي يتوفر عليها الملك, عظمة إلهية, ولكنها تنعكس على الرعايا, من خلال ملكهم. محتفظا في ذهنه بهذا المرجع الثابت للماضي الفارسي, يبتكر ابن المقفع تصوره الجديد للنظام الملكي, انطلاقا من تأمل في طبيعة الدين ووظيفته, ثم يقدم مشروع بنية للعمل الاجتماعي وللاستقرار".
يعتقد ابن المقفع أن الشكل الملكي للحكم ترتب عن أوضاع تاريخية قديمة, "عندما أدرك الناس ضرورة وجود ملك قوي وحكيم, يحميهم من الفتن واضطرابات الفوضى", وأيضا من طبيعة السلطة السياسية نفسها, التي "لا يمكنها بأي حال أن تكون مقتسمة".
ويرى ابن المقفع أن فكرة الملكية يجب استلهامها من نموذجين: نزع القداسة عن السلطان, ثم تصوره تصورا وظيفيا. إن السلطان هنا, عندما يجرد من قداسته, يعطاه دور وظيفي, فيصبح مناطا بواجبات سياسية واجتماعية تقيده, بقدر ما تجعله لا يعوض. و"إذا تقدمنا بهذا الاستدلال قليلا, انتهى إلى فرض مجموعة من الواجبات على الأمير, بدونها قد تنتفي ضرورة وجود الملك".
مع ابن المقفع, لم نعد بإزاء ملكية وضعتها أو دعمتها السلطة الإلهية, "إذ ليس سمو الملك عن رعاياه سوى سمو ممتلك السلطة السياسية على من يشكل موضوعا لها. والسلطان نفسه, ليس هبة إلهية, إنه موضوع صراع بين البشر. وفي سائر الأحوال, لا يستمد الأمير تفوقه من الآلهة, وإنما يستمده من فعله نفسه".
بالتالي, "فإذا كان الملوك/الآلهة أو الملوك/الفيض من الآلهة, في غنى عن كل شخص وكانوا لا يقهرون, فإن الملك/الإنسان, عند ابن المقفع, مهدد على الدوام, في سلطانه, ومن ثمة في حاجة إلى الغير: لا غنى للملوك عن الحكماء".
السلطان هنا لا يختلف عن باقي الناس, "فهو ليس قوة مقدسة ولا إنسانا أعلى, يجب عليه فقط أن يقوم بوظائف تطابق السلطة التي يمتلكها", بموجب "بنود تعاقدية", تربطه بالشعب الذي يقدم له الطاعة بالمقابل. نزع القداسة عن السلطان, يستوجب أيضا استشارة الحكماء قبل تعيين ولي العهد, لتحاشي أن يصعد للحكم من لا يستحقه. لا بل إن ابن المقفع مقتنع بأن السلطان لا يورث, "فهو متقلب, ويسعى دائما إلى الوقوع في أيدي من يستحقونه. ولذا, فإن تعيين شخصية ما باعتبارها وارثة للملك, يعتبر خطأ جسيما, إذ من شأنه أن يتسبب في الفوضى وعدم الاستقرار".
الأمير, بتصور ابن المقفع, يجب أن يكون فيلسوفا وحكيما ومثقفا, وأن يكون قويا, حازما عادلا, هادئا, غير سريع الغضب, متزن. "كما لا يجب عليه إطلاقا أن يتعاطى لضروب التسلية والتصرفات الطائشة, فهما شكلان للهو وتجزية الوقت, كما ليس له الحق في أن يبقى متعطلا, لأن العطالة من سمات الأوباش".
°- بالفصل الثاني ("تنظيم الحكومة") يقول الدكتور الدليمي: "الحكومة هي هذا المجموع من الأشخاص, الذين بواسطتهم تنفذ قرارات الملك, وتشتغل دواليب الدولة. وعندما تكون الحكومة جامدة, لا شيء يمكنه أن يتقدم, إذ لا تفيد الشعب نوايا الملك الحسنة, والدولة تظل سلبية أو, في أسوأ من ذلك, تتحول إلى آلة للقمع والخراب". لهذا السبب, فإن ابن المقفع يحث الملك على اختيار حكومته بعناية فائقة.
والسر في ذلك, بنظر ابن المقفع, أن اختيار الوزراء أمر حاسم في الحياة السياسية والاجتماعية, "واختيار الأمير رجلا واحدا قد يعادل اختيار ألف. على العكس, إذا أخطأ الأمير في اختيار المساعدين, فإن حكومته, على كثرة رجالها, لن يكون لها أساس ولا دوام". والسر كامن أيضا في الحيلولة دون "احتجاج الرعايا وشيوع أسرار المملكة".
ويلاحظ ابن المقفع أن الوظيفة الأولى للوزير هي "عدم ادخار أي جهد لحث الأمير على القيام بكل ما يصلح للزيادة في قوة سلطانه ومجده, تجنب كل ما يمكن أن يؤذيه أو يغطيه بالعار". ويقر بأن الوزير النموذجي هو الذي لا يغطي الأمير بالمديح والثناء, "وإنما هو الذي يخاطبه في حدود الاحترام, بدون مبالغة. كما لا يجب عليه إطلاقا أن يشيع عيوب الأمير, لأن من شأن ذلك أن يسيء إلى السلطان, ويعرض الوزير نفسه للهلاك".
بالمقابل, يحذر ابن المقفع, الوزير النموذجي من "سكر السلطة, والمال, والعلم نفسه, ومن الحاشية والشباب, لأن هذا النوع من السكر يزيل كل اعتبار عن الأشخاص, الذين يتمكن منهم".
من جهة أخرى, يعدد ابن المقفع ست آفات تفسد السلطان, وهي "الحرمان, والفتنة (ثورة الرعايا), والهوى, والفظاظة, والزمان, ثم الخرف". فالفظاظة تبذير للقوة المتوفرة, والخرف استعمال الشدة حيثما يجب استعمال اللين, واللين في موضع الشدة.
ليس ثمة من دلائل, يقول حميد الدليمي, تثبت مقاومة ابن المقفع للاستبداد, لكنه يزعم أن فكره يضمر "مقاومة حكيمة لنموذج من السلطان لم يتبلور بعد, ونتيجة لذلك غرق في الاستبداد والتعسف". ومع ذلك, يقر المؤلف, بأنه حسب ابن المقفع, فبالإمكان الكفاح ضد الاستبداد, لكن ليس "بإجراءات من شأن عواقبها أن تكون مماثلة لعواقب الاستبداد نفسه". ويوكل هذا الأمر للمثقف أو الحكيم/المثقف, الذي يلعب دور ضامن التوازن, وإرشاد عمل الأمير بدقة.
ودليل ابن المقفع على ذلك, أن "السلطان يقود إلى الفساد, وهذا قانون طبيعي. ما أن يرى أمير ما سلطانه راسخا على نحو جيد, وقوته قد زادت, حتى ينزع إلى تغيير طريقة الحكم, والانسياق مع سكر السلطان الأكثر إضرارا من سائر باقي ضروب السكر. آنذاك يصير الحكيم رعاية إلهية بالنسبة للدولة والرعايا".
الحكيم هنا هو أداة المقاومة, لكن دونما أن يشي ذلك بفكرة "استعمال العنف والذكاء مع الأجنبي". إنه وسيلة الكفاح السلمي لمناهضة الظلم, من خلال المزج بين الحكمة والسلم ومقابلة العنف بالعقل.
يقول ابن المقفع: "فوجدت ما قالت العلماء فرضا واجبا على الحكماء بملوكهم, ليوقظوهم من سنة سكرتهم, كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته, حفظ الأجساد على صحتها, أو ردها إلى الصحة. فكرهت أن يموت أو أموت وما يبقى على الأرض إلا من يقول: إنه كان بيدنا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي, فلم يرده عما كان عليه".
الرباط, 14 غشت 2008
حميد.ج. الدليمي, سندي للطباعة والنشر والتوزيع, مكناس, 1999, 136 ص.
* عن موقع يحيى اليحياوي
لقد أحس هذا المسلم الشرقي عن صواب, يقول البروفيسور تييه, "بأن الشأن السياسي, في المجتمعات الإسلامية نفسها, لا يمكن أن يستخلص من الكتاب, وأن مصادره لا توجد في الدين. كان من اللائق قوله فيما مضى, ومن اللائق تدريسه اليوم".
2- ينقسم كتاب الدكتور حميد الدليمي, إلى قسمين اثنين, يضم كل منهما فصلان, حاول من خلالها الاجتهاد لتأويل بعض من نصوص ابن المقفع التأسيسية:
+ يتألف القسم الأول (نظرية السلطان") من فصلين اثنين:
°- بالفصل الأول ("في عقلانية السلطة والسلطان") يجزم المؤلف أن المرتكز العقلاني للسلطة السياسية, في فكر ابن المقفع, "ينحدر من طبيعة المجتمع نفسه, المقسم إلى حاكمين ومحكومين. إنها فكرة جديدة في المجتمع الإسلامي, وغريبة عن الإيديولوجيا المهيمنة. في الواقع, يقيم الإسلام ثنائية مؤمن/كافر لا ثنائية حاكم/محكوم. وباستبدال الأولى بالثانية, يبرهن ابن المقفع على الضرورة القصوى لوجود السلطان وجدواه".
إن السلطة السياسية ضرورية للحياة, بنظر ابن المقفع, وذلك لتحقيق "رخاء العامة, التي يعتبرها تفتقر إلى الكفاءة والاستقرار على حال". إلا أنه يرى أن "العقل هو الذي يؤسس السلطان لا الدين...أكثر من ذلك, يرى ابن المقفع أنه حيثما تغيب سلطة سياسية قوية, تضمن أمن الإنسان, لا يمكن أن تكون هناك سعادة, لأن شر البلاد بلاد لا خصب فيها ولا أمن". لذلك تراه ألح على قضايا الجيش, وتوحيد النظام القضائي, لينطلق منهما لتناول مسألة الدولة والمجتمع: "كيف تخلق الشرعية؟ بالطاعة. من يخلقها؟ المجتمع. ولصالح من؟ النخبة".
من هنا, فإن شرعية الأمير إنما تتأسس على الطاعة "التي يجب أن توليها العامة. بيد أن الطاعة لا يمكن أن تقدم إلا لمن أسماهم الملوك العظام. لا يستحق الأمير الطاعة إلا إذا استجاب لتطلعات العامة, والمهام المرتبطة بمرتبته". الأمير هنا مطالب باحترام اختصاصاته دون تجاوزها, "وإلا فقد دعا العديد من التجاوزات من هذا الجانب وذاك, إلى إراقة الدماء".
وإذا كان ابن المقفع يقسم المجتمع إلى حاكمين ومحكومين, "فلكي يشدد على ضرورة السلطان". ولما كان الناس, بخلاف الأمراء, مجبولون على "الشر والفتنة", فإن من شأن ذلك بلوغ درجات من الانحطاط, حيث ينقسم الناس حول الأشياء قاطبة, "إلا حول كراهية ملكهم". ويعتبر الدين الوسيلة "المضمونة التي تتخذها العامة مطية للوصول إلى ذلك, لأنه يأتيها بأكبر عدد من الأنصار, فضلا عن أنه من الصعب جدا محاربته".
لتجاوز هذه الوضعية, يؤكد ابن المقفع أن "على السلطان أن يقوم بتربية شعبه, لتجنب انحلال الرعايا, وضمان استقرار نظامه". إن على الأمير, يقول ابن المقفع, "أن يتحكم في الشعب, لتجنيب ملكه الخراب". ولما كان ضمن الشعب دائما فئة لن يكون لتربيتها أية نتيجة, فإنه "يجب على الأمير ألا يتردد في استعمال القوة مع هذه الفئة, الأشد دناءة من الشعب".
في حديثه عن النخبة, يرى ابن المقفع أن الوضع الاعتباري لها "يتبع طبيعة المجتمع. مادام المجتمع ينقسم إلى طبقات اجتماعية, فإن النخبة تتمتع بتفوق أخلاقي وتراتبي لا يناقش. إنها قمة المجتمع", لا بل إنها أس النظام الاجتماعي, المكون من الحكام والجيش والفقهاء, وهي منابت النخبة الثلاثة بامتياز. وتستمد النخبة تفوقها من وظيفتها الاجتماعية, التي تضمن الاستقرار للسلطان والمجتمع, عبر إرجاع مثيري القلائل والشقاقات إلى النظام, ولأنها مسموعة الكلمة.
أما عن طبيعة السلطان, فيلاحظ ابن المقفع أن الأمراء, البانين لسلطانهم على شرعية الانتماء إلى بيت الرسول, باعتبار ذلك "هبة من الله", يفرطون في الشرعنة الدينية. بل إنه يمضي لحد القول بأنه "ليس من الضروري البحث عن أصول السلطة السياسية في ميتافيزيقا ولو دينية, غير مؤكدة تماما. السلطة السياسية موجودة هنا, إنها أمر واقعي يومي, يشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية, ويخضع لتجاذباتها وصراعات مكوناتها".
السلطان, بنظر ابن المقفع, يكمن في الحكم والسيطرة, ويمنح لمالكه وضعا اعتباريا, يجعله "ساميا وعالي الرتبة في المجتمع. غير أن بعد السلطان بداخل الإنسان ليس عميقا. فهو ليس الدين, إذ لا ينفذ السلطان إلى داخل الشخص البشري: اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد الرعية, وأنه لا سلطان للملوك على القلوب". بهذا الجانب, يمكن فهم لماذا كان ابن المقفع يركز على الاستخبارات.
ويلاحظ ابن المقفع أن السلطان ليس إلا ما يفعله به الملوك أنفسهم. من هنا تمييز المؤلف بين الملك الفاسد والملك الكامل, الحكم العادل والحكم الظالم, المبنيان على قدرة السلطان على مراعاة مصالح العامة, وعدم نسيان الخصوم, سيما بالنسبة لولاة العهد المحاطين بالمنافقين والسدج: "ففي تاريخ الأمم الأخرى أمثلة كثيرة تشير إلى أن أولياء العهد, عندما يستلمون الحكم, يعتقدون أنهم قد استلموا منتوجا كاملا, مملكة مستقرة, وشعبا مطيعا".
إن المعيار الذي يصنف به ابن المقفع السلطان, هو معيار خلقي وعقلاني, والملك المدان أخلاقيا (بسبب عدم اعتبار مصالح الشعب ومستقبله) لا يمكن أن يدوم طويلا, والسلطان المرتكز على الدين والمعزز بالحزم, سلطان يحظى بالتقدير. من هذا المنطلق يميز ابن المقفع بين ملك الدين وملك الحزم والملك المبني على "الهوى": " وأما ملك الهوى, فلعب ساعة ودمار دهر". بالتالي, فإن الملك الذي يهمل المصلحة العامة, إنما "يهيئ الشروط للقتل والسرقة, وتضعضع الإيمان, والسفالة وعدم التدين".
°- بالفصل الثاني ("مأسسة المجتمع أو تأسيس الدولة"), يقر الدكتور الدليمي بأن الدولة في تصور ابن المقفع, ليست "مفهوما مجردا فقط, إذ لا يدرسها باعتبارها قوة فكرية, بل باعتبارها أيضا وأساسا فاعلا ملموسا في حياة الناس, بنية فعلية للمجتمع". من ثمة, اعتباره الدولة كبنية للهيمنة, وأيضا كبنية "دينامية بداخلها تنسج علاقات سلطة". القوة هنا قوة معقلنة, والعقل هو الذي يلجمها, ويروضها, ويوجهها الوجهة الصحيحة.
عمليا, فإن الدولة هي "مجموع المؤسسات التي تجسد السلطان والمجتمع, وظيفتها ضمان التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي, حتى يتمكن كل امرئ من الانشغال بالمهام الخاصة به, شرط لازم لضمان تفوق الملك. الدولة لا تختلط بالسلطان, ولا بمن بيده الملك/الملك, كما لا تشتغل باعتبارها مؤسسة شخصية. إنها مؤسسة يتجاوز دوامها من هي بيده".
أما مأسسة المجتمع, فهي "جعل العدالة تسوده, وهو ما كان ضروريا بعد الثورة. وإلا فأي شيء يمكن أن يميز العباسيين عن الأمويين؟".
من جهة أخرى, يطالب ابن المقفع بضرورة أن تأخذ الدولة شكلا إيديولوجيا, "لأنه بالانطلاق من مبدأ أن الحكم وإن كان يطال الأجساد, فالأبدان تفلت منه, ألا يجب تقوية السلطة على الأبدان بإيديولوجية تجدر الدولة في العقول, وتضمن بذلك استقرارا دائما. وإذن يجب على الدولة أن تراقب المعتقدات الكامنة التي تروج في المجتمع...بتعبير آخر, لا يجب على الدولة أن تظل في مستوى سطحي من العلاقات الاجتماعية والبيفردية, بل عليها أن تتجاوز ذلك إلى النفاذ إلى عمق كل فرد".
فلكي "تبقى الدولة, ولكي تتحكم في الناس, فإنها تحتاج إلى الإيديولوجيا. في الميدان السياسي, تعتبر الإيديولوجيا مصدر معتقدات للجماعات, وهي في هذا تلعب وظيفة المبرر لأفعال هذه الجماعات ذاتها".
وعن الإيديولوجيا السياسية الخاصة بالإسلام, يلاحظ الدكتور الدليمي, أنها كانت بالبداية مرتكزة على الدين. "فالقرآن يمتلك الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. إنه نص مطلق, كامل وكاف, ومن ثم ظاهرة أن ما من فكر أو تأمل أو فعل جديد, إلا ويجب أن يتخذه مرجعا". بالمرحلة اللاحقة من التطور الاجتماعي, "لم يؤد القرآن وظيفة المؤسس وحدها, بل صار مصدرا تغرف منه الإيديولوجيا, أي متنا من الأفكار, لشرعنة نشاط الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. ولهذا السبب صار أداة كبرى للصراع حول السلطة بين مختلف الأطراف".
وانطلاقا من "تحليل الفكرة الغامضة التي تجعل من الدين القاعدة الظاهرية للبنية السياسية, سيرجح ابن المقفع فكرة ضرورة بناء الدولة على قاعدة عقلانية, وذلك في سياق كان يشهد أكبر الصراعات الفكرية بين الدولة والإيديولوجيا".
من جانب آخر, فإن ابن المقفع عندما تسنى له "ابتكار الشأن السياسي", طالب بضرورة تخليق الدولة. لكن هل يتعلق الأمر هنا "بخاصية للفكر السياسي, أم بالاقتران التقليدي بين الأخلاق والسياسة في التقليد الشرقي؟".
إن بعض عناصر الجواب توجد في تحديد ابن المقفع لوظائف الدولة: الدولة كقوة, المفروض فيها الدفاع عن نفسها وعن رعاياها, ثم الدولة/الوسيلة, لبلوغ الرعايا مستوى الرخاء, بالتالي مطالبتها بتدبير معقلن للشأن العمومي, وتوزيع الثروة الاجتماعية بكيفية تجنب إفقار الرعايا.
إن تفوق الدولة هو من قوة رعاياها ومن قوة جيشها, "وعليه يجب تقوية هذا الجيش, والتصرف على نحو يتيح معرفة ويتيح احتمالا, فحص رغبات العامة ومطالبها". إن تركيز ابن المقفع على مؤسسة الجيش إنما يضمر خلفية لديه, مفادها إيكال الدولة للجيش, وليس لشخص الأمير, الذي قد يبلغ به ذلك مبلغ "التأليه". من هنا, تقتضي مأسسة الجيش أن يعتبر فئة اجتماعية مستقلة. وبما أنه هو الدولة, فإن فساده هو بالتأكيد, فسادها بالجملة والتفصيل.
أما عن المرتكز الديني للشأن السياسي, فإن الثابت أن الإسلام لا يفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي, بما أن السلطة تنتمي لله. "وإذا صرفنا النظر عن غموض الوضع الاعتباري لخلفاء النبي, فإن الخلفاء كانوا يتمتعون بسلطات سياسية, أكثر من السلطات الدينية التي كان يتمتع بها العلماء والفقهاء السياسيون".
إلا أن السيرورة التاريخية أبانت في الواقع مصلحتان: "مصلحة دينية, تريد الحفاظ على النفوذ الواحد والوحيد للدين, ومصلحة مؤسساتية/سياسية, تريد توسيع دائرة الشأن السياسي, دون أن تزعم مع ذلك تقليص الشأن الديني. وهذا الصراع يفترض وجود قطبين للفكر, هما: علماء السياسة/الكتاب, الذين يتدخلون في عملية المأسسة الاجتماعية, والعلماء/الفقهاء السياسيون, الذين يظل وضعهم الاعتباري ووظيفتهم في حاجة إلى تحديد".
امتدادا لذلك, يقول ابن المقفع, في مقارنته بين العقل والدين: "فصل ما بين الدين والرأي, أن الدين يسلم بالإيمان, وأن الرأي يثبت بالخصومة. فمن جعل الدين خصومة, فقد جعل الدين رأيا, ومن جعل الدين رأيا, فقد صار شارعا, ومن كان هو يشرع لنفسه الدين, فلا دين له. قد يشتبه الدين والرأي في أماكن, لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل".
نتيجة لذلك, يعترف ابن المقفع أن الرابط بين العقل والدين هو الأخلاق, "والأخلاق هي العقل والدين ممارسين في اليومي". إن ابن المقفع يعترف للعقل بنفس الوضع الاعتباري الذي يتمتع به الدين, "ويرى فيه وسيلة للوصول إلى السعادة في الحياة الدنيا. والعقل يسد ثغرات الدين, لأنه يتطور, بينما الدين ثابت لا يتغير. بدون العقل قد يكون الدين غير نافع".
+ بالقسم الثاني ("الأخلاق والسياسة: مشروع ابن المقفع"), نجد بالكتاب فصلين اثنين:
°- بالفصل الأول ("الملكية باعتبارها نظاما وحيدا") يلاحظ الدليمي أنه "لا مكان إطلاقا, في مسعى ابن المقفع, لشكل آخر من النظام السياسي غير الملكية, التي يطرحها باعتبارها واحدا وحيدا".
ولما كانت الملكية الفارسية هي المرجع الأساس في فكر ابن المقفع, فقد اعتبر "أن العظمة التي يتوفر عليها الملك, عظمة إلهية, ولكنها تنعكس على الرعايا, من خلال ملكهم. محتفظا في ذهنه بهذا المرجع الثابت للماضي الفارسي, يبتكر ابن المقفع تصوره الجديد للنظام الملكي, انطلاقا من تأمل في طبيعة الدين ووظيفته, ثم يقدم مشروع بنية للعمل الاجتماعي وللاستقرار".
يعتقد ابن المقفع أن الشكل الملكي للحكم ترتب عن أوضاع تاريخية قديمة, "عندما أدرك الناس ضرورة وجود ملك قوي وحكيم, يحميهم من الفتن واضطرابات الفوضى", وأيضا من طبيعة السلطة السياسية نفسها, التي "لا يمكنها بأي حال أن تكون مقتسمة".
ويرى ابن المقفع أن فكرة الملكية يجب استلهامها من نموذجين: نزع القداسة عن السلطان, ثم تصوره تصورا وظيفيا. إن السلطان هنا, عندما يجرد من قداسته, يعطاه دور وظيفي, فيصبح مناطا بواجبات سياسية واجتماعية تقيده, بقدر ما تجعله لا يعوض. و"إذا تقدمنا بهذا الاستدلال قليلا, انتهى إلى فرض مجموعة من الواجبات على الأمير, بدونها قد تنتفي ضرورة وجود الملك".
مع ابن المقفع, لم نعد بإزاء ملكية وضعتها أو دعمتها السلطة الإلهية, "إذ ليس سمو الملك عن رعاياه سوى سمو ممتلك السلطة السياسية على من يشكل موضوعا لها. والسلطان نفسه, ليس هبة إلهية, إنه موضوع صراع بين البشر. وفي سائر الأحوال, لا يستمد الأمير تفوقه من الآلهة, وإنما يستمده من فعله نفسه".
بالتالي, "فإذا كان الملوك/الآلهة أو الملوك/الفيض من الآلهة, في غنى عن كل شخص وكانوا لا يقهرون, فإن الملك/الإنسان, عند ابن المقفع, مهدد على الدوام, في سلطانه, ومن ثمة في حاجة إلى الغير: لا غنى للملوك عن الحكماء".
السلطان هنا لا يختلف عن باقي الناس, "فهو ليس قوة مقدسة ولا إنسانا أعلى, يجب عليه فقط أن يقوم بوظائف تطابق السلطة التي يمتلكها", بموجب "بنود تعاقدية", تربطه بالشعب الذي يقدم له الطاعة بالمقابل. نزع القداسة عن السلطان, يستوجب أيضا استشارة الحكماء قبل تعيين ولي العهد, لتحاشي أن يصعد للحكم من لا يستحقه. لا بل إن ابن المقفع مقتنع بأن السلطان لا يورث, "فهو متقلب, ويسعى دائما إلى الوقوع في أيدي من يستحقونه. ولذا, فإن تعيين شخصية ما باعتبارها وارثة للملك, يعتبر خطأ جسيما, إذ من شأنه أن يتسبب في الفوضى وعدم الاستقرار".
الأمير, بتصور ابن المقفع, يجب أن يكون فيلسوفا وحكيما ومثقفا, وأن يكون قويا, حازما عادلا, هادئا, غير سريع الغضب, متزن. "كما لا يجب عليه إطلاقا أن يتعاطى لضروب التسلية والتصرفات الطائشة, فهما شكلان للهو وتجزية الوقت, كما ليس له الحق في أن يبقى متعطلا, لأن العطالة من سمات الأوباش".
°- بالفصل الثاني ("تنظيم الحكومة") يقول الدكتور الدليمي: "الحكومة هي هذا المجموع من الأشخاص, الذين بواسطتهم تنفذ قرارات الملك, وتشتغل دواليب الدولة. وعندما تكون الحكومة جامدة, لا شيء يمكنه أن يتقدم, إذ لا تفيد الشعب نوايا الملك الحسنة, والدولة تظل سلبية أو, في أسوأ من ذلك, تتحول إلى آلة للقمع والخراب". لهذا السبب, فإن ابن المقفع يحث الملك على اختيار حكومته بعناية فائقة.
والسر في ذلك, بنظر ابن المقفع, أن اختيار الوزراء أمر حاسم في الحياة السياسية والاجتماعية, "واختيار الأمير رجلا واحدا قد يعادل اختيار ألف. على العكس, إذا أخطأ الأمير في اختيار المساعدين, فإن حكومته, على كثرة رجالها, لن يكون لها أساس ولا دوام". والسر كامن أيضا في الحيلولة دون "احتجاج الرعايا وشيوع أسرار المملكة".
ويلاحظ ابن المقفع أن الوظيفة الأولى للوزير هي "عدم ادخار أي جهد لحث الأمير على القيام بكل ما يصلح للزيادة في قوة سلطانه ومجده, تجنب كل ما يمكن أن يؤذيه أو يغطيه بالعار". ويقر بأن الوزير النموذجي هو الذي لا يغطي الأمير بالمديح والثناء, "وإنما هو الذي يخاطبه في حدود الاحترام, بدون مبالغة. كما لا يجب عليه إطلاقا أن يشيع عيوب الأمير, لأن من شأن ذلك أن يسيء إلى السلطان, ويعرض الوزير نفسه للهلاك".
بالمقابل, يحذر ابن المقفع, الوزير النموذجي من "سكر السلطة, والمال, والعلم نفسه, ومن الحاشية والشباب, لأن هذا النوع من السكر يزيل كل اعتبار عن الأشخاص, الذين يتمكن منهم".
من جهة أخرى, يعدد ابن المقفع ست آفات تفسد السلطان, وهي "الحرمان, والفتنة (ثورة الرعايا), والهوى, والفظاظة, والزمان, ثم الخرف". فالفظاظة تبذير للقوة المتوفرة, والخرف استعمال الشدة حيثما يجب استعمال اللين, واللين في موضع الشدة.
ليس ثمة من دلائل, يقول حميد الدليمي, تثبت مقاومة ابن المقفع للاستبداد, لكنه يزعم أن فكره يضمر "مقاومة حكيمة لنموذج من السلطان لم يتبلور بعد, ونتيجة لذلك غرق في الاستبداد والتعسف". ومع ذلك, يقر المؤلف, بأنه حسب ابن المقفع, فبالإمكان الكفاح ضد الاستبداد, لكن ليس "بإجراءات من شأن عواقبها أن تكون مماثلة لعواقب الاستبداد نفسه". ويوكل هذا الأمر للمثقف أو الحكيم/المثقف, الذي يلعب دور ضامن التوازن, وإرشاد عمل الأمير بدقة.
ودليل ابن المقفع على ذلك, أن "السلطان يقود إلى الفساد, وهذا قانون طبيعي. ما أن يرى أمير ما سلطانه راسخا على نحو جيد, وقوته قد زادت, حتى ينزع إلى تغيير طريقة الحكم, والانسياق مع سكر السلطان الأكثر إضرارا من سائر باقي ضروب السكر. آنذاك يصير الحكيم رعاية إلهية بالنسبة للدولة والرعايا".
الحكيم هنا هو أداة المقاومة, لكن دونما أن يشي ذلك بفكرة "استعمال العنف والذكاء مع الأجنبي". إنه وسيلة الكفاح السلمي لمناهضة الظلم, من خلال المزج بين الحكمة والسلم ومقابلة العنف بالعقل.
يقول ابن المقفع: "فوجدت ما قالت العلماء فرضا واجبا على الحكماء بملوكهم, ليوقظوهم من سنة سكرتهم, كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته, حفظ الأجساد على صحتها, أو ردها إلى الصحة. فكرهت أن يموت أو أموت وما يبقى على الأرض إلا من يقول: إنه كان بيدنا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي, فلم يرده عما كان عليه".
الرباط, 14 غشت 2008
حميد.ج. الدليمي, سندي للطباعة والنشر والتوزيع, مكناس, 1999, 136 ص.
* عن موقع يحيى اليحياوي