نقوس المهدي
كاتب
-1-
بهذا اللقب كان يعرف في الشرق، وعرف في بلدة بالأسد، واشتهر أخيرا بالغنائي، وهو شخصية مغمورة في تاريخ المغرب، لا تكاد تذكره كتب التراجم والسير، شخصية غربية في سلوكها، نادرة في سيرتها وأخلاقها، فذة في علومها ومعارفها.. إنها الرحمة المهداة إلى بلاد الصعيد ـ كما يقول الحافظ ابن المنذري، ذلك هو الشيخ أبو محمد عبد الرحيم ابن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة بن جعفر بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن جعفر الصادق، بن محمد الفاخر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط، يتصل نسبه بالشرفاء الحسنيين، والصقليون بفاس من أبناء عمومتهم، انتقلوا من سبتة على عهد المرينيين، ويعرف فريق منهم ببني حمزة، أصلهم من دمشق، استوطنوا سبتة قديما، ومنهم بنو حجون الذين رحلوا إلى البادية، وسكنوا ترغة إحدى قرى غمارة، على بعد نحو 60 كيلو متر من تطوان، ويعرفون إلى الآن بأولاد حكون، والجاري على الألسن أحكان. ومما ينسب لبعض هؤلاء الحسينيين :
عتبت على الدنيا وقلت إلى متى = أكابد حرثا همه ليس بنجلي
أكل شريف من علي نجاره = حرام عليه اليسر غير محلل
فقالت نعم يا ابن الحسين فإنني = غضبت عليكم حين طلقتني علي
وفي قرية ترغة هذه ولد السيد عيد الرحيم سنة 521، ولذا يقال في نسبته الترغي السبتي، وربما قيل الغماري.
هذا نبعه الأبوي الزكي، الذي أنجب للشيخ عبد الرحيم، أما نبعه من حيث خوولته فأمه سكينة بنت أحمد بن حمزة الحراني، ينتهي نسبها إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، حفيظ الحسين السبط، فبنو حمزة وبنو حجون، يلتقيان في اقرب جد إليهما، فهما ـ معا ـ شرفاء حسينيون، ـ كما أسلفنا ـ وكلاهما كان بيت علم وفضل ودين، فأبو العباس والد المترجم كان عالما فاضلا، وفقيها نبيها، بل كان من كبار علماء المغرب، إلا أن البادية أضاعته ، وأضاعت علمه، ولا بد أنه درس على شيوخ سبته وغيرها من مدن المغرب والأندلس، لكن المصادر التي بين أيدينا لا تحدثنا في هذا الصدد بشيء، وكل ما نعرف أنه كان أمام مسجد ترغة، والشأن أن يكون خطيبها، والإمام يرجع إليه أهل البلد في شؤونهم الدينية والدنيوية.
وكانت غمارة في هذا العصر تابعة لسبتة، وتعتبر إحدى عمالاتها، ولذا نجد أكثر أهلها يرحلون إلى سبتة لإتمام دراستهم، وأخذهم عن علمائها ومشايخها، وقلما يتجهون إلى سواها، وقد استوطنها جملة وافرة منهم وظهر فيهم علماء فطاحل، وفقهاء نابهون، ويكفي أن نعرف أن الشيخ أبا عمرو إسحاق بن إبراهيم الغماري كان قاضي سبتة لهذا العهد، تنقل قاضيا في عدة جهات من المغرب والأندلس، كفاس وجيان وسواهما، وكان حافظ المذهب، يستظهر المدونة، فقد في وقعة العقاب عام 609، عني أبو العباس بولده الصغير، ورباه تربية دينية، وأحاطه بسياج من الفضيلة والأخلاق، ويقال أنه سماه «أسدا» تفاؤلا أن يكون من أسود الله، يكافح عن دينه، ويذب عن حوزته.
وبهذا الاسم كان معروفا في أول مرة، ثم سمى نفسه عبد الرحيم، قال : لما فتح الله علي عاينت كرامة الله علي، ورأيت وصف الرحمة، وشاهدت ألطاف المولى ـ سميت نفسي بعد الرحيم، طمعا فيما عاينت) وكانت له أخت اختير لها من الأسماء(شعثة) ولعل ذلك لحديث : (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).
كل ذلك يدلنا على أسرة الطفل كانت تعيش على جانب كبير من الخشونة والنسك والتعبد، وقرية ترغة هذه مشهورة بعلمائها الكثيرين، ففي شاطئها يرقد العدد العديد من العباد الزاهدين، والأولياء العارفين كالشيخ الأكبر عبد الرحمان الزيات، شيخ ابن مشيش، والعارف الأشهر أبي العباس الغزال وسواهما.
أدخل أبو العباس ولده الكتاب ـ ولم يرزق ولدا ذكرا سواه ـ فحفظ القرآن الكريم، وشدا بعض العلوم والفنون، وهكذا تهيأ للناشئ الصغير بيئة صالحة تعده لمكان مرموق في العلم والصلاح، وكانت تطغى عليه منذ نشأته ـ نفحة، تجعله يبتعد عن الصبيان، ولا يلهو مع اللاهين، وكان لسان حاله، يقول :
«قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل» وكان أبو العباس حريصا على أن يرسل ولده الناشئ إلى بيت أخواله بسبتة، لإتمام دراسته، وإنهاء تعليمه العالي، الذي كان يتجلى في الإجازات العلمية، التي يحرز عليها الطلاب المتفوقون، من أساتذتهم النابهين، إلا أن المنية عاجلت الشيخ الوالد قبل أن تتحقق منه هذه الأمنية، والصبي بعد حدث، لم يتجاوز منه السادسة عشرة، ولكن الفتى عرف طريقه، فتسلل بين شعاب الجبل، والتحقق بمدينة سبتة، ونزل ببيت أخواله بني حمزة، ولم يكن غريبا عن هذا البلد، فقد تردد إليه غير مرة صحفة والده، ولم تزل أحاديث والده الشيخ عالقة بذهنه، وكانت تهز نفسه، وتدفعه إلى الأخذ والتلقي عن المشايخ الشهيرين.
وكانت سبتة آنذاك مدينة علم وفكر وأدب، تضج أعلاما كبارا في كل فن، أمثال القاضي عياض في التفسير وعلوم الحديث، حتى لقد قال القائل :
«مشارق أنوار تبدت بسبتة ومن عجب كون المشارق في الغرب» وكأبي عبد الله بن هشام اللخمي في العربية وعلوم اللغة، ومن إليهما من الشيوخ العديدين الذين كانت تطفح بهم مدارس سبتة وكان للشيخ أبي عبد الله بن عيسى ـ صدى بعيد في الأوساط الثقافية بالمغرب والأندلس، وكان إمام عصره في سائر العلوم، انتهت إليه الرياسة في الفقه، تخرج عليها فقهاء سبتة، وكان لتلاميذه الحظوة الكبرى لدى الدولة، ما منهم أحد إلا قدم للقضاء والشورى، ولم يكن في قطر من الأقطار ـ بعد يحيى الليثي ـ من حمل عنه الناس أكثر منه.
وكانت تأتيه الأسئلة من القاضي بن حمدين بقرطبة، والقاضي بن شبريل بأشبيلية، والقاضي بن ملجوم بفاس، وكان حلال للمشكلات. ومن حسن حظ الفتى عبد الرحيم أن يرى جانبه في أكثر الحلقات الدروس طبقة واعية من طلبة سبتة، يزاحمونه بمناكب قوية، فينافسهم وينافسونه من أمثال أبي العباس السبتي، وابن الصبر الفهري، وأبي علي الصواف، وأبي عبد الله بن حماد الصنهاجي وسواهم.
ولم يكن التلميذ القروي ن التلاميذ العاديين، بل كان على سمت حسن، وذكاء عجيب، مما لفت إليه أنظار أشياخه، وحببه إلى أساتذته، وقد ظهر نبوغه مبكرا، فحفظ أكثر العلوم والفنون، ولم يكد ينتهي العقد الثاني من عمره (20) حتى كان إماما مقدما في سائر العلوم، وخصوصا منها علوم الحديث والتفسير، فقد رزق فيهما فهما عجيبا، وسرا غريبا، قال ابن باديس في سينيته :
«وللمغربي عبد الرحيم مواهب
وفاضت من السر المصون بحوزه من الفهم للقرآن جلت عن الحدس
*** جلس للتدريس بجوامع سبتة، وكانت تختلف إلى حلقاته المشايخ والرؤوس.
وعلى الجملة فقد أخذ محل الصدارة بين شيوخ عصره ـ على حداثة سنه، فكان إمام وواعظا، وخطيبا ومدرسا بالجامع الأعظم بسبتة، وكان لا يرتقي إلى كرسي هذا الجامع ـ إلا الشيوخ المحنكون، ثم مال إلى التصوف، وملك عليه شغاف قلبه، وكان يقضي جل وقته في محاريب الله، قال السيد عبد الرحيم ـ وهو يتحدث عن نفسه ـ : فتح الله علي، وأنا في عشرين سنة أو دونها، وكنت رأيت في المنام كأني صعدت منارا عاليا إلى أعلاها، فاستوفيت منها، فنزلت فوجدت في أسفلها عين ماء، قال والرؤيا صفة حال.
ثم التاريخ لا يذكر بعد ذلك شيئا عن شبابه وشيوخه، ومقدار العلوم التي حصلها، ولابد أنه زار الأندلس، وأخذ عن أعلام علمائها، وقلما نجد من شيوخ سبتة من لم يرحل إلى الأندلس ويكترع من مناهلها، وكانت سبتة في هذا الوقت بالذات مهبط صوفية الأندلس، وملتقى الحركات الفكرية، والنزعات الفلسفية، ومن أقطاب التصوف لهذا العهد ـ أبو زيد القرطبي، وأبو الربيع المالقي، وأبو العباس بن العريف الطنجي، وأبو مدين القطياني، وأبو إسحاق إبراهيم بن طريف، وكان أبو يعزى يمثل مدرسة قائمة بذاتها في جنوب المغرب.
وقد اتصل السيد عيد الرحيم بجملة وافرة من شيوخ التصوف فأخذ عن أبي النجاة سالم الجبيلي دفين بجاية وأقام في خدمته مدة، وكان شيخا زاهدا، متخليا عن الدنيا، منقطعا إلى الله، ثم اتصل بابي محمد عبد الرزاق الجزولي، وجدد له العهد، ولعل ذلك بعد وفاة شيخه أبي سالم.
وقال في الطالع السعيد : أنه من أصحاب أبي يعزى، ولم يذكره أبو القاسم الصومعي في جملة أصحابه، والتاريخ لا يبعد لقياه به، ولقي الشيخ أبا مدين وأخذ عنه، قال سمعته يقول : (أوقفني ربي عز وجل بين يديه، وقال يا شعيب ماذا يمينك ؟ فقال يا رب عطاؤك، قال وماذا عن شمالك ؟ قال يا رب قضاؤك قال يا شعيب : قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا...) وكانت بادية شمال المغرب، تعج بالكثير منا لعباد المتبتلين، والأولياء العارفين، وكانت تمتد على هذا الشاطئ من سبتة إلى حدود تلمسان سلسلة من الربط كمعاهد للعلم والتعبد والجهاد، تخرج منها كثير من الأبطال الصناديد وكانوا شجى في حلق العدو، ثم حدثت أحداث، كدرت صفو الحياة على هؤلاء وأولئك، وامتحن البعض منهم في نحلته ومذهبه، وكان الشيخ عبد الرحيم من المشهورين بعقيدتهم السلفية، ومن المتمسكين بمذهب مالك.
كان المغرب يعيش في هذه الفترة ـ حياة الفوضى والاضطراب، وقد بلغ الصراع أشده بين المرابطين والموحدين، وكانت سبتة هدفا لغارات وهجومات عنيفة عاشت معها في شبه عزلة مستقلة عن بقية أجزاء المغرب، تحت زعامة القاضي عياض، ثم كانت مثار فتن وحروب داخلية، قضت مضاجع العقلاء من أبنائها، فرحل الكثير من علمائها ومشايخها، ونفى منها عياض قيدومها الأكبر، وفي هذه الأثناء عرضت غمارة لحملة تأديبية، أراق فيها الموحدون دماء كثيرة، ثم كانت المجزرة البشرية الكبرى، التي ذهبت ضحيتها ثمانمائة رجل من رؤساء غمارة.
كل هذه عوامل دفعت الشيخ عبد الرحيم إلى الخروج من سبتة، ثم من المغرب نهائيا، وقد غادر سبتة 542 وجاء لتوديعه الكثير من تلاميذه ومريده، وكان خروجه برسم أداء الحج، والمحتمل أن سفره كان عن طريق الجزائر، وقد نزل الإسكندرية، ومنها واصل طريقه إلى مكة المكرمة تحدوه الأشواق المتأججة إلى البيت المعمور، وتدفعه العاطفة الثائرة إلى المنبر والروضة والحبيب، وفي إحدى الليالي العاطرة الأنفاس هبط السيد عبد الرحيم إلى مكة، البلد المبارك الذي طوف به الأنبياء، ونزل إلى ساحته الملائكة، فوجد المكان الذي سكن إليه قلبه، هدأ روعه، وانثالت عليه علوم ومعارف، وغمرته نفحات لم يكن ليجدها فيما سواه.
ثم قصد المدينة المنورة، حيث الحبيب، وجاور بالروضة الشريفة ما شاء الله، وهكذا جعل ينتقل ما بين الحرمين الشريفين، مدة سبع سنين أو تزيد، وكان هذا البلد الأمين، مجمع العلماء والمحدثين، وأهل الفتيا والبيان، فنزل السيد عبد الرحيم بينهم كالقمر بين النجوم، فالتفوا حوله وجلسوا إليه واستمعوا إلى أحاديثه وأخذوا عنه في كل العلوم، وتتلمذ عليه الكثير من المريدين، وهنا لمع اسم الشيخ المغربي، والتصق به هذا اللقب، ولهج الناس به في كل محفل وناد.
ويحدثنا في هذا الصدد أحد الذين عاصروه، وشاهدوا من أنوار معرفته، وهو أبو الوفاء المدني، فيذكر في كتابه (الأصفياء) صورا من مجالس الشيخ المغربي، ويتحدث ـ كشاهد عيان ـ عن كراماته ومناقبه، ويعرض علينا كثيرا من أحزابه وأوراده، وهي مجموعة من آيات قرآنية تستغرق نحو نصفها، ثم تتلوها أدعية وصلوات على الرسول الأعظم، الذي كان لا يحلو للشيخ عبد الرحيم الجلوس إلا بجانبه ولا يكاد يفارقه، ولا يزال يلهج بذكره ، أناء الليل وأطراف النهار، ويذكر الكتاب أن مما كان يدعو به الشيخ المغربي بين ركعتي الفجر وصلاة الغداة وبين الشفع وركعة الوتر ـ هذا الدعاء : (اللهم ارزقني علم الحياة وحياة العلم، وامنحني نعيم الحياة وحياة النعيم، واغمرني بفضل من النور ونور من الفضل، وأعطني قوة الأبدان وأبدان القوة، وأسألك نعمة الشفا وشفاء النعمة، وأسألك طول العمر والإنعام، وأحسن إلي يا عظيم الإحسان).
وهناك في رحاب المسجد النبوي، التقى بالشيخ المغربي عالم قوص، السيد مجد الدين القشيري، فرغب إليه في أن يذهب معه إلى بلده، وقد أعجب بغزارة علمه، ونور معرفته وأسرار حكمته.
وبعد سنة كاملة من هذا اللقاء، التحق الشيخ عبد الرحيم بقوص سنة (551) وهناك أسس مدرسته الكبرى، التي جمعت بين العلم والعمل، وكانت خير مثال للتصوف السني كما قيل .
ذلك ما نريد أن نتحدث عنه بشيء من التفصيل في العدد المقبل بحول الله.
* دعوة الحق العد 93
بهذا اللقب كان يعرف في الشرق، وعرف في بلدة بالأسد، واشتهر أخيرا بالغنائي، وهو شخصية مغمورة في تاريخ المغرب، لا تكاد تذكره كتب التراجم والسير، شخصية غربية في سلوكها، نادرة في سيرتها وأخلاقها، فذة في علومها ومعارفها.. إنها الرحمة المهداة إلى بلاد الصعيد ـ كما يقول الحافظ ابن المنذري، ذلك هو الشيخ أبو محمد عبد الرحيم ابن أحمد بن حجون بن محمد بن حمزة بن جعفر بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن جعفر الصادق، بن محمد الفاخر بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط، يتصل نسبه بالشرفاء الحسنيين، والصقليون بفاس من أبناء عمومتهم، انتقلوا من سبتة على عهد المرينيين، ويعرف فريق منهم ببني حمزة، أصلهم من دمشق، استوطنوا سبتة قديما، ومنهم بنو حجون الذين رحلوا إلى البادية، وسكنوا ترغة إحدى قرى غمارة، على بعد نحو 60 كيلو متر من تطوان، ويعرفون إلى الآن بأولاد حكون، والجاري على الألسن أحكان. ومما ينسب لبعض هؤلاء الحسينيين :
عتبت على الدنيا وقلت إلى متى = أكابد حرثا همه ليس بنجلي
أكل شريف من علي نجاره = حرام عليه اليسر غير محلل
فقالت نعم يا ابن الحسين فإنني = غضبت عليكم حين طلقتني علي
وفي قرية ترغة هذه ولد السيد عيد الرحيم سنة 521، ولذا يقال في نسبته الترغي السبتي، وربما قيل الغماري.
هذا نبعه الأبوي الزكي، الذي أنجب للشيخ عبد الرحيم، أما نبعه من حيث خوولته فأمه سكينة بنت أحمد بن حمزة الحراني، ينتهي نسبها إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، حفيظ الحسين السبط، فبنو حمزة وبنو حجون، يلتقيان في اقرب جد إليهما، فهما ـ معا ـ شرفاء حسينيون، ـ كما أسلفنا ـ وكلاهما كان بيت علم وفضل ودين، فأبو العباس والد المترجم كان عالما فاضلا، وفقيها نبيها، بل كان من كبار علماء المغرب، إلا أن البادية أضاعته ، وأضاعت علمه، ولا بد أنه درس على شيوخ سبته وغيرها من مدن المغرب والأندلس، لكن المصادر التي بين أيدينا لا تحدثنا في هذا الصدد بشيء، وكل ما نعرف أنه كان أمام مسجد ترغة، والشأن أن يكون خطيبها، والإمام يرجع إليه أهل البلد في شؤونهم الدينية والدنيوية.
وكانت غمارة في هذا العصر تابعة لسبتة، وتعتبر إحدى عمالاتها، ولذا نجد أكثر أهلها يرحلون إلى سبتة لإتمام دراستهم، وأخذهم عن علمائها ومشايخها، وقلما يتجهون إلى سواها، وقد استوطنها جملة وافرة منهم وظهر فيهم علماء فطاحل، وفقهاء نابهون، ويكفي أن نعرف أن الشيخ أبا عمرو إسحاق بن إبراهيم الغماري كان قاضي سبتة لهذا العهد، تنقل قاضيا في عدة جهات من المغرب والأندلس، كفاس وجيان وسواهما، وكان حافظ المذهب، يستظهر المدونة، فقد في وقعة العقاب عام 609، عني أبو العباس بولده الصغير، ورباه تربية دينية، وأحاطه بسياج من الفضيلة والأخلاق، ويقال أنه سماه «أسدا» تفاؤلا أن يكون من أسود الله، يكافح عن دينه، ويذب عن حوزته.
وبهذا الاسم كان معروفا في أول مرة، ثم سمى نفسه عبد الرحيم، قال : لما فتح الله علي عاينت كرامة الله علي، ورأيت وصف الرحمة، وشاهدت ألطاف المولى ـ سميت نفسي بعد الرحيم، طمعا فيما عاينت) وكانت له أخت اختير لها من الأسماء(شعثة) ولعل ذلك لحديث : (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).
كل ذلك يدلنا على أسرة الطفل كانت تعيش على جانب كبير من الخشونة والنسك والتعبد، وقرية ترغة هذه مشهورة بعلمائها الكثيرين، ففي شاطئها يرقد العدد العديد من العباد الزاهدين، والأولياء العارفين كالشيخ الأكبر عبد الرحمان الزيات، شيخ ابن مشيش، والعارف الأشهر أبي العباس الغزال وسواهما.
أدخل أبو العباس ولده الكتاب ـ ولم يرزق ولدا ذكرا سواه ـ فحفظ القرآن الكريم، وشدا بعض العلوم والفنون، وهكذا تهيأ للناشئ الصغير بيئة صالحة تعده لمكان مرموق في العلم والصلاح، وكانت تطغى عليه منذ نشأته ـ نفحة، تجعله يبتعد عن الصبيان، ولا يلهو مع اللاهين، وكان لسان حاله، يقول :
«قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل» وكان أبو العباس حريصا على أن يرسل ولده الناشئ إلى بيت أخواله بسبتة، لإتمام دراسته، وإنهاء تعليمه العالي، الذي كان يتجلى في الإجازات العلمية، التي يحرز عليها الطلاب المتفوقون، من أساتذتهم النابهين، إلا أن المنية عاجلت الشيخ الوالد قبل أن تتحقق منه هذه الأمنية، والصبي بعد حدث، لم يتجاوز منه السادسة عشرة، ولكن الفتى عرف طريقه، فتسلل بين شعاب الجبل، والتحقق بمدينة سبتة، ونزل ببيت أخواله بني حمزة، ولم يكن غريبا عن هذا البلد، فقد تردد إليه غير مرة صحفة والده، ولم تزل أحاديث والده الشيخ عالقة بذهنه، وكانت تهز نفسه، وتدفعه إلى الأخذ والتلقي عن المشايخ الشهيرين.
وكانت سبتة آنذاك مدينة علم وفكر وأدب، تضج أعلاما كبارا في كل فن، أمثال القاضي عياض في التفسير وعلوم الحديث، حتى لقد قال القائل :
«مشارق أنوار تبدت بسبتة ومن عجب كون المشارق في الغرب» وكأبي عبد الله بن هشام اللخمي في العربية وعلوم اللغة، ومن إليهما من الشيوخ العديدين الذين كانت تطفح بهم مدارس سبتة وكان للشيخ أبي عبد الله بن عيسى ـ صدى بعيد في الأوساط الثقافية بالمغرب والأندلس، وكان إمام عصره في سائر العلوم، انتهت إليه الرياسة في الفقه، تخرج عليها فقهاء سبتة، وكان لتلاميذه الحظوة الكبرى لدى الدولة، ما منهم أحد إلا قدم للقضاء والشورى، ولم يكن في قطر من الأقطار ـ بعد يحيى الليثي ـ من حمل عنه الناس أكثر منه.
وكانت تأتيه الأسئلة من القاضي بن حمدين بقرطبة، والقاضي بن شبريل بأشبيلية، والقاضي بن ملجوم بفاس، وكان حلال للمشكلات. ومن حسن حظ الفتى عبد الرحيم أن يرى جانبه في أكثر الحلقات الدروس طبقة واعية من طلبة سبتة، يزاحمونه بمناكب قوية، فينافسهم وينافسونه من أمثال أبي العباس السبتي، وابن الصبر الفهري، وأبي علي الصواف، وأبي عبد الله بن حماد الصنهاجي وسواهم.
ولم يكن التلميذ القروي ن التلاميذ العاديين، بل كان على سمت حسن، وذكاء عجيب، مما لفت إليه أنظار أشياخه، وحببه إلى أساتذته، وقد ظهر نبوغه مبكرا، فحفظ أكثر العلوم والفنون، ولم يكد ينتهي العقد الثاني من عمره (20) حتى كان إماما مقدما في سائر العلوم، وخصوصا منها علوم الحديث والتفسير، فقد رزق فيهما فهما عجيبا، وسرا غريبا، قال ابن باديس في سينيته :
«وللمغربي عبد الرحيم مواهب
وفاضت من السر المصون بحوزه من الفهم للقرآن جلت عن الحدس
*** جلس للتدريس بجوامع سبتة، وكانت تختلف إلى حلقاته المشايخ والرؤوس.
وعلى الجملة فقد أخذ محل الصدارة بين شيوخ عصره ـ على حداثة سنه، فكان إمام وواعظا، وخطيبا ومدرسا بالجامع الأعظم بسبتة، وكان لا يرتقي إلى كرسي هذا الجامع ـ إلا الشيوخ المحنكون، ثم مال إلى التصوف، وملك عليه شغاف قلبه، وكان يقضي جل وقته في محاريب الله، قال السيد عبد الرحيم ـ وهو يتحدث عن نفسه ـ : فتح الله علي، وأنا في عشرين سنة أو دونها، وكنت رأيت في المنام كأني صعدت منارا عاليا إلى أعلاها، فاستوفيت منها، فنزلت فوجدت في أسفلها عين ماء، قال والرؤيا صفة حال.
ثم التاريخ لا يذكر بعد ذلك شيئا عن شبابه وشيوخه، ومقدار العلوم التي حصلها، ولابد أنه زار الأندلس، وأخذ عن أعلام علمائها، وقلما نجد من شيوخ سبتة من لم يرحل إلى الأندلس ويكترع من مناهلها، وكانت سبتة في هذا الوقت بالذات مهبط صوفية الأندلس، وملتقى الحركات الفكرية، والنزعات الفلسفية، ومن أقطاب التصوف لهذا العهد ـ أبو زيد القرطبي، وأبو الربيع المالقي، وأبو العباس بن العريف الطنجي، وأبو مدين القطياني، وأبو إسحاق إبراهيم بن طريف، وكان أبو يعزى يمثل مدرسة قائمة بذاتها في جنوب المغرب.
وقد اتصل السيد عيد الرحيم بجملة وافرة من شيوخ التصوف فأخذ عن أبي النجاة سالم الجبيلي دفين بجاية وأقام في خدمته مدة، وكان شيخا زاهدا، متخليا عن الدنيا، منقطعا إلى الله، ثم اتصل بابي محمد عبد الرزاق الجزولي، وجدد له العهد، ولعل ذلك بعد وفاة شيخه أبي سالم.
وقال في الطالع السعيد : أنه من أصحاب أبي يعزى، ولم يذكره أبو القاسم الصومعي في جملة أصحابه، والتاريخ لا يبعد لقياه به، ولقي الشيخ أبا مدين وأخذ عنه، قال سمعته يقول : (أوقفني ربي عز وجل بين يديه، وقال يا شعيب ماذا يمينك ؟ فقال يا رب عطاؤك، قال وماذا عن شمالك ؟ قال يا رب قضاؤك قال يا شعيب : قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا...) وكانت بادية شمال المغرب، تعج بالكثير منا لعباد المتبتلين، والأولياء العارفين، وكانت تمتد على هذا الشاطئ من سبتة إلى حدود تلمسان سلسلة من الربط كمعاهد للعلم والتعبد والجهاد، تخرج منها كثير من الأبطال الصناديد وكانوا شجى في حلق العدو، ثم حدثت أحداث، كدرت صفو الحياة على هؤلاء وأولئك، وامتحن البعض منهم في نحلته ومذهبه، وكان الشيخ عبد الرحيم من المشهورين بعقيدتهم السلفية، ومن المتمسكين بمذهب مالك.
كان المغرب يعيش في هذه الفترة ـ حياة الفوضى والاضطراب، وقد بلغ الصراع أشده بين المرابطين والموحدين، وكانت سبتة هدفا لغارات وهجومات عنيفة عاشت معها في شبه عزلة مستقلة عن بقية أجزاء المغرب، تحت زعامة القاضي عياض، ثم كانت مثار فتن وحروب داخلية، قضت مضاجع العقلاء من أبنائها، فرحل الكثير من علمائها ومشايخها، ونفى منها عياض قيدومها الأكبر، وفي هذه الأثناء عرضت غمارة لحملة تأديبية، أراق فيها الموحدون دماء كثيرة، ثم كانت المجزرة البشرية الكبرى، التي ذهبت ضحيتها ثمانمائة رجل من رؤساء غمارة.
كل هذه عوامل دفعت الشيخ عبد الرحيم إلى الخروج من سبتة، ثم من المغرب نهائيا، وقد غادر سبتة 542 وجاء لتوديعه الكثير من تلاميذه ومريده، وكان خروجه برسم أداء الحج، والمحتمل أن سفره كان عن طريق الجزائر، وقد نزل الإسكندرية، ومنها واصل طريقه إلى مكة المكرمة تحدوه الأشواق المتأججة إلى البيت المعمور، وتدفعه العاطفة الثائرة إلى المنبر والروضة والحبيب، وفي إحدى الليالي العاطرة الأنفاس هبط السيد عبد الرحيم إلى مكة، البلد المبارك الذي طوف به الأنبياء، ونزل إلى ساحته الملائكة، فوجد المكان الذي سكن إليه قلبه، هدأ روعه، وانثالت عليه علوم ومعارف، وغمرته نفحات لم يكن ليجدها فيما سواه.
ثم قصد المدينة المنورة، حيث الحبيب، وجاور بالروضة الشريفة ما شاء الله، وهكذا جعل ينتقل ما بين الحرمين الشريفين، مدة سبع سنين أو تزيد، وكان هذا البلد الأمين، مجمع العلماء والمحدثين، وأهل الفتيا والبيان، فنزل السيد عبد الرحيم بينهم كالقمر بين النجوم، فالتفوا حوله وجلسوا إليه واستمعوا إلى أحاديثه وأخذوا عنه في كل العلوم، وتتلمذ عليه الكثير من المريدين، وهنا لمع اسم الشيخ المغربي، والتصق به هذا اللقب، ولهج الناس به في كل محفل وناد.
ويحدثنا في هذا الصدد أحد الذين عاصروه، وشاهدوا من أنوار معرفته، وهو أبو الوفاء المدني، فيذكر في كتابه (الأصفياء) صورا من مجالس الشيخ المغربي، ويتحدث ـ كشاهد عيان ـ عن كراماته ومناقبه، ويعرض علينا كثيرا من أحزابه وأوراده، وهي مجموعة من آيات قرآنية تستغرق نحو نصفها، ثم تتلوها أدعية وصلوات على الرسول الأعظم، الذي كان لا يحلو للشيخ عبد الرحيم الجلوس إلا بجانبه ولا يكاد يفارقه، ولا يزال يلهج بذكره ، أناء الليل وأطراف النهار، ويذكر الكتاب أن مما كان يدعو به الشيخ المغربي بين ركعتي الفجر وصلاة الغداة وبين الشفع وركعة الوتر ـ هذا الدعاء : (اللهم ارزقني علم الحياة وحياة العلم، وامنحني نعيم الحياة وحياة النعيم، واغمرني بفضل من النور ونور من الفضل، وأعطني قوة الأبدان وأبدان القوة، وأسألك نعمة الشفا وشفاء النعمة، وأسألك طول العمر والإنعام، وأحسن إلي يا عظيم الإحسان).
وهناك في رحاب المسجد النبوي، التقى بالشيخ المغربي عالم قوص، السيد مجد الدين القشيري، فرغب إليه في أن يذهب معه إلى بلده، وقد أعجب بغزارة علمه، ونور معرفته وأسرار حكمته.
وبعد سنة كاملة من هذا اللقاء، التحق الشيخ عبد الرحيم بقوص سنة (551) وهناك أسس مدرسته الكبرى، التي جمعت بين العلم والعمل، وكانت خير مثال للتصوف السني كما قيل .
ذلك ما نريد أن نتحدث عنه بشيء من التفصيل في العدد المقبل بحول الله.
* دعوة الحق العد 93