مصطفى الحسيني - عودة بيدبا

كأن بيدبا الفيلسوف كان يرى إلى زماننا العربي الراهن والسابق والمُنى ألا يكون اللاحق، إجمالا، كأنه كان يعيش تاريخنا المعاصر.

بيدبا الفيلسوف، كما قد يعلم أو يذكر القارئون منّا، هو الفيلسوف الهندي، الحقيقي أو المتخيَّل، الذي ترجم عنه عبد الله بن المقفع في منتصف القرن الثامن الميلادي كتاب “كليلة ودمنة”. وبقي الكتاب أثرا بهيِّا في خزانة الكتب العربية، يُقرأ ويذكر في مجالس السمَر، إنما من دون فائدة تذكر. أُدرج في باب الطرائف. أما غيرنا، أي الأوروبيون، فقد عرفوا به في عصر الاستشراق وعثروا على ترجمتين أخريين إلى لغتين شبه منقرضتين هما السريانية والفارسية القديمة، حسب ما أورد الأستاذ محمود عسَّاف في مقدمة لواحدة من طبعات الكتاب، وترجموه إلى لغاتهم وامتزج بعض ما فيه من حكمة بسياق الفكر السياسي عندهم، ليكون نظيرا ومناقضا لكتاب “الأمير” للإيطالي ميكيافيللي الذي كتبه بعد ترجمة ابن المقفع ل”كليلة ودمنة” بحوالى تسعة قرون.

وجه المناظرة والمناقضة بين الكتابين أنه بينما سعى بيدبا الفيلسوف إلى توجيه الحاكم إلى سبيل الرشاد، كان مرمى ميكيافيللي تعليم الحاكم فنون الحيلة والخداع.

هكذا استهل بيدبا خطابه بين يدي دبشليم الملك : “أيها الملك إني وجدت الأمور التي يختصُّ بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعة وفيها جماع كل ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. فالعلم والأدب والرويَّة داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والرفق والوقار داخلة في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والمراقبة والإحسان وحسن الخُلُق داخلة في باب العدل”.

بينما كانت خلاصة حكمة ميكيافيللي التي علَّمها أميره هي أن “الغاية تبرر الوسيلة”.

على أن ترجمة عبد الله بن المقفع لهذا الكتاب لحقت بها مفارقة لازم أشباهها تاريخنا.

عاش ابن المقفع في عصر الخليفة العباسي المنصور. وكان قد خرج من ديانته الأصلية، المجوسية، إلى الإسلام على يد عيسى بن علي، عم الخليفة. وحدث أن تعكَّرت المياه بين الخليفة وعمِّه ثم منحه الأمان. وكان ابن المقفع من كتب “عقد الأمان” وفيه شدَّد على الخليفة إن نكث عهده أو غدر بعمِّه. لم يغدر المنصور بعيسى بن علي، لكنه غدر بابن المقفع وقتله قبل أن يتجاوز عمره السادسة والثلاثين.

كأن المنصور لم يتعلَّم شيئا من الكتاب الذي ترجمه له ابن المقفع.
*****

لمن لم يقرأوا “كليلة ودمنة”، فلعل هذا يشوِّقهم لقراءته:

يدور الكتاب الهندي الأصل حول العلاقة بين فيلسوف حكيم وملك جائر، أو كان كذلك حتى هداه الفيلسوف إلى سبيل العدل والرحمة.

للكتاب قصة ملخصها أنه بعد أن استولى الإسكندر الأكبر على الهند، أجلس على عرشها واحدا من رجاله ثم غادر تلك البلاد بعد أن اطمأن إلى استقرار المُلك الذي اصطنعه. لكن الهنود ما لبثوا أن أجمع رأيهم على أنه “ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة ولا العامة أن يملِّكوا عليهم رجلا ليس منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستسفلهم ويستقلهم. ثم أجمعوا على أن يملِّكوا عليهم رجلا من أولاد ملوكهم فملَّكوا عليهم ملكا يقال له دبشليم”.

“فلما استقر لهذا المَلِك المُلك واستوثق له الأمر طغى وعتا وتجبرَّ وتكبَّر (...) حتى خافته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من المُلك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم”.

رأى بيدبا الفيلسوف المعروف بين الناس بالحكمة، ما عليه الملك من غي ف”فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه ورده إلى العدل والإنصاف”. تشاور في الأمر مع تلامذته فكانت خلاصة ما أشاروا عليه به أن يؤثر سلامته لأنهم يعلمون “أن السباحة في الماء مع التمساح تغرير والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السُّم من الحيَّة فيجربه على نفسه فليس الذنب للحيَّة. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته”.

لم يأخذ بيدبا بنصيحة التلامذة ومضى إلى حضرة الملك ينصحه حتى أغضبه إلى حد أن أمر بقتله وصَلبه، لكنه لم يلبث أن غلبه التردد، فأمر بسجنه.

لكن الملك كان يدرك أنه “وإن كانت الملوك لها فضل في مملكتها فإن الحكماء لهم فضل في حكمتهم أعظم من الملوك، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعِلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال”.

وفي ليلة غلب فيها السُّهد الملك، راح يتسلى بمراقبة حركة الكواكب في الفلك، ما ذكّره بالفيلسوف السجين “وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف وضيَّعت واجب حقِّه وحَمَلني على ذلك سرعة الغضب. فإنه قيل: لا ينبغي أن يكون الغضب في الملوك”.

وهكذا أصبح بيدبا مُعلِّما للملك وراعيا لشؤون المملكة، حتى مضى الملك على ما رسم بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية. ثم تفرَّغ بيدبا لتأليف الكتب إلى أن طلب إليه الملك أن يضع له كتابا يضاف إلى خزانة كتب الهند، أُسوة بمن سبقه من الملوك.

وهكذا أصبح “كليلة ودمنة” بين يدي العالم. وقد “رتَّبه بيدبا على أربعة عشر بابا، كل باب منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألة والجواب عنها، ليكون فيه حظ لمن نظر في الأبواب (...) وجعل الكلام على ألسُن البهائم والسباع والوحش والطير ليكون ظاهره لهوا للعامة وباطنه سياسة للخاصة”.

من يقرأ الكتاب أو يستعِده فسيجده كتابا عن حالنا، موصوفا، وقد استنبطت من الوصف خلاصاته ودروسه، إنما على ألسُن “البهائم والسباع و...”.
*****

من مفارقات تاريخ الكتاب أيضا أن وصوله إلينا كان نتيجة غير مباشرة لما قد يكون أول عملية تجسس علمي سجلها التاريخ.

الكتاب وضع أصلا باللغة السنسكريتية، إحدى لغات الهند الكبيرة. ثم تُرجم إلى الفارسية التي عنها ترجمه ابن المقفع إلى العربية. لكن وصول الكتاب إلى بلاد فارس منسوخا عن النسخة الأصلية الملكية، كان نتيجة عملية التجسس تلك.

يُروى أن أنو شروان ملك الفُرس كان من العقل والعلم على أفضل نصيب. “وكان فيما يطلب من العلم ويبحث عنه أنه بلَغه أن كتابا من كتب الهند عند ملوكهم وعلمائهم نفيس مخزون وهو أصل كل أدب ورأس كل عِلم والدليل على كل منفعة ومفتاح طلب الآخرة والعمل للنجاة من هولها والمُقوي لما يحتاج إليه الملوك لتدبير مُلكهم ويُصلحون به معايشهم وهو كتاب كليلة ودمنة”.

تملَّكت الملك الفارسي الرغبة في الحصول على ذلك الكتاب المكنون في حرز حريز في موضع عزيز من خزانات كتب ملك الهند. وكان يعرف أنه لا يتمكن من الحصول عليه إلا بجهد رجل من نوع خاص، “فسأل أهل مملكته أن يختاروا عاقلا أديبا عالما ماهرا بالفارسية والهندية حريصا على العِلم مجتهدا في استكمال الأدب مثابرا على النظر والتفسير لكتب الفلسفة”.

توفّرت المواصفات في “شاب جميل ذي حَسَب كامل العقل والأدب...يسمى بَرْزُويه”.

كان ذاك هو الرجل الذي أرسله إلى الهند ليحصل بالمكر والحيلة على الكتاب الثمين المرغوب.

إذا استخدمنا لغة العصر لقلنا أن برزويه عندما وصل الهند “زرع” نفسه في مجتمع البلاد، مستعينا بأدبه وعلمه وظُرفه ومهارته في الطب... وبما وضعه أنو شروان بتصرفه من أموال طائلة، حتى توثقت صداقة بينه وبين خازن الملك الذي “استعار” له أثمن ما في خزانة الملك من كتب، بينها “كليلة ودمنة”. وسهر بَرْزُويه الليالي في نسخها وتفسيرها وعاد بها إلى بلاد فارس وعادت الكتب إلى خزائن ملك الهند.


جريدة السفير (لبنان)

كليلة ودمنة.jpg
 
أعلى