نقوس المهدي
كاتب
للتمييز بين الكتابة الساخرة والتهريج يمكن تتبع ما أنتجه كبار الكتاب الساخرين من الشرق والغرب قديماً وحديثاً، وتأمل ما آلت إليه الكوميديا العربية في العصر الحاضر. فالكوميديا نص مبني على فكرة قبل أن تكون أداء. وفي غياب النص المتميز يصبح الأداء تهريجاً يستجدي ذائقة عشاق الكوميديا الهادفة دون طائل. و«لا شيء أكثر سخفاً من ضحك سخيف» كما يقول أحد الحكماء. حتى فكاهات (مستر بين) الصامتة ليست وليدة الفراغ، أو خاضعة للارتجال والمصادفة، أو لمهارة الكوميدي (راون أتكينسون) وحدها، كما قد يبدو للمشاهد، ولكنها مبنية على فكرة لامعة، وعلى نص يتوارى وراء ذلك الأداء التعبيري الصامت، نص زاخر بالمفارقة التي تثير الضحك، وقد تقول لغته (المرئية) أكثر مما تقوله اللغة المسموعة، وذلك هو الفرق بين الدعابة الذكية والتهريج، وبين الفكاهة والمزاج الممجوج، وبين الظرف والتظارف، والخفة والثقل. أي بين الكتابة الساخرة وتلك التي تستجدي الضحك استجداء بائساً.. وقلْ لي ما الذي يضحكك أقل لك من أنت!
لقد أسيء فهم الكتابة الساخرة دائماً، وكان سوء الفهم ناتجاً عن عدم استيعاب المكشرين من سدنة الجد ومهندسي الصرامة للقيمة الفنية لهذا اللون الأدبي الرفيع. لذلك بدأ بعض الكتاب هازلين وانتهوا جادين. أبدى بروفيسور مشهور في ميدان الطب رغبته في الالتقاء بميلان كونديرا تعبيراً عن إعجابه بروايته (حفلة الوداع)، غير أن الطبيب، بالرغم من إعجابه بالرواية، أبدى اعتراضاً لا علاقة له بأدب الفكاهة بل بمهنة الطب، ذلك أن ما جاء في الرواية يناقض بعض الحقائق الطبية. وقد حاول كونديرا الدفاع عن نفسه قائلاً: «هذه ليست سوى رواية كوميدية! وبطلي الطبيب إنسان مخبول! ما كان عليك أن تأخذ روايتي بجدية!». قال البروفيسور مندهشاً: «إذن روايتك لم تكتب كي تؤخذ بشكل جدي؟». يقول كونديرا: «شعرت آنذاك بالعجز الكامل، أدركت في تلك اللحظة بأن لا شيء أصعب من شرح ما تعنيه الدعابة. تزخر كتب التراث بروائع هذا اللون الأدبي شعراً ونثراً. فقد أثرى الجاحظ المتميز برشاقة أسلوبه ومرارة سخريته التراث العربي بفيض من روائعه الساخرة، ومنها كتابه البخلاء، وفيه تعريف بفلسفة الضحك، ورصد لأخبار البخلاء، وتصوير لطباعهم وعاداتهم، ومنها، كذلك، رسالة (الجد والهزل). أما رسالة (التربيع والتدوير) فتصوير كاريكاتوري ساخر لنماذج بشرية توجد في كل عصر ومصر.
وأما مقامات بديع الزمان الهمذاني فهي تحفة نثرية رائعة، مع رشاقة في الأسلوب وفكاهة وسخرية لاذعة، وأول ميزة لبديع الزمان -كما يرى زكي مبارك- أنه يشعرك بفهمه للحياة، فهو «يتحدث عن أشجان وأغراض هي في صميمها ألوان للنفوس الإنسانية، ويطالعك بطائفة من الأزمات النفسية والروحية هي أزماتك لو درست نفسك وتطلعت إلى وجدانك». مقامات زاخرة بصور كثيرة من الشخصيات الاجتماعية التي أجاد الهمذاني تصويرها ومنها: الفهلوي والمحتال والمتطفل والأخرق والمغفل والفطن والجاني والضحية، وهو في كل موقف من تلك المواقف يبعث للقارئ رسالة معبرة عن السلوك الإنساني في حالاته وظروفه المتعددة.
وقد تجاوز أبو العبر بعبثه واقتحامه فضاء اللامعنى معاصريه، وذلك بتوظيف الارتجال والمصادفة لتخليق ذلك العبث الهازل، ولعل ذلك تعبير عن عبثية التناقضات التي زخر بها المجتمع البغدادي آنذاك. ولم تكن الكتابة الساخرة وقفاً على أدباء المشرق العربي، فقد برع في هذا الفن كتاب المغرب والأندلس كذلك. وإذا كان بديع الزمان قد كتب المقامة الإبليسية، فقد أفرد ابن شهد الأندلسي عملاً سردياً منسوجاً على ذلك المنوال في رائعته المعروفة (الزوابع والتوابع). ويبدو أن ابن شهد الذي لم ينل من أدباء عصره الاعتراف والتقدير، قد ترك عالم الإنس بحثاً عن المكانة في عالم الجن، فاخترع عالماً مُتخيّلاً يلتقي فيه بتوابع الشعراء وشياطين الكتّاب الكبار الذين سبقوا زمانه. ووصل بالضحك إلى ذروته فعقد لقاءات أدبية مع حمير العالم السفلي، ونصّب نفسه ناقداً أدبياً عليهم.
وإذا كانت شخصية أحمد بن عبدالوهاب موضوع (رسالة التربيع والتدوير) للجاحظ، فقد كانت شخصية ابن عبدوس موضوع (الرسالة الهزلية) لأديب الأندلس ابن زيدون، وهي رسالة زاخرة بالفكاهة العذبة والسخرية اللاذعة. وقد لاحظ بعض النقاد تأثر ابن زيدون في هذه الرسالة بالجاحظ أسلوباً ومنطقاً، بل وذهب بعضهم إلى أنه واقع تحت تأثير كتّاب مشارقة آخرين مثل أبي إسحاق الصابي وبديع الزمان الهمذاني. إن قائمة الكتّاب العرب الساخرين حافلة بأسماء كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة، أما الكتابة الشعرية الساخرة فحديثها يطول.
وللكتابة الساخرة في الأدب الغربي مبدعوها الكبار، ممن جُبلوا على النظر إلى الأشياء بعين الفكاهة، وتعهدوا هجاء القبح «والذهاب به حتى التشوه، والانتقال من المشوّه إلى المضحك» كما يعبر هنري برغسون. ومن هؤلاء سرفانتس مؤلف رواية (دون كيخوته) التي يرى النقاد أنها تمثل جدلاً ثنائياً بين الواقع والخيال والعقل والجنون.
أما سخرية فولتير فلم تقتصر على المساوئ الاجتماعية وحدها بل تجاوزتها إلى نقد الذات، شأنه في ذلك شأن الجاحظ. وفي عبارة مطعّمة بالسخرية يقول فولتير عن نفسه: «لقد اضطهدوني أكثر مما أستحق»! وتعتبر رواية (كنديد) نقداً اجتماعياً وسياسياً وهجاء مقذعاً لكثير من القيم الأوروبية السائدة آنذاك.
كاتب آخر سخر من مساوئ عصره ودافع عن الحريات والقيم الجميلة حتى حصل على لقب (فولتير أمريكا) هو (مارك توين). أما الكاتب الروسي تشيخوف فهو أخف كتّاب القصة الروسية ظلاً. تتميز أعماله القصصية بالحس الساخر، وبالقدرة على تصوير كثير من شخوص قصصه تصويراً كاريكاتورياً معبّراً. القائمة تطول، وقد لا يكتمل أي رصد في هذا المجال ما لم تتم الإشارة إلى بعض الأسماء الغربية اللامعة في ميدان الكتابة الساخرة مثل: ريتشارد شيريدان، وبرنارد شو، وأوسكار وايلد، وكريستان برنار وغيرهم.
أما عن مساحة الحرية التي تتغذى الكتابة الساخرة بنقصانها، فلعلك تشير هنا إلى النكتة السياسية التي تزدهر في الظروف المصاحبة للقمع والاضطهاد وكبت الحريات، وهذا صحيح، لكن النكتة السياسية مزدهرة أيضاً في البيئات السياسية والاجتماعية الأكثر انفتاحاً.
كانت الكتابة الساخرة ضد كل شكل من أشكال الصلابة التي لا تتفق مع ما في الحياة من مرونة وتوازن. كانت عبارة عن هجاء للقبح، ومحاولة لتقويم ما اعوج من الطباع، وشذّ من العادات، وانحرف من الممارسات، كازدواج الشخصية والكذب والخداع والاحتيال والبخل والجشع والفظاظة وحب الهيمنة ووهم الأوحدية والغطرسة وإلى آخر المظاهر التي نراها ماثلة أمام أعيننا أينما اتجهنا، ولا يمكن تعريتها أدبياً بأسلوب وعظي محايد وقور. ويكمن الفرق بين النكتة الرخيصة والكتابة الساخرة في المعنى والدلالة. فللهزل -كما يقول برغسون- «معقوليته الخاصة حتى في أبعد فلتاته.. كما أنه ابن الحياة الواقعية ونسيب الفن». ولذلك يفشل التهريج في أن ينقل لمشاهديه رسالة عن الفن أو الحياة، كما يخفق في الارتفاع بمزاج العامة، أو إرضاء ذائقة النخب المثقفة.
لقد أسيء فهم الكتابة الساخرة دائماً، وكان سوء الفهم ناتجاً عن عدم استيعاب المكشرين من سدنة الجد ومهندسي الصرامة للقيمة الفنية لهذا اللون الأدبي الرفيع. لذلك بدأ بعض الكتاب هازلين وانتهوا جادين. أبدى بروفيسور مشهور في ميدان الطب رغبته في الالتقاء بميلان كونديرا تعبيراً عن إعجابه بروايته (حفلة الوداع)، غير أن الطبيب، بالرغم من إعجابه بالرواية، أبدى اعتراضاً لا علاقة له بأدب الفكاهة بل بمهنة الطب، ذلك أن ما جاء في الرواية يناقض بعض الحقائق الطبية. وقد حاول كونديرا الدفاع عن نفسه قائلاً: «هذه ليست سوى رواية كوميدية! وبطلي الطبيب إنسان مخبول! ما كان عليك أن تأخذ روايتي بجدية!». قال البروفيسور مندهشاً: «إذن روايتك لم تكتب كي تؤخذ بشكل جدي؟». يقول كونديرا: «شعرت آنذاك بالعجز الكامل، أدركت في تلك اللحظة بأن لا شيء أصعب من شرح ما تعنيه الدعابة. تزخر كتب التراث بروائع هذا اللون الأدبي شعراً ونثراً. فقد أثرى الجاحظ المتميز برشاقة أسلوبه ومرارة سخريته التراث العربي بفيض من روائعه الساخرة، ومنها كتابه البخلاء، وفيه تعريف بفلسفة الضحك، ورصد لأخبار البخلاء، وتصوير لطباعهم وعاداتهم، ومنها، كذلك، رسالة (الجد والهزل). أما رسالة (التربيع والتدوير) فتصوير كاريكاتوري ساخر لنماذج بشرية توجد في كل عصر ومصر.
وأما مقامات بديع الزمان الهمذاني فهي تحفة نثرية رائعة، مع رشاقة في الأسلوب وفكاهة وسخرية لاذعة، وأول ميزة لبديع الزمان -كما يرى زكي مبارك- أنه يشعرك بفهمه للحياة، فهو «يتحدث عن أشجان وأغراض هي في صميمها ألوان للنفوس الإنسانية، ويطالعك بطائفة من الأزمات النفسية والروحية هي أزماتك لو درست نفسك وتطلعت إلى وجدانك». مقامات زاخرة بصور كثيرة من الشخصيات الاجتماعية التي أجاد الهمذاني تصويرها ومنها: الفهلوي والمحتال والمتطفل والأخرق والمغفل والفطن والجاني والضحية، وهو في كل موقف من تلك المواقف يبعث للقارئ رسالة معبرة عن السلوك الإنساني في حالاته وظروفه المتعددة.
وقد تجاوز أبو العبر بعبثه واقتحامه فضاء اللامعنى معاصريه، وذلك بتوظيف الارتجال والمصادفة لتخليق ذلك العبث الهازل، ولعل ذلك تعبير عن عبثية التناقضات التي زخر بها المجتمع البغدادي آنذاك. ولم تكن الكتابة الساخرة وقفاً على أدباء المشرق العربي، فقد برع في هذا الفن كتاب المغرب والأندلس كذلك. وإذا كان بديع الزمان قد كتب المقامة الإبليسية، فقد أفرد ابن شهد الأندلسي عملاً سردياً منسوجاً على ذلك المنوال في رائعته المعروفة (الزوابع والتوابع). ويبدو أن ابن شهد الذي لم ينل من أدباء عصره الاعتراف والتقدير، قد ترك عالم الإنس بحثاً عن المكانة في عالم الجن، فاخترع عالماً مُتخيّلاً يلتقي فيه بتوابع الشعراء وشياطين الكتّاب الكبار الذين سبقوا زمانه. ووصل بالضحك إلى ذروته فعقد لقاءات أدبية مع حمير العالم السفلي، ونصّب نفسه ناقداً أدبياً عليهم.
وإذا كانت شخصية أحمد بن عبدالوهاب موضوع (رسالة التربيع والتدوير) للجاحظ، فقد كانت شخصية ابن عبدوس موضوع (الرسالة الهزلية) لأديب الأندلس ابن زيدون، وهي رسالة زاخرة بالفكاهة العذبة والسخرية اللاذعة. وقد لاحظ بعض النقاد تأثر ابن زيدون في هذه الرسالة بالجاحظ أسلوباً ومنطقاً، بل وذهب بعضهم إلى أنه واقع تحت تأثير كتّاب مشارقة آخرين مثل أبي إسحاق الصابي وبديع الزمان الهمذاني. إن قائمة الكتّاب العرب الساخرين حافلة بأسماء كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة، أما الكتابة الشعرية الساخرة فحديثها يطول.
وللكتابة الساخرة في الأدب الغربي مبدعوها الكبار، ممن جُبلوا على النظر إلى الأشياء بعين الفكاهة، وتعهدوا هجاء القبح «والذهاب به حتى التشوه، والانتقال من المشوّه إلى المضحك» كما يعبر هنري برغسون. ومن هؤلاء سرفانتس مؤلف رواية (دون كيخوته) التي يرى النقاد أنها تمثل جدلاً ثنائياً بين الواقع والخيال والعقل والجنون.
أما سخرية فولتير فلم تقتصر على المساوئ الاجتماعية وحدها بل تجاوزتها إلى نقد الذات، شأنه في ذلك شأن الجاحظ. وفي عبارة مطعّمة بالسخرية يقول فولتير عن نفسه: «لقد اضطهدوني أكثر مما أستحق»! وتعتبر رواية (كنديد) نقداً اجتماعياً وسياسياً وهجاء مقذعاً لكثير من القيم الأوروبية السائدة آنذاك.
كاتب آخر سخر من مساوئ عصره ودافع عن الحريات والقيم الجميلة حتى حصل على لقب (فولتير أمريكا) هو (مارك توين). أما الكاتب الروسي تشيخوف فهو أخف كتّاب القصة الروسية ظلاً. تتميز أعماله القصصية بالحس الساخر، وبالقدرة على تصوير كثير من شخوص قصصه تصويراً كاريكاتورياً معبّراً. القائمة تطول، وقد لا يكتمل أي رصد في هذا المجال ما لم تتم الإشارة إلى بعض الأسماء الغربية اللامعة في ميدان الكتابة الساخرة مثل: ريتشارد شيريدان، وبرنارد شو، وأوسكار وايلد، وكريستان برنار وغيرهم.
أما عن مساحة الحرية التي تتغذى الكتابة الساخرة بنقصانها، فلعلك تشير هنا إلى النكتة السياسية التي تزدهر في الظروف المصاحبة للقمع والاضطهاد وكبت الحريات، وهذا صحيح، لكن النكتة السياسية مزدهرة أيضاً في البيئات السياسية والاجتماعية الأكثر انفتاحاً.
كانت الكتابة الساخرة ضد كل شكل من أشكال الصلابة التي لا تتفق مع ما في الحياة من مرونة وتوازن. كانت عبارة عن هجاء للقبح، ومحاولة لتقويم ما اعوج من الطباع، وشذّ من العادات، وانحرف من الممارسات، كازدواج الشخصية والكذب والخداع والاحتيال والبخل والجشع والفظاظة وحب الهيمنة ووهم الأوحدية والغطرسة وإلى آخر المظاهر التي نراها ماثلة أمام أعيننا أينما اتجهنا، ولا يمكن تعريتها أدبياً بأسلوب وعظي محايد وقور. ويكمن الفرق بين النكتة الرخيصة والكتابة الساخرة في المعنى والدلالة. فللهزل -كما يقول برغسون- «معقوليته الخاصة حتى في أبعد فلتاته.. كما أنه ابن الحياة الواقعية ونسيب الفن». ولذلك يفشل التهريج في أن ينقل لمشاهديه رسالة عن الفن أو الحياة، كما يخفق في الارتفاع بمزاج العامة، أو إرضاء ذائقة النخب المثقفة.