نقوس المهدي
كاتب
يجمع معظم الباحثين على أن الأدب الشعبي هو جزء من ثقافة الشعب المعبرة عن طريقة حياته وتفكيره، أي عن ما هو مادي وما هو روحي. كما أنه مظهر من مظاهر تعبير الشعب عن نفسه إبداعيا. وهو على المستوى العلمي، فرع من فروع الفولكلور (المأثورات الشعبية )، الذي يكوّن حقلا مشتركا للدراسات المنهجية المتعددة، إذ الفولكلور ((هو جملة أعمال إبداع نابعة من مجتمع ثقافي وقائمة على التقاليد، تعبر عنه جماعة أو أفراد معترف بأنهم يصورون تطلعات المجتمع، بوصفه تعبيرا عن الذاتية الثقافية والاجتماعية لذلك المجتمع. وتتناقل معاييره وقيمه شفاهيا أو عن طريق المحاكاة أو بغير ذلك من الطرق، وتضم أشكاله فيما تضم: اللغة، والأدب، والموسيقى، والرقص، والألعاب، والأساطير، والطقوس، والعادات، والحرف، والعمارة، وغير ذلك من الفنون )) [1].
ولعل الأدب الشعبي ـ الذي يعنينا هنا ـ من أهم موضوعات (المأثورات الشعبية ) القولية، ذلك أنه يضم مجموعة من الأجناس والأنواع الأدبية، أهمها القصص الشعبي، والشعر الشعبي، والأمثال الشعبية، والنوادر، والألغاز، والأقوال السائرة، والمرددات إلخ...إلى جانب كونه أدبا يعبر عن نبض الشعب ووجدان المجموعات الاجتماعية بواسطة اللغة العامية، ويتداول ويتوارث عن طريق الرواية الشفاهية، على اعتباره كنزا ثمينا يجب المحافظة عليه والاستفادة مما يدخره من حكمة الأسلاف وممارساتهم الحياتية، وبراعة الأجداد في صوغ الخبرات والوصايا والقيم بأسلوب تخييلي رائع في تشكلاته وجمالياته.
ومع ذلك بدا الأدبان الرسمي والشعبي خلال مسارهما التاريخي، كما لو كان كل منهما ينتمي إلى عالم مختلف لا علاقة له بالطرف الآخر ولا بجمهوره. فعلى روعة الأدب الشعبي العريق، أهمل من طرف النخب المثقفة خلال العصور المتوالية، في اعتداد بما لديها من إنتاج أدبي رفيع، تبوئه من منطلق صفوي طبقي وضعا اعتباريا متميزا. وقد تعمق هذا الإهمال في العصر الحديث بتأثير الوسائط الجماهيرية المعاصرة، التي وجهت اهتمام الشرائح الاجتماعية المختلفة نحو ثقافة مرئية استهلاكية مهيمنة، أداتها المذياع، والتلفاز، والفضائيات، والحاسوب، والانترنيت، والألعاب الإلكترونية، فضلا عن طبيعة الحياة اللاهثة الجديدة التي لم تعد تسمح بالجلوس للاستماع إلى راوي أو راوية الحكايات في الأماسي الشتوية أو الصيفية، أو الاستمتاع بأزجال شاعر الربابة وقصصه، أو تبادل التعجيز بواسطة الأحاجي والألغاز، وما إلى ذلك من مظاهر تعاطي الأدب الشعبي بين المجموعات الاجتماعية، التي طبعت المجتمعات التقليدية في الماضي.
ولعل مما عمق الهوة بين الأدبين الشعبي والرسمي، ووسع شقة الاختلاف بينهما، وجود عناصر نوعية متباينة لصيقة بكل منهما، نبرز أهمها فيما يلي :
1 ـ اعتماد الأدب الرسمي على الكتابة والتدوين، إلى درجة أن بعض الباحثين سموه انطلاقا من هذه الخصيصة ( الأدب المدون )، تمييزا له عن ( الأدب الشفاهي ) [2].
وهذا ما يؤبد الصورة الأصلية للنص الأدبي الرسمي كما هي، ويقيد ثوابته ومتحولاته. في حين ينهض الأدب الشعبي أساسا في خلقه وتداوله على المشافهة. الأمر الذي يجعل النصوص الأدبية الشعبية في ديمومة ابتكارية حية، تنتجها وتعيد إنتاجها، وفق طبيعة وفاعلية الثالوث المشارك في إبداعها: الراوي، النص، المتلقي. فمثلا، بالنسبة للقصص الشعبي، يعد (( التغيير في حبكة الأحداث وتسلسلها أو في وضع نهاية مختلفة يعد أمرا هاما جديرا بالانتباه، وهو ما يحدث عادة أثناء انتقال الحكاية ـ مثلا ـ من راو إلى آخر، وانتشارها في المجتمع الواحد، أو من مجتمع إلى مجتمع مختلف، إذ تؤثر بيئة الراوي وإطاره الثقافي وجنسه....إلخ في صياغته للحكاية التي يرويها )) [3].
2 ـ أداة الأدب الرسمي، هي اللغة الفصحى، اللغة العلمية بجهازها التقعيدي المنضبط، ومعجمها القاموسي الرفيع، فضلا عن سلطتها المستمدة في كثير من الأحيان من المقدس، كما هو الحال بالنسبة للغة العربية مثلا. بينما لغة الأدب الشعبي ليست سوى اللغة العامية الطلقة، لغة الحياة الحميمية السخية، المسعفة بمرونتها وبساطتها وقدرتها على التغير الهجين المستمر والتكيف المواتي، وفق متطلبات الأزمنة والأمكنة والمواقف، لغة الاتصال المباشر بين الراوي والمتلقي.
3 ـ نصوص الأدب الرسمي، معروف مبدعوها، وأمر انتسابها إلى أصحابها محسوم، إلى حد أنه يدخل في إطار حقوق الملكية الفردية الثابتة المحفوظة قانونيا وغير المشكوك ولا المطعون فيها. إذ الأدب الذي تنتمي إليه هذه النصوص، هو أدب ذاتي وفردي بالضرورة، ينشئه كتاب موهوبون معينون. عكس الأدب الشعبي، المجهول المؤلف، لكونه من إنتاج جماعي ينبثق من الجماعة ويعبر عنها، وتتداوله الجماعة لأنها تجد فيه قسمات شخصيتها ببعديها المادي والروحي. وحتى ولو كان مبدعو بعض نصوصه أفرادا بأعيانهم في الأصل، إلا أن إبداعهم سرعان ما يذوب في الجماعة التي ينتمون إليها، إذا ما كان يعبر عن نبض وجدانها، وتحسس فيه المتلقي الشعبي همومه ومعاناته وتطلعاته ومعضلات مجتمعه المشتركة، وبكلمة واحدة يجد فيه ملامح شخصية الجماعة التي ينتمي إليها بكل مواصفاتها واعتقاداتها وعاداتها وتقاليدها وهواجس نفسيتها.
إن كلا من الأدبين ظلا خلال التاريخ يعبران عن شرائح اجتماعية مخصوصة. ففي حين كان أحدهما يعبر عن نخبة محدودة متعالية، كان الآخر ينطق باسم أكبر الشرائح الاجتماعية. فدوما كان هناك جمع لدواوين الشعر، وتسجيل لأحداث التاريخ والسير والمغازي، وتحبير للخطب، وصوغ للأخبار والنوادر والقصص، بواسطة اللغة العالمة، وتداولها بالقراءة المباشرة. وبالمقابل، وجدت دوما رواية الحكايات، وتداول الأمثال، وقرض الأزجال، وتبادل التعجيز بالأحاجي وما إلى ذلك، شفاهيا وبواسطة اللغة العامية.
ويجب أن لا يفهم من كل هذا، أن مسار الأدبين الرسمي والشعبي ظل دائما حبيس هذين الخطين المتباعدين اللذين لا يلتقيان، بل إنهما كانا باستمرار عبارة عن توأمين ينموان داخل حياة يتم فيها تعانقهما وتقاطعهما، من أجل تحقيق هدف مشترك بينهما، على الرغم من صرامة سلطة علم الهندسة التي تحرم قطعا التقاء المتوازيين. إن الأدبين سارا معا خلال التاريخ في خطين كثيرا ما التقيا والتأما وتبادلا الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر فيما بينهما.
ألم تنحل أساطير الأولين وخاصة أساطير الملاحم القديمة، عندما انتفت شروط وجودها التاريخية الموضوعية، إلى حكايات عجيبة وسير شعبية مدهشة؟ وبالعكس، ألم تسجل كتابة بالفصحى كل من ألف ليلة وليلة، ومائة ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، فأصبحت مادة شيقة متداولة بين الصفوة حامية الأدب الرسمي؟ بل ويقتدى بها في وضع رسائل عربية أصيلة مشابهة، لكتاب عرب مجهولين، كالحكايات الرمزية العربية المعروفة بعنوان ( الأسد والغواص ) في القرن الخامس الهجري. أو من طرف علماء عرب معروفين، مثل ( كتاب النمر والثعلب) لسهل بن هارورن، و ( تداعي الحيوانات على الإنسان ) لإخوان الصفا، ونوادر قراقوش الموسومة ( الفاشوش في أحكام قراقوش ) لأسعد بن مماتي وجلال الدين السيوطي؟.
بل إن أدب القرون الوسطى الأوروبي، كثيرا ما تلقح بعجائبية القصص الشعبي، مثلما هو الأمر في روايات الفرسان التي استلهمت هذا القصص في كثير من نصوصها(4). ومعروف أن أعمال فرانسوه رابليه بداية عصر النهضة الأوروبية، متأثرة في معظمها بالحياة والأدب الشعبيين(5). وأن مجموعة الحكايات المسماة ( الديكامرون ) لجيوفاني بوكاشيو، قد تأثرت إلى حد كبير بألف ليلة وليلة، إلى درجة أنها وسمت في بعض الأحيان بألف ليلة وليلة الإيطالية.
ناهيك عما بدر من الاتجاه الرومانسي في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر من إلحاح على ما هو شعبي وحرص على توظيفه إبداعيا، خاصة فيما يتعلق بعوالم القصص الشعبي العجائبية. وفي هذا السياق تذهب ميشيل سيمونسن إلى أن القصة الفنتستيكية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر على يد أمثال مريميه غوتييه وجي دي موباسان، قد استخدمت بكثرة وحدات سردية وشخصيات بطولية ومواقف شعبية معروفة في القصص الشعبي [4]. يضاف إلى كل هذا، أن أهم المجموعات القصصية الشعبية الرائعة المعروفة عالميا، قد جمعها وكتبها كتابات أدبية جديدة رفيعة، لغويون وأدباء ينتمون إلى حقل الأدب الرسمي، أمثال بيرو، والأخوين جريم، وهوفمان، وأفناسييف، وهانز أندرسون، وبوشكين، وتولستوي وأضرابهم.
وفي نهاية هذه المداخلة، يدفعنا السياق إلى إعادة تسجيل رأي تبنيناه في مناسبة سابقة، يقول: «وبذلك يتضح جليا الارتباك الكامن في الفهم الطبقي المغلوط لثنائية الأدب الرسمي/ الأدب الشعبي . إذ كلاهما يتوفر على قيم إنسانية مشتركة ، وكلاهما يهز الناس بدراميته أو يبهجهم بسخريته ، وكلاهما يخلد لجودته أو يتلاشى لرداءته .
وبكلمة واحدة ، كلاهما يدخل في مجال واحد هو التراث الأدبي الإنساني . أما فردية الأدب الرسمي وجماعية الأدب الشعبي ، كتابة الأدب الرسمي وشفاهية الأدب الشعبي، وما إلى ذلك من الفوارق، فإنما يعتبر من باب خصوصيات هذا الأدب أو ذاك لا غير، دونما مساس بجوهر العلاقة التي تربطهما بالوظيفة الفنية والإنسانية المشتركة التي يضطلعان بها في كل زمان ومكان» [5].
حواشي
[1] محمد الجوهري: حماية التراث الشعبي ـ دور مستقبلي لعلم الفولكلور، المجلة العربية للثقافة، ع. 36، خاص بالمأثور الشعبي في الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مارس 1999، ص.24.
[2] انظر ألن دندس : الأدب الشعبي..دراسة في الفولكلور والأنثروبولوجيا الثقافية، تر. محمد الشال، مجلة (الكاتب ) المصرية، س. 17، ع. 197، أغسطس 1977، ص. 17.
[3] د. أحمد مرسي: مقدمة في الفولكلور، دار الثقافة، القاهرة، ط.2، 1981، ص.121.
[4] صفحة ٢٦
[5] د. مصطفى يعلى: القصص الشعبي بالمغرب ـ دراسة مورفولوجية، شركة النشر والتوزيع (المدارس)، الدار البيضاء، ط. 1/2001، ص. 32.
ولعل الأدب الشعبي ـ الذي يعنينا هنا ـ من أهم موضوعات (المأثورات الشعبية ) القولية، ذلك أنه يضم مجموعة من الأجناس والأنواع الأدبية، أهمها القصص الشعبي، والشعر الشعبي، والأمثال الشعبية، والنوادر، والألغاز، والأقوال السائرة، والمرددات إلخ...إلى جانب كونه أدبا يعبر عن نبض الشعب ووجدان المجموعات الاجتماعية بواسطة اللغة العامية، ويتداول ويتوارث عن طريق الرواية الشفاهية، على اعتباره كنزا ثمينا يجب المحافظة عليه والاستفادة مما يدخره من حكمة الأسلاف وممارساتهم الحياتية، وبراعة الأجداد في صوغ الخبرات والوصايا والقيم بأسلوب تخييلي رائع في تشكلاته وجمالياته.
ومع ذلك بدا الأدبان الرسمي والشعبي خلال مسارهما التاريخي، كما لو كان كل منهما ينتمي إلى عالم مختلف لا علاقة له بالطرف الآخر ولا بجمهوره. فعلى روعة الأدب الشعبي العريق، أهمل من طرف النخب المثقفة خلال العصور المتوالية، في اعتداد بما لديها من إنتاج أدبي رفيع، تبوئه من منطلق صفوي طبقي وضعا اعتباريا متميزا. وقد تعمق هذا الإهمال في العصر الحديث بتأثير الوسائط الجماهيرية المعاصرة، التي وجهت اهتمام الشرائح الاجتماعية المختلفة نحو ثقافة مرئية استهلاكية مهيمنة، أداتها المذياع، والتلفاز، والفضائيات، والحاسوب، والانترنيت، والألعاب الإلكترونية، فضلا عن طبيعة الحياة اللاهثة الجديدة التي لم تعد تسمح بالجلوس للاستماع إلى راوي أو راوية الحكايات في الأماسي الشتوية أو الصيفية، أو الاستمتاع بأزجال شاعر الربابة وقصصه، أو تبادل التعجيز بواسطة الأحاجي والألغاز، وما إلى ذلك من مظاهر تعاطي الأدب الشعبي بين المجموعات الاجتماعية، التي طبعت المجتمعات التقليدية في الماضي.
ولعل مما عمق الهوة بين الأدبين الشعبي والرسمي، ووسع شقة الاختلاف بينهما، وجود عناصر نوعية متباينة لصيقة بكل منهما، نبرز أهمها فيما يلي :
1 ـ اعتماد الأدب الرسمي على الكتابة والتدوين، إلى درجة أن بعض الباحثين سموه انطلاقا من هذه الخصيصة ( الأدب المدون )، تمييزا له عن ( الأدب الشفاهي ) [2].
وهذا ما يؤبد الصورة الأصلية للنص الأدبي الرسمي كما هي، ويقيد ثوابته ومتحولاته. في حين ينهض الأدب الشعبي أساسا في خلقه وتداوله على المشافهة. الأمر الذي يجعل النصوص الأدبية الشعبية في ديمومة ابتكارية حية، تنتجها وتعيد إنتاجها، وفق طبيعة وفاعلية الثالوث المشارك في إبداعها: الراوي، النص، المتلقي. فمثلا، بالنسبة للقصص الشعبي، يعد (( التغيير في حبكة الأحداث وتسلسلها أو في وضع نهاية مختلفة يعد أمرا هاما جديرا بالانتباه، وهو ما يحدث عادة أثناء انتقال الحكاية ـ مثلا ـ من راو إلى آخر، وانتشارها في المجتمع الواحد، أو من مجتمع إلى مجتمع مختلف، إذ تؤثر بيئة الراوي وإطاره الثقافي وجنسه....إلخ في صياغته للحكاية التي يرويها )) [3].
2 ـ أداة الأدب الرسمي، هي اللغة الفصحى، اللغة العلمية بجهازها التقعيدي المنضبط، ومعجمها القاموسي الرفيع، فضلا عن سلطتها المستمدة في كثير من الأحيان من المقدس، كما هو الحال بالنسبة للغة العربية مثلا. بينما لغة الأدب الشعبي ليست سوى اللغة العامية الطلقة، لغة الحياة الحميمية السخية، المسعفة بمرونتها وبساطتها وقدرتها على التغير الهجين المستمر والتكيف المواتي، وفق متطلبات الأزمنة والأمكنة والمواقف، لغة الاتصال المباشر بين الراوي والمتلقي.
3 ـ نصوص الأدب الرسمي، معروف مبدعوها، وأمر انتسابها إلى أصحابها محسوم، إلى حد أنه يدخل في إطار حقوق الملكية الفردية الثابتة المحفوظة قانونيا وغير المشكوك ولا المطعون فيها. إذ الأدب الذي تنتمي إليه هذه النصوص، هو أدب ذاتي وفردي بالضرورة، ينشئه كتاب موهوبون معينون. عكس الأدب الشعبي، المجهول المؤلف، لكونه من إنتاج جماعي ينبثق من الجماعة ويعبر عنها، وتتداوله الجماعة لأنها تجد فيه قسمات شخصيتها ببعديها المادي والروحي. وحتى ولو كان مبدعو بعض نصوصه أفرادا بأعيانهم في الأصل، إلا أن إبداعهم سرعان ما يذوب في الجماعة التي ينتمون إليها، إذا ما كان يعبر عن نبض وجدانها، وتحسس فيه المتلقي الشعبي همومه ومعاناته وتطلعاته ومعضلات مجتمعه المشتركة، وبكلمة واحدة يجد فيه ملامح شخصية الجماعة التي ينتمي إليها بكل مواصفاتها واعتقاداتها وعاداتها وتقاليدها وهواجس نفسيتها.
إن كلا من الأدبين ظلا خلال التاريخ يعبران عن شرائح اجتماعية مخصوصة. ففي حين كان أحدهما يعبر عن نخبة محدودة متعالية، كان الآخر ينطق باسم أكبر الشرائح الاجتماعية. فدوما كان هناك جمع لدواوين الشعر، وتسجيل لأحداث التاريخ والسير والمغازي، وتحبير للخطب، وصوغ للأخبار والنوادر والقصص، بواسطة اللغة العالمة، وتداولها بالقراءة المباشرة. وبالمقابل، وجدت دوما رواية الحكايات، وتداول الأمثال، وقرض الأزجال، وتبادل التعجيز بالأحاجي وما إلى ذلك، شفاهيا وبواسطة اللغة العامية.
ويجب أن لا يفهم من كل هذا، أن مسار الأدبين الرسمي والشعبي ظل دائما حبيس هذين الخطين المتباعدين اللذين لا يلتقيان، بل إنهما كانا باستمرار عبارة عن توأمين ينموان داخل حياة يتم فيها تعانقهما وتقاطعهما، من أجل تحقيق هدف مشترك بينهما، على الرغم من صرامة سلطة علم الهندسة التي تحرم قطعا التقاء المتوازيين. إن الأدبين سارا معا خلال التاريخ في خطين كثيرا ما التقيا والتأما وتبادلا الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر فيما بينهما.
ألم تنحل أساطير الأولين وخاصة أساطير الملاحم القديمة، عندما انتفت شروط وجودها التاريخية الموضوعية، إلى حكايات عجيبة وسير شعبية مدهشة؟ وبالعكس، ألم تسجل كتابة بالفصحى كل من ألف ليلة وليلة، ومائة ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، فأصبحت مادة شيقة متداولة بين الصفوة حامية الأدب الرسمي؟ بل ويقتدى بها في وضع رسائل عربية أصيلة مشابهة، لكتاب عرب مجهولين، كالحكايات الرمزية العربية المعروفة بعنوان ( الأسد والغواص ) في القرن الخامس الهجري. أو من طرف علماء عرب معروفين، مثل ( كتاب النمر والثعلب) لسهل بن هارورن، و ( تداعي الحيوانات على الإنسان ) لإخوان الصفا، ونوادر قراقوش الموسومة ( الفاشوش في أحكام قراقوش ) لأسعد بن مماتي وجلال الدين السيوطي؟.
بل إن أدب القرون الوسطى الأوروبي، كثيرا ما تلقح بعجائبية القصص الشعبي، مثلما هو الأمر في روايات الفرسان التي استلهمت هذا القصص في كثير من نصوصها(4). ومعروف أن أعمال فرانسوه رابليه بداية عصر النهضة الأوروبية، متأثرة في معظمها بالحياة والأدب الشعبيين(5). وأن مجموعة الحكايات المسماة ( الديكامرون ) لجيوفاني بوكاشيو، قد تأثرت إلى حد كبير بألف ليلة وليلة، إلى درجة أنها وسمت في بعض الأحيان بألف ليلة وليلة الإيطالية.
ناهيك عما بدر من الاتجاه الرومانسي في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر من إلحاح على ما هو شعبي وحرص على توظيفه إبداعيا، خاصة فيما يتعلق بعوالم القصص الشعبي العجائبية. وفي هذا السياق تذهب ميشيل سيمونسن إلى أن القصة الفنتستيكية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر على يد أمثال مريميه غوتييه وجي دي موباسان، قد استخدمت بكثرة وحدات سردية وشخصيات بطولية ومواقف شعبية معروفة في القصص الشعبي [4]. يضاف إلى كل هذا، أن أهم المجموعات القصصية الشعبية الرائعة المعروفة عالميا، قد جمعها وكتبها كتابات أدبية جديدة رفيعة، لغويون وأدباء ينتمون إلى حقل الأدب الرسمي، أمثال بيرو، والأخوين جريم، وهوفمان، وأفناسييف، وهانز أندرسون، وبوشكين، وتولستوي وأضرابهم.
وفي نهاية هذه المداخلة، يدفعنا السياق إلى إعادة تسجيل رأي تبنيناه في مناسبة سابقة، يقول: «وبذلك يتضح جليا الارتباك الكامن في الفهم الطبقي المغلوط لثنائية الأدب الرسمي/ الأدب الشعبي . إذ كلاهما يتوفر على قيم إنسانية مشتركة ، وكلاهما يهز الناس بدراميته أو يبهجهم بسخريته ، وكلاهما يخلد لجودته أو يتلاشى لرداءته .
وبكلمة واحدة ، كلاهما يدخل في مجال واحد هو التراث الأدبي الإنساني . أما فردية الأدب الرسمي وجماعية الأدب الشعبي ، كتابة الأدب الرسمي وشفاهية الأدب الشعبي، وما إلى ذلك من الفوارق، فإنما يعتبر من باب خصوصيات هذا الأدب أو ذاك لا غير، دونما مساس بجوهر العلاقة التي تربطهما بالوظيفة الفنية والإنسانية المشتركة التي يضطلعان بها في كل زمان ومكان» [5].
حواشي
[1] محمد الجوهري: حماية التراث الشعبي ـ دور مستقبلي لعلم الفولكلور، المجلة العربية للثقافة، ع. 36، خاص بالمأثور الشعبي في الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مارس 1999، ص.24.
[2] انظر ألن دندس : الأدب الشعبي..دراسة في الفولكلور والأنثروبولوجيا الثقافية، تر. محمد الشال، مجلة (الكاتب ) المصرية، س. 17، ع. 197، أغسطس 1977، ص. 17.
[3] د. أحمد مرسي: مقدمة في الفولكلور، دار الثقافة، القاهرة، ط.2، 1981، ص.121.
[4] صفحة ٢٦
[5] د. مصطفى يعلى: القصص الشعبي بالمغرب ـ دراسة مورفولوجية، شركة النشر والتوزيع (المدارس)، الدار البيضاء، ط. 1/2001، ص. 32.