نقوس المهدي
كاتب
امتازت الحياة العامة لمغرب المرابطين والموحدين معا، وامتاز مجتمعهما بالفتوة والعمال الحربية العظيمة، التي كونت من الدولتين قوة عسكرية، يحسب لها حسابها في الموازين الدولية لتلك العهود، ويخشى بأسها، ويرغب في محالفتها، وخاصة حين استطاع المغاربة أن ينشئوا قوة بحرية هائلة، استطاعت أن توقف زحف الصليبيين من أوربا على الأندلس، وعلى الشرق الإسلامي أيضا، وتمكنت بذلك من تقديم العون غير المباشر لقوات صلاح الدين الأيوبي، هناك وإن حاول بعض المؤرخين الأجانب، بل وحتى المغاربة، أن يذيعوا بأن المغاربة تقاعسوا عن مديد المساعدة لإخوانهم الشرقيين، الذين كانوا يومئذ يخوضون معارك مصيرية ووجودية ضد الحملات الصليبية المتكالبة، والمشنة من كل أمم أوربا وأمم المسيحية على الإسلام وعالمه شرقا وغربا، وقد حلا لهؤلاء أن يطلقوا العنان لاتهاماتهم، فراحوا يبحثون لأجدادنا المغاربة عن أعذار تبرئ ساحتهم من تهمة هذا التقاعس – وكان على رأس من اتهم بالتقاعس، ومن الملوك المغاربة يوسف ابن تاشفين – فقد زعموا أنه كان ينهج في علاقته بالشرق الإسلامي سياسة التخلي، أو عدم الاهتمام واللامبالاة بمجريات الأحداث ومصائر الأمور هناك، وذهبوا – تبعا لذلك – إلى القول بأن المغاربة لم يلبوا صراخ ونداءات صلاح الدين الاستغاثية، ومطالبته بإمداده بما كان في حاجة ماسة إليه من أساطيل حرية، تسهم في ميادين المعارك الضارية، التي كان يخوضها الشرق الإسلامي ضد الغزو الصليبي، وينتحل أولئك المؤرخون المختلفون لهذا التقاعس الموهوم تعلات وأعذار هي أوهن من بيت العنكبوت، ويوردون لتأكيد ذلك – كمبررات وأسباب قوية أن عدم استجابة ابن تاشفين لاستغاثة الأيوبي، كان بسبب ما قام به الأيوبي من إرسال أعوان له مخربين، كلفوا من طرفه بالعبث والإفساد في شرق الإمبراطورية المغربية، وكانوا بزعامة (قراقوش) وعرب بني هلال وني سليم، بينما علل بعضهم عدم الاستجابة المغربية بسبب عدم اعتراف الأيوبيين بخلافة المغاربة، واستقلالهم الذاتي عن تبعية الخلافة العباسية ببغداد، وتجلى عدم الاعتراف ذاك في رفض الشرقيين مناداة السلاطين المغاربة بلقب الخليفة.
ولكن الحقيقة أن أجدادنا المغاربة، كانوا أيامئذ يخوضون نفس المعارك الصليبية التي كان يحاول رد طماها الجارف إخوانهم المسلمون في الشرق، وإن اختلفت ميادين المعركتين، وربما حتى أسلوبهما، وتباينت مظاهر تلك المقاومة الباسلة، التي كانت تستميت فيها وتبديها الجيوش الإسلامية في وجه أولئك المغيرين الصليبيين الحانقين، تباينت في المغرب عنها في المشرق.
ذلك أن المغاربة كانوا يرومون وراء حركاتهم الحربية ضد الآراء (البينيكتيين الأسبان) متزعمي حركة التمرد، ومقاومة الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، والذين كانوا معززين روحيا من الفاتيكان بروما، وماديا من كل أمم أوربا النصرانية، أقول كان المغاربة يرومون وراء ذلك أمرين اثنين:
الأول: الحفاظ على مكاسب الإسلام في الأندلس، لا بوصفها مصدر ثروات مادية، وموارد ضخمة من الاقتصاد والمغانم، وإنما بوصفها خط دفاع وجنة ووقاية ترد عن الممتلكات الإسلامية في المغرب الكبير أطماع الإسبان، الذين كانوا يومئذ – وقد كانوا استردوا قبل كثيرا من الحصون والبلاد من أيدي المسلمين – يحاولون الإجهاز على ما كان تبقى من قلاع وحصون من أيدي الأقزام ملوك الطوائف، الشيء الذي جرأهم على التفكير في محاولة القيام بغزو المغرب الكبير من مختلف جهاته، ولاشك أن التحركات الحربية التي كان قام بها مسيحيو صقلية على المهدية بتونس، أعظم برهان وأقوى دليل على رغبتهم تلك.
الثاني: الحفاظ على وحدة الصف في أجزاء الإمبراطورية المغربية المترامية الأطراف الشاسعة الأرجاء – والتي كانت تمتد من طرابلس ليبيا شرقا، إلى قريب من حدود فرنسا غربا – عن طريق إبقاء القوة العسكرية أبدا على أهبة واستعداد، بل وأن تكون تلك القوة في حالة استنفار قصوى، وذات القدرة الدائمة على مباشرة القتال في الميادين الحربية، ومواصلة أتونها الفوار، فإخلاء حامية أو معقل من حماته، يعني فتح فجوات وثغرات في الواجهة الحربية، التي يجب أن تكون متراصة متماسكة.
على أنه ليس في استطاعته أي كان، أن ينكر أن الحملات الحربية المغربية في الأندلس، كانت من أقوى حركات التأييد لحملات الأيوبيين في الشرق، إذ ثبت تاريخيا أن (الفاتيكان) كان قد أصدر مراسم تقضي بحرمان كل إسباني يفكر في ترك موقعه من معارك إسبانيا، ليلتحق بصفوف الصليبيين بالشرق، وقالت مراسيم البابا في الموضوع: إن النضال ضد عرب ومسلمي الأندلس يعد جزءا أساسيا من النضال الكنسي المشن لمحاربة الإسلام.
وكانت هذه الأوضاع الحربية القائمة لعهدي الدولتين المرابطية والموحدية، مما اقتضى صبغ المجتمع المغربي بصبغة الحياة الجادة، البعيدة عن اللهو والترف والدعة، واستمراء مباهج الحياة الهادئة.
وقد انعكس هذا الواقع على آثار أدباء وشعراء المغرب لتلك الحقبة، ضرورة أن هذين الفنين مرايا تعكس صور الأحداث المعيشة، وتجسم الآمال المتوخاة، وترسم أبعاد المجتمع الأكثر إلحاح وعمقا.
وقد تأثر كل شعراء وأداء تلك الحقبة بهذا الواقع الجدي، بما فيهم شعراء وأدباء الأندلس، الذي لم يتخلوا في معظم محاولاتهم الفكرية، عن خصوص ما كانوا ألفوه من شعر الانهزامية أو التفسخ والانحلال الأخلاقيين، وإنما أيضا تبنوا الطريقة المغربية في التناول، تلك الطريقة القائمة على التغني بالحروب والأمجاد، وما يستدعيه ذلك من أساليب تعبيرية تتسم وتتصف بضخامة الألفاظ، وصدق التعابير، وأحيانا الإغراق في المعاني المتسمة بالغلو والخروج عن المألوف.
بالإضافة إلى سمة أخرى هي استلهام الروح الدينية، واسترفاد معطياتها، وصوغ كل ذلك فيما عرف بعد بالقصائد النبويات، وبالابتهالات، التي ستتخذ في عصر ني مرين، والعصور بعده، ميزة بارزة للأدب المغربي شعرا ونثرا، وقد يكون ذلك من جانب – ولو إلى حد ما – انكفاء لهذه الآداب على نفسها، وانحرافا عن المسيرة التي اتبعتها أختها الآداب الشرقية، مما أوجد هذا النضوب العاطفي – وخاصة في ميادين الشعر العربي – في الأدب المغربي، وقد تكون تلك النبويات متنفسا لهذا الكبت المفروض بحد السلاح على أدباء المغرب، حين وجدوا أنفسهم مكبلين داخل قوقعة ما اعتبره الفقهاء دينا، وافترضوه وحده عقائد مؤيدين مساندة الدولتين المرابطية والموحدية، وبعد هذه الفذلكة، سنحاول الآن أن نتناول بعض آثار الفقيه الأديب (ميمون الخطابي) بالدرس، بوصفه الشخصية التي تكاد تكون صورة مجسمة للأديب الشاعر، الذي يبرز في إنتاجه الخاصيتين اللتين أشرنا إليهما آنفا، أي خاصية التعلق بشعر القوة والفخفخة، حين تناوله الحوادث المعيشة، والواقع الحربيين، وخاصية الإغراق في الابتهالات الصوفية الغيبية المتسترة بالتوهيمات الدينية، واستلهام الأجواء اللادينية، حين ينكفئ على نفسه يجتر أفكاره، ويستعرض أوهام الدنيا، ويقارنها بالحقيقة الأبدية السرمدية.
وميمون الخطابي، يكاد يكون متخصصا في هذه الأشعار الدينية، التي تهتم بصورة خاصة بالأمداح النبوية، على خلاف صاحبيه: ابن حبوس وأبي حفص الأغماتي، وهذا التخصص سمة جديدة، لم تبرز في الآثار الأدبية للمغرب قبل هذه الحقبة، أعني بالوفرة التي برزت في ملاحم ميمون الخطابي، الذي قد يكون تأثر فيها بالحركة الشرقية في هذا المجال، تلك الحركة التي كانت أخذت أعلامها ترفرف على الجو الأدبي في الشرق لعهد ظهور صاحبنا الخطابي، وكان لشرف الدين البوصيري (600 – 682هـ) البربري الأصل، المحدث والخطاط، فضل تقعيد هذا النوع من الأدب العربي وضعه قصيدتيه: (البردة والهمزية) في مدح خير البرية سيدنا محمد عليه السلام.
ونفحات ميمون الخطابي في مدح الرسول محمد عليه السلام، لا تقل في روعتها الفنية: عرضا وتنسيقا وتعابير راقصة عن تحفتي البوصيري، وإن لم يخلد في هذا الميدان إلى الآن سوى قصيدتي البوصيري، اللتين ترجمتا إلى عدة لغات، كما أن المعاني التي عالجها ميمون الخطابي في قصائده النبوية، تدل على روح دينية مشبوبة وعاطفة قوية متأججة، عهدت دائما في جميع أفراد الشعب المغربي المتدين المسلم، بل طالما دفعته هذه العاطفة الدينية إلى تحقيق المعجزات.
وإذا كان الحظ قد تنكب طريق ميمون الخطابي – ككل الذين ولجوا هذا الباب، باستثناء البوصيري قطعا كما قلنا، إما لأن زامرة الحي لا تطرب – كما يقولون – وإما لأن الناس لم يطلعوا على آثاره في هذا الميدان، ومن ثم لم يعطوها ما تستحقه من دراسة واهتمام، ثم من تغن وترتيل وترديد، أو لأنه كما يقول العامة المغاربة – لم تحط بالقبول، أقول إذا كان الحظ قد تنكب الخطابي، فإن تاريخ فن القصائد الدينية أو النبويات بتعبير المادحين والمقرئين لن يكون في مقدوره أن يجحد فضل هذا الرجل يوم تقام لهذا الفن الموازين.
وميمون الخطابي كما في الجذوة لابن القاضي، هو ميمون بن علي بن عبد الخالق الخطابي، نسبة إلى قبيلة من صنهاجة، قد تكون ذات علاقات عرقية بأسرة آل الخطابي الجزائرية، وهي أسرة تقطن الغرب الجزائري في التقسيم الجغرافي الحالي، يوجد أفراد منها حاليا بالمغرب الأقصى، كانوا جاءوا مع الحملة الفرنسية، وقد كونوا لهم في إقليم الغرب ممتلكات فلاحية مهمة، وهم يدعون انحدارهم من أبوة عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للرسول عليه السلام.
والخطابي هذا من مواليد مدينة فاس، ويعرف بابن خبازة، لقب كان اشتهر به أحد أخواله يدعى الشاعر ابن خبازة، ويبدو من هذه الكنية، وهذا الانتساب أن الرجل لم يكن من المتطفلين أو الطائرين على الميدان الشعري، وإنما له به صلة وثيقة، وله به وشيجة قربى، وخؤولة دم، ولعل هذه الصلة هي التي دفعت بالرجل إلى الضرب بسهم وافر في ميادين – لا خصوص تلك التي لها اتصال بالأدب والشعر – وإنما أيضا في كل ميادين تحصيل العلوم، وخاصة تلك المتصلة باللغة وفقهها، بالإضافة إلى الآداب ومختلف مجالاتها، حتى صح لصاحب الجذوة ابن القاضي، أن يكتب عنه يقول: (- عن فقهه الأدبي- كان سريع البديهة، ناظما، ناثرا، مع الإجادة، والتفنن في أساليب الكلام، معرفة وإتقانا، في هزله وجده، على اختلاف اللغات).
وتوفي ميمون الخطابي برباط الفتح من سلا سنة (637هـ)، أما ولادته فمجهولة، كما هو الشأن في أغلبية رجالاتنا لما أشرنا إليه سابقا في دراستنا هذه، وإن كان من المحقق – وكما يذكر مؤلفو الطبقات، أن الرجل عمر طويلا، وأنع اتصل بالسلطة الزمانية لعهده، وأنه كلف بمهمة في حسبة الطعام بمراكش.
ومن يقف على آثار الرجل التي تتوزعها الأضابير، وبعض كتب الطبقات – إذ ليس للرجل ديوان شعر خاص، ولم يجمع شعره حتى الآن – ويستشف أشكالها ومضامينها، سيسلم ويلمس إلى أي مدى كانت كلمات ابن القاضي، صاحب الجذوة عن صاحبنا هذا صادقة، فإن قوة الجرس الموسيقي في أساليب الرجل، ووصف الكلمات أفقيا وعموديا معا – وهذا نوع من الأشكال الأدبية، التي استحدثت أيامئذ – مما أضفى على آثار الرجل قوة، وأكسبها وقعا خاصا، هي إلى وقع آثار فحول شعرائنا الأسبقين أقرب، وبها ألصق، فلنقف قليلا نقرأ له مثل هذه المقاطع من قصيدة رثى بها ولدا لأبي بكر محمد بن عبد الملك بن الجد، افتقده شابا يافعا، قال:
أرجـة الصعـق يوم النفخ في السـور = أم ذلة الطور يوم الصعق في الطور؟
أم هـذه الأرض إظهـارا لمـا زجرت = بـه الخليقـة من إيـقاع محـذور؟
أم الكـواكب في آفــاقــها انتثرت = وبــانت الشمس في طي وتكوير؟
مـا للنهـار تعري من ثيـاب سنــا = وشـابـه الليـل في أثواب ديجـور
قـد كـان للصبح طرف زانـه بلـل = مقسم الخلـق بين الـدجن والنـور
فمـا الملم الــذي غشى بـدهمتـه = أديمـه عنبرا من بعـد كـافـور؟
أصـخ لتسمع من أنبـائهـا نبـــأ = يطـوي من الأنس فيه كـل منشور
وانظر فإن بني عدنـان مـا حشروا = إلا رزء عظيم القــدر مشهــور
رمى قريشـا فـاصمي سهم حــادثة = أبنــاء فهر بتـوفيـق المقــادير
فخـانها الجد في ابن الجد يـوم قضى = وأثر الخطب فيهــا أي تـــأثير
نـوارة عنـدمـا راقت بـدوحتهــا = أهـوت إلى الترب من بين النـواوير
جـار الـذبـول عليها عندمـا ملأت = معـاطس الــدهر من طيب وتعطير
قضى، فرافـق شهر الصـوم مرتحلا = ووافـق الشهر في فضــل وتطهير
فســار للحين مسرورا، وخلفنـــا = للحـزن، فـأعجب لمحزون بمسرور
نـاديت يـا حـادي الأحزان يوم حدا = أظعـان قلبي، رفقـا بــالقـوارير
فالوجـد والدمع من حزن قـد اقتسما = قلبي وجفني بمنظــوم ومنثــور
وللمـلائـك في آفـاقهــا زجــل = قــد شفعتــه بتهليــل وتكبير
يـا عـامر الترب كم خلفت من كبـد = ومن فـؤاد بثـاوي الحـزن معمور
لو كنت تحمي وتفـدي للعلى ابتدرت = الآمهـا بــالقنى أو بـالقنــاطير
لكنهـا المـوت حكم ليس يـدخلـه = نسـخ لخلـق وعـدل دون تجـوبر
يقضي على الأسـد في الآجام حاكمه = وفي الكنـاس على البيض اليعـافير
ويمتطي الشهب في شم الجبـال، كما = في الـوكر يعتـام أفراخ العصـافير
أعظم بــآيتـه، من آيــة عظمت = فليس تــدرك في حـــال بتفسير
فاسمـع بقلبـك، فالأشيـاء نـاطقـة = وألسن الحــال تغني كــل نحرير
مقدمـات الليـالي طـالمـا فضحت = نتـائـج الغــدر منهـا كل مغرور
جمـع السـلامة معدوم الوجـود بها = فكم بهـا للردى من جمــع تكسير
والكـون طرس، وهـذا الخلق أحرفه = والحرف مـا بين ممحـو ومبتـور
والـدهر يعرب، والأفعـال يظهرهـا = طـوعـا ويعجم منهـا كل مسطور
وإنمــا الخلق أسماء تعــاورهــا = إعرابــه بين مرفــوع ومجرور
وكلهم في مـدى الأعمـار تحسبهـم = كحـالهـا بين ممـدود ومقصـور
والمــوت مثـل عروضي يكسر من = أبيــاتهم كـل مـوزون ومكسور
مـا من يـؤمل أن يبقى وقـد نفضت = أيـدي المقـادير من إبرام تقــدير
هـذه الحقيقة لا مـا حـدثتـك بـه = آمـال نفسـك عن دنيـاك من زور
لا تخـدعنـك الليـالي، إن فتنتهـا = كـادت، فكادت ترينـا كـل محـذور
هـو القضـاء أبي بكر أصبت بـه = فـاصبر، وسلم لـه تسليم مـأجـور
ونلاحظ أن هذه القطعة – بالإضافة إلى ما حملها من أفكار فلسفية عن الموت والحياة – صاغ الأبيات الأخيرة، التي أوردناها – والقصيدة يتجاوز عدد أبياتها الثمانين – بما يبرز الموسوعة العلمية التي كان يمتاز بها، ومدى تمكنه العميق، من فهم أسرار قواعد اللغة، إلى درجة التلاعب بمختلف معانيها، مجازيها والحقيقي منها.
ومع ذلك، فإن عبقرية ميمون الخطابي، إنما تبرز وتتجلى صورة واضحة، وبكيفية محسوسة قويت في قصائده النبوية، لنسمع إلى مقاطع من قصيدة له في هذا الباب، بلغت أبياتها أكثر من المائتين، تعرض فيها – تقريبا – للسيرة النبوية من بدايتها إلى نهايتها، وصاغها في قالب شعبي جد محترم، ومن تلك المقطعات قوله:
حقيـق علينـا أن نجي المعـاليـا = لنفني في مـدح الحبيب المعـانيـا
لنطلـع من أمـداح أحمـد أنجمـا = تلوح فتجلو من سنـاه الـديـاجيـا
كـواكب إيمـان تلـوح، فيهتـدي = بأنوارها من بـات يدلـج سـاريـا
سهـوت بمـدح الخلق دهرا، وهذه = سجود لجبري كـل مـا كنت ساهيا
رسـول براه اللـه من صفـو نوره = وألبسـه بردا من النـور ضـافيـا
ثـوى في ظهـور الطيبين، يصونه = وديعـة سر، صـار بـالبعث فاشيا
وخص بطـون الطيبـات لحملـه = ليحمـل فرعـا للسيـادة زاكيــا
...وآدم لمـا خـاف يزري بذنبـه = توسـل بـالمختـار للـه داعيــا
فتـاب عليـه الله لمـا دعـا بـه = وأدنـاه منـه بعدمـا كـان نـائيـا
وقد يهجر المحبوب في حالة الرضى = ويأبى الهـوى أن لا يصدف واشيـا
...وكم شـاهدت من آية أمـه بـد = يصير بهـا جيد الـديانـة حـاليـا
رأت في معـاليـه مرائي جمــة = وصـدقت الآثـار منـه المرائيــا
.. بدا واضعا كفيه بالأرض، رافعا = لعينيه نحو الأفق بـالطرف سـاميـا
وأعول إبليس اللعين، وقـال: قـد = يئست، وقـدمـا كنت للكفر راجيـا
.. وقال (هرقـل إذ أطل زمـانـه = : بني، أرى ملـك الختـان موافيـا
وإيـوان كسرى اهتز ليلة وضعه...= وبـات عليـه قصره متـداعيــا
وحمـل ذاك الحلم حجر (حليمـة) = لترضعه ذر الفصـائـل صـافيـا
أبى حملـه النسوان لليتم وانبرت = له، فرأت – من حينها – الرزق ناميا
وبغضت الأصنـام للمصطفى، فلم = يزل هـاجرا فعـل الضلالـة قاليـا
إلى أن يقول – بعد أن يشير إشارات جامعة مانعة لكل مراحل سيرته صلى الله عليه وسلم، وشمائله ومعجزاته، وما أحاط بظهوره من تلك المعجزات:
وآيتــه جلت عن العــد كثرة = فمـا تبلغ الأقوال منهـا تنـاهيـا
وأعظمها الوحي الـذي خصه بها = فبلـغ منـه آمرا فيـه، نـاهيـا
تحـدى به أهل البيـان بـأسرهم = فكلهم ألفـاه بــالعجـز وانيــا
وجـاء به وحيـا صريحـا يزيده = مرور الليـالي جـدة وتعـاليــا
تضمن أحكـام الوجـود بأشرهـا = وعم القضـايـا مثبتـا فيه، نافيـا
وأخبر عمـا كـان أو هو كـائن = يرى ماضيـا أو ما يرى بعد آتيـا
ومـا كتبت يمنـاه قط صحيفـة = ولا ريء يومـا للصحـائف تاليـا
عليـه سـلام اللـه لازال رائحا = عليه مدى الأيـام حقـا، وغـاديـا
ومن تتبع آثار ميمون الخطابي، قد تشم منه رائحة الاهتمام المتزايد بالشؤون العامة، لا الاجتماعية فحسب، وإنما بصورة أوضح وأعمق بالشؤون الإيديولوجية، التي كانت مدار الساعة، ولها في حياة الدولة المكانة السامية، فكان ينال منها ما لا يتفق وما يعتقده بالنقد والتجريح، ويفندها بالتأويل والتصريح، مما يؤكد أن الرجل لم يكن غرا ولا مصدقا – على الإطلاق لكل ما يراد أن يروج له مهما كان مصدر ذلك، كما يدل على أنه كان يقف من الدعوات التي لا تتفق والفكر الديني الحقيقي، موقف المعارضة التي لا تتخفى وراء الرمزية، وكان أكبر دليل على ذلك موقفه من ادعاء ابن تومرت لفكرة المهدوية، فقد انتقدها في سخرية لاذعة مرة، وأبان زيفها، ومن قوله في ذلك البيتان الآتيان:
وجـد النبـوة حلــة مطويــة = لا يستطيـع الخلـق نسج مثـالهـا
فـاسر حسـوا في ارتغـاء يبتغي = بمحـالـة نسجـا على منـوالهـا
وحيث أن الإنسان من حيث إنسانيته، مجموعة من الأعصاب الفكرية، وفورة من العواطف، لابد أن يبحث لها ين الحين والآخر – عن متنفس، فإن ميمونا الخطابي وما كان يخرج وهو الإنسان الشاعر الرقيق الإحساس المرهفة، عن الأحاسيس البشرية وطينتها المتقلبة الأهواء والنوازع، المتباينة الميول والرغبات، وحيث أن أهم وأبرز عاطفة إنسانية على الإطلاق – والتي تعطي الإنسانية حقيقتها السرمدية – هي الحب، فإن ميمون الخطابي يمنح هو الآخر من تذوق حسراته اللذيذة وآلامه – التي وإن تكن أحيانا مبرحة – المحببة الشيقة، وإنما شرب منها حتى الثمالة، وسجل عنها في شعره بعض ما ناله منها، وإن يكن هذا التسجيل بدأ في صورة محتشمة، كأنما يربأ بفقيه أن يبدي الضعف والوهن، وهو المفروض فيه الصبر والاحتمال، وإذ لم يكن في استطاعته أن يمر على حياة القلوب مر الكرام، فقد أبى إلا أن يسجل – كما قلنا – ما ذاق منه من نفحات عاطرة، وأن يصوغها في سبحات من القول الصادق المعبر الفوار، ومن كلماته في هذا المجال، الأبيات الآتية التي نختم بها حديثنا القصير عن هذا الرجل ذي المجالات الواسعة، للتناول والدرس، قال:
هب النسيم ضحى، ففــاح المنــزل = وتـأرجت منـه الصبـا والشمـال
أبرى عليـلا، فـاستحث إلى الصبــا = صبـا بـأنفـاس الصبـا يتعلـل
فهـوى الغـوير وسـاكنـيه ومن لـه = لو كان يـدنـو منـه ذاك المنـزل
فـأشـام برقــا بـالغضـا، ثم انبرى = شـوقـا، على جمر الغضـا يتململ
دعوة الحق العدد 239 ذو القعدة 1404/ غشت 1984
ولكن الحقيقة أن أجدادنا المغاربة، كانوا أيامئذ يخوضون نفس المعارك الصليبية التي كان يحاول رد طماها الجارف إخوانهم المسلمون في الشرق، وإن اختلفت ميادين المعركتين، وربما حتى أسلوبهما، وتباينت مظاهر تلك المقاومة الباسلة، التي كانت تستميت فيها وتبديها الجيوش الإسلامية في وجه أولئك المغيرين الصليبيين الحانقين، تباينت في المغرب عنها في المشرق.
ذلك أن المغاربة كانوا يرومون وراء حركاتهم الحربية ضد الآراء (البينيكتيين الأسبان) متزعمي حركة التمرد، ومقاومة الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، والذين كانوا معززين روحيا من الفاتيكان بروما، وماديا من كل أمم أوربا النصرانية، أقول كان المغاربة يرومون وراء ذلك أمرين اثنين:
الأول: الحفاظ على مكاسب الإسلام في الأندلس، لا بوصفها مصدر ثروات مادية، وموارد ضخمة من الاقتصاد والمغانم، وإنما بوصفها خط دفاع وجنة ووقاية ترد عن الممتلكات الإسلامية في المغرب الكبير أطماع الإسبان، الذين كانوا يومئذ – وقد كانوا استردوا قبل كثيرا من الحصون والبلاد من أيدي المسلمين – يحاولون الإجهاز على ما كان تبقى من قلاع وحصون من أيدي الأقزام ملوك الطوائف، الشيء الذي جرأهم على التفكير في محاولة القيام بغزو المغرب الكبير من مختلف جهاته، ولاشك أن التحركات الحربية التي كان قام بها مسيحيو صقلية على المهدية بتونس، أعظم برهان وأقوى دليل على رغبتهم تلك.
الثاني: الحفاظ على وحدة الصف في أجزاء الإمبراطورية المغربية المترامية الأطراف الشاسعة الأرجاء – والتي كانت تمتد من طرابلس ليبيا شرقا، إلى قريب من حدود فرنسا غربا – عن طريق إبقاء القوة العسكرية أبدا على أهبة واستعداد، بل وأن تكون تلك القوة في حالة استنفار قصوى، وذات القدرة الدائمة على مباشرة القتال في الميادين الحربية، ومواصلة أتونها الفوار، فإخلاء حامية أو معقل من حماته، يعني فتح فجوات وثغرات في الواجهة الحربية، التي يجب أن تكون متراصة متماسكة.
على أنه ليس في استطاعته أي كان، أن ينكر أن الحملات الحربية المغربية في الأندلس، كانت من أقوى حركات التأييد لحملات الأيوبيين في الشرق، إذ ثبت تاريخيا أن (الفاتيكان) كان قد أصدر مراسم تقضي بحرمان كل إسباني يفكر في ترك موقعه من معارك إسبانيا، ليلتحق بصفوف الصليبيين بالشرق، وقالت مراسيم البابا في الموضوع: إن النضال ضد عرب ومسلمي الأندلس يعد جزءا أساسيا من النضال الكنسي المشن لمحاربة الإسلام.
وكانت هذه الأوضاع الحربية القائمة لعهدي الدولتين المرابطية والموحدية، مما اقتضى صبغ المجتمع المغربي بصبغة الحياة الجادة، البعيدة عن اللهو والترف والدعة، واستمراء مباهج الحياة الهادئة.
وقد انعكس هذا الواقع على آثار أدباء وشعراء المغرب لتلك الحقبة، ضرورة أن هذين الفنين مرايا تعكس صور الأحداث المعيشة، وتجسم الآمال المتوخاة، وترسم أبعاد المجتمع الأكثر إلحاح وعمقا.
وقد تأثر كل شعراء وأداء تلك الحقبة بهذا الواقع الجدي، بما فيهم شعراء وأدباء الأندلس، الذي لم يتخلوا في معظم محاولاتهم الفكرية، عن خصوص ما كانوا ألفوه من شعر الانهزامية أو التفسخ والانحلال الأخلاقيين، وإنما أيضا تبنوا الطريقة المغربية في التناول، تلك الطريقة القائمة على التغني بالحروب والأمجاد، وما يستدعيه ذلك من أساليب تعبيرية تتسم وتتصف بضخامة الألفاظ، وصدق التعابير، وأحيانا الإغراق في المعاني المتسمة بالغلو والخروج عن المألوف.
بالإضافة إلى سمة أخرى هي استلهام الروح الدينية، واسترفاد معطياتها، وصوغ كل ذلك فيما عرف بعد بالقصائد النبويات، وبالابتهالات، التي ستتخذ في عصر ني مرين، والعصور بعده، ميزة بارزة للأدب المغربي شعرا ونثرا، وقد يكون ذلك من جانب – ولو إلى حد ما – انكفاء لهذه الآداب على نفسها، وانحرافا عن المسيرة التي اتبعتها أختها الآداب الشرقية، مما أوجد هذا النضوب العاطفي – وخاصة في ميادين الشعر العربي – في الأدب المغربي، وقد تكون تلك النبويات متنفسا لهذا الكبت المفروض بحد السلاح على أدباء المغرب، حين وجدوا أنفسهم مكبلين داخل قوقعة ما اعتبره الفقهاء دينا، وافترضوه وحده عقائد مؤيدين مساندة الدولتين المرابطية والموحدية، وبعد هذه الفذلكة، سنحاول الآن أن نتناول بعض آثار الفقيه الأديب (ميمون الخطابي) بالدرس، بوصفه الشخصية التي تكاد تكون صورة مجسمة للأديب الشاعر، الذي يبرز في إنتاجه الخاصيتين اللتين أشرنا إليهما آنفا، أي خاصية التعلق بشعر القوة والفخفخة، حين تناوله الحوادث المعيشة، والواقع الحربيين، وخاصية الإغراق في الابتهالات الصوفية الغيبية المتسترة بالتوهيمات الدينية، واستلهام الأجواء اللادينية، حين ينكفئ على نفسه يجتر أفكاره، ويستعرض أوهام الدنيا، ويقارنها بالحقيقة الأبدية السرمدية.
وميمون الخطابي، يكاد يكون متخصصا في هذه الأشعار الدينية، التي تهتم بصورة خاصة بالأمداح النبوية، على خلاف صاحبيه: ابن حبوس وأبي حفص الأغماتي، وهذا التخصص سمة جديدة، لم تبرز في الآثار الأدبية للمغرب قبل هذه الحقبة، أعني بالوفرة التي برزت في ملاحم ميمون الخطابي، الذي قد يكون تأثر فيها بالحركة الشرقية في هذا المجال، تلك الحركة التي كانت أخذت أعلامها ترفرف على الجو الأدبي في الشرق لعهد ظهور صاحبنا الخطابي، وكان لشرف الدين البوصيري (600 – 682هـ) البربري الأصل، المحدث والخطاط، فضل تقعيد هذا النوع من الأدب العربي وضعه قصيدتيه: (البردة والهمزية) في مدح خير البرية سيدنا محمد عليه السلام.
ونفحات ميمون الخطابي في مدح الرسول محمد عليه السلام، لا تقل في روعتها الفنية: عرضا وتنسيقا وتعابير راقصة عن تحفتي البوصيري، وإن لم يخلد في هذا الميدان إلى الآن سوى قصيدتي البوصيري، اللتين ترجمتا إلى عدة لغات، كما أن المعاني التي عالجها ميمون الخطابي في قصائده النبوية، تدل على روح دينية مشبوبة وعاطفة قوية متأججة، عهدت دائما في جميع أفراد الشعب المغربي المتدين المسلم، بل طالما دفعته هذه العاطفة الدينية إلى تحقيق المعجزات.
وإذا كان الحظ قد تنكب طريق ميمون الخطابي – ككل الذين ولجوا هذا الباب، باستثناء البوصيري قطعا كما قلنا، إما لأن زامرة الحي لا تطرب – كما يقولون – وإما لأن الناس لم يطلعوا على آثاره في هذا الميدان، ومن ثم لم يعطوها ما تستحقه من دراسة واهتمام، ثم من تغن وترتيل وترديد، أو لأنه كما يقول العامة المغاربة – لم تحط بالقبول، أقول إذا كان الحظ قد تنكب الخطابي، فإن تاريخ فن القصائد الدينية أو النبويات بتعبير المادحين والمقرئين لن يكون في مقدوره أن يجحد فضل هذا الرجل يوم تقام لهذا الفن الموازين.
وميمون الخطابي كما في الجذوة لابن القاضي، هو ميمون بن علي بن عبد الخالق الخطابي، نسبة إلى قبيلة من صنهاجة، قد تكون ذات علاقات عرقية بأسرة آل الخطابي الجزائرية، وهي أسرة تقطن الغرب الجزائري في التقسيم الجغرافي الحالي، يوجد أفراد منها حاليا بالمغرب الأقصى، كانوا جاءوا مع الحملة الفرنسية، وقد كونوا لهم في إقليم الغرب ممتلكات فلاحية مهمة، وهم يدعون انحدارهم من أبوة عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للرسول عليه السلام.
والخطابي هذا من مواليد مدينة فاس، ويعرف بابن خبازة، لقب كان اشتهر به أحد أخواله يدعى الشاعر ابن خبازة، ويبدو من هذه الكنية، وهذا الانتساب أن الرجل لم يكن من المتطفلين أو الطائرين على الميدان الشعري، وإنما له به صلة وثيقة، وله به وشيجة قربى، وخؤولة دم، ولعل هذه الصلة هي التي دفعت بالرجل إلى الضرب بسهم وافر في ميادين – لا خصوص تلك التي لها اتصال بالأدب والشعر – وإنما أيضا في كل ميادين تحصيل العلوم، وخاصة تلك المتصلة باللغة وفقهها، بالإضافة إلى الآداب ومختلف مجالاتها، حتى صح لصاحب الجذوة ابن القاضي، أن يكتب عنه يقول: (- عن فقهه الأدبي- كان سريع البديهة، ناظما، ناثرا، مع الإجادة، والتفنن في أساليب الكلام، معرفة وإتقانا، في هزله وجده، على اختلاف اللغات).
وتوفي ميمون الخطابي برباط الفتح من سلا سنة (637هـ)، أما ولادته فمجهولة، كما هو الشأن في أغلبية رجالاتنا لما أشرنا إليه سابقا في دراستنا هذه، وإن كان من المحقق – وكما يذكر مؤلفو الطبقات، أن الرجل عمر طويلا، وأنع اتصل بالسلطة الزمانية لعهده، وأنه كلف بمهمة في حسبة الطعام بمراكش.
ومن يقف على آثار الرجل التي تتوزعها الأضابير، وبعض كتب الطبقات – إذ ليس للرجل ديوان شعر خاص، ولم يجمع شعره حتى الآن – ويستشف أشكالها ومضامينها، سيسلم ويلمس إلى أي مدى كانت كلمات ابن القاضي، صاحب الجذوة عن صاحبنا هذا صادقة، فإن قوة الجرس الموسيقي في أساليب الرجل، ووصف الكلمات أفقيا وعموديا معا – وهذا نوع من الأشكال الأدبية، التي استحدثت أيامئذ – مما أضفى على آثار الرجل قوة، وأكسبها وقعا خاصا، هي إلى وقع آثار فحول شعرائنا الأسبقين أقرب، وبها ألصق، فلنقف قليلا نقرأ له مثل هذه المقاطع من قصيدة رثى بها ولدا لأبي بكر محمد بن عبد الملك بن الجد، افتقده شابا يافعا، قال:
أرجـة الصعـق يوم النفخ في السـور = أم ذلة الطور يوم الصعق في الطور؟
أم هـذه الأرض إظهـارا لمـا زجرت = بـه الخليقـة من إيـقاع محـذور؟
أم الكـواكب في آفــاقــها انتثرت = وبــانت الشمس في طي وتكوير؟
مـا للنهـار تعري من ثيـاب سنــا = وشـابـه الليـل في أثواب ديجـور
قـد كـان للصبح طرف زانـه بلـل = مقسم الخلـق بين الـدجن والنـور
فمـا الملم الــذي غشى بـدهمتـه = أديمـه عنبرا من بعـد كـافـور؟
أصـخ لتسمع من أنبـائهـا نبـــأ = يطـوي من الأنس فيه كـل منشور
وانظر فإن بني عدنـان مـا حشروا = إلا رزء عظيم القــدر مشهــور
رمى قريشـا فـاصمي سهم حــادثة = أبنــاء فهر بتـوفيـق المقــادير
فخـانها الجد في ابن الجد يـوم قضى = وأثر الخطب فيهــا أي تـــأثير
نـوارة عنـدمـا راقت بـدوحتهــا = أهـوت إلى الترب من بين النـواوير
جـار الـذبـول عليها عندمـا ملأت = معـاطس الــدهر من طيب وتعطير
قضى، فرافـق شهر الصـوم مرتحلا = ووافـق الشهر في فضــل وتطهير
فســار للحين مسرورا، وخلفنـــا = للحـزن، فـأعجب لمحزون بمسرور
نـاديت يـا حـادي الأحزان يوم حدا = أظعـان قلبي، رفقـا بــالقـوارير
فالوجـد والدمع من حزن قـد اقتسما = قلبي وجفني بمنظــوم ومنثــور
وللمـلائـك في آفـاقهــا زجــل = قــد شفعتــه بتهليــل وتكبير
يـا عـامر الترب كم خلفت من كبـد = ومن فـؤاد بثـاوي الحـزن معمور
لو كنت تحمي وتفـدي للعلى ابتدرت = الآمهـا بــالقنى أو بـالقنــاطير
لكنهـا المـوت حكم ليس يـدخلـه = نسـخ لخلـق وعـدل دون تجـوبر
يقضي على الأسـد في الآجام حاكمه = وفي الكنـاس على البيض اليعـافير
ويمتطي الشهب في شم الجبـال، كما = في الـوكر يعتـام أفراخ العصـافير
أعظم بــآيتـه، من آيــة عظمت = فليس تــدرك في حـــال بتفسير
فاسمـع بقلبـك، فالأشيـاء نـاطقـة = وألسن الحــال تغني كــل نحرير
مقدمـات الليـالي طـالمـا فضحت = نتـائـج الغــدر منهـا كل مغرور
جمـع السـلامة معدوم الوجـود بها = فكم بهـا للردى من جمــع تكسير
والكـون طرس، وهـذا الخلق أحرفه = والحرف مـا بين ممحـو ومبتـور
والـدهر يعرب، والأفعـال يظهرهـا = طـوعـا ويعجم منهـا كل مسطور
وإنمــا الخلق أسماء تعــاورهــا = إعرابــه بين مرفــوع ومجرور
وكلهم في مـدى الأعمـار تحسبهـم = كحـالهـا بين ممـدود ومقصـور
والمــوت مثـل عروضي يكسر من = أبيــاتهم كـل مـوزون ومكسور
مـا من يـؤمل أن يبقى وقـد نفضت = أيـدي المقـادير من إبرام تقــدير
هـذه الحقيقة لا مـا حـدثتـك بـه = آمـال نفسـك عن دنيـاك من زور
لا تخـدعنـك الليـالي، إن فتنتهـا = كـادت، فكادت ترينـا كـل محـذور
هـو القضـاء أبي بكر أصبت بـه = فـاصبر، وسلم لـه تسليم مـأجـور
ونلاحظ أن هذه القطعة – بالإضافة إلى ما حملها من أفكار فلسفية عن الموت والحياة – صاغ الأبيات الأخيرة، التي أوردناها – والقصيدة يتجاوز عدد أبياتها الثمانين – بما يبرز الموسوعة العلمية التي كان يمتاز بها، ومدى تمكنه العميق، من فهم أسرار قواعد اللغة، إلى درجة التلاعب بمختلف معانيها، مجازيها والحقيقي منها.
ومع ذلك، فإن عبقرية ميمون الخطابي، إنما تبرز وتتجلى صورة واضحة، وبكيفية محسوسة قويت في قصائده النبوية، لنسمع إلى مقاطع من قصيدة له في هذا الباب، بلغت أبياتها أكثر من المائتين، تعرض فيها – تقريبا – للسيرة النبوية من بدايتها إلى نهايتها، وصاغها في قالب شعبي جد محترم، ومن تلك المقطعات قوله:
حقيـق علينـا أن نجي المعـاليـا = لنفني في مـدح الحبيب المعـانيـا
لنطلـع من أمـداح أحمـد أنجمـا = تلوح فتجلو من سنـاه الـديـاجيـا
كـواكب إيمـان تلـوح، فيهتـدي = بأنوارها من بـات يدلـج سـاريـا
سهـوت بمـدح الخلق دهرا، وهذه = سجود لجبري كـل مـا كنت ساهيا
رسـول براه اللـه من صفـو نوره = وألبسـه بردا من النـور ضـافيـا
ثـوى في ظهـور الطيبين، يصونه = وديعـة سر، صـار بـالبعث فاشيا
وخص بطـون الطيبـات لحملـه = ليحمـل فرعـا للسيـادة زاكيــا
...وآدم لمـا خـاف يزري بذنبـه = توسـل بـالمختـار للـه داعيــا
فتـاب عليـه الله لمـا دعـا بـه = وأدنـاه منـه بعدمـا كـان نـائيـا
وقد يهجر المحبوب في حالة الرضى = ويأبى الهـوى أن لا يصدف واشيـا
...وكم شـاهدت من آية أمـه بـد = يصير بهـا جيد الـديانـة حـاليـا
رأت في معـاليـه مرائي جمــة = وصـدقت الآثـار منـه المرائيــا
.. بدا واضعا كفيه بالأرض، رافعا = لعينيه نحو الأفق بـالطرف سـاميـا
وأعول إبليس اللعين، وقـال: قـد = يئست، وقـدمـا كنت للكفر راجيـا
.. وقال (هرقـل إذ أطل زمـانـه = : بني، أرى ملـك الختـان موافيـا
وإيـوان كسرى اهتز ليلة وضعه...= وبـات عليـه قصره متـداعيــا
وحمـل ذاك الحلم حجر (حليمـة) = لترضعه ذر الفصـائـل صـافيـا
أبى حملـه النسوان لليتم وانبرت = له، فرأت – من حينها – الرزق ناميا
وبغضت الأصنـام للمصطفى، فلم = يزل هـاجرا فعـل الضلالـة قاليـا
إلى أن يقول – بعد أن يشير إشارات جامعة مانعة لكل مراحل سيرته صلى الله عليه وسلم، وشمائله ومعجزاته، وما أحاط بظهوره من تلك المعجزات:
وآيتــه جلت عن العــد كثرة = فمـا تبلغ الأقوال منهـا تنـاهيـا
وأعظمها الوحي الـذي خصه بها = فبلـغ منـه آمرا فيـه، نـاهيـا
تحـدى به أهل البيـان بـأسرهم = فكلهم ألفـاه بــالعجـز وانيــا
وجـاء به وحيـا صريحـا يزيده = مرور الليـالي جـدة وتعـاليــا
تضمن أحكـام الوجـود بأشرهـا = وعم القضـايـا مثبتـا فيه، نافيـا
وأخبر عمـا كـان أو هو كـائن = يرى ماضيـا أو ما يرى بعد آتيـا
ومـا كتبت يمنـاه قط صحيفـة = ولا ريء يومـا للصحـائف تاليـا
عليـه سـلام اللـه لازال رائحا = عليه مدى الأيـام حقـا، وغـاديـا
ومن تتبع آثار ميمون الخطابي، قد تشم منه رائحة الاهتمام المتزايد بالشؤون العامة، لا الاجتماعية فحسب، وإنما بصورة أوضح وأعمق بالشؤون الإيديولوجية، التي كانت مدار الساعة، ولها في حياة الدولة المكانة السامية، فكان ينال منها ما لا يتفق وما يعتقده بالنقد والتجريح، ويفندها بالتأويل والتصريح، مما يؤكد أن الرجل لم يكن غرا ولا مصدقا – على الإطلاق لكل ما يراد أن يروج له مهما كان مصدر ذلك، كما يدل على أنه كان يقف من الدعوات التي لا تتفق والفكر الديني الحقيقي، موقف المعارضة التي لا تتخفى وراء الرمزية، وكان أكبر دليل على ذلك موقفه من ادعاء ابن تومرت لفكرة المهدوية، فقد انتقدها في سخرية لاذعة مرة، وأبان زيفها، ومن قوله في ذلك البيتان الآتيان:
وجـد النبـوة حلــة مطويــة = لا يستطيـع الخلـق نسج مثـالهـا
فـاسر حسـوا في ارتغـاء يبتغي = بمحـالـة نسجـا على منـوالهـا
وحيث أن الإنسان من حيث إنسانيته، مجموعة من الأعصاب الفكرية، وفورة من العواطف، لابد أن يبحث لها ين الحين والآخر – عن متنفس، فإن ميمونا الخطابي وما كان يخرج وهو الإنسان الشاعر الرقيق الإحساس المرهفة، عن الأحاسيس البشرية وطينتها المتقلبة الأهواء والنوازع، المتباينة الميول والرغبات، وحيث أن أهم وأبرز عاطفة إنسانية على الإطلاق – والتي تعطي الإنسانية حقيقتها السرمدية – هي الحب، فإن ميمون الخطابي يمنح هو الآخر من تذوق حسراته اللذيذة وآلامه – التي وإن تكن أحيانا مبرحة – المحببة الشيقة، وإنما شرب منها حتى الثمالة، وسجل عنها في شعره بعض ما ناله منها، وإن يكن هذا التسجيل بدأ في صورة محتشمة، كأنما يربأ بفقيه أن يبدي الضعف والوهن، وهو المفروض فيه الصبر والاحتمال، وإذ لم يكن في استطاعته أن يمر على حياة القلوب مر الكرام، فقد أبى إلا أن يسجل – كما قلنا – ما ذاق منه من نفحات عاطرة، وأن يصوغها في سبحات من القول الصادق المعبر الفوار، ومن كلماته في هذا المجال، الأبيات الآتية التي نختم بها حديثنا القصير عن هذا الرجل ذي المجالات الواسعة، للتناول والدرس، قال:
هب النسيم ضحى، ففــاح المنــزل = وتـأرجت منـه الصبـا والشمـال
أبرى عليـلا، فـاستحث إلى الصبــا = صبـا بـأنفـاس الصبـا يتعلـل
فهـوى الغـوير وسـاكنـيه ومن لـه = لو كان يـدنـو منـه ذاك المنـزل
فـأشـام برقــا بـالغضـا، ثم انبرى = شـوقـا، على جمر الغضـا يتململ
دعوة الحق العدد 239 ذو القعدة 1404/ غشت 1984