نقوس المهدي
كاتب
-1-
من منا لا يعتز بهذه الخطبة؟ ومن منا لا يعدها أعرق تراث مغربي يقترن بفجر الإسلام بالمغرب والأندلس؟ إن ناحيتها البلاغية لم تكن تسحرنا، ونحن أطفال في المدرسة، وإنما الذي كان يثير فينا مشاعر الاعتزاز والزهو هو تلك الروح المغربية الإسلامية التي تتحدى الأخطار، وتهزأ بالأهوال، وتقتحم الصعاب، وتهوى البطولات والخوارق البشرية. ولكن بعض الباحثين ـ سامحهم الله ـ حاولوا نسف تلك المشاعر وزعزعة تلك الصورة الرائعة التي كونتها مخيلاتنا من خلال تلك الخطبة، وحاولوا تنغيص تلك النشوة الروحية التي كانت تسبح في أجوائها احساساتنا ونحن نرددها على مسامع معلمنا بالمدرسة الابتدائية وكان كل واحد منا طارق محصورا بين البحر والعدو وهو واتق بالنصر المبين.
وكانت بلاغتها التي رويت عليها في نفح الطيب شؤما عليها إذ كانت من أهم الثغرات التي تسرب منها النقد ليهدم كيانها من القواعد!! ولكن بقليل من البحث حاولت أن أتلافى تلك الثغرات وأوصدها في وجه الشكوك التي تثار حول نسبة الخطبة لصاحبها طارق والحفاظ على تراثنا الذي نعتز به بشكل أو بآخر حسب ما سننتهي إليه في هذا المقال.
ممن احتار في أمر هذه الخطبة الأمير شكيب أرسلان رحمه الله عليه فقال:
« تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس ابن ساعدة أو سحبان وائل لم يأت بأفصح ولا بأبلغ منها، ولقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي.. هذا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهولة... » وحقيقة هذا اللغز لدى أمير البيان أن طارقا بربري، والخطبة تعد من انموذجات الخطب العربية، ولم يستطع التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين وقد حاول، لكنه لم يسترح لمحاولاته... وأخيرا زال تردده عند ما جزم الأستاذ الكبير عبد الله كنون بأن هذه الخطبة من جملة انطباع البربر بالطابع العربي البحت.(1)
وكذلك يرتاب في نسبة هذه الخطبة لطارق كل من الأستاذ المؤرخ عبد الله عنان وأستاذنا الدكتور أحمد هيكل أستاذ الأدب الأندلسي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. فأما الأول فيرتكز في ارتيابه على الأدلة التالية:(2)
1. ـ كون الخطبة لم ترد في المصادر التاريخية الإسلامية القديمة، ولم يشر إليها إلا ابن خلدون ولا ابن الأثير وإنما نقلها المقري وحده عن مؤرخ لم يذكر اسمه.
2. ـ روعة أسلوبها وعباراتها مع أن طارقا لم يكن عريقا في العروبة والإسلام، وينتهي من ذلك إلى الحكم بأنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان، وإن كان لا ينفي أن يكون طارق خطب ولكن في غير هذه اللغة.
ويبني الدكتور هيكل شكه في هذه النسبة على ما يلي:
1. ـ أن طارقا بربري، حديث عهد بالإسلام والعربية؛ لأنه لم يرتبط بموسى بن نصير إلا عند ما ولي هذا الأخير قيادة المغرب سنة 89 هـ. وبين هذا التاريخ وتاريخ الفتح (92 هـ) فترة وجيزة، يستبعد معها أن يجد طارق العربية بحيث تسمح له بإلقاء الخطب ونظم الشعر.
2. ـ أن المصادر الأولى عربية وأندلسية، قد سكتت عن هذه الخطبة ولم تشر إليها، ولا تنص عليها سوى المصادر المتأخرة كثيرا عن الفتح مثل نفح الطيب.
3. ـ أسلوب الخطبة بما فيه من الصنعة والزخرف لا ينتسب إلى عصر طارق الأدبي وإنما إلى عصر متأخر جدا عن القرن الأول، ولذلك يرى أن هذه الخطبة هي أقرب إلى خصائص أواخر العصر العباسي وربما إلى ما بعد ذلك.
4. ـ ورود هذه العبارة: « وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عربانا » مما يزيد من حظ الشك ويقوي الارتياب، لأن الجنود لم يكونوا عربا، بل كانوا برابرة. وبناء على تلك الأدلة يخلص الدكتور هيكل إلى حكم يرجع فيه أن تكون الخطبة قد وضعت على لسان طارق من طرف بعض الرواة المتأخرين كثيرا عن الفتح والمتأثرين كثيرا بأسلوب أواخر العصر العباسي وربما بالعصر المملوكي.
ويرى بعد ذلك أن طارقا قد يكون خطب في جنود، وقد يكون تغنى انتصاراته مفاخرا مباهيا، ولكن المعقول أن يكون فعل ذلك بلغته البربرية التي كان يجيدها والتي كان يفهمها جنوده(3).
وقد تصدى الأستاذ الجليل عبد الله كنون مفندا بعض هذه الأدلة الجدلية ونلخص رده فيما يلي:
1. ـ أن طارقا البربري نشأ في حضن العروبة والإسلام فأبوه هو الذي أسلم بديل اسمه « زيــــاد » ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وانتقل إلى المشرق حيث نشأ ولده في كنف موسى بن نصير.
2. ـ لا غرابة في نبوغ طارق البربري في العربية فقد نبغ فيها أمثاله عن غير العرب كعكرمة البربري وسلمان الفارسي.
3. ـ ليس في الخطبة من الصنعة البيانية ما يمنع نسبتها لطارق لأن بلاغتها في معانيها، والمعاني ليست وفقا على عربي ولا عجمي.
نعم قد تكون الخطبة تعرضت لبعض التصرف بالزيادة أو النقصان من الرواة، غير أن هذا لا يسوغ نفي أصل الخطبة، وليس بحجة للتشكك في نصها الكامل.
ويطمئن الأمير شكيب أرسلان لنسبة الخطبة لطارق اعتمادا على إثباتها في النبوغ المغربي وثبوتها لدى مؤلفه الحجة.
إلى هنا نكون قد عرضنا مختلف وجهات النظر حول خطبة طارق بن زياد ملاحظين تقاربها أحيانا وتباينها أحيانا أخرى، والدكتور هيكل وحده ينكر أن يكون طارق قد خطب بالفصحى، أما الأستاذ عنان فلا يستبعد ذلك ولكن بأسلوب غير هذا الأسلوب.
وأسارع إلى القول بأني لا أشاطر الدكتور هيكل في حكمه الذي بناه على حيثيات لا يعتمد البعض منها إلا على افتراضات، والبعض الآخر يعتمد على أساس النص الوارد في نفح الطيب. فكون طارق، مثلا، حديث عهد بالإسلام، لم يتصل بموسى بن نصير إلا عند توليه هذا قيادة المغرب سنة 89 هـ أمر لا يمكن تسليمه، لأن طارقا ابن لمسلم وهو زياد، وحفيد لمسلم وهو عبد الله، حسبما ذكره ابن عذاري في نسبه؛ فله على الأقل، أبوان في الإسلام، وهكذا لم يعد هذا القائد البربري حديث عهد بالإسلام، ولم تعد الفترة التي قضاها في الإسلام لا تتعدى ثلاث سنوات. ولعل الدكتور هيكل يشايعنا هذا في تعليقه رقم )3( ولو على طريق الفرضي، ثم من أين لنا معرفة ما إذا كان طارق قد نشأ في المغرب دون المشرق؟ أو تحديد ذلك التاريخ بالذات لاتصاله بموسى بن نصير؟ وما لنا لا نفترض، وهو أقرب إلى المعقول، أن أباه أو جده هو الذي كان بالمشرق؟ فنشأ الابن والحفيد في بيئة عربية صرف، أتاحت له حذق لغتها والنبوغ فيها والفوز بثقة بلاط دمشق ليتولى مكانة مرموقة في الدولة الأموية مما أهله لقيادة جيش الفتح. ثم أن أحدا من الموحدين القدماء لم يقل بأن طارقا خطب بالبربرية أو نفى الخطبة بالعربية!
أما كونها لم ترد إلا في المصادر المتأخرة كثيرا كنفح الطيب فليس الأمر كذلك، إذ وردت في مصادر أقدم بكثير عن عصر المقري، فقد أوردها ابن خلكان، وهو من القرن السابع، وردت في تحفة الأنفس لابن هديل، وهو من القرن الثامن، وقد نقلها عنان في كتابه المشار إليه سابقا، وأهم من هذا أن صاحب الإمامة والسياسة قد أثبتها وهو من رجال القرن الثالث للهجرة، كما سنبين ذلك من بعد، كما وردت قطعة منها في كل من « ريحانة الألباب » للمواعيني (توفي 570/1168) وكتاب « استفتاح الأندلس » لعبد الملك ابن حبيب.
ويجدر بنا أن نورد هذه النصوص ليتسنى لنا مقابلتها والتعليق عليها وعلى ما يتصل بها.
أ ـ نص ابن خلكان:(4) « فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لزريق الملك أنه وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع وهو على سرير بين دابتين عليه قبة مكللة بالدار والياقوت والزبرجد، فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة ثم قال:
« أيها الناس! أين المفر؟ والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما ستحصلونه من أيدي أعدائكم. وإن امتدت بكم الأيام ـ على افتقاركم ـ ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وأن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم، أن سمحتم بأنفسكم للموت، وأني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتم على خطبة أرخص مباع فيها النفوس أبدأ فيها بنفسي، واعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على أعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة ويكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي انجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
وأعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وأن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون ».
ب ـ نص الأمامة والسياسة:(5)
« فلما بلغ طارقا دنوه )أي لذريق( منهم قام في أصحابه فحمد الله ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة وبسط في آمالهم ثم قال:
« أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس ثم والله إلا الصدق والصبر، فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة. أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال. إلا و أني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه(6) أو أقتل دونه.فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة )كذا( والذلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومعيذكم، تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث إذا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي » فحمل وحملوا... »
ج ـ نص تحفة الأنفس نقلته عن كتاب الأستاذ عنان:(7)« أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تتخلصونه من أيدي عدوكم، وأن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به لممكن أن سمحتم لأنفسكم بالموت، وأني لم أحذركم أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس (كذا)، أبدأ بنفسي، وأعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة (كذا) لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الداريــــن ».
« أيها الناس ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، أن حملت فاحملوا، وأن وقفت فقفوا ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامل إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه (كذا) حتى أخالطه وأمثل (كذا) دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، ارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة (كذا) والذلة وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومفيدكم (كذا) تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي ».
(1) أنظر النبوغ المغربي ج 1/22، 23 الطبعة الجديدة.
(2) دولة الإسلام في الأندلس ج 1/47.
(3) أنظر كتابه: الأدب الأندلسي ص 80 ـ 83.
(4) وفيات الأعيان 2/177 ـ 178 طبعة بولاق. في ترجمة موسى بن نصير.
(5) الأمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة 2/75 الطبعة الثانية )ط الحلبي( سنة 1377 ـ 1957 مصر.
(6) في الأصل « وأقتل » وهو تصحيف.
(7) أنظر دولة الإسلام في الأندلس 1/46، 47، والأستاذ عنان لم يشر إلى المصدر عند إيراده نص الخطبة، بل بعد ما عقب عليها بقوله: « ويشير صاحب كتاب تحفة الأنفس إلى خطبة طارق... ثم يورد نص الخطبة ». واسف أن المصدر ليس بين يدي ولم أحصل عليه بعد ! ولذا اعتمد على الأستاذ المؤرخ عنان في هذا النص.
* دعوة الحق - العدد 107
من منا لا يعتز بهذه الخطبة؟ ومن منا لا يعدها أعرق تراث مغربي يقترن بفجر الإسلام بالمغرب والأندلس؟ إن ناحيتها البلاغية لم تكن تسحرنا، ونحن أطفال في المدرسة، وإنما الذي كان يثير فينا مشاعر الاعتزاز والزهو هو تلك الروح المغربية الإسلامية التي تتحدى الأخطار، وتهزأ بالأهوال، وتقتحم الصعاب، وتهوى البطولات والخوارق البشرية. ولكن بعض الباحثين ـ سامحهم الله ـ حاولوا نسف تلك المشاعر وزعزعة تلك الصورة الرائعة التي كونتها مخيلاتنا من خلال تلك الخطبة، وحاولوا تنغيص تلك النشوة الروحية التي كانت تسبح في أجوائها احساساتنا ونحن نرددها على مسامع معلمنا بالمدرسة الابتدائية وكان كل واحد منا طارق محصورا بين البحر والعدو وهو واتق بالنصر المبين.
وكانت بلاغتها التي رويت عليها في نفح الطيب شؤما عليها إذ كانت من أهم الثغرات التي تسرب منها النقد ليهدم كيانها من القواعد!! ولكن بقليل من البحث حاولت أن أتلافى تلك الثغرات وأوصدها في وجه الشكوك التي تثار حول نسبة الخطبة لصاحبها طارق والحفاظ على تراثنا الذي نعتز به بشكل أو بآخر حسب ما سننتهي إليه في هذا المقال.
ممن احتار في أمر هذه الخطبة الأمير شكيب أرسلان رحمه الله عليه فقال:
« تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس ابن ساعدة أو سحبان وائل لم يأت بأفصح ولا بأبلغ منها، ولقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي.. هذا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهولة... » وحقيقة هذا اللغز لدى أمير البيان أن طارقا بربري، والخطبة تعد من انموذجات الخطب العربية، ولم يستطع التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين وقد حاول، لكنه لم يسترح لمحاولاته... وأخيرا زال تردده عند ما جزم الأستاذ الكبير عبد الله كنون بأن هذه الخطبة من جملة انطباع البربر بالطابع العربي البحت.(1)
وكذلك يرتاب في نسبة هذه الخطبة لطارق كل من الأستاذ المؤرخ عبد الله عنان وأستاذنا الدكتور أحمد هيكل أستاذ الأدب الأندلسي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. فأما الأول فيرتكز في ارتيابه على الأدلة التالية:(2)
1. ـ كون الخطبة لم ترد في المصادر التاريخية الإسلامية القديمة، ولم يشر إليها إلا ابن خلدون ولا ابن الأثير وإنما نقلها المقري وحده عن مؤرخ لم يذكر اسمه.
2. ـ روعة أسلوبها وعباراتها مع أن طارقا لم يكن عريقا في العروبة والإسلام، وينتهي من ذلك إلى الحكم بأنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان، وإن كان لا ينفي أن يكون طارق خطب ولكن في غير هذه اللغة.
ويبني الدكتور هيكل شكه في هذه النسبة على ما يلي:
1. ـ أن طارقا بربري، حديث عهد بالإسلام والعربية؛ لأنه لم يرتبط بموسى بن نصير إلا عند ما ولي هذا الأخير قيادة المغرب سنة 89 هـ. وبين هذا التاريخ وتاريخ الفتح (92 هـ) فترة وجيزة، يستبعد معها أن يجد طارق العربية بحيث تسمح له بإلقاء الخطب ونظم الشعر.
2. ـ أن المصادر الأولى عربية وأندلسية، قد سكتت عن هذه الخطبة ولم تشر إليها، ولا تنص عليها سوى المصادر المتأخرة كثيرا عن الفتح مثل نفح الطيب.
3. ـ أسلوب الخطبة بما فيه من الصنعة والزخرف لا ينتسب إلى عصر طارق الأدبي وإنما إلى عصر متأخر جدا عن القرن الأول، ولذلك يرى أن هذه الخطبة هي أقرب إلى خصائص أواخر العصر العباسي وربما إلى ما بعد ذلك.
4. ـ ورود هذه العبارة: « وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عربانا » مما يزيد من حظ الشك ويقوي الارتياب، لأن الجنود لم يكونوا عربا، بل كانوا برابرة. وبناء على تلك الأدلة يخلص الدكتور هيكل إلى حكم يرجع فيه أن تكون الخطبة قد وضعت على لسان طارق من طرف بعض الرواة المتأخرين كثيرا عن الفتح والمتأثرين كثيرا بأسلوب أواخر العصر العباسي وربما بالعصر المملوكي.
ويرى بعد ذلك أن طارقا قد يكون خطب في جنود، وقد يكون تغنى انتصاراته مفاخرا مباهيا، ولكن المعقول أن يكون فعل ذلك بلغته البربرية التي كان يجيدها والتي كان يفهمها جنوده(3).
وقد تصدى الأستاذ الجليل عبد الله كنون مفندا بعض هذه الأدلة الجدلية ونلخص رده فيما يلي:
1. ـ أن طارقا البربري نشأ في حضن العروبة والإسلام فأبوه هو الذي أسلم بديل اسمه « زيــــاد » ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وانتقل إلى المشرق حيث نشأ ولده في كنف موسى بن نصير.
2. ـ لا غرابة في نبوغ طارق البربري في العربية فقد نبغ فيها أمثاله عن غير العرب كعكرمة البربري وسلمان الفارسي.
3. ـ ليس في الخطبة من الصنعة البيانية ما يمنع نسبتها لطارق لأن بلاغتها في معانيها، والمعاني ليست وفقا على عربي ولا عجمي.
نعم قد تكون الخطبة تعرضت لبعض التصرف بالزيادة أو النقصان من الرواة، غير أن هذا لا يسوغ نفي أصل الخطبة، وليس بحجة للتشكك في نصها الكامل.
ويطمئن الأمير شكيب أرسلان لنسبة الخطبة لطارق اعتمادا على إثباتها في النبوغ المغربي وثبوتها لدى مؤلفه الحجة.
إلى هنا نكون قد عرضنا مختلف وجهات النظر حول خطبة طارق بن زياد ملاحظين تقاربها أحيانا وتباينها أحيانا أخرى، والدكتور هيكل وحده ينكر أن يكون طارق قد خطب بالفصحى، أما الأستاذ عنان فلا يستبعد ذلك ولكن بأسلوب غير هذا الأسلوب.
وأسارع إلى القول بأني لا أشاطر الدكتور هيكل في حكمه الذي بناه على حيثيات لا يعتمد البعض منها إلا على افتراضات، والبعض الآخر يعتمد على أساس النص الوارد في نفح الطيب. فكون طارق، مثلا، حديث عهد بالإسلام، لم يتصل بموسى بن نصير إلا عند توليه هذا قيادة المغرب سنة 89 هـ أمر لا يمكن تسليمه، لأن طارقا ابن لمسلم وهو زياد، وحفيد لمسلم وهو عبد الله، حسبما ذكره ابن عذاري في نسبه؛ فله على الأقل، أبوان في الإسلام، وهكذا لم يعد هذا القائد البربري حديث عهد بالإسلام، ولم تعد الفترة التي قضاها في الإسلام لا تتعدى ثلاث سنوات. ولعل الدكتور هيكل يشايعنا هذا في تعليقه رقم )3( ولو على طريق الفرضي، ثم من أين لنا معرفة ما إذا كان طارق قد نشأ في المغرب دون المشرق؟ أو تحديد ذلك التاريخ بالذات لاتصاله بموسى بن نصير؟ وما لنا لا نفترض، وهو أقرب إلى المعقول، أن أباه أو جده هو الذي كان بالمشرق؟ فنشأ الابن والحفيد في بيئة عربية صرف، أتاحت له حذق لغتها والنبوغ فيها والفوز بثقة بلاط دمشق ليتولى مكانة مرموقة في الدولة الأموية مما أهله لقيادة جيش الفتح. ثم أن أحدا من الموحدين القدماء لم يقل بأن طارقا خطب بالبربرية أو نفى الخطبة بالعربية!
أما كونها لم ترد إلا في المصادر المتأخرة كثيرا كنفح الطيب فليس الأمر كذلك، إذ وردت في مصادر أقدم بكثير عن عصر المقري، فقد أوردها ابن خلكان، وهو من القرن السابع، وردت في تحفة الأنفس لابن هديل، وهو من القرن الثامن، وقد نقلها عنان في كتابه المشار إليه سابقا، وأهم من هذا أن صاحب الإمامة والسياسة قد أثبتها وهو من رجال القرن الثالث للهجرة، كما سنبين ذلك من بعد، كما وردت قطعة منها في كل من « ريحانة الألباب » للمواعيني (توفي 570/1168) وكتاب « استفتاح الأندلس » لعبد الملك ابن حبيب.
ويجدر بنا أن نورد هذه النصوص ليتسنى لنا مقابلتها والتعليق عليها وعلى ما يتصل بها.
أ ـ نص ابن خلكان:(4) « فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب تدمير إلى لزريق الملك أنه وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع وهو على سرير بين دابتين عليه قبة مكللة بالدار والياقوت والزبرجد، فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة ثم قال:
« أيها الناس! أين المفر؟ والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما ستحصلونه من أيدي أعدائكم. وإن امتدت بكم الأيام ـ على افتقاركم ـ ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وأن انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم، أن سمحتم بأنفسكم للموت، وأني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتم على خطبة أرخص مباع فيها النفوس أبدأ فيها بنفسي، واعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على أعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة ويكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي انجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
وأعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وأن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون ».
ب ـ نص الأمامة والسياسة:(5)
« فلما بلغ طارقا دنوه )أي لذريق( منهم قام في أصحابه فحمد الله ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة وبسط في آمالهم ثم قال:
« أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس ثم والله إلا الصدق والصبر، فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة. أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال. إلا و أني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه(6) أو أقتل دونه.فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة )كذا( والذلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومعيذكم، تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث إذا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي » فحمل وحملوا... »
ج ـ نص تحفة الأنفس نقلته عن كتاب الأستاذ عنان:(7)« أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللثام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تتخلصونه من أيدي عدوكم، وأن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به لممكن أن سمحتم لأنفسكم بالموت، وأني لم أحذركم أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس (كذا)، أبدأ بنفسي، وأعلموا أنكم أن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة (كذا) لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الداريــــن ».
« أيها الناس ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، أن حملت فاحملوا، وأن وقفت فقفوا ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامل إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه (كذا) حتى أخالطه وأمثل (كذا) دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، ارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة (كذا) والذلة وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومفيدكم (كذا) تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي ».
(1) أنظر النبوغ المغربي ج 1/22، 23 الطبعة الجديدة.
(2) دولة الإسلام في الأندلس ج 1/47.
(3) أنظر كتابه: الأدب الأندلسي ص 80 ـ 83.
(4) وفيات الأعيان 2/177 ـ 178 طبعة بولاق. في ترجمة موسى بن نصير.
(5) الأمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة 2/75 الطبعة الثانية )ط الحلبي( سنة 1377 ـ 1957 مصر.
(6) في الأصل « وأقتل » وهو تصحيف.
(7) أنظر دولة الإسلام في الأندلس 1/46، 47، والأستاذ عنان لم يشر إلى المصدر عند إيراده نص الخطبة، بل بعد ما عقب عليها بقوله: « ويشير صاحب كتاب تحفة الأنفس إلى خطبة طارق... ثم يورد نص الخطبة ». واسف أن المصدر ليس بين يدي ولم أحصل عليه بعد ! ولذا اعتمد على الأستاذ المؤرخ عنان في هذا النص.
* دعوة الحق - العدد 107