نقوس المهدي
كاتب
ربما يكون هنالك كتّاب يعكفون على الكتابة، بلا خوف يعيقهم ولا فشل يترصد لهم، ولكنني لم أقابل منهم أحداً! فحتى الكاتب الأيرلندي المعروف صمويل باركلى بيكيت، كان قد علّق لوحة إلى جانب مكتبه، خُط عليها ” افشل. افشل مجدداً. افشل بشكل أفضل”.
لطالما آمنت بأن الكتابة مهنة عسيرة! فلا يمكن لأيّ كلمة أخدشُ فيها بياض الورقة، أن توصل ما في عقلي من موسيقى أو خيالات، لابد وأن أقعَ ضحية للغة.. ضحية كتاب الصلاة المشتركة* حين تقرع كلماته نفسي، فإذا بي أراجع ما أنجزته، وما تبقى إنجازه، مقتنعة كل الاقتناع بأني عديمة الجدوى. وفي محاولة يائسة لنفض هذا الإحساس المزعج عني، وإنجاز ما يمكن إنجازه، أستعين بحيل عدة.. أستعين بقلمي ودفتري، حيث لا تطيب لي الكتابة إلاّ بخط اليد. ورغم ما يقوله بعض أصدقائي من أن خط يدي صعب القراءة إلّا أنهم مخطئون. فأنا أحب خط يدي، وأستطيع أن أقرأ ما كتبته بسهولة. حسنا! لأكون صادقة معكم تماماً، أخطأت مرة في قراءة كلمةٍ فقلتها حث عوضاً عن أحدث ولكن هذا نادراً ما يحدث.
أتذكر أن الكاتب الأمريكي الإنجليزي ويستن هيو أودن قد قال مرة بأن كل واحد منا يحب خط يده سرا، مثل ما يحب رائحة ضـ… واعذروني على عدم كتابة آخر كلمة قالها لأنها لا تليق بهذه الصفحات، ولكنني أتفق معه. من منا من مواليد ما قبل منتصف الستينات يستطيع نسيان ما أثارته فينا طريقة بالمر في الكتابة من الحماسة، والتفنن في جرة القلم العليا والسفلى والحلقات والانحناءات! فقد كان إتقانك للكتابة بهذه الطريقة آنذاك تذكرة عبور إلى عالم البالغين، وتمكين لغريزتين فطريتين هما الرغبة في ترك أثر في هذا العالم والتعبير عن الأفكار.
لا شك في أن الكتابة باليد مهمة شاقة، وذلك ما دعانا لصنع الآلة الكاتبة. ولكنني أؤمن بأن هذا العناء حسنة تضفي على الكتابة طعماً خاصا. فقبضك على القلم، واحتكاك يدك بالورق، وما يتلبس أصابعك من ألم بعد طريق وعر وطويل من الكتابة كلها مراسٍ تعيدنا إلى عالمٍ ملموس، بعد أن تهنا في عصر الاختراعات. أعلم أنني أتحدث أحياناً عن أقلامي ودفاتري كما يتحدث سلطان عثماني مفتون عن جواريه الحسان، ولكن دعوني أخبركم عنها قليلاَ. لدّي قلم فاخر من نوع واترمان، قلم مطلي بالأسود ومزخرف باللون الذهبي. أشعر وأنا أكتب به بأني في أجمل حلة، وشعري مسرحٌ للخلف مثل الروائية الأيرلندية إليزابيث بون ربما، لكن بطابع فرنسي أكثر، أو مثل الروائية الفرنسية آنا دو نواي ولكن تؤدي دورها الممثلة البريطانية ديبورا كير. ورغم هذا يبقى قلمي أنيقاً حتى لو كنت مرتدية روب قطني رث، وكأنني إحدى معتقلي معسكرات ستالين المرعبة. بالإضافة إلى قلمي الثمين من واترمان، أستخدم حبرا أسوداً من الماركة نفسها. اضطررت في إحدى المرات ولسفري أن أبتاع الأسود المائل للزرقة منه. استخدمته لعدة أسابيع ولكنني شعرت وأنا أكتب به بأني مديرة مدرسة صارمة.
ابتعت قلمي من محل غرب شارع 46 في مانهاتن يدعى آرثر براون وإخوانه للأقلام، وكم كان الاختيار صعبا! هل أخذ قلما مطلياً بلون الملكيت الأخضر أو قلما فضي اللون أو بنيا ممتزجا بالأصفر؟ أو ربما أكون شبابية أكثر فأقتني الأصفر الفاقع؟ أم من الأفضل أن أبتاع قلماً مستخدما من طراز عتيق؟ هل أخذه نحيلاَ أم عريضاَ كسيجارة كوبية؟ وازددت حيرة حين بدأت أفكر في رأس القلم نفسه، هل آخذ رأساً مدببا.. متوسطاَ أم دقيقاً؟ فالمتوسط يوحي بالتواضع ونسيان الذات، كأنه أحد أولئك الأصدقاء الذين يذكرونك دائماً بأن تطرد القلق وتكون سعيداً. بينما يوحي لي الرأس المدبب بالسلطة والملكية. ولكنني اخترت في نهاية المطاف القلم ذا الرأس الدقيق، شيء ما حول صعوبة الكتابة به، حول جرته الخادشة للورقة، ومقاومته التي تجعل الانتقال من كلمة إلى أخرى عسيرة بعض الشيء، كل هذا جذبني إلى اختياره، وأضفى على خط يدي بعض الصرامة والحذر، وبالطبع لم ألحظ هذا الطابع في بادئ الأمر.
كنت قد خصصت رفا كاملاً في خزانتي للدفاتر، أختار من بينها ما أظن بأنه مناسب لما سأكتبه، لأني أؤمن بأن هنالك علاقة تتشكل بين محتوى الدفتر والدفتر نفسه. وحين أبتاع واحدا، فأنا لا أفكر في تصنيفه أو اختلافه فحسب، بل وفيما سيتركه المكان الذي ابتعته منه من ذكرى. لذا أحرص على اقتناء دفتر من كل بلد أزوره، فكما تعبر الرقصات الشعبية والأكل التقليدي عن ثقافة بلد ما، تعبر الدفاتر أيضاً. ولم يقف هذا الهوس عندي، بل حتى أصدقائي صاروا يجلبون لي دفاتر من كل أسفارهم.
أملك ثلاثة أنواع من الدفاتر الفرنسية التي تتميز بحجمها الصغير ونعومة أغلفتها، واحد منها بلون البحر وبأوراق غير مسطرة، طُبع على غلافه livre de brouillon (مسودة الأفكار) بخط أنيق. أدون فيه كل أفكاري المتعلقة بأعمال الروائي الفرنسي الراحل مارسيل بروست، حيث أهدتني إياه طالبة كنت قد عرّفتها على إنتاجه الأدبي. وابتعت دفاتر عديدة مخصصة لتمارين الطلاب من متجر جيلبير جون الكبير على جادة سانت ميشيل في باريس، توحي أغلفتها ذات اللون الأزرق الملكي بأنني امرأة ذات سلطة. كما ابتعت دفاتر بألوان زاهية كلون الليمون الأصفر والأخضر والفراولة من مدينة أورليان. وبالنسبة لي، فهذه الدفاتر الخفيفة، القريبة للقلب أفضل خيار لكتابة القصص القصيرة، أو التدوين أثناء السفر. وحينما كنت في أيرلندا، ابتعت من محل سجائر قرب كلية ترينتي في دبلن دفاتر ذات لون أصفر فاتح وأوراق كثيرة للكتابة الطويلة مجملاَ، ودفاتر حمراء مربعة للمقالات الصحفية، وقد رُسم على أغلفتها ملامح حصن قديم، وخُط فوقها بالأحرف الكلتية كلمة Tara (قرية سكنها ملوك أيرلندا قديماً). وللنصوص النقدية، ابتعت من محل قبالة المتحف البريطاني دفاتر مغلفة بخيش فيروزي وكستنائي وبرتقالي. وفي رحلتي الأخيرة لإيطاليا، كنت أعمل على رواية بثلاثة رواة مما دعاني لابتياع ثلاثة دفاتر من كل نوع، بعضها مغلف بسواد عرق السوس اللامع من محل سكاكر توسكاني. وأخرى مصنوعة من التيركوتا ومشابهة لما أراه من قبب هناك، ابتعتها من محل أدوات مكتبية على نفس الشارع الذي ابتعت من محل فيه قفازين ذات جلد سويدي الصنع، مزخرفة بلون التوت، قرب معبد البانثيون في روما. ومن حي تراستيفيري وتحديداً قرب ساحة سانتا ماريا، ابتعت ثلاثة دفاتر ذات غلاف مقوى ورباط أحمر، عليها تصاميم كتلك التي نراها في الكنائس. بالإضافة إلى ذلك، لدي مجموعة رائعة بألوان الباستيل الدافئة والسماوي والوردي، مزينة بنقوش رمادية جميلة، أكتب فيها هرباً من مهمة المراجعة الثقيلة. ابتعتها من كشك في ساحة لورانزو حينما كنت في فلورانس، كنت عائدة وقتها من كنيسة مديتشي التي قصدتها لرؤية تماثيل مايكل انجلو .. ويالها من تماثيل! تأسرك في سكونها الذي لا تدري أمن دعةٍ أو كآبة.
كما تعد الدفاتر السويدية كنزي الدفين، وسراً من أسراري المتعلقة بالتدوين. تمنحني ألوانها الأساسية وإطاراتها المحايدة الأمان، أجدني أكتب فيها كل ما له طابع حساس، بعيداً عن أعين الرقيب .. واثقة بأنها لن تخرج عن حدود هذا الدفتر، البئر .. أبدا. ومن أجل الجمل القصيرة، الجميلة، ابتعت بمبلغ وقدره أوراقاً مصنوعة باليد، محفوظة داخل جلد مدبوغ ذا لون أخضر فاتح، في إحدى زياراتي لولاية فيرمونت. اكتب على كل ورقة جملة واحدة فقط في كل مرة.
حان الوقت لأن أقول لكم ماذا أفعل بعد اللعب بدفاتري وأقلامي كطفل صغير يحاول قتل الوقت، لا لا دعوني أعود للوراء قليلا! قبل البدء في الكتابة. اعتدت على القراءة أولاً، أبتعد عن الروايات لا لشيء سوى أنها صعبة المراس صباحا! وقتها أكون في حاجة إلى قراءة أكثر حميمية، مذكرات أو رسائل، شيء من هذا القبيل. أثناء القراءة، أدون كل ما يعلق بي من قصة أو ملاحظة عابرة ذات حكمة ومغزى. أدون معظمها في إحدى دفاتري السويدية، بينما تسكن الجميلة منها الدفتر الفيرمونتي. ومن ثم أنتقل في القراءة إلى الفرنسي بروست. أبدأ بقراءة ثلاثة صفحات من إحدى أعماله بالإنجليزية، ومن ثم أقرأ الصفحات عينها بالفرنسية. أكتب بعد ذلك في دفتري المخصص له، كل تعليقاتي وأفكاري. وأنتقل بعدها لدفتري الخاص لأكتب فيه بكل حرية، ما يجول في عقلي من هراء نرجسي.
كما أميل للاستماع للموسيقى، خاصة الرباعيات الوترية (مقطوعات تعزف على أربع آلات وترية) والبيانو. وعندما ينتصف النهار وأنا على مكتبي، أغير الموجة لتينا ترنر، صوتها ينزل السكينة على روحي. أحب جداً موسيقى أغانيها والدندنة معها بلا تركيز، ولكن في نفس الوقت بمتعة كبيرة، فأنا لم أكتب هذه الكلمات! وأستمتع كثيراً أثناء ذلك بحركة قلمي السريعة حيناً والبطيئة حينا آخر على الورقة.
وبعد كل هذه الطقوس، أوقف الموسيقى، وأتابع قراءاتي في الروايات، وكأني بذلك أستخدم شوكة رنانة لأضبط وتر ما أنا على وشك كتابته. أدون في دفتري المخصص للروايات كل مقطع ذا قيمة ووتيرة مميزة يمكن أن يثريني. وإن حالفني الحظ، كما يحدث في بعض الأحيان، ومن خلال حركة القلم التي تشبه الرقص أنسى كبري الزائف وحماقتي أمام ما أقتبسه من عظمة. إنها لمتعة كبيرة .. حركة يدك .. رسغك .. إمساكك لكل ما هو قيّم من أجل تدوين ما تركه العظماء الراحلون من أثر، أولئك الذين لا تشك لحظة بأن الفشل قد طرق بابهم يوما، أو حتى شعور الحسد تجاه حمالي الفحم، ومراقبي النفايات السامة أو أي شخص يستطيع القيام بعمله بسهولة كما أحسدهم أنا كل صباح!
وفي النهاية لا أعلم حقيقة كيف لأولئك الكتاب الذين يستخدمون الجهاز المحمول أن يحملوا أنفسهم على البدء بالكتابة! ولا أريد أن أعرف أبدا.
________
*كتاب الصلاة المشتركة: كتاب الصلاة الرسمية لكنيسة إنجلترا والكنائس الإنجيلية في بلدان آخرى.
لطالما آمنت بأن الكتابة مهنة عسيرة! فلا يمكن لأيّ كلمة أخدشُ فيها بياض الورقة، أن توصل ما في عقلي من موسيقى أو خيالات، لابد وأن أقعَ ضحية للغة.. ضحية كتاب الصلاة المشتركة* حين تقرع كلماته نفسي، فإذا بي أراجع ما أنجزته، وما تبقى إنجازه، مقتنعة كل الاقتناع بأني عديمة الجدوى. وفي محاولة يائسة لنفض هذا الإحساس المزعج عني، وإنجاز ما يمكن إنجازه، أستعين بحيل عدة.. أستعين بقلمي ودفتري، حيث لا تطيب لي الكتابة إلاّ بخط اليد. ورغم ما يقوله بعض أصدقائي من أن خط يدي صعب القراءة إلّا أنهم مخطئون. فأنا أحب خط يدي، وأستطيع أن أقرأ ما كتبته بسهولة. حسنا! لأكون صادقة معكم تماماً، أخطأت مرة في قراءة كلمةٍ فقلتها حث عوضاً عن أحدث ولكن هذا نادراً ما يحدث.
أتذكر أن الكاتب الأمريكي الإنجليزي ويستن هيو أودن قد قال مرة بأن كل واحد منا يحب خط يده سرا، مثل ما يحب رائحة ضـ… واعذروني على عدم كتابة آخر كلمة قالها لأنها لا تليق بهذه الصفحات، ولكنني أتفق معه. من منا من مواليد ما قبل منتصف الستينات يستطيع نسيان ما أثارته فينا طريقة بالمر في الكتابة من الحماسة، والتفنن في جرة القلم العليا والسفلى والحلقات والانحناءات! فقد كان إتقانك للكتابة بهذه الطريقة آنذاك تذكرة عبور إلى عالم البالغين، وتمكين لغريزتين فطريتين هما الرغبة في ترك أثر في هذا العالم والتعبير عن الأفكار.
لا شك في أن الكتابة باليد مهمة شاقة، وذلك ما دعانا لصنع الآلة الكاتبة. ولكنني أؤمن بأن هذا العناء حسنة تضفي على الكتابة طعماً خاصا. فقبضك على القلم، واحتكاك يدك بالورق، وما يتلبس أصابعك من ألم بعد طريق وعر وطويل من الكتابة كلها مراسٍ تعيدنا إلى عالمٍ ملموس، بعد أن تهنا في عصر الاختراعات. أعلم أنني أتحدث أحياناً عن أقلامي ودفاتري كما يتحدث سلطان عثماني مفتون عن جواريه الحسان، ولكن دعوني أخبركم عنها قليلاَ. لدّي قلم فاخر من نوع واترمان، قلم مطلي بالأسود ومزخرف باللون الذهبي. أشعر وأنا أكتب به بأني في أجمل حلة، وشعري مسرحٌ للخلف مثل الروائية الأيرلندية إليزابيث بون ربما، لكن بطابع فرنسي أكثر، أو مثل الروائية الفرنسية آنا دو نواي ولكن تؤدي دورها الممثلة البريطانية ديبورا كير. ورغم هذا يبقى قلمي أنيقاً حتى لو كنت مرتدية روب قطني رث، وكأنني إحدى معتقلي معسكرات ستالين المرعبة. بالإضافة إلى قلمي الثمين من واترمان، أستخدم حبرا أسوداً من الماركة نفسها. اضطررت في إحدى المرات ولسفري أن أبتاع الأسود المائل للزرقة منه. استخدمته لعدة أسابيع ولكنني شعرت وأنا أكتب به بأني مديرة مدرسة صارمة.
ابتعت قلمي من محل غرب شارع 46 في مانهاتن يدعى آرثر براون وإخوانه للأقلام، وكم كان الاختيار صعبا! هل أخذ قلما مطلياً بلون الملكيت الأخضر أو قلما فضي اللون أو بنيا ممتزجا بالأصفر؟ أو ربما أكون شبابية أكثر فأقتني الأصفر الفاقع؟ أم من الأفضل أن أبتاع قلماً مستخدما من طراز عتيق؟ هل أخذه نحيلاَ أم عريضاَ كسيجارة كوبية؟ وازددت حيرة حين بدأت أفكر في رأس القلم نفسه، هل آخذ رأساً مدببا.. متوسطاَ أم دقيقاً؟ فالمتوسط يوحي بالتواضع ونسيان الذات، كأنه أحد أولئك الأصدقاء الذين يذكرونك دائماً بأن تطرد القلق وتكون سعيداً. بينما يوحي لي الرأس المدبب بالسلطة والملكية. ولكنني اخترت في نهاية المطاف القلم ذا الرأس الدقيق، شيء ما حول صعوبة الكتابة به، حول جرته الخادشة للورقة، ومقاومته التي تجعل الانتقال من كلمة إلى أخرى عسيرة بعض الشيء، كل هذا جذبني إلى اختياره، وأضفى على خط يدي بعض الصرامة والحذر، وبالطبع لم ألحظ هذا الطابع في بادئ الأمر.
كنت قد خصصت رفا كاملاً في خزانتي للدفاتر، أختار من بينها ما أظن بأنه مناسب لما سأكتبه، لأني أؤمن بأن هنالك علاقة تتشكل بين محتوى الدفتر والدفتر نفسه. وحين أبتاع واحدا، فأنا لا أفكر في تصنيفه أو اختلافه فحسب، بل وفيما سيتركه المكان الذي ابتعته منه من ذكرى. لذا أحرص على اقتناء دفتر من كل بلد أزوره، فكما تعبر الرقصات الشعبية والأكل التقليدي عن ثقافة بلد ما، تعبر الدفاتر أيضاً. ولم يقف هذا الهوس عندي، بل حتى أصدقائي صاروا يجلبون لي دفاتر من كل أسفارهم.
أملك ثلاثة أنواع من الدفاتر الفرنسية التي تتميز بحجمها الصغير ونعومة أغلفتها، واحد منها بلون البحر وبأوراق غير مسطرة، طُبع على غلافه livre de brouillon (مسودة الأفكار) بخط أنيق. أدون فيه كل أفكاري المتعلقة بأعمال الروائي الفرنسي الراحل مارسيل بروست، حيث أهدتني إياه طالبة كنت قد عرّفتها على إنتاجه الأدبي. وابتعت دفاتر عديدة مخصصة لتمارين الطلاب من متجر جيلبير جون الكبير على جادة سانت ميشيل في باريس، توحي أغلفتها ذات اللون الأزرق الملكي بأنني امرأة ذات سلطة. كما ابتعت دفاتر بألوان زاهية كلون الليمون الأصفر والأخضر والفراولة من مدينة أورليان. وبالنسبة لي، فهذه الدفاتر الخفيفة، القريبة للقلب أفضل خيار لكتابة القصص القصيرة، أو التدوين أثناء السفر. وحينما كنت في أيرلندا، ابتعت من محل سجائر قرب كلية ترينتي في دبلن دفاتر ذات لون أصفر فاتح وأوراق كثيرة للكتابة الطويلة مجملاَ، ودفاتر حمراء مربعة للمقالات الصحفية، وقد رُسم على أغلفتها ملامح حصن قديم، وخُط فوقها بالأحرف الكلتية كلمة Tara (قرية سكنها ملوك أيرلندا قديماً). وللنصوص النقدية، ابتعت من محل قبالة المتحف البريطاني دفاتر مغلفة بخيش فيروزي وكستنائي وبرتقالي. وفي رحلتي الأخيرة لإيطاليا، كنت أعمل على رواية بثلاثة رواة مما دعاني لابتياع ثلاثة دفاتر من كل نوع، بعضها مغلف بسواد عرق السوس اللامع من محل سكاكر توسكاني. وأخرى مصنوعة من التيركوتا ومشابهة لما أراه من قبب هناك، ابتعتها من محل أدوات مكتبية على نفس الشارع الذي ابتعت من محل فيه قفازين ذات جلد سويدي الصنع، مزخرفة بلون التوت، قرب معبد البانثيون في روما. ومن حي تراستيفيري وتحديداً قرب ساحة سانتا ماريا، ابتعت ثلاثة دفاتر ذات غلاف مقوى ورباط أحمر، عليها تصاميم كتلك التي نراها في الكنائس. بالإضافة إلى ذلك، لدي مجموعة رائعة بألوان الباستيل الدافئة والسماوي والوردي، مزينة بنقوش رمادية جميلة، أكتب فيها هرباً من مهمة المراجعة الثقيلة. ابتعتها من كشك في ساحة لورانزو حينما كنت في فلورانس، كنت عائدة وقتها من كنيسة مديتشي التي قصدتها لرؤية تماثيل مايكل انجلو .. ويالها من تماثيل! تأسرك في سكونها الذي لا تدري أمن دعةٍ أو كآبة.
كما تعد الدفاتر السويدية كنزي الدفين، وسراً من أسراري المتعلقة بالتدوين. تمنحني ألوانها الأساسية وإطاراتها المحايدة الأمان، أجدني أكتب فيها كل ما له طابع حساس، بعيداً عن أعين الرقيب .. واثقة بأنها لن تخرج عن حدود هذا الدفتر، البئر .. أبدا. ومن أجل الجمل القصيرة، الجميلة، ابتعت بمبلغ وقدره أوراقاً مصنوعة باليد، محفوظة داخل جلد مدبوغ ذا لون أخضر فاتح، في إحدى زياراتي لولاية فيرمونت. اكتب على كل ورقة جملة واحدة فقط في كل مرة.
حان الوقت لأن أقول لكم ماذا أفعل بعد اللعب بدفاتري وأقلامي كطفل صغير يحاول قتل الوقت، لا لا دعوني أعود للوراء قليلا! قبل البدء في الكتابة. اعتدت على القراءة أولاً، أبتعد عن الروايات لا لشيء سوى أنها صعبة المراس صباحا! وقتها أكون في حاجة إلى قراءة أكثر حميمية، مذكرات أو رسائل، شيء من هذا القبيل. أثناء القراءة، أدون كل ما يعلق بي من قصة أو ملاحظة عابرة ذات حكمة ومغزى. أدون معظمها في إحدى دفاتري السويدية، بينما تسكن الجميلة منها الدفتر الفيرمونتي. ومن ثم أنتقل في القراءة إلى الفرنسي بروست. أبدأ بقراءة ثلاثة صفحات من إحدى أعماله بالإنجليزية، ومن ثم أقرأ الصفحات عينها بالفرنسية. أكتب بعد ذلك في دفتري المخصص له، كل تعليقاتي وأفكاري. وأنتقل بعدها لدفتري الخاص لأكتب فيه بكل حرية، ما يجول في عقلي من هراء نرجسي.
كما أميل للاستماع للموسيقى، خاصة الرباعيات الوترية (مقطوعات تعزف على أربع آلات وترية) والبيانو. وعندما ينتصف النهار وأنا على مكتبي، أغير الموجة لتينا ترنر، صوتها ينزل السكينة على روحي. أحب جداً موسيقى أغانيها والدندنة معها بلا تركيز، ولكن في نفس الوقت بمتعة كبيرة، فأنا لم أكتب هذه الكلمات! وأستمتع كثيراً أثناء ذلك بحركة قلمي السريعة حيناً والبطيئة حينا آخر على الورقة.
وبعد كل هذه الطقوس، أوقف الموسيقى، وأتابع قراءاتي في الروايات، وكأني بذلك أستخدم شوكة رنانة لأضبط وتر ما أنا على وشك كتابته. أدون في دفتري المخصص للروايات كل مقطع ذا قيمة ووتيرة مميزة يمكن أن يثريني. وإن حالفني الحظ، كما يحدث في بعض الأحيان، ومن خلال حركة القلم التي تشبه الرقص أنسى كبري الزائف وحماقتي أمام ما أقتبسه من عظمة. إنها لمتعة كبيرة .. حركة يدك .. رسغك .. إمساكك لكل ما هو قيّم من أجل تدوين ما تركه العظماء الراحلون من أثر، أولئك الذين لا تشك لحظة بأن الفشل قد طرق بابهم يوما، أو حتى شعور الحسد تجاه حمالي الفحم، ومراقبي النفايات السامة أو أي شخص يستطيع القيام بعمله بسهولة كما أحسدهم أنا كل صباح!
وفي النهاية لا أعلم حقيقة كيف لأولئك الكتاب الذين يستخدمون الجهاز المحمول أن يحملوا أنفسهم على البدء بالكتابة! ولا أريد أن أعرف أبدا.
________
*كتاب الصلاة المشتركة: كتاب الصلاة الرسمية لكنيسة إنجلترا والكنائس الإنجيلية في بلدان آخرى.