نقوس المهدي
كاتب
من المعروف أن القرآن الكريم أثّر تأثيراً بالغاً في الأدب العربي وآداب الشعوب الأخرى في العالم * الإسلامي في القرون الوسطى، وليست المؤلفات الدينية والرسائل في الفقه والشريعة هي التي تعكس روح الإسلام فقط، بل يلاحظ هذا التأثير في المؤلفات الكثيرة في علوم اللغة العربية، ومنها علم البلاغة، ونود أن ننظر في هذه المقالة هذا الجانب في مقامات الحريري.
ومن المعروف أيضاً أن المقامات احتلت مكانة مرموقة في الأدب العربي منذ ظهورها إلى يومنا هذا، وأول من أوجد هذا الفن هو بديع الزمان الهمذاني (المتوفى في 398هـ)، ثم جاء الحريري (أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري (446-526هـ)، وسارت وذاعت شهرة مقاماته بين الناس، وكان هناك حوالي ثمانين كاتبا حاولوا تقليد مقامات الهمذاني والحريري ولم يتمكنوا من بلوغ الغاية في ذلك.
تناولت مقامات الحريري مواضيع مختلفة من فقه ونحو ووصف الأشياء والبلدان... إلخ، وبطل مقامات الحريري هو واحد من المكدين أو المتسولين يطوف من مكان إلى مكان، يستجدي الناس بفصاحته وبيانه ويحتال عليهم، ويتقابل دائماً هذا الشخص البطل المسمى بأبي زيد السروجي مع راوٍ له يحكي أخباره، وهو الحارث بن همام، ومثلهما كان أبو الفتح الاسكندري وعيسى بن هشام في مقامات الهمذاني، كل ذلك بأسلوب فيه حرص على إظهار مقدرة المؤلفاللغوية والبيانية والبديعية، وفيه عرض لآراء الكاتب الأدبية والاجتماعية وغيرها في بعض الأحيان. وكما أكد الأستاذ عبد النافع طليمات، أن الحرص على إظهار المهارة اللغوية والبيانية والبديعية في مقامات الحريري أقوى منه في مقامات الهمذاني، وهذه تفيض بالحوادث وتنبض بالحياة أكثر من تلك.([1])
بيّن البطل الرئيس ومغامراته (جولاته) لكسب لقمة العيش خصائص العهد الذي نشأ فيه فن المقامة؛ فقد مضى عهد النهضة لخلافة العباسيين، وتولّى السلاطين الأجانب الحكم في بغداد، وكان نفوذ الخليفة في الأمور الدينية فقط؛ والحكم في أطراف الخلافة كان غير مستقر، وكانت الحالة الاقتصادية والاجتماعية صعبة ومعقّدة جداً. يقول عبد الرحمن ياغي: "… والحالة هذه… أن تنشأ جماعة… تتخذ وسيلتها في كسب العيش، والتسول عن طريق الأدب الشعبي أحياناً… والاحتيال أحيانا… وكان بين هؤلاء طائفة الساسانيين… أو بني ساسان… نسبة إلى ساسان… أو أهل الكدية … الذي يمثل رجلاً فقيراً بصيراً في استعطاء الناس والاحتيال… فتتجول هذه الطائفة في البلاد تستجدي وتحتال…"([2]) وكان أبو زيد السروجي - بطل مقامات الحريري - يمثل شخصاً مثله، وهو في الوقت نفسه ليس شخصاً عادياً من أهل الكدية، بل إنسان متعلم ومثقف، وعالم في الفقه والنحو والبلاغة والنثر، وهو شاعر، والأهم من هذا كله أنه خطيب ماهر يجلب بخطبته ووعظه الناس، وكلام أبي زيد الذي يلقيه، نثراً كان أو نظماً - بغض النظر عن مضمونه - يعتبر نقطة الذروة في كل مقامة، وفي بعض المقامات لايقوم بطلها بكدية، بل يظهر مهارته اللغوية والبيانية مستخدماً فيها المحسنات اللغوية، والألغاز اللفظية، والعبارات المجازية، والأمثال الشعبية، ومقتبساً الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة والأبيات الشعرية ...إلخ.
ونلاحظ الاقتباسات القرآنية في كثير من المقامات، سواء أكانت اقتباسات مباشرة للآيات الكريمة أم استخدام تعابير قرآنية، أم إشارة إلى شخصياتٍ و أحداثٍ مذكورة في القرآن الكريم، ففي المقامات الرازية، والفقهية، والفراتية، والصورية، والمروية، والعمانية، والرحبية، والساسانية، من مقامات الحريري، نقرأ اقتباسات كاملة لبعض الآيات الكريمة كما نقرأ جزءا من الآية، وكل هذه الاقتباسات تأتي في كلام أبي زيد السروجي، بطل المقامات.
يجمّل أبو زيد كلامه بآيات كريمة سواء أكان كلامه خطبة أم موعظة أمام جماعة من الناس، ويستخدمها لإثبات " صحة" أو " حقيقة" كلامه، أو كخلاصةٍ لمنطقه الذي لا يمكن الرد عليه، وهذه الآيات الكريمة تستخدم لإكمال ما قاله جزئياً أو كاملاً، وتتوافق هذه الاقتباسات مع النص في السجع والمعنى، وتصبح جزءا لا يتجزأ من النص، ونرى بعض الأمثلة من ذلك عندما نقرأ: وَلاَتَيْأََسْ مِنْ رَوْحِ اللهِ ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون ﴾([3])، ويأتي هذا الاقتباس في المقامة الساسانية، حيث يحكى أن أبا زيد لما شاخ أوصى ابنه بأن لا صناعة أنفع من الكدية.([4])
وفي المقامة الساوية([5]) يقف أبو زيد بالمقابر واعظًا، ويتحدث عن القدر وأن على كل إنسان ألاَّ ينسى قدره وجزاءه عند ربه، وينهي كلامه بآية كريمة: ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون﴾([6])، وقد جاءت متناسقة مع كلامه قبلها حيث نقرأ :
"...ولا تُخْطِرُونَ ذِكْرَ الْمَوْتِ بِبال * حتَّى كأَنَّكُمْ قَدْ عَلِقْتُمْ مِنَ الحِمام * بِذِمام * أَوْ حَصَلْتُمْ مِنَ الزَّمان * على أمان * أَوْ وَثِقْتُمْ بِسَلامَةِ الذَّات * أَوْ تَحَقَّقْتُمْ مُسَالَمَةَ هَادِمِ اللذَّات * كَلاَّ ساءَ ماتَتَوَهَّمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون * ثُمَّ أَنْشَدَ..."
وتليها أبيات شعرية.([7])
وتتضمن المقامة الرازية([8]) كون أبي زيد واعظاً، يعرض بالأمير وينهاه عن الظلم، وهذه المقامة تعتبر من المقامات الزهدية وهي تبدأ كالمقامات الأخرى بحديث الحارث بن همام من أنه بدأ يهتم بالنظر في العواقب، ويفرق بين ما يضر وما ينفع، ويتزين بمحاسن الأخلاق، ويترك أو يتجنب ما يزري بالأخلاق، وأنه ما يزال يأخذ نفسه بالآداب، ثم يقول إنه سافر إلى مدينة الري، وذات يوم يرى جماعة تسرع إلى موعظة، والواعظ بلا شك هو أبو زيد، يدعو إلى الخير وصنع المعروف، ويذكر في كلامه:
"... ولا تُبالِي ألَكَ أَمْ عَلَيْكَ * أَتَظُنُّ أَنْ سَتُتْرَك سُدَى * وأن لا تُحاسَبَ غَدا * أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ الْمَوْتَ يَقْبَلُ الرُّشا * أَوْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الأَسَدِ والرَّشا * كَلاَّ والله لَنْ يَدْفَعَ الْمَنُون * مالٌ ولا بَنُون * ولا يَنْفَع أَهْلَ القُبُور * سِوَى الْعَمَلِ الْمَبْرُور * فَطُوبَى لِمَنْ سَمِعَ وَوَعَى * وحَقَّقَ ما ادَّعى * ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * وعَلِمَ أَنَّ الْفَائِزَ مَنِ ارْعَوى * وأنْ ليس للإنسانِ إِلاَّ ما سَعَى * وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثم أنشد إنشادَ وجِل * بصوتٍ زَجِل. . ." ([9])
وهنا نجد الحريري يقتبس من كلام الله تعالى ما يوضح المعنى ويضيف نوعاً من الموسيقى إلى كلامه في المقامة، فقد أفاد من الآية ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنْساَنُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾([10]) ، ثم اقتبس الآية ﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾([11])، وكذلك اقتبس قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ ماَ سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾([12])، واضعاً الآيات في أثناء كلامه، مما منح الكلام نغمة السجع المحببة، وكذلك توكيد المعنى المراد من الموعظة.
ويستمر أبو زيد في كلامه قائلا:
" فَوَاللهِ ما يَغْفُلُ الدَّيَّان * ولا تُهْمَلُ يا إنسان * ولا تُلْغَى الإساءَةُ ولا الإحسان * بلْ سَيُوضَعُ لَكَ الْمِيزان * وكما تَدِينُ تُدان..." ([13])
وهنا إشارة إلى الآيات 7-9 من سورة الرحمن.
وكذلك ينهي أبو زيد كلامه بشيء من القرآن الكريم في المقامة الفراتية([14]) التي تتضمن تفضيل أبي زيد للكتابتين: الإنشاء والحساب، حيث يقول :
"... إِلاَّ أَنَّ صِنَاعَةَ الحِسَاِب مَوْضُوعَةٌ على التَّحْقِيق * وصِناعَةَ الإِنْشاءِ مَبْنِيَّةٌ على التَّلْفِيق * وقَلَمُ الْحَاسِب ضابِط * وَقَلَمُ الْمُنْشِئِ خابِط * وبَيْنَ إتاوَةِ تَوْظِيفِ الْمُعَامَلات * وتِلاوَةِ طوامِيرِ السِّجِلاَّت * بَوْنٌ لا يُدْرِكُهُ قياس * ولا يَعْتَوِرُه الْتِباس*... " ، إلى أن قال: "...على أَنَّ يَراعَ الإنشاء مُتَقَوِّل * ويَراعَ الحِسابِ مُتَأَوِّل * والمحاسِبُ مُناقِش * والْمُنْشِئُ أَبُو بَرَاقِش * ولِكِلَيْهِما حُمَةٌ حِينَ يَرْقَى * إِلَى أنْ يُلْقَى ويُرْقَى * وإعْناتٌ فيما يُنْشا * حتى يُغْشَى و يُرْشَى * إِلاَّ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَقَليلٌ ماهُم*".([15])
فقد أنهى خطبته بقول الله تعالى:﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات وقَلِيلٌ ماهُم﴾([16])، فهي تجمل المعاني التي وردت في كلامه.
وفي المقامة العمانية([17]) نقرأ في كلام أبي زيد:
"... فَلَمَّا شَرَعْنَا في القُلْعَة * ورَفَعْناَ الشُّرُعَ للسُّرعَة * سَمِعْنَا من شِاطِئ الْمَرْسَى * حِينَ دَجا الْلَيْلُ وَأغْسَى * هاتِفاً يَقُولُ: يا أهْلَ ذا الفُلْكِ القَوِيم * المُزَجَّى في الْبَحْرِ الْعَظِيم * بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَليم * هَلْ أَدُلكُمْ على تِجارَة تُنْجِيكُمْ من عَذابٍ ألِيم * ..." ([18])
فهنا الآية:﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم ﴾([19]) جاءت في موضعها من السجع، تزين كلام أبي زيد، وتجعل السامع يتلهّف على سماع الباقي، فيكون السؤال منهم لمتابعة القصة!
كما نقرأ أيضاً:
"... وقال أتدرون ما هي * هي والله حِرْز السَّفْر * عند مَسِيرهم في البحر * والجُنَّة من الغَمّ * إذ جاش موج الْيَمّ * وبها استعصم نوح من الطوفان * ونجا من معه من الحيوان * على ما صَدَعَتْ به آيُ القرآن * ثم قرأ بعد أساطيرَ تلاها * وزخارفَ جلاها . . . * وقال: ﴿ اِرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهاَ وَمُرْساَهاَ ﴾ ([20]).
فجاءت الآية كسابقتها من حيث إفادة الموسيقى والتزيين اللفظي.
والاقتباسات القرآنية المذكورة أعلاه استخدمت في كلام أبي زيد، وهو يكمل خطبته أو وعظه أو كلامه، كقمة منطقه، ولكن مقدرة الحريري تبرز في تضمين كلام الله تعالى في خطب أبي زيد (كلامه هو) فلا تكاد تجد تنافراً بين هذا التضمين – الاقتباس وكلام أبي زيد كما رأيت.
ونلاحظ الاقتباسات القرآنية في كلام الراوي الحارث بن همام أيضاً، ونضرب مثالا من المقامة السمرقندية([21])، (وهذه المقامة تتضمن وقوف أبي زيد بربوة يخطب خطبة عَرِيّة من الإعجام): " تخَيَّرْتُ الْمَرْكَزَ لاِسْتِماعِ الخُطْبَة * ولم يَزَلِ النَّاسُ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْوَاجا * وَيَرِدُونَ فُرادَى وأَزْوَاجا…" ([22]) ، كما نلاحظ هنا أن الراوي ذكر بعض الآية الكريمة ﴿ورأيت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أفْوَاجاً ﴾([23])، ثم أتبعها بكلامه في سجع لطيف.
وفي المقامة الواسطية([24]) التي تتضمن اجتماع الحارث مع أبي زيد بالخان، وكيف صرع أبو زيد أهل الخان بإطعامهم الحلواء وأخذه مالهم، نقرأ قول الراوي: "أقْسَمَ بالطور * والكتابِ المسطور.." وهنا توجد الإشارة إلى الآيتين الكريمتين: ﴿وَالطُّورِ * وكِتَابٍ مَسْطُورٍ ﴾ ([25])، ويأتي بعدها بقوله: " لَيَنْكَشِفَنَّ سرُّ هذا الأَمْرِ الْمَسْتُور * ولينتشرنَّ ذِكْرُه إلى يوم النُّشور ... "([26]) فالسجع هنا أخذ وقعا موسيقيا متناسقا مع الفاصلة في الآيتين.
في المقامة الصورية([27]) نجد وصف حفل زواجٍ لأسرة من "بني ساسان"، وهي طائفة من السائلين والشطار والفقراء، وهناك شيخ يخطب أمام الجمهور، إنه بلا شك أبو زيد، وهو يحمد الله تعالى لأنه حدّد زكاة المال، ومنع طرد السائل والفقير، يقول أبو زيد:
"...وندَبَ إلى مواساة المضطر * وأمر بإطعام القانع والمُعْتَرّ * ووصف عبادَهُ المقربين * في كتابه المبين * فقال وهو أصدق القائلين * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * أحمَدُهُ على ما رزق من طُعْمة هَنِيَّة * … يجزي المتصدقين والمتصدقات * ويمحق الرِّبا ويُرْبِي الصدقات . . . فقال سبحانه لتعرفوا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا* . . . فأنْكِحوه إنكاحَ مثله * وصِلُوا حَبْلَكُم بحبله * وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ …"([28])
ففي المرة الأولى يضمن معنى الآية بألفاظ من الآية نفسها، وهي: ﴿ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾([29])، وفي الثانية يستشهد بقول الله بصراحة، والآيتان من سورة المعارج. ثم يفيد من آية الربا([30]) ، وكذلك آية الحجرات، ثم التوبة، وهو في كل هذا يأتي بالآية كاملة أو ببعضها ليتمم عملية السجع في كلامه، مع الإشارة إلى فائدة تزويج الشاب المعني في الخطبة، وقد أضفى كلام الله تعالى كثيراً من الحسن على كلام الحريري وزانه وجعله سهل الحفظ بتوافق الفاصلة مع السجع.
إن ما مر بنا يوضح أن كلام أبي زيد هو كلام رفيع المستوى، ويتم تقويمه باقتباسات قرآنية أسلوبياً وبلاغياً، وأن أبا زيد السروجي – بطل المقامات – لا يكذب ويخدع لأجل الحصول على لقمة العيش وتوفير المعيشة الجيدة أو كسب المال فقط، بل إنه يريد من كل هذا أن يبين أن لديه معلومات عالية في الفقه والنحو والصرف والبلاغة والنظم ومجالات أخرى.
وإلى جانب اقتباس آيات كريمة أو أجزاء منها نجد إشارات إلى أحداث أو شخصيات مذكورة في القرآن الكريم.
وينقد الراوي أبا زيد - بطل المقامات - لكذبه وخداعه، وأما أبو زيد فيجيب إجابة أصدق من النقد، ويستخدم مثالا من كتاب الله، أو من الحديث الشريف، ففي المقامة الدينارية([31]) - على سبيل المثال - يتبين بطل المقامة في صفة شيخ أعرج في لباس قديم وهو يشكو من تغير في حياته: كان رجلا غنياً وسخياً فأصبح عجوزاً فقيراً. وفي هذه المقامة أيضا يبين مهارته في الفصاحة والبلاغة، ويمدح ديناراً لكي يكسبه، وفي نفس الوقت يذمه للغرض نفسه، وفي خاتمة المقامة يعرف الحارث ابن همام أبا زيد بالشيخ فيسأله: "لماذا تعارجت؟" فيجيب أبو زيد:
تَعَارَجْتُ لاَ رَغْبَةً في العَرَج
وَلَكِنْ لأَِقْرَعَ بَابَ الفَرَج
وأَلقِيَ حَبْلي على غارِبِي
وأسْلُكَ مَسْلَكَ مَنْ قَدْ مَرَج
فإن لاَمَنِي الْقَوْمُ قُلْتُ اعْذِرُوا
فَلَيْسَ على أَعْرَجٍ مِنْ حَرَج.([32])
ونقارن مع قوله تعالى: ﴿ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ﴾([33]).
ومثال آخر من المقامة الدمياطية([34])، حيث يحصل أبو زيد على المكافأة لحسن فصاحته ويترك الجماعة وهو يعد أنه سيعود سريعاً، أما الراوي فيجد رسالة كتبها أبو زيد مسوِّغاً مغادرته قال فيها:
يا مَنْ غَدَا لي ساعِداً
ومُساعِداً دُونَ البَشَرْ
لا تَحْسِبَنْ أنّى نَأَيْتُكَ
عن مَلالٍ أو أشَرْ
لَكِنَّنِي مُذْ لَمْ أزَلْ
مِمَّنْ إذاَ طَعِمَ انْتَشَرْ.([35])
والكلمات الأخيرة " إذاَ طَعِمَ انْتَشَرْ" في هذه الأبيات مأخوذة من قوله تعالى: ﴿إِذَا دُعِيْتُمْ فَادْخُلُوا فإذاَ طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾([36]) .
وفي المقامة الكوفية([37]) يصف أبو زيد حالته ويقول:
" إنَّ مَرَامِيَ الغُرْبَة * لَفَظَتْنِي إلى هذِهِ الترْبَة * وأَناَ ذُو مَجَاعَةٍ وبُوسَى* وجِرَابٍ كَفُؤَادِ أُمِّ مُوسَى*".([38])
وهنا إشارة إلى ما جاء في الآية الكريمة: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْناَ عَلَى قَلْبِهاَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾([39]).
ونقرأ في المقامة الرحبية([40]): ".. وبَرِئَ بَرَاءَةَ الذِّئبِ من دَمِ ابْنِ يَعْقُوب"،([41]) (ابن يعقوب هو يوسف الصديق عليه السلام) ، وهنا إشارة إلى أحداث وردت في سورة يوسف، حيث كذب إخوته على أبيهم عندما قالوا إن الذئب أكل أخاهم يوسف. ﴿قَالُواْ ياَ أَبَاناَ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْناَ يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾.([42])
ومثال آخر في المقامة القهقرية([43])، وسميت هذه المقامة بذلك لأنها تتضمن الرسالة التي تُقرأ من آخرها إلى أولها كما تُقرأ من أولها إلى آخرها، يقول في هذه المقامة:
"...ثم اعتَلَقَ كُلٌّ مِنَّا بِذَيْلِهِ * وفَلَذَ لَهُ فِلْذَةً من نَيْلهِ * فأَبَى قَبولَ فِلْذَتى * وقال: لَسْتُ أَرْزَأُ تَلامِذَتي * فقلتُ له: كُنْ أبا زَيْد على شُحوبِ سَحْنَتِك * ونُضوبِ ماء وجْنَتِك * فقال أنا هو على نُحولي وقَحولي * وقَشَفِ محُولي * فأَخَذْتُ في تثْريبه * على تَشْريقِهِ وتَغْرِيبِهِ * فَحَوْلَقَ واسْتَرْجَعَ * ثم أَنْشَدَ من قلب مُوجَع:
سَلَّ الزَّمانُ عَلَيَّ عَضْبَهْ
لِيَرُوعَنى وَأَحَدَّ غَرْبَهْ
وَاسْتَلَّ مِنْ جَفْنى كَرَا
هُ مُرَاغِماً وأَسالَ غَرْبَهْ
وأَجالَني في الأفْقِ
أطْـوِى شَرْقَهُ وَأجُوبُ غَرْبَهْ
فَبِكُلِّ جَوٍّ طَلْعَةٌ
في كُلّ يَوْم لي وَغَرْبَهْ
وكَذَا المُغَرِّبُ شَخْصُهُ
مُتَغَرِّبٌ وَنَوَاهُ غَرْبَهْ
ثُمَّ وَلَّى يجَرُّ عِطْفَيْه * ويَخْطِرُ بِيَدَيْه * ونَحْنُ بَيْنَ مُتَلَفّتٍ إليه * ومُتَهافِتٍ عليه * لم نَلْبَثْ أن حَلَلْنا الْحِبا * وتَفَرَّقْناَ أياَدِىَ سَباَ([44]).
وقبيلة سبأ ذكرت في القرآن الكريم، ونقرأ في شرح المقامات:"هذا مثل يضرب لكل قوم تفرقوا في كل ناحية، وسبأ هم الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾([45]) وهي قبيلة تفرقت عشرَ قبائل ستا باليمن وأربعا بالشام، وسبب ذلك أن ملكهم أنذرته كاهنته بالهلاك بسيل العرم فصدقها، وجمع أهله ورعيته وعرّفهم بذلك، وعزم على الانتقال فوافقوه، وذهب كل منهم إلى موضع" ([46]).
وفي المقامة المكية([47]) نقرأ: "قُلْتُ لِلشَّيْخِ هَلْ ضَاهَتْ عِدَّتُنَا عِدَّةَ عُرْقُوب * أَوْ هًلْ بَقِيَتْ حاجَةٌ في نَفْسِ يَعْقُوب"([48]). هنا يشير الراوي باستخدام تعبير " حاجة في نفس يعقوب" إلى ما جاء في سورة يوسف ﴿ إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوب قَضَاها ﴾([49]). ومعروفأن هذا التعبير "حاجة في نفس يعقوب" أصبح مثلاً مشهوراً بين الناس، وكذلك يستفيد المؤلف من الأمثال عند ذكره عطية عرقوب، وقد جاء في الأمثال: مواعيد عرقوب؛ وهو رجل يضرب به المثل في إخلاف الموعد في قصة معروفة في كـتـب الأمثال([50]) .
ويذكر الراوي أحداث سورة الشمس في كلماته التالية في المقامة السنجارية([51]):
"نَشَزَ أَبُو زَيْدٍ كالمجنون * وتَبَاعَدَ عنْهُ تَبَاعُدَ الضَّبِّ مِنَ النُّونِ * فَراودْناهُ على أن يَعود وأن لايكونَ كقُدارٍ في ثمَود".([52])
فقدار هذا هو عاقر ناقة صالح عليه السلام، وكان شؤماً على قبيلته، حيث أنزل الله بهم العذاب بعد فعلته السيئة، وقيل في المثل "أشأم من قدار" ([53]).
وفي المقامة نفسها يشير بتعبير "وحققت سحر بابل"([54]) إلى الآية 102 في سورة البقرة: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلىَ الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ...﴾([55]).
وفي المقامة الزبيدية([56]):
وَيَقُولُ هـَلْ حُرٌّ يُبَا
عُ كما يُبَاعُ الأَدْهَمُ
أَقْصِرْ فما أَناَ فيه بِدْ
عاً مِـثْلَ مَا تَتَوَهَّمُ
قَدْ بَاعتِ الأَسْبَاطُ قَبْــلي
* يُوسُفاً وُهمُ هُمُ ([57])
الأسباط كالقبائل، وهم أولاد يعقوب عليه السلام يوسف وإخوته، وهنا أيضاً إشارة إلى القصة المذكورة في سورة يوسف، من أن إخوة يوسف عليه السلام ألقوه في الجب، ولما جاءت سيارة أخرجوه وجعلوه في بضاعتهم وشروه بثمن بخس.
وفي المقامة الصعدية([58]) نقرأ أن الحارث بن همام يحكى قصة "شيخ بالي الرياش، بادي الارتعاش" حضر عند القاضي مع غلام، ويشكو إلى القاضي أن ابنه لايسمع كلامه ولايطيعه ولا ينفذ أمره، فيقول القاضي: إذا خالف الولد أمر والده فقد الوالد ولده، فقال الغلام غاضباً: إنه أطاع والده ونفذ كل أوامره، وأنه علّمه أدب النفس، وأن الطمع معيبة وشدة الحرص وغلبته مفسدة، وعندما افتقر كلّفه الاحتيال والتسول. أما الشيخ فغضب على ابنه وطلب منه السكوت، ثمّ ندم على أنه كان قاسياً معه، وتحدث في فضل القناعة وزين كلامه بالأبيات الشعرية التالية:
وَاسْتَنْزِلِ الرِّيَّ مِنْ دَرِّ السَّحابِ فَإِنْ
بُلَّتْ يَدَاكَ بِهِ فَلْيَهْنِكَ الظَّفَرُ
وإِنْ رُدِدْتَ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ
عَلَيْكَ قد رُدَّ مُوسَى قَبْلُ والْخَضِرُ ([59])
وهنا تلميح إلى قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا ﴾([60]). فقد رد أهل القرية موسى والخضر عليهما السلام ولم يطعموهما، فاتخّذ ردهما مثلا يتأسّى به.
وفي المقامة الحلبية ([61]): " قال لَهُ بُورِكَ فِيكَ من طَلا * كما بُورِكَ في لاَوَلا" ([62])، يعني شجرة الزيتون يشير إلى قوله تعالى: ﴿ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَشَرْقِيَّةٍ وَلاَغَرْبِيَّةٍ﴾([63]).
وهذا في غاية الإغراب، فكيف بورك في لا ؟ هنا لابد أن يكون القارئ ذا حس لغوي وأدبي وحفظ ومعرفة ليتمكن من تفسير هذا الكلام وربطه بما جاء في القرآن من وصف الزيتونة وأنها لا شرقية ولاغربية!
وفي المقامة البصرية ([64]):
"...قال الحارث بن همام فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُها بِصوتٍ رَقيق * ويَصِلُها بِزفيرٍ وشَهِيق * حتى بَكَيْتُ لِبُكَاءِ عَيْنَيْهِ * كما كُنْتُ مِنْ قَبْلُ أَبْكِي عَلَيْهِ * ثم بَرَزَ إِلىَ مَسْجِدِهِ بِوُضُوءِ تَهَجُّدِه * فَانْطَلَقْتُ رِدْفَه * وَصَلَّيْتُ مَعَ مَنْ صَلَّى خَلْفَه * ولما انْفَضَّ مَنْ حَضَر * وَتَفَرَّقُوا شَغَرَ بَغَر * أَخَذَ يُهَيْنِمُ بِدَرْسِه * ويَسْبِكُ يَوْمَهُ في قالِبِ أمْسِه * وفي ضِمْنِ ذَلِكَ يُرِنُّ إِرْنَانَ الرَّقوب * ويَبْكِى وَلا بُكَاءَ يَعْقُوب * حَتَّى اسْتَبَنْتُ أنَّهُ الْتَحَقَ بالأفراد * وأشْرِبَ قَلْبُهُ هَوَى الانفراد * فَأخْطَرْتُ بِقَلْبِي عَزْمَةَ الارتِحَال * وَتَخْلِيَتَهُ وَالتَّخَلِّي بِتِلْكَ الْحَال * فَكَأَنَّهُ تَفَرَّسَ مانَوَيْتُ * أَوْكُوشِفَ بِما أَخْفَيْتُ * فَزَفَرَ زَفِيرَ الأَوَّاه * ثُمَّ قَرَأَ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلىَ الله * فَأَسْجَلْتُ عِنْدَ ذَلِكَ بِصِدْقِ المُحَدِّثِين * وأيْقَنْتُ أَنَّ في الأُمَّةِ مُحَدَّثِين * ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَيْهِ كَمَا يَدْنُو المُصَافِحُ * وَقُلْتُ: أوْصِني أَيُّهَا العَبْدُ النَّاصِحُ * فَقَالَ اَجْعَلِ المَوْتَ نُصْبَ عَيْنِكَ * وَهَذَا فِـرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ * فَوَدَّعْتُهُ وَعَبَرَاتي يَتَحَدَّرْنَ مِنَ المَآقي * وَزَفَرَاتي يَتَصَعَّدْنَ مِنَ التَّرَاقي * وَكَانَتْ هَذِهِ خَاتِمَةَ التَّلاَقي." ([65])
وكما نقرأ هنا (بكاء يعقوب) إشارة إلى ما جاء في قصة يوسف عن أبيه يعقوب عليهما السلام، وآخر اقتباس قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزِمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾([66])، والثالث جزء من آية من سورة الكهف: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَالَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾([67]).
وفي المقامة البصرية،([68]) نرى أبا زيد وقد تاب إلى الله من صنعته، ونراه يندم على ذنوبه، وينشد:
أَسْتَغْفِرُ الله مِنْ ذُنُوبٍ
أَفْرَطْتُ فِيهِنَّ وَاعْتَدَيْتُ
كَمْ خُضْتُ بَحْرَ الضَّلال جَهْلا
ورُحْتُ في الغَيِّ وَاغْتَدَيْتُ
وَكَمْ تَنَاهَيْتُ في التَّخطي
إِلى الخَطايا وَمَا انْتَهَيْتُ
فَلَيْتَني كُنْتُ قَبْلَ هَذَا
نَسْياً وَلَمْ أَجْنِ ما جَنَيْتُ
. يا ربِّ عفواً فَأَنْتَ أَهْلٌ
لِلْعَفْوِ عَنِّي وَإِنْ عَصَيْتُ([69])
فقد ضمن الشعر جزءا من الآية: ﴿وَكُنْتُ نَسْيٍاً مَنْسِياً﴾([70]).
ويغيب بطلنا عن المسرح، ولكن الحارث بن همام يعلم أنه رجع إلى بلده " سروج " بعد أن خرج منها الروم، "ولبس الصوف وأَمّ الصفوف، وصار بها الزاهد الموصوف. وبذلك لم يعد ذا المقامات، فقد أصبح ذا الكرامات. ويرحل إليه، ... فيعرف الحارث أنه أصبح من المتصوفة الذين أخلصوا وجوههم ونفوسهم إلى ربهم. فيرحل عنه، وهو يقول له: وَهَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. وكانت هذه خاتمة التلاقي." ([71])
وهكذا ختمت المقامات بخير ختام، كما بدئت ببداية طيبة مناسبة، وقد ظل الحريري محافظاً - في مقاماته – على الاقتباس من القرآن الكريم، وكأنه يريد أن يعرف الناس أن القرآن معين لا ينضب، وينفع للاقتباس في كل ضروب الأدب والحياة، وقد صدق.
المراجع:
1. القرآن الكريم.
2. كتاب مقامات الحريري ، القاهرة، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني د.ت.
3. أهل الكدية أبطال المقامات في الأدب العربي. عبد النافع طليمات.دار ابن الوليد، 1957م.
4. رأي في المقامات، د. عبد الرحمن ياغي،بيروت، 1969م، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع.
5. مجمع الأمثال. الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمد. دار الجيل، بيروت، 1978م.
6. جمهرة الأمثال. العسكري، ابو هلال الحسن بن عبد الله. دار الجيل، بيروت،1988م.
7. المستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود. دار الكتب العلمية، 1978م.
8. المقامة، شوقي ضيف. دار المعارف، 1954م.
* كلية اللغات والترجمة- جامعة الملك سعود.
([1]) أهل الكدية أبطال المقامات في الأدب العربي. عبد النافع طليمات.دار ابن الوليد. 1957م، ص 8.
([2]) رأي في المقامات، د. عبد الرحمن ياغي،بيروت، 1969م، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع. ص 39.
([3]) سورة يوسف، الأية 87.
([4]) مقامات الحريري ، القاهرة، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، د.ت.، ص 578.
([5]) المقامات، المقامة الحادية عشرة، ص97.
([6]) سورة التكاثر، الآية 4.
([7]) المقامات، ص 99-100؛ تخطرون: توردون، علقتم: تمسكتم، الحمام: الموت، والذمام: العهد، والذات: النفس، والمسالمة: المصالحة، وهادم اللذات: الموت.
([8]) مقامات الحريري ، المقامة الحادية والعشرون، ص 198.
([9]) المقامات، ص ص 201-202، الرشا بالضم: جمع رشوة، وبالفتح: ولد الظبي، والمنون: الموت، والمبرور: المقبول، وارعوى: كف ورجع عن جهالته، والوجل: الخائف، والزجل: المرتفع المطرب.
([10]) سورة القيامة، الآية 36.
([11]) سورة النازعات، الآية 40.
([12]) سورة النجم ، الآية 38-39.
([13]) المقامات، ص ص 206-207.
([14]) المقامات، المقامة الثانية والعشرون، ص 209.
([15]) المقامات، ص ص 214-217، ] الإتاوة: الخراج والجباية إلى بيت المال. التوظيف: التقسيط. والطوامير: الكتب، أبو براقش: طائر ذو ألوان شتى. والحمة: السمّ، ويرقى: إشارة إلى الرشوة، وينشا، بتخفيف الهمز: يكتب. الإعنات: المشقة] - هيئة التحرير.
([16]) سورة ص، الآية 24.
([17]) المقامات، المقامة التاسعة و الثلاثون، ص 425،
([18]) المقامات، ص ص 426-427. القلعة: النهوض والرحلة، الشرع: جمع الشراع وهو قلع السفبنة، دجا: أظلم، أغسى: اشتدت ظلمته، هاتفاً: صائحاً، القويم: المستقيم، المزجى: المسوق.
([19]) سورة الصف، آية 10.
([20]) سورة هود ، الآية 41.
([21]) المقامات، المقامة الثامنة والعشرون، ص 286.
([22]) المقامات، المقامة الثامنة والعشرون، ص 287.
([23]) سورة النصر، الآية 2.
([24]) المقامات، المقامة التاسعة والعشرون، ص 290.
([25]) سورة الطور، الآية 1-2.
([26]) المقامات، ص 302.
([27]) المقامات، المقامة الثلاثون، ص. 312.
([28]) المقامات، ص ص 316-319.
([29]) سورة الحج، الآية 36.
([30]) سورة البقرة، الآية 276.
([31]) المقامات، المقامة الثالثة، ص 29.
([32]) المقامات، ص 31.
([33]) سورة الفتح، الآية 17.
([34]) المقامات، المقامة الرابعة، ص 31
([35]) المقامات، ص 39.
([36]) سورة الأحزاب، الآية 53.
([37]) المقامات، المقامة الخامسة، ص 40.
([38]) المقامات، ص 44.
([39]) سورة القصص ، الآية 10.
([40]) المقامات، المقامة العاشرة، ص 89.
([41]) المقامات، ص 94.
([42]) سورة يسوف، الآية 17.
([43]) المقامات، المقامة السابعة عشرة، ص160.
([44]) المقامات، 167-169، اعتلق: تعلق؛ فلذ: قطع؛ فلذة: قطعة؛ أرزأ: أنقص؛ تثريبه: لومه؛ حولق: قال لا حول ولا قوة إلا بالله؛ استرجع: قال إنا لله وإنا إليه راجعون؛ سل: جرد؛ عضبه: سيفه الماضي القاطع؛ يروعني: يفزعني؛ غرب السيف: حده؛ استل: انتزع؛ كراه: نومه؛ مراغما: مغاضبا؛ الغرب: مجرى الدمع؛ نواه: جهته المطلوبة؛ والعطفان: جانبا الثوب؛ الحبا: جمع حبوة؛ احتبى الرجل اذا جمع ظهره وساقيه بيديه.
([45]) سورة سبأ، الآية 19.
([46]) المقامات، ص 169.
([47]) المقامات، المقامة الرابعة عشرة، ص128.
([48]) المقامات، ص 135.
([49]) سورة يوسف، الآية 67.
([50]) مجمع الأمثال، الميداني، ابو الفضل احمد بن محمد. دار الجيل، بيروت، 1978م. ج1، ص447؛ وجمهرة الأمثال، . العسكري، ابو هلال الحسن بن عبد الله. دار الجيل، بيروت، 1988م. ط 2، ج1، ص 433؛ والمستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود. دار الكتب العلمية، 1978م. ط2، ج1، ص 176.
([51]) المقامات، المقامة الثامنة عشرة، ص 169.
([52]) المقامات، ص 171، نشز: ارتفع من مكانه أو تباعد؛ الضب: حيوان بري معروف؛ النون: الحوت؛ راودناه: سألناه أو طالبناه.
([53]) مجمع الأمثال، الميداني، ج2، ص187؛ وجمهرة الأمثال، العسكري، ط 2، ج1، ص 156؛ والمستقصى في أمثال العرب، ج1، ص107.
([54]) المقامات، ص 173.
([55]) سورة البقرة، الآية 102.
([56]) المقامات، المقامة الرابعة والثلاثون، ص370.
([57]) المقامات، ص 382.
([58]) المقامات، المقامة السابعة والثلاثون، ص 405.
([59]) المقامات، ص ص406-411.
([60]) سورة الكهف، الآية 77.
([61]) المقامة السادسة والأربعون، ص 522.
([62]) المقامات، ص 527. الطّلا: ولد الظبية.
([63]) سورة النور، الآية 35.
([64]) المقامة الخمسون، ص 583.
([65]) المقامات، 601-602. بوضوء تهجده: أي بوضوئه الذي صلى به نافلة الليل؛ ردفه: في أثره؛ تفرقوا شغر بغر: بتحريكهما، أي تفرقوا في كل وجه ولم يبق منهم أحد؛ أخذ يهينم بدرسه: يعني جعل يقرأ أوراده بصوت منخفض؛ الإرنان كالرنين، صوت فيه غنة؛ الرقوب: هي المرأة التي يموت أولادها فلا يعيش منهم أحد؛ استبنت: علمت أو تحققت؛ الأفراد: هم السبعة من العباد الذين لاتخلو منهم الدنيا؛ أسجلت: حكمت؛ المحدثين: الذين حدثوا بتوبة السروجي وأنه أناب إلى مولاه ؛محدثين: مكاشفين من العباد الذين يتحدثون بالمغيبات.
([66]) سورة آل عمران، الآية 159.
([67]) سورة الكهف، الآية 78.
([68]) المقامات، المقامة الخمسون، ص ص 582-602.
([69]) جزء من الآية 15 من سورة الأنعام. – المقامات، ص 592؛ تناهيت: بلغت النهاية؛ وما انتهيت: ما انزجزت ورجعت؛ نسيا: شيئا منسيا.
([70]) سورة مريم، الآية 23.
([71]) المقامة، شوقي ضيف. دار المعارف، 1954م. ص 54-55.
د. مرتضى غازي سيدعمروف
ومن المعروف أيضاً أن المقامات احتلت مكانة مرموقة في الأدب العربي منذ ظهورها إلى يومنا هذا، وأول من أوجد هذا الفن هو بديع الزمان الهمذاني (المتوفى في 398هـ)، ثم جاء الحريري (أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري (446-526هـ)، وسارت وذاعت شهرة مقاماته بين الناس، وكان هناك حوالي ثمانين كاتبا حاولوا تقليد مقامات الهمذاني والحريري ولم يتمكنوا من بلوغ الغاية في ذلك.
تناولت مقامات الحريري مواضيع مختلفة من فقه ونحو ووصف الأشياء والبلدان... إلخ، وبطل مقامات الحريري هو واحد من المكدين أو المتسولين يطوف من مكان إلى مكان، يستجدي الناس بفصاحته وبيانه ويحتال عليهم، ويتقابل دائماً هذا الشخص البطل المسمى بأبي زيد السروجي مع راوٍ له يحكي أخباره، وهو الحارث بن همام، ومثلهما كان أبو الفتح الاسكندري وعيسى بن هشام في مقامات الهمذاني، كل ذلك بأسلوب فيه حرص على إظهار مقدرة المؤلفاللغوية والبيانية والبديعية، وفيه عرض لآراء الكاتب الأدبية والاجتماعية وغيرها في بعض الأحيان. وكما أكد الأستاذ عبد النافع طليمات، أن الحرص على إظهار المهارة اللغوية والبيانية والبديعية في مقامات الحريري أقوى منه في مقامات الهمذاني، وهذه تفيض بالحوادث وتنبض بالحياة أكثر من تلك.([1])
بيّن البطل الرئيس ومغامراته (جولاته) لكسب لقمة العيش خصائص العهد الذي نشأ فيه فن المقامة؛ فقد مضى عهد النهضة لخلافة العباسيين، وتولّى السلاطين الأجانب الحكم في بغداد، وكان نفوذ الخليفة في الأمور الدينية فقط؛ والحكم في أطراف الخلافة كان غير مستقر، وكانت الحالة الاقتصادية والاجتماعية صعبة ومعقّدة جداً. يقول عبد الرحمن ياغي: "… والحالة هذه… أن تنشأ جماعة… تتخذ وسيلتها في كسب العيش، والتسول عن طريق الأدب الشعبي أحياناً… والاحتيال أحيانا… وكان بين هؤلاء طائفة الساسانيين… أو بني ساسان… نسبة إلى ساسان… أو أهل الكدية … الذي يمثل رجلاً فقيراً بصيراً في استعطاء الناس والاحتيال… فتتجول هذه الطائفة في البلاد تستجدي وتحتال…"([2]) وكان أبو زيد السروجي - بطل مقامات الحريري - يمثل شخصاً مثله، وهو في الوقت نفسه ليس شخصاً عادياً من أهل الكدية، بل إنسان متعلم ومثقف، وعالم في الفقه والنحو والبلاغة والنثر، وهو شاعر، والأهم من هذا كله أنه خطيب ماهر يجلب بخطبته ووعظه الناس، وكلام أبي زيد الذي يلقيه، نثراً كان أو نظماً - بغض النظر عن مضمونه - يعتبر نقطة الذروة في كل مقامة، وفي بعض المقامات لايقوم بطلها بكدية، بل يظهر مهارته اللغوية والبيانية مستخدماً فيها المحسنات اللغوية، والألغاز اللفظية، والعبارات المجازية، والأمثال الشعبية، ومقتبساً الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة والأبيات الشعرية ...إلخ.
ونلاحظ الاقتباسات القرآنية في كثير من المقامات، سواء أكانت اقتباسات مباشرة للآيات الكريمة أم استخدام تعابير قرآنية، أم إشارة إلى شخصياتٍ و أحداثٍ مذكورة في القرآن الكريم، ففي المقامات الرازية، والفقهية، والفراتية، والصورية، والمروية، والعمانية، والرحبية، والساسانية، من مقامات الحريري، نقرأ اقتباسات كاملة لبعض الآيات الكريمة كما نقرأ جزءا من الآية، وكل هذه الاقتباسات تأتي في كلام أبي زيد السروجي، بطل المقامات.
يجمّل أبو زيد كلامه بآيات كريمة سواء أكان كلامه خطبة أم موعظة أمام جماعة من الناس، ويستخدمها لإثبات " صحة" أو " حقيقة" كلامه، أو كخلاصةٍ لمنطقه الذي لا يمكن الرد عليه، وهذه الآيات الكريمة تستخدم لإكمال ما قاله جزئياً أو كاملاً، وتتوافق هذه الاقتباسات مع النص في السجع والمعنى، وتصبح جزءا لا يتجزأ من النص، ونرى بعض الأمثلة من ذلك عندما نقرأ: وَلاَتَيْأََسْ مِنْ رَوْحِ اللهِ ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون ﴾([3])، ويأتي هذا الاقتباس في المقامة الساسانية، حيث يحكى أن أبا زيد لما شاخ أوصى ابنه بأن لا صناعة أنفع من الكدية.([4])
وفي المقامة الساوية([5]) يقف أبو زيد بالمقابر واعظًا، ويتحدث عن القدر وأن على كل إنسان ألاَّ ينسى قدره وجزاءه عند ربه، وينهي كلامه بآية كريمة: ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون﴾([6])، وقد جاءت متناسقة مع كلامه قبلها حيث نقرأ :
"...ولا تُخْطِرُونَ ذِكْرَ الْمَوْتِ بِبال * حتَّى كأَنَّكُمْ قَدْ عَلِقْتُمْ مِنَ الحِمام * بِذِمام * أَوْ حَصَلْتُمْ مِنَ الزَّمان * على أمان * أَوْ وَثِقْتُمْ بِسَلامَةِ الذَّات * أَوْ تَحَقَّقْتُمْ مُسَالَمَةَ هَادِمِ اللذَّات * كَلاَّ ساءَ ماتَتَوَهَّمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون * ثُمَّ أَنْشَدَ..."
وتليها أبيات شعرية.([7])
وتتضمن المقامة الرازية([8]) كون أبي زيد واعظاً، يعرض بالأمير وينهاه عن الظلم، وهذه المقامة تعتبر من المقامات الزهدية وهي تبدأ كالمقامات الأخرى بحديث الحارث بن همام من أنه بدأ يهتم بالنظر في العواقب، ويفرق بين ما يضر وما ينفع، ويتزين بمحاسن الأخلاق، ويترك أو يتجنب ما يزري بالأخلاق، وأنه ما يزال يأخذ نفسه بالآداب، ثم يقول إنه سافر إلى مدينة الري، وذات يوم يرى جماعة تسرع إلى موعظة، والواعظ بلا شك هو أبو زيد، يدعو إلى الخير وصنع المعروف، ويذكر في كلامه:
"... ولا تُبالِي ألَكَ أَمْ عَلَيْكَ * أَتَظُنُّ أَنْ سَتُتْرَك سُدَى * وأن لا تُحاسَبَ غَدا * أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ الْمَوْتَ يَقْبَلُ الرُّشا * أَوْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الأَسَدِ والرَّشا * كَلاَّ والله لَنْ يَدْفَعَ الْمَنُون * مالٌ ولا بَنُون * ولا يَنْفَع أَهْلَ القُبُور * سِوَى الْعَمَلِ الْمَبْرُور * فَطُوبَى لِمَنْ سَمِعَ وَوَعَى * وحَقَّقَ ما ادَّعى * ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * وعَلِمَ أَنَّ الْفَائِزَ مَنِ ارْعَوى * وأنْ ليس للإنسانِ إِلاَّ ما سَعَى * وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثم أنشد إنشادَ وجِل * بصوتٍ زَجِل. . ." ([9])
وهنا نجد الحريري يقتبس من كلام الله تعالى ما يوضح المعنى ويضيف نوعاً من الموسيقى إلى كلامه في المقامة، فقد أفاد من الآية ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنْساَنُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾([10]) ، ثم اقتبس الآية ﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾([11])، وكذلك اقتبس قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ ماَ سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾([12])، واضعاً الآيات في أثناء كلامه، مما منح الكلام نغمة السجع المحببة، وكذلك توكيد المعنى المراد من الموعظة.
ويستمر أبو زيد في كلامه قائلا:
" فَوَاللهِ ما يَغْفُلُ الدَّيَّان * ولا تُهْمَلُ يا إنسان * ولا تُلْغَى الإساءَةُ ولا الإحسان * بلْ سَيُوضَعُ لَكَ الْمِيزان * وكما تَدِينُ تُدان..." ([13])
وهنا إشارة إلى الآيات 7-9 من سورة الرحمن.
وكذلك ينهي أبو زيد كلامه بشيء من القرآن الكريم في المقامة الفراتية([14]) التي تتضمن تفضيل أبي زيد للكتابتين: الإنشاء والحساب، حيث يقول :
"... إِلاَّ أَنَّ صِنَاعَةَ الحِسَاِب مَوْضُوعَةٌ على التَّحْقِيق * وصِناعَةَ الإِنْشاءِ مَبْنِيَّةٌ على التَّلْفِيق * وقَلَمُ الْحَاسِب ضابِط * وَقَلَمُ الْمُنْشِئِ خابِط * وبَيْنَ إتاوَةِ تَوْظِيفِ الْمُعَامَلات * وتِلاوَةِ طوامِيرِ السِّجِلاَّت * بَوْنٌ لا يُدْرِكُهُ قياس * ولا يَعْتَوِرُه الْتِباس*... " ، إلى أن قال: "...على أَنَّ يَراعَ الإنشاء مُتَقَوِّل * ويَراعَ الحِسابِ مُتَأَوِّل * والمحاسِبُ مُناقِش * والْمُنْشِئُ أَبُو بَرَاقِش * ولِكِلَيْهِما حُمَةٌ حِينَ يَرْقَى * إِلَى أنْ يُلْقَى ويُرْقَى * وإعْناتٌ فيما يُنْشا * حتى يُغْشَى و يُرْشَى * إِلاَّ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَقَليلٌ ماهُم*".([15])
فقد أنهى خطبته بقول الله تعالى:﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات وقَلِيلٌ ماهُم﴾([16])، فهي تجمل المعاني التي وردت في كلامه.
وفي المقامة العمانية([17]) نقرأ في كلام أبي زيد:
"... فَلَمَّا شَرَعْنَا في القُلْعَة * ورَفَعْناَ الشُّرُعَ للسُّرعَة * سَمِعْنَا من شِاطِئ الْمَرْسَى * حِينَ دَجا الْلَيْلُ وَأغْسَى * هاتِفاً يَقُولُ: يا أهْلَ ذا الفُلْكِ القَوِيم * المُزَجَّى في الْبَحْرِ الْعَظِيم * بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَليم * هَلْ أَدُلكُمْ على تِجارَة تُنْجِيكُمْ من عَذابٍ ألِيم * ..." ([18])
فهنا الآية:﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم ﴾([19]) جاءت في موضعها من السجع، تزين كلام أبي زيد، وتجعل السامع يتلهّف على سماع الباقي، فيكون السؤال منهم لمتابعة القصة!
كما نقرأ أيضاً:
"... وقال أتدرون ما هي * هي والله حِرْز السَّفْر * عند مَسِيرهم في البحر * والجُنَّة من الغَمّ * إذ جاش موج الْيَمّ * وبها استعصم نوح من الطوفان * ونجا من معه من الحيوان * على ما صَدَعَتْ به آيُ القرآن * ثم قرأ بعد أساطيرَ تلاها * وزخارفَ جلاها . . . * وقال: ﴿ اِرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهاَ وَمُرْساَهاَ ﴾ ([20]).
فجاءت الآية كسابقتها من حيث إفادة الموسيقى والتزيين اللفظي.
والاقتباسات القرآنية المذكورة أعلاه استخدمت في كلام أبي زيد، وهو يكمل خطبته أو وعظه أو كلامه، كقمة منطقه، ولكن مقدرة الحريري تبرز في تضمين كلام الله تعالى في خطب أبي زيد (كلامه هو) فلا تكاد تجد تنافراً بين هذا التضمين – الاقتباس وكلام أبي زيد كما رأيت.
ونلاحظ الاقتباسات القرآنية في كلام الراوي الحارث بن همام أيضاً، ونضرب مثالا من المقامة السمرقندية([21])، (وهذه المقامة تتضمن وقوف أبي زيد بربوة يخطب خطبة عَرِيّة من الإعجام): " تخَيَّرْتُ الْمَرْكَزَ لاِسْتِماعِ الخُطْبَة * ولم يَزَلِ النَّاسُ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْوَاجا * وَيَرِدُونَ فُرادَى وأَزْوَاجا…" ([22]) ، كما نلاحظ هنا أن الراوي ذكر بعض الآية الكريمة ﴿ورأيت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أفْوَاجاً ﴾([23])، ثم أتبعها بكلامه في سجع لطيف.
وفي المقامة الواسطية([24]) التي تتضمن اجتماع الحارث مع أبي زيد بالخان، وكيف صرع أبو زيد أهل الخان بإطعامهم الحلواء وأخذه مالهم، نقرأ قول الراوي: "أقْسَمَ بالطور * والكتابِ المسطور.." وهنا توجد الإشارة إلى الآيتين الكريمتين: ﴿وَالطُّورِ * وكِتَابٍ مَسْطُورٍ ﴾ ([25])، ويأتي بعدها بقوله: " لَيَنْكَشِفَنَّ سرُّ هذا الأَمْرِ الْمَسْتُور * ولينتشرنَّ ذِكْرُه إلى يوم النُّشور ... "([26]) فالسجع هنا أخذ وقعا موسيقيا متناسقا مع الفاصلة في الآيتين.
في المقامة الصورية([27]) نجد وصف حفل زواجٍ لأسرة من "بني ساسان"، وهي طائفة من السائلين والشطار والفقراء، وهناك شيخ يخطب أمام الجمهور، إنه بلا شك أبو زيد، وهو يحمد الله تعالى لأنه حدّد زكاة المال، ومنع طرد السائل والفقير، يقول أبو زيد:
"...وندَبَ إلى مواساة المضطر * وأمر بإطعام القانع والمُعْتَرّ * ووصف عبادَهُ المقربين * في كتابه المبين * فقال وهو أصدق القائلين * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * أحمَدُهُ على ما رزق من طُعْمة هَنِيَّة * … يجزي المتصدقين والمتصدقات * ويمحق الرِّبا ويُرْبِي الصدقات . . . فقال سبحانه لتعرفوا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا* . . . فأنْكِحوه إنكاحَ مثله * وصِلُوا حَبْلَكُم بحبله * وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ …"([28])
ففي المرة الأولى يضمن معنى الآية بألفاظ من الآية نفسها، وهي: ﴿ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾([29])، وفي الثانية يستشهد بقول الله بصراحة، والآيتان من سورة المعارج. ثم يفيد من آية الربا([30]) ، وكذلك آية الحجرات، ثم التوبة، وهو في كل هذا يأتي بالآية كاملة أو ببعضها ليتمم عملية السجع في كلامه، مع الإشارة إلى فائدة تزويج الشاب المعني في الخطبة، وقد أضفى كلام الله تعالى كثيراً من الحسن على كلام الحريري وزانه وجعله سهل الحفظ بتوافق الفاصلة مع السجع.
إن ما مر بنا يوضح أن كلام أبي زيد هو كلام رفيع المستوى، ويتم تقويمه باقتباسات قرآنية أسلوبياً وبلاغياً، وأن أبا زيد السروجي – بطل المقامات – لا يكذب ويخدع لأجل الحصول على لقمة العيش وتوفير المعيشة الجيدة أو كسب المال فقط، بل إنه يريد من كل هذا أن يبين أن لديه معلومات عالية في الفقه والنحو والصرف والبلاغة والنظم ومجالات أخرى.
وإلى جانب اقتباس آيات كريمة أو أجزاء منها نجد إشارات إلى أحداث أو شخصيات مذكورة في القرآن الكريم.
وينقد الراوي أبا زيد - بطل المقامات - لكذبه وخداعه، وأما أبو زيد فيجيب إجابة أصدق من النقد، ويستخدم مثالا من كتاب الله، أو من الحديث الشريف، ففي المقامة الدينارية([31]) - على سبيل المثال - يتبين بطل المقامة في صفة شيخ أعرج في لباس قديم وهو يشكو من تغير في حياته: كان رجلا غنياً وسخياً فأصبح عجوزاً فقيراً. وفي هذه المقامة أيضا يبين مهارته في الفصاحة والبلاغة، ويمدح ديناراً لكي يكسبه، وفي نفس الوقت يذمه للغرض نفسه، وفي خاتمة المقامة يعرف الحارث ابن همام أبا زيد بالشيخ فيسأله: "لماذا تعارجت؟" فيجيب أبو زيد:
تَعَارَجْتُ لاَ رَغْبَةً في العَرَج
وَلَكِنْ لأَِقْرَعَ بَابَ الفَرَج
وأَلقِيَ حَبْلي على غارِبِي
وأسْلُكَ مَسْلَكَ مَنْ قَدْ مَرَج
فإن لاَمَنِي الْقَوْمُ قُلْتُ اعْذِرُوا
فَلَيْسَ على أَعْرَجٍ مِنْ حَرَج.([32])
ونقارن مع قوله تعالى: ﴿ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ ﴾([33]).
ومثال آخر من المقامة الدمياطية([34])، حيث يحصل أبو زيد على المكافأة لحسن فصاحته ويترك الجماعة وهو يعد أنه سيعود سريعاً، أما الراوي فيجد رسالة كتبها أبو زيد مسوِّغاً مغادرته قال فيها:
يا مَنْ غَدَا لي ساعِداً
ومُساعِداً دُونَ البَشَرْ
لا تَحْسِبَنْ أنّى نَأَيْتُكَ
عن مَلالٍ أو أشَرْ
لَكِنَّنِي مُذْ لَمْ أزَلْ
مِمَّنْ إذاَ طَعِمَ انْتَشَرْ.([35])
والكلمات الأخيرة " إذاَ طَعِمَ انْتَشَرْ" في هذه الأبيات مأخوذة من قوله تعالى: ﴿إِذَا دُعِيْتُمْ فَادْخُلُوا فإذاَ طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾([36]) .
وفي المقامة الكوفية([37]) يصف أبو زيد حالته ويقول:
" إنَّ مَرَامِيَ الغُرْبَة * لَفَظَتْنِي إلى هذِهِ الترْبَة * وأَناَ ذُو مَجَاعَةٍ وبُوسَى* وجِرَابٍ كَفُؤَادِ أُمِّ مُوسَى*".([38])
وهنا إشارة إلى ما جاء في الآية الكريمة: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْناَ عَلَى قَلْبِهاَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾([39]).
ونقرأ في المقامة الرحبية([40]): ".. وبَرِئَ بَرَاءَةَ الذِّئبِ من دَمِ ابْنِ يَعْقُوب"،([41]) (ابن يعقوب هو يوسف الصديق عليه السلام) ، وهنا إشارة إلى أحداث وردت في سورة يوسف، حيث كذب إخوته على أبيهم عندما قالوا إن الذئب أكل أخاهم يوسف. ﴿قَالُواْ ياَ أَبَاناَ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْناَ يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾.([42])
ومثال آخر في المقامة القهقرية([43])، وسميت هذه المقامة بذلك لأنها تتضمن الرسالة التي تُقرأ من آخرها إلى أولها كما تُقرأ من أولها إلى آخرها، يقول في هذه المقامة:
"...ثم اعتَلَقَ كُلٌّ مِنَّا بِذَيْلِهِ * وفَلَذَ لَهُ فِلْذَةً من نَيْلهِ * فأَبَى قَبولَ فِلْذَتى * وقال: لَسْتُ أَرْزَأُ تَلامِذَتي * فقلتُ له: كُنْ أبا زَيْد على شُحوبِ سَحْنَتِك * ونُضوبِ ماء وجْنَتِك * فقال أنا هو على نُحولي وقَحولي * وقَشَفِ محُولي * فأَخَذْتُ في تثْريبه * على تَشْريقِهِ وتَغْرِيبِهِ * فَحَوْلَقَ واسْتَرْجَعَ * ثم أَنْشَدَ من قلب مُوجَع:
سَلَّ الزَّمانُ عَلَيَّ عَضْبَهْ
لِيَرُوعَنى وَأَحَدَّ غَرْبَهْ
وَاسْتَلَّ مِنْ جَفْنى كَرَا
هُ مُرَاغِماً وأَسالَ غَرْبَهْ
وأَجالَني في الأفْقِ
أطْـوِى شَرْقَهُ وَأجُوبُ غَرْبَهْ
فَبِكُلِّ جَوٍّ طَلْعَةٌ
في كُلّ يَوْم لي وَغَرْبَهْ
وكَذَا المُغَرِّبُ شَخْصُهُ
مُتَغَرِّبٌ وَنَوَاهُ غَرْبَهْ
ثُمَّ وَلَّى يجَرُّ عِطْفَيْه * ويَخْطِرُ بِيَدَيْه * ونَحْنُ بَيْنَ مُتَلَفّتٍ إليه * ومُتَهافِتٍ عليه * لم نَلْبَثْ أن حَلَلْنا الْحِبا * وتَفَرَّقْناَ أياَدِىَ سَباَ([44]).
وقبيلة سبأ ذكرت في القرآن الكريم، ونقرأ في شرح المقامات:"هذا مثل يضرب لكل قوم تفرقوا في كل ناحية، وسبأ هم الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾([45]) وهي قبيلة تفرقت عشرَ قبائل ستا باليمن وأربعا بالشام، وسبب ذلك أن ملكهم أنذرته كاهنته بالهلاك بسيل العرم فصدقها، وجمع أهله ورعيته وعرّفهم بذلك، وعزم على الانتقال فوافقوه، وذهب كل منهم إلى موضع" ([46]).
وفي المقامة المكية([47]) نقرأ: "قُلْتُ لِلشَّيْخِ هَلْ ضَاهَتْ عِدَّتُنَا عِدَّةَ عُرْقُوب * أَوْ هًلْ بَقِيَتْ حاجَةٌ في نَفْسِ يَعْقُوب"([48]). هنا يشير الراوي باستخدام تعبير " حاجة في نفس يعقوب" إلى ما جاء في سورة يوسف ﴿ إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوب قَضَاها ﴾([49]). ومعروفأن هذا التعبير "حاجة في نفس يعقوب" أصبح مثلاً مشهوراً بين الناس، وكذلك يستفيد المؤلف من الأمثال عند ذكره عطية عرقوب، وقد جاء في الأمثال: مواعيد عرقوب؛ وهو رجل يضرب به المثل في إخلاف الموعد في قصة معروفة في كـتـب الأمثال([50]) .
ويذكر الراوي أحداث سورة الشمس في كلماته التالية في المقامة السنجارية([51]):
"نَشَزَ أَبُو زَيْدٍ كالمجنون * وتَبَاعَدَ عنْهُ تَبَاعُدَ الضَّبِّ مِنَ النُّونِ * فَراودْناهُ على أن يَعود وأن لايكونَ كقُدارٍ في ثمَود".([52])
فقدار هذا هو عاقر ناقة صالح عليه السلام، وكان شؤماً على قبيلته، حيث أنزل الله بهم العذاب بعد فعلته السيئة، وقيل في المثل "أشأم من قدار" ([53]).
وفي المقامة نفسها يشير بتعبير "وحققت سحر بابل"([54]) إلى الآية 102 في سورة البقرة: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلىَ الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ...﴾([55]).
وفي المقامة الزبيدية([56]):
وَيَقُولُ هـَلْ حُرٌّ يُبَا
عُ كما يُبَاعُ الأَدْهَمُ
أَقْصِرْ فما أَناَ فيه بِدْ
عاً مِـثْلَ مَا تَتَوَهَّمُ
قَدْ بَاعتِ الأَسْبَاطُ قَبْــلي
* يُوسُفاً وُهمُ هُمُ ([57])
الأسباط كالقبائل، وهم أولاد يعقوب عليه السلام يوسف وإخوته، وهنا أيضاً إشارة إلى القصة المذكورة في سورة يوسف، من أن إخوة يوسف عليه السلام ألقوه في الجب، ولما جاءت سيارة أخرجوه وجعلوه في بضاعتهم وشروه بثمن بخس.
وفي المقامة الصعدية([58]) نقرأ أن الحارث بن همام يحكى قصة "شيخ بالي الرياش، بادي الارتعاش" حضر عند القاضي مع غلام، ويشكو إلى القاضي أن ابنه لايسمع كلامه ولايطيعه ولا ينفذ أمره، فيقول القاضي: إذا خالف الولد أمر والده فقد الوالد ولده، فقال الغلام غاضباً: إنه أطاع والده ونفذ كل أوامره، وأنه علّمه أدب النفس، وأن الطمع معيبة وشدة الحرص وغلبته مفسدة، وعندما افتقر كلّفه الاحتيال والتسول. أما الشيخ فغضب على ابنه وطلب منه السكوت، ثمّ ندم على أنه كان قاسياً معه، وتحدث في فضل القناعة وزين كلامه بالأبيات الشعرية التالية:
وَاسْتَنْزِلِ الرِّيَّ مِنْ دَرِّ السَّحابِ فَإِنْ
بُلَّتْ يَدَاكَ بِهِ فَلْيَهْنِكَ الظَّفَرُ
وإِنْ رُدِدْتَ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ
عَلَيْكَ قد رُدَّ مُوسَى قَبْلُ والْخَضِرُ ([59])
وهنا تلميح إلى قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا ﴾([60]). فقد رد أهل القرية موسى والخضر عليهما السلام ولم يطعموهما، فاتخّذ ردهما مثلا يتأسّى به.
وفي المقامة الحلبية ([61]): " قال لَهُ بُورِكَ فِيكَ من طَلا * كما بُورِكَ في لاَوَلا" ([62])، يعني شجرة الزيتون يشير إلى قوله تعالى: ﴿ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَشَرْقِيَّةٍ وَلاَغَرْبِيَّةٍ﴾([63]).
وهذا في غاية الإغراب، فكيف بورك في لا ؟ هنا لابد أن يكون القارئ ذا حس لغوي وأدبي وحفظ ومعرفة ليتمكن من تفسير هذا الكلام وربطه بما جاء في القرآن من وصف الزيتونة وأنها لا شرقية ولاغربية!
وفي المقامة البصرية ([64]):
"...قال الحارث بن همام فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُها بِصوتٍ رَقيق * ويَصِلُها بِزفيرٍ وشَهِيق * حتى بَكَيْتُ لِبُكَاءِ عَيْنَيْهِ * كما كُنْتُ مِنْ قَبْلُ أَبْكِي عَلَيْهِ * ثم بَرَزَ إِلىَ مَسْجِدِهِ بِوُضُوءِ تَهَجُّدِه * فَانْطَلَقْتُ رِدْفَه * وَصَلَّيْتُ مَعَ مَنْ صَلَّى خَلْفَه * ولما انْفَضَّ مَنْ حَضَر * وَتَفَرَّقُوا شَغَرَ بَغَر * أَخَذَ يُهَيْنِمُ بِدَرْسِه * ويَسْبِكُ يَوْمَهُ في قالِبِ أمْسِه * وفي ضِمْنِ ذَلِكَ يُرِنُّ إِرْنَانَ الرَّقوب * ويَبْكِى وَلا بُكَاءَ يَعْقُوب * حَتَّى اسْتَبَنْتُ أنَّهُ الْتَحَقَ بالأفراد * وأشْرِبَ قَلْبُهُ هَوَى الانفراد * فَأخْطَرْتُ بِقَلْبِي عَزْمَةَ الارتِحَال * وَتَخْلِيَتَهُ وَالتَّخَلِّي بِتِلْكَ الْحَال * فَكَأَنَّهُ تَفَرَّسَ مانَوَيْتُ * أَوْكُوشِفَ بِما أَخْفَيْتُ * فَزَفَرَ زَفِيرَ الأَوَّاه * ثُمَّ قَرَأَ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلىَ الله * فَأَسْجَلْتُ عِنْدَ ذَلِكَ بِصِدْقِ المُحَدِّثِين * وأيْقَنْتُ أَنَّ في الأُمَّةِ مُحَدَّثِين * ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَيْهِ كَمَا يَدْنُو المُصَافِحُ * وَقُلْتُ: أوْصِني أَيُّهَا العَبْدُ النَّاصِحُ * فَقَالَ اَجْعَلِ المَوْتَ نُصْبَ عَيْنِكَ * وَهَذَا فِـرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ * فَوَدَّعْتُهُ وَعَبَرَاتي يَتَحَدَّرْنَ مِنَ المَآقي * وَزَفَرَاتي يَتَصَعَّدْنَ مِنَ التَّرَاقي * وَكَانَتْ هَذِهِ خَاتِمَةَ التَّلاَقي." ([65])
وكما نقرأ هنا (بكاء يعقوب) إشارة إلى ما جاء في قصة يوسف عن أبيه يعقوب عليهما السلام، وآخر اقتباس قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزِمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾([66])، والثالث جزء من آية من سورة الكهف: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَالَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾([67]).
وفي المقامة البصرية،([68]) نرى أبا زيد وقد تاب إلى الله من صنعته، ونراه يندم على ذنوبه، وينشد:
أَسْتَغْفِرُ الله مِنْ ذُنُوبٍ
أَفْرَطْتُ فِيهِنَّ وَاعْتَدَيْتُ
كَمْ خُضْتُ بَحْرَ الضَّلال جَهْلا
ورُحْتُ في الغَيِّ وَاغْتَدَيْتُ
وَكَمْ تَنَاهَيْتُ في التَّخطي
إِلى الخَطايا وَمَا انْتَهَيْتُ
فَلَيْتَني كُنْتُ قَبْلَ هَذَا
نَسْياً وَلَمْ أَجْنِ ما جَنَيْتُ
. يا ربِّ عفواً فَأَنْتَ أَهْلٌ
لِلْعَفْوِ عَنِّي وَإِنْ عَصَيْتُ([69])
فقد ضمن الشعر جزءا من الآية: ﴿وَكُنْتُ نَسْيٍاً مَنْسِياً﴾([70]).
ويغيب بطلنا عن المسرح، ولكن الحارث بن همام يعلم أنه رجع إلى بلده " سروج " بعد أن خرج منها الروم، "ولبس الصوف وأَمّ الصفوف، وصار بها الزاهد الموصوف. وبذلك لم يعد ذا المقامات، فقد أصبح ذا الكرامات. ويرحل إليه، ... فيعرف الحارث أنه أصبح من المتصوفة الذين أخلصوا وجوههم ونفوسهم إلى ربهم. فيرحل عنه، وهو يقول له: وَهَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. وكانت هذه خاتمة التلاقي." ([71])
وهكذا ختمت المقامات بخير ختام، كما بدئت ببداية طيبة مناسبة، وقد ظل الحريري محافظاً - في مقاماته – على الاقتباس من القرآن الكريم، وكأنه يريد أن يعرف الناس أن القرآن معين لا ينضب، وينفع للاقتباس في كل ضروب الأدب والحياة، وقد صدق.
المراجع:
1. القرآن الكريم.
2. كتاب مقامات الحريري ، القاهرة، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني د.ت.
3. أهل الكدية أبطال المقامات في الأدب العربي. عبد النافع طليمات.دار ابن الوليد، 1957م.
4. رأي في المقامات، د. عبد الرحمن ياغي،بيروت، 1969م، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع.
5. مجمع الأمثال. الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمد. دار الجيل، بيروت، 1978م.
6. جمهرة الأمثال. العسكري، ابو هلال الحسن بن عبد الله. دار الجيل، بيروت،1988م.
7. المستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود. دار الكتب العلمية، 1978م.
8. المقامة، شوقي ضيف. دار المعارف، 1954م.
* كلية اللغات والترجمة- جامعة الملك سعود.
([1]) أهل الكدية أبطال المقامات في الأدب العربي. عبد النافع طليمات.دار ابن الوليد. 1957م، ص 8.
([2]) رأي في المقامات، د. عبد الرحمن ياغي،بيروت، 1969م، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع. ص 39.
([3]) سورة يوسف، الأية 87.
([4]) مقامات الحريري ، القاهرة، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، د.ت.، ص 578.
([5]) المقامات، المقامة الحادية عشرة، ص97.
([6]) سورة التكاثر، الآية 4.
([7]) المقامات، ص 99-100؛ تخطرون: توردون، علقتم: تمسكتم، الحمام: الموت، والذمام: العهد، والذات: النفس، والمسالمة: المصالحة، وهادم اللذات: الموت.
([8]) مقامات الحريري ، المقامة الحادية والعشرون، ص 198.
([9]) المقامات، ص ص 201-202، الرشا بالضم: جمع رشوة، وبالفتح: ولد الظبي، والمنون: الموت، والمبرور: المقبول، وارعوى: كف ورجع عن جهالته، والوجل: الخائف، والزجل: المرتفع المطرب.
([10]) سورة القيامة، الآية 36.
([11]) سورة النازعات، الآية 40.
([12]) سورة النجم ، الآية 38-39.
([13]) المقامات، ص ص 206-207.
([14]) المقامات، المقامة الثانية والعشرون، ص 209.
([15]) المقامات، ص ص 214-217، ] الإتاوة: الخراج والجباية إلى بيت المال. التوظيف: التقسيط. والطوامير: الكتب، أبو براقش: طائر ذو ألوان شتى. والحمة: السمّ، ويرقى: إشارة إلى الرشوة، وينشا، بتخفيف الهمز: يكتب. الإعنات: المشقة] - هيئة التحرير.
([16]) سورة ص، الآية 24.
([17]) المقامات، المقامة التاسعة و الثلاثون، ص 425،
([18]) المقامات، ص ص 426-427. القلعة: النهوض والرحلة، الشرع: جمع الشراع وهو قلع السفبنة، دجا: أظلم، أغسى: اشتدت ظلمته، هاتفاً: صائحاً، القويم: المستقيم، المزجى: المسوق.
([19]) سورة الصف، آية 10.
([20]) سورة هود ، الآية 41.
([21]) المقامات، المقامة الثامنة والعشرون، ص 286.
([22]) المقامات، المقامة الثامنة والعشرون، ص 287.
([23]) سورة النصر، الآية 2.
([24]) المقامات، المقامة التاسعة والعشرون، ص 290.
([25]) سورة الطور، الآية 1-2.
([26]) المقامات، ص 302.
([27]) المقامات، المقامة الثلاثون، ص. 312.
([28]) المقامات، ص ص 316-319.
([29]) سورة الحج، الآية 36.
([30]) سورة البقرة، الآية 276.
([31]) المقامات، المقامة الثالثة، ص 29.
([32]) المقامات، ص 31.
([33]) سورة الفتح، الآية 17.
([34]) المقامات، المقامة الرابعة، ص 31
([35]) المقامات، ص 39.
([36]) سورة الأحزاب، الآية 53.
([37]) المقامات، المقامة الخامسة، ص 40.
([38]) المقامات، ص 44.
([39]) سورة القصص ، الآية 10.
([40]) المقامات، المقامة العاشرة، ص 89.
([41]) المقامات، ص 94.
([42]) سورة يسوف، الآية 17.
([43]) المقامات، المقامة السابعة عشرة، ص160.
([44]) المقامات، 167-169، اعتلق: تعلق؛ فلذ: قطع؛ فلذة: قطعة؛ أرزأ: أنقص؛ تثريبه: لومه؛ حولق: قال لا حول ولا قوة إلا بالله؛ استرجع: قال إنا لله وإنا إليه راجعون؛ سل: جرد؛ عضبه: سيفه الماضي القاطع؛ يروعني: يفزعني؛ غرب السيف: حده؛ استل: انتزع؛ كراه: نومه؛ مراغما: مغاضبا؛ الغرب: مجرى الدمع؛ نواه: جهته المطلوبة؛ والعطفان: جانبا الثوب؛ الحبا: جمع حبوة؛ احتبى الرجل اذا جمع ظهره وساقيه بيديه.
([45]) سورة سبأ، الآية 19.
([46]) المقامات، ص 169.
([47]) المقامات، المقامة الرابعة عشرة، ص128.
([48]) المقامات، ص 135.
([49]) سورة يوسف، الآية 67.
([50]) مجمع الأمثال، الميداني، ابو الفضل احمد بن محمد. دار الجيل، بيروت، 1978م. ج1، ص447؛ وجمهرة الأمثال، . العسكري، ابو هلال الحسن بن عبد الله. دار الجيل، بيروت، 1988م. ط 2، ج1، ص 433؛ والمستقصى في أمثال العرب، الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمود. دار الكتب العلمية، 1978م. ط2، ج1، ص 176.
([51]) المقامات، المقامة الثامنة عشرة، ص 169.
([52]) المقامات، ص 171، نشز: ارتفع من مكانه أو تباعد؛ الضب: حيوان بري معروف؛ النون: الحوت؛ راودناه: سألناه أو طالبناه.
([53]) مجمع الأمثال، الميداني، ج2، ص187؛ وجمهرة الأمثال، العسكري، ط 2، ج1، ص 156؛ والمستقصى في أمثال العرب، ج1، ص107.
([54]) المقامات، ص 173.
([55]) سورة البقرة، الآية 102.
([56]) المقامات، المقامة الرابعة والثلاثون، ص370.
([57]) المقامات، ص 382.
([58]) المقامات، المقامة السابعة والثلاثون، ص 405.
([59]) المقامات، ص ص406-411.
([60]) سورة الكهف، الآية 77.
([61]) المقامة السادسة والأربعون، ص 522.
([62]) المقامات، ص 527. الطّلا: ولد الظبية.
([63]) سورة النور، الآية 35.
([64]) المقامة الخمسون، ص 583.
([65]) المقامات، 601-602. بوضوء تهجده: أي بوضوئه الذي صلى به نافلة الليل؛ ردفه: في أثره؛ تفرقوا شغر بغر: بتحريكهما، أي تفرقوا في كل وجه ولم يبق منهم أحد؛ أخذ يهينم بدرسه: يعني جعل يقرأ أوراده بصوت منخفض؛ الإرنان كالرنين، صوت فيه غنة؛ الرقوب: هي المرأة التي يموت أولادها فلا يعيش منهم أحد؛ استبنت: علمت أو تحققت؛ الأفراد: هم السبعة من العباد الذين لاتخلو منهم الدنيا؛ أسجلت: حكمت؛ المحدثين: الذين حدثوا بتوبة السروجي وأنه أناب إلى مولاه ؛محدثين: مكاشفين من العباد الذين يتحدثون بالمغيبات.
([66]) سورة آل عمران، الآية 159.
([67]) سورة الكهف، الآية 78.
([68]) المقامات، المقامة الخمسون، ص ص 582-602.
([69]) جزء من الآية 15 من سورة الأنعام. – المقامات، ص 592؛ تناهيت: بلغت النهاية؛ وما انتهيت: ما انزجزت ورجعت؛ نسيا: شيئا منسيا.
([70]) سورة مريم، الآية 23.
([71]) المقامة، شوقي ضيف. دار المعارف، 1954م. ص 54-55.
د. مرتضى غازي سيدعمروف