نقوس المهدي
كاتب
إن الكلمات التي تقرؤونها الآن مؤثرة جدًا لدرجة بإمكانها أن ترسخ في وعينا الثقافي، وأن تحدث انقلابًا في الحضارة الغربية!
كانت تلك افتتاحية صغتها على سبيل المبالغة. لكن، لا يوجد كاتب إلا وتمنّىٰ، لو لمرة واحدة على الأقل، بأن يكتب افتتاحية مؤثرة بقوة: “في البدء، خلق الله السمواتِ والأرضَ”.
بدأتُ بتخصيص ثلاث ساعات كاملة في ورشة الكتابة الإبداعية لموضوع الإفتتاحيات، منذ أدركت أن آخر عهدي بها كان في سنتي الدراسية الثالثة على يد معلمتي المُلهِمة السيدة سبيلمان، التي كانت تصرّ بشدة على أن افتتاحية القصص القصيرة يجب أن تحتوي على “مفاجأة تأسرالقارئ”. ومع سنوات ممارستي الكتابة، أيقنتُ أن كل تجربة أدبية مصير نجاحها أو فشلها مرتبط بالفقرة الافتتاحية، وأن سرّ نجاح قصة ما يكمن في كيفية صياغة افتتاحية مؤثرة.
أوّل قانون مهم لافتتاحية مؤثرة – برأيي المتواضع- أن تختزل هذه الافتتاحية أغلب العناصر التي تقوم عليها القصة: أن تكون لها نبرة متفردة، وجهة نظر خاصة بها، حبكة بسيطة، وبعض التلميح لطبيعة الشخصية / الشخصيات. إذ يجب على الأقل مع نهاية الفقرة الأولى من افتتاحيتك أن يتعرف القارئ على: المكان/ البيئة، وطبيعة الصراع الذي سينشأ لاحقًا، هذا ما لم يكن لديك سبب لإخفاء تلك المعلومات من البداية.
بإمكاننا تخيل فكرة افتتاحية مؤثرة، كحجرٍ نرميه من جبل، ثم كيف وهو في طريقه إلى الأسفل يتقافز للأمام والخلف بسرعة مطّردة، وكيف يتحدد مساره بحسب القوة التي ندفعه بها. بالمثل هي أحداث قصتك، يتحدد مسارها بعد السطور الأولى. لذا فإن القانون الثاني المهم لافتتاحية مؤثرة: إنّ مسار أحداث قصتك يشبه الإنهيار الجليدي كل شيء يتحدد في الثواني الأولى.
إليكَ أيها الكاتب الشغوف تسعة أفكار أخرى تساعدك على صياغة افتتاحية مؤثرة:
1. لا تبدأ قبل الأوان:
يبدأ الكثير من الكتاب المغمورين قصته قبل أن يبدأ الفعل الحقيقي، كمثال: تستيقظ الشخصية على سيبدو لاحقًا أنه يومٌ ملئ بالأحداث المهمة. بدايةٌ كهذه لا تسمح للقصة أن تتطور بذاتها، إنما هي مجرد تعكس طبيعة المؤلف نفسه وهو يحاول أن يبدأ قصته. بينما من الأفضل أن تبدأ مع بداية الأحداث المهمة تلك. لا بأس إن وجدت أن طقوس استيقاظ إحدى شخصياتك يبدو مهمًا، أو حتى مسليًا، باستطاعتك استعراض تلك الطقوس في فلاش-باك مثلاً، أو تسردها لاحقًا مع تسلسل الأحداث حين تستيقظ شخصيتك بيوم آخر.
2. الخطاطيف الصغيرة تصطاد سمكًا أكثر من الخطاطيف الكبيرة:
قد يتعلم الكُتّاب في سنوات دراستهم الأولى أنه كلما كانت الإفتتاحية غير مألوفة كلما كان باستطاعتهم الإمساك بالقارئ أكثر. وهذا حقيقي فعلاً، لكن، ما لم يخبروهم به أن افتتاحيات كهذه لديها القدرة أيضًا على أن تخيّب توقعات القارئ، في حال لم تستطع أحداث القصة أن تكون بمستوى تلك التوقعات. ولو استطعتَ ككاتب أن تبدأ قصتك بأكثر اللحظات توترًا، لن يكون أمامكَ سبيل سوى الهبوط بتوتر الأحداث بعد كل هذا الإنفعال عند الافتتاحية. لهذا إن كانت بدايتك غريبة جدا وغير مألوفة ستعاني من أن تكون بمستوى هذه البداية المرتفعة بتوترها طوال القصة.
وكما أخبرني أحد اصدقائي في هواية صيد السمك: السر يكمن في أن تستخدم أصغر الخطاطيف لديك، وثم اسحب الصَّنارة في الإتجاه المعاكس بكل قوتك!
3. الافتتاحيات البانورامية، ابدأ بمجال رؤية متسع ثم اتجه للتفاصيل:
في السينما المعاصرة، تبدأ معظم الأفلام بلقطة مقربة على تفصيلة ما، وثم تبدأ الكاميرا بالتراجع للخلف لتستعرض لنا المنظر ككل. وهذا النوع من الإيحاء السينمائي يحدث حينما تكون اللقطة مقربة جدًا على جزء صغير، فيبدو وكأنه جزء من جسد عارٍ، وعندما تتراجع الكاميرا يتضح لنا أنها مجرد قطعة فاكهة!
هذا التأثير السينمائي نادرًا ما ينفع في الأدب.
إذ يُفضِّل أغلب القرّاء رؤية المنظر شاملاً بالبداية وثمّ الإنتقال إلى التفاصيل، وهو اسلوب شائع تميزت به الروايات الكلاسكية في القرن التاسع عشر، كما رواية “Middlemarch”.
4. تذكّر أن القارئ لا يقرأ الرواية من النهاية للبداية:
إحدى أسهل الطرق أن تفتتح القصة بجملة غامضة بعض الشيء، وثم في السطور التالية تزوّد القارئ بأجوبة ومعلومات. رغم أنه من النادر أن نجد قارئًا يتوقف عن القراءة فقط لأنه اصطدم بافتتاحية مبهمة، لكن هذا لا يعني أن تترك افتتاحيتك بلا مفاتيح ومعلومات يستعين بها القارئ. هذا التكنيك له مردود مجزٍ غالبًا. لكن في كل الأحوال، لا تجعل افتتاحيتك مغلقة تمامًا أمام القارئ دون أن تطعّمها ببعض المعلومات التي تيسّر له متابعة القراءة.
5. التساؤل كافتتاحية:
أن تفتتح قصتك بما يشبه صيغة التساؤل له تأثيره السحري، وبخاصة إن كان الراوي نفسه يشاطر القارئ شعور الحيرة. ممّا سيجعل علاقة الراوي بالقارئ علاقة يوطدها الفضول والتساؤل. وبإمكان هذا التساؤل أن يقود دفة أحداث رواية بأكملها، كما في رواية ديفيد كوبرفيلد حين يتساءل:
“سواء اتضح أني من سيكون بطل قصة حياتي، أو أن يتولى شخصٌ آخر هذه المهمة عني، فذلك ما يجب على هذه الصفحات أن توضحه.”
6. الحوار كافتتاحية:
لا أنصحكَ باستخدام الحوار كافتتاحية دون حذر، ذاك أن افتتاحيات كهذه تجعلك كمن يُلقي القارئ في لجّة الإعصار، وطبعًا بإمكانك أن تفقد القارئ بسهولة حينها. هناك ذلك الأسلوب بأن تفتتح قصتك بجملة حوارية واحدة فقط (وهذا يشبه أن تبدأ بلقطة مقربة انظر النصيحة رقم3 ) وثم تتراجع للخلف لإظهار المزيد قبل المضيّ في سرد الحوارات بين الشخصيات. إن الحوارات الطويلة تعزل أحداث القصة عن القارئ، وهي اسلوب نادرًا ما يُثمر إلا في حالات خاصة، كما في حالة الأدب التجريبي المحض لدى Donald Barthelme وTerry Bisson، حيث الحوار نفسه يصبح سرد القصة، وهي تجارب أدبية يَلقىٰ القارئ فيها عادة صعوبة بالاستمرار في متابعة الأحداث.
7. أعِد النظر في افتتاحيتك:
قد تتطوّر أحداث قصتك اثناء عملية الكتابة، لدرجة تبدو افتتاحيتك، مهما كانت رائعة، لا تتوافق مع سياق الأحداث. وإعادة النظر بافتتاحيتك هي الطريق الوحيد لمعرفة ذلك. وكما في اختيار العنوان، بمجرد أن تصبح المخطوطة النهائية للقصة جاهزة ومكتملة، ستحتاج غالبًا لافتتاحية غير التي اخترتَها. هذا لا يعني أن افتتاحيتك الرائعة ستذهب مدرج الريح وتُلغىٰ من أساسها وكأنها لم تكن، بل بإمكانك الاحتفاظ بها في “مخزن الافتتاحيات الممكنة” لكتاب قادم.
8. ضع قائمة بكل الافتتاحيات الممكنة:
كل كاتب مبتدئ عادة يُطلب منه أن يدوّن قائمة بعناوين مقترحة لقصته، فيذهب يعرضها على اصدقائه وعائلته. إني أحثّ تلاميذي دائمًا أن يفعلوا شيئًا مماثلاً لهذا، وإنما بدلاً من العناوين، أطلب منهم تدوين قائمة بكل الافتتاحيات الممكنة. فالجملة الافتتاحية مثلها مثل اختيار عنوان الرواية، تبدو رائعة إلى أن نقارنها بكل الاحتمالات الأخرى الممكنة.
9. اطّلع على أكبر قدر ممكن الافتتاحيات:
دائمًا أطالب تلاميذي أن يقتنوا سلسلة كتب: “أفضل القصص الأمريكية القصيرة”، وO. Henry Prize stories””. ويخوضوا في افتتاحية كل القصص من الجلدة للجلدة. وكما هو الحال مع أدوات حرفة الكتابة الأخرى، الافتتاحية بحد ذاتها أداة مهمة للكاتب، وأفضل طريقة للتعرف على كل انواع الافتتاحيات الممكنة، هي بالإطّلاع على أعمال الآخرين.
ولا داعي للقول أن افتتاحية رائعة وحدها لا يمكن أن تشفع لقصة سيئة. فالصّحف ودور النشر لن تطبع قصةً استنادًا على افتتاحيتها الرائعة. لأنه في عالم دور النشر تتكدس أمامهم أعداد لا متناهية من المخطوطات الجيدة والسيئة لطبعها. لربما حينها يمكن لافتتاحيتك المؤثرة أن تعلق في ذهن أحد المحررين أكثر مما يعلق عنوان القصة ذاته. ومن يعلم، ربما افتتاحيتك الجيدة التي تختزل أحداث القصة، قد تساعد المحررين المحمومين على اختيار الأفضل من بين الأفضل، فيُشار إلى قصتك بالبنان “إنها تلك التي تبدأ: إن الساعة تشير للثالثة عشر!”. كما افتتح جورج أوريل روايته 1984. إذ حتى لو لم يتذكر المحررون أحداث قصتك، فالافتتاحية ستبقى عالقة في أذهانهم، كمِشجبٍ يتركون عليه قبعاتهم!
أما بالنسبة لي، فأكثر الافتتاحيات المحببة لقلبي تقع في أول سطر من قصة “متجر الجسد” لإليزابيث غريفر، والتي ظهرت في سلسلة “أفضل القصص الأمريكية القصيرة 1991″. وهي تبدأ هكذا:
“جلعتني أمي أفرز المُـقَـلَ (وأصنفها في فئات)!”
والآن، أتحداك أيها القارئ بأن الفضول لا يتآكلك لمعرفة بقية القصة.
—————————————————
الهوامش:
جايكوب م. آبيل Jacob M. Appel : نشر العديد من القصص في مجلات أدبية أمريكية مختلفة. حاصل على البكالوريوس والماجستير من جامعة براون، يدرس حرفة الكتابة الإبداعية في عدة جامعات وكليات أمريكية.
The Best American short Stories: سلسلة أنثولوجيا سنوية تجمع أفضل القصص المعاصرة بوقتها. بدأت منذ 1978.
O. Henry Prize stories : جائزة سنوية مخصصة للقصة القصيرة بدأت منذ 1919. وثم منها تفرعت سلسلة تطبع أفضل القصص المنشورة بالدوريات والصحف، وذلك منذ 2003 ويتم اختيار القصص عبر لجنة مختصة.
Middlemarch : رواية إنكليزية لجورج إليوت، وهو الاسم المستعار الذي تكتب به ماريان إيفانز. تعالج الرواية مواضيع شتى، وفيها شخصيات كثيرة. طبعت سنة 1874.
Donald Barthelme : (1931-1989) مؤلف أمريكي يكتب في أدب ما بعد الحداثة، اشتهر بأسلوبه في كتابة القصة القصيرة جدًا أو الومضة القصصية.
Terry Bisson : مواليد 1942، كاتب أمريكي يكتب في أدب الخيال العلمي، واشتهر في قصصه القصيرة.
نماذج للافتتاحيات:
افتتاحية أليس في بلاد العجائب كمثال للافتتاحيات التي تتضمن توضيح المكان وطبيعة الشخصيات:
بدأ الضجر يتسلل إلى أليس من المكوث جالسة برفقة أختها عند منحدر من دون فعل أي شيء: لمرة أو مرتين ألقت نظرة إلى كتاب كانت أختها منهمكة في قراءته، لكنه كان خاليًا من الصّور والحوارات: ففكّرت أليس “وما الفائدة من كتاب لا صور فيه ولا حوارات؟”. ( عن طبعة المركز الثقافي العربي ترجمة شكير نصر الدين)
وكمثال للافتتاحيات البانورامية افتتاحية “سنة موت ريكاردو ريس” لساراماغو:
“هنا ينتهي البحر ويبدأ البر، تمطر السماء على المدينة الشاحبة، النهر ينقل مياهًا طمية والضفاف مغمورة: تصعد سفينة سوداء عكس التيار القاتم، إنها (الهايلاند بريغاد) التي أتت على الرسو عند رصيف ألكانترا.” (عن طبعة دار المدى ترجمة انطوان حمصي).
الحوار كافتتاحية مثال من رواية “تانغو طوكيو” لـ ريكا يوكوموري:
“مهما فعلتِ إيّاكِ مرافقة مقامر. قد يحظى بربحٍ واحدٍ كبير غير أنه سيبدّد لأجله حياة بأكملها. الحياة مديدة والناس لا يموتون بتلك السهولة. إنّ حياة عادية إنما مديدة، هي ما أدعوه ربحًا حقيقيًا”. هذا ما قالته لي أمي حين بدأت الخروج مع بوغي. (عن طبعة دار كلمة ترجمة شارل شهوان).
لا تبدأ قبل الآوان، كمثال من القصة القصيرة ليلة طيور الكروان لـ غابرييل ماركيز:
“كنا نجلس ثلاثتنا ملتفين حول المائدة حينما وضع أحدهم عملة معدنية في الماكينة، فانبعث نغم الأسطوانة التي كانت تدور طوال الليل مرة أخرى. حدث باقي الأمر بسرعة خاطفة على نحو لم يبق معه مجال أمامنا للتفكير. وقع قبل أن نستطيع تذكر أين كنا، قبل أن نستطيع استعادة شعورنا بالمكان”
(من المجموعة القصصية إيرينديرا البريئة، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر ترجمة كامل يوسف حسين).
الافتتاحيات الغامضة، من جحيم دان بروان:
“تجسدت الذكريات ببطء، مثل فقاعات تطفو على سطح بئر مظلمة القرار. امرأة ذات وشاح”
(عن طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون ترجمة زينة إدريس)
كانت تلك افتتاحية صغتها على سبيل المبالغة. لكن، لا يوجد كاتب إلا وتمنّىٰ، لو لمرة واحدة على الأقل، بأن يكتب افتتاحية مؤثرة بقوة: “في البدء، خلق الله السمواتِ والأرضَ”.
بدأتُ بتخصيص ثلاث ساعات كاملة في ورشة الكتابة الإبداعية لموضوع الإفتتاحيات، منذ أدركت أن آخر عهدي بها كان في سنتي الدراسية الثالثة على يد معلمتي المُلهِمة السيدة سبيلمان، التي كانت تصرّ بشدة على أن افتتاحية القصص القصيرة يجب أن تحتوي على “مفاجأة تأسرالقارئ”. ومع سنوات ممارستي الكتابة، أيقنتُ أن كل تجربة أدبية مصير نجاحها أو فشلها مرتبط بالفقرة الافتتاحية، وأن سرّ نجاح قصة ما يكمن في كيفية صياغة افتتاحية مؤثرة.
أوّل قانون مهم لافتتاحية مؤثرة – برأيي المتواضع- أن تختزل هذه الافتتاحية أغلب العناصر التي تقوم عليها القصة: أن تكون لها نبرة متفردة، وجهة نظر خاصة بها، حبكة بسيطة، وبعض التلميح لطبيعة الشخصية / الشخصيات. إذ يجب على الأقل مع نهاية الفقرة الأولى من افتتاحيتك أن يتعرف القارئ على: المكان/ البيئة، وطبيعة الصراع الذي سينشأ لاحقًا، هذا ما لم يكن لديك سبب لإخفاء تلك المعلومات من البداية.
بإمكاننا تخيل فكرة افتتاحية مؤثرة، كحجرٍ نرميه من جبل، ثم كيف وهو في طريقه إلى الأسفل يتقافز للأمام والخلف بسرعة مطّردة، وكيف يتحدد مساره بحسب القوة التي ندفعه بها. بالمثل هي أحداث قصتك، يتحدد مسارها بعد السطور الأولى. لذا فإن القانون الثاني المهم لافتتاحية مؤثرة: إنّ مسار أحداث قصتك يشبه الإنهيار الجليدي كل شيء يتحدد في الثواني الأولى.
إليكَ أيها الكاتب الشغوف تسعة أفكار أخرى تساعدك على صياغة افتتاحية مؤثرة:
1. لا تبدأ قبل الأوان:
يبدأ الكثير من الكتاب المغمورين قصته قبل أن يبدأ الفعل الحقيقي، كمثال: تستيقظ الشخصية على سيبدو لاحقًا أنه يومٌ ملئ بالأحداث المهمة. بدايةٌ كهذه لا تسمح للقصة أن تتطور بذاتها، إنما هي مجرد تعكس طبيعة المؤلف نفسه وهو يحاول أن يبدأ قصته. بينما من الأفضل أن تبدأ مع بداية الأحداث المهمة تلك. لا بأس إن وجدت أن طقوس استيقاظ إحدى شخصياتك يبدو مهمًا، أو حتى مسليًا، باستطاعتك استعراض تلك الطقوس في فلاش-باك مثلاً، أو تسردها لاحقًا مع تسلسل الأحداث حين تستيقظ شخصيتك بيوم آخر.
2. الخطاطيف الصغيرة تصطاد سمكًا أكثر من الخطاطيف الكبيرة:
قد يتعلم الكُتّاب في سنوات دراستهم الأولى أنه كلما كانت الإفتتاحية غير مألوفة كلما كان باستطاعتهم الإمساك بالقارئ أكثر. وهذا حقيقي فعلاً، لكن، ما لم يخبروهم به أن افتتاحيات كهذه لديها القدرة أيضًا على أن تخيّب توقعات القارئ، في حال لم تستطع أحداث القصة أن تكون بمستوى تلك التوقعات. ولو استطعتَ ككاتب أن تبدأ قصتك بأكثر اللحظات توترًا، لن يكون أمامكَ سبيل سوى الهبوط بتوتر الأحداث بعد كل هذا الإنفعال عند الافتتاحية. لهذا إن كانت بدايتك غريبة جدا وغير مألوفة ستعاني من أن تكون بمستوى هذه البداية المرتفعة بتوترها طوال القصة.
وكما أخبرني أحد اصدقائي في هواية صيد السمك: السر يكمن في أن تستخدم أصغر الخطاطيف لديك، وثم اسحب الصَّنارة في الإتجاه المعاكس بكل قوتك!
3. الافتتاحيات البانورامية، ابدأ بمجال رؤية متسع ثم اتجه للتفاصيل:
في السينما المعاصرة، تبدأ معظم الأفلام بلقطة مقربة على تفصيلة ما، وثم تبدأ الكاميرا بالتراجع للخلف لتستعرض لنا المنظر ككل. وهذا النوع من الإيحاء السينمائي يحدث حينما تكون اللقطة مقربة جدًا على جزء صغير، فيبدو وكأنه جزء من جسد عارٍ، وعندما تتراجع الكاميرا يتضح لنا أنها مجرد قطعة فاكهة!
هذا التأثير السينمائي نادرًا ما ينفع في الأدب.
إذ يُفضِّل أغلب القرّاء رؤية المنظر شاملاً بالبداية وثمّ الإنتقال إلى التفاصيل، وهو اسلوب شائع تميزت به الروايات الكلاسكية في القرن التاسع عشر، كما رواية “Middlemarch”.
4. تذكّر أن القارئ لا يقرأ الرواية من النهاية للبداية:
إحدى أسهل الطرق أن تفتتح القصة بجملة غامضة بعض الشيء، وثم في السطور التالية تزوّد القارئ بأجوبة ومعلومات. رغم أنه من النادر أن نجد قارئًا يتوقف عن القراءة فقط لأنه اصطدم بافتتاحية مبهمة، لكن هذا لا يعني أن تترك افتتاحيتك بلا مفاتيح ومعلومات يستعين بها القارئ. هذا التكنيك له مردود مجزٍ غالبًا. لكن في كل الأحوال، لا تجعل افتتاحيتك مغلقة تمامًا أمام القارئ دون أن تطعّمها ببعض المعلومات التي تيسّر له متابعة القراءة.
5. التساؤل كافتتاحية:
أن تفتتح قصتك بما يشبه صيغة التساؤل له تأثيره السحري، وبخاصة إن كان الراوي نفسه يشاطر القارئ شعور الحيرة. ممّا سيجعل علاقة الراوي بالقارئ علاقة يوطدها الفضول والتساؤل. وبإمكان هذا التساؤل أن يقود دفة أحداث رواية بأكملها، كما في رواية ديفيد كوبرفيلد حين يتساءل:
“سواء اتضح أني من سيكون بطل قصة حياتي، أو أن يتولى شخصٌ آخر هذه المهمة عني، فذلك ما يجب على هذه الصفحات أن توضحه.”
6. الحوار كافتتاحية:
لا أنصحكَ باستخدام الحوار كافتتاحية دون حذر، ذاك أن افتتاحيات كهذه تجعلك كمن يُلقي القارئ في لجّة الإعصار، وطبعًا بإمكانك أن تفقد القارئ بسهولة حينها. هناك ذلك الأسلوب بأن تفتتح قصتك بجملة حوارية واحدة فقط (وهذا يشبه أن تبدأ بلقطة مقربة انظر النصيحة رقم3 ) وثم تتراجع للخلف لإظهار المزيد قبل المضيّ في سرد الحوارات بين الشخصيات. إن الحوارات الطويلة تعزل أحداث القصة عن القارئ، وهي اسلوب نادرًا ما يُثمر إلا في حالات خاصة، كما في حالة الأدب التجريبي المحض لدى Donald Barthelme وTerry Bisson، حيث الحوار نفسه يصبح سرد القصة، وهي تجارب أدبية يَلقىٰ القارئ فيها عادة صعوبة بالاستمرار في متابعة الأحداث.
7. أعِد النظر في افتتاحيتك:
قد تتطوّر أحداث قصتك اثناء عملية الكتابة، لدرجة تبدو افتتاحيتك، مهما كانت رائعة، لا تتوافق مع سياق الأحداث. وإعادة النظر بافتتاحيتك هي الطريق الوحيد لمعرفة ذلك. وكما في اختيار العنوان، بمجرد أن تصبح المخطوطة النهائية للقصة جاهزة ومكتملة، ستحتاج غالبًا لافتتاحية غير التي اخترتَها. هذا لا يعني أن افتتاحيتك الرائعة ستذهب مدرج الريح وتُلغىٰ من أساسها وكأنها لم تكن، بل بإمكانك الاحتفاظ بها في “مخزن الافتتاحيات الممكنة” لكتاب قادم.
8. ضع قائمة بكل الافتتاحيات الممكنة:
كل كاتب مبتدئ عادة يُطلب منه أن يدوّن قائمة بعناوين مقترحة لقصته، فيذهب يعرضها على اصدقائه وعائلته. إني أحثّ تلاميذي دائمًا أن يفعلوا شيئًا مماثلاً لهذا، وإنما بدلاً من العناوين، أطلب منهم تدوين قائمة بكل الافتتاحيات الممكنة. فالجملة الافتتاحية مثلها مثل اختيار عنوان الرواية، تبدو رائعة إلى أن نقارنها بكل الاحتمالات الأخرى الممكنة.
9. اطّلع على أكبر قدر ممكن الافتتاحيات:
دائمًا أطالب تلاميذي أن يقتنوا سلسلة كتب: “أفضل القصص الأمريكية القصيرة”، وO. Henry Prize stories””. ويخوضوا في افتتاحية كل القصص من الجلدة للجلدة. وكما هو الحال مع أدوات حرفة الكتابة الأخرى، الافتتاحية بحد ذاتها أداة مهمة للكاتب، وأفضل طريقة للتعرف على كل انواع الافتتاحيات الممكنة، هي بالإطّلاع على أعمال الآخرين.
ولا داعي للقول أن افتتاحية رائعة وحدها لا يمكن أن تشفع لقصة سيئة. فالصّحف ودور النشر لن تطبع قصةً استنادًا على افتتاحيتها الرائعة. لأنه في عالم دور النشر تتكدس أمامهم أعداد لا متناهية من المخطوطات الجيدة والسيئة لطبعها. لربما حينها يمكن لافتتاحيتك المؤثرة أن تعلق في ذهن أحد المحررين أكثر مما يعلق عنوان القصة ذاته. ومن يعلم، ربما افتتاحيتك الجيدة التي تختزل أحداث القصة، قد تساعد المحررين المحمومين على اختيار الأفضل من بين الأفضل، فيُشار إلى قصتك بالبنان “إنها تلك التي تبدأ: إن الساعة تشير للثالثة عشر!”. كما افتتح جورج أوريل روايته 1984. إذ حتى لو لم يتذكر المحررون أحداث قصتك، فالافتتاحية ستبقى عالقة في أذهانهم، كمِشجبٍ يتركون عليه قبعاتهم!
أما بالنسبة لي، فأكثر الافتتاحيات المحببة لقلبي تقع في أول سطر من قصة “متجر الجسد” لإليزابيث غريفر، والتي ظهرت في سلسلة “أفضل القصص الأمريكية القصيرة 1991″. وهي تبدأ هكذا:
“جلعتني أمي أفرز المُـقَـلَ (وأصنفها في فئات)!”
والآن، أتحداك أيها القارئ بأن الفضول لا يتآكلك لمعرفة بقية القصة.
—————————————————
الهوامش:
جايكوب م. آبيل Jacob M. Appel : نشر العديد من القصص في مجلات أدبية أمريكية مختلفة. حاصل على البكالوريوس والماجستير من جامعة براون، يدرس حرفة الكتابة الإبداعية في عدة جامعات وكليات أمريكية.
The Best American short Stories: سلسلة أنثولوجيا سنوية تجمع أفضل القصص المعاصرة بوقتها. بدأت منذ 1978.
O. Henry Prize stories : جائزة سنوية مخصصة للقصة القصيرة بدأت منذ 1919. وثم منها تفرعت سلسلة تطبع أفضل القصص المنشورة بالدوريات والصحف، وذلك منذ 2003 ويتم اختيار القصص عبر لجنة مختصة.
Middlemarch : رواية إنكليزية لجورج إليوت، وهو الاسم المستعار الذي تكتب به ماريان إيفانز. تعالج الرواية مواضيع شتى، وفيها شخصيات كثيرة. طبعت سنة 1874.
Donald Barthelme : (1931-1989) مؤلف أمريكي يكتب في أدب ما بعد الحداثة، اشتهر بأسلوبه في كتابة القصة القصيرة جدًا أو الومضة القصصية.
Terry Bisson : مواليد 1942، كاتب أمريكي يكتب في أدب الخيال العلمي، واشتهر في قصصه القصيرة.
نماذج للافتتاحيات:
افتتاحية أليس في بلاد العجائب كمثال للافتتاحيات التي تتضمن توضيح المكان وطبيعة الشخصيات:
بدأ الضجر يتسلل إلى أليس من المكوث جالسة برفقة أختها عند منحدر من دون فعل أي شيء: لمرة أو مرتين ألقت نظرة إلى كتاب كانت أختها منهمكة في قراءته، لكنه كان خاليًا من الصّور والحوارات: ففكّرت أليس “وما الفائدة من كتاب لا صور فيه ولا حوارات؟”. ( عن طبعة المركز الثقافي العربي ترجمة شكير نصر الدين)
وكمثال للافتتاحيات البانورامية افتتاحية “سنة موت ريكاردو ريس” لساراماغو:
“هنا ينتهي البحر ويبدأ البر، تمطر السماء على المدينة الشاحبة، النهر ينقل مياهًا طمية والضفاف مغمورة: تصعد سفينة سوداء عكس التيار القاتم، إنها (الهايلاند بريغاد) التي أتت على الرسو عند رصيف ألكانترا.” (عن طبعة دار المدى ترجمة انطوان حمصي).
الحوار كافتتاحية مثال من رواية “تانغو طوكيو” لـ ريكا يوكوموري:
“مهما فعلتِ إيّاكِ مرافقة مقامر. قد يحظى بربحٍ واحدٍ كبير غير أنه سيبدّد لأجله حياة بأكملها. الحياة مديدة والناس لا يموتون بتلك السهولة. إنّ حياة عادية إنما مديدة، هي ما أدعوه ربحًا حقيقيًا”. هذا ما قالته لي أمي حين بدأت الخروج مع بوغي. (عن طبعة دار كلمة ترجمة شارل شهوان).
لا تبدأ قبل الآوان، كمثال من القصة القصيرة ليلة طيور الكروان لـ غابرييل ماركيز:
“كنا نجلس ثلاثتنا ملتفين حول المائدة حينما وضع أحدهم عملة معدنية في الماكينة، فانبعث نغم الأسطوانة التي كانت تدور طوال الليل مرة أخرى. حدث باقي الأمر بسرعة خاطفة على نحو لم يبق معه مجال أمامنا للتفكير. وقع قبل أن نستطيع تذكر أين كنا، قبل أن نستطيع استعادة شعورنا بالمكان”
(من المجموعة القصصية إيرينديرا البريئة، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر ترجمة كامل يوسف حسين).
الافتتاحيات الغامضة، من جحيم دان بروان:
“تجسدت الذكريات ببطء، مثل فقاعات تطفو على سطح بئر مظلمة القرار. امرأة ذات وشاح”
(عن طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون ترجمة زينة إدريس)