نقوس المهدي
كاتب
في الأحاديث الهامشية لمؤتمر أدباء العرب الثامن الذي انعقد سنة: (1927)م) بدمشق أثيرا، وربما لأول مرة، قضية حساسة تتعلق ببعض أسباب تفكك عرى الأدباء العرب، وأسباب انحسار مد الأدب العربي عبر عالمه، وتقاعسه عن مسايرة التيارات الواقعية حتى للبيئة التي ولد فيها، والتي كان يجب أن يكون صورة حية ناطقة ومجسمة لها، وعجز بالمرة عن مواكبة الحضارة العالمية المعاصرة، بل مواجهة تحديات آدابها: مجالا وأهدافا وانتشارا.
وكانت القضية المثارة هي فحوى السؤال الآتي: لماذا لا يقرأ الأدباء العرب الشرقيون أدب أخوانهم أدباء المغرب العربي الكبير، ليعرفوا أي مدى يسهم هؤلاء الاخوان في معركة المصير التي تخضوها كافة الشعوب العربية، وإلى أي حد هم ملتزمون ثم ليتعرفوا بالتالي على اتجاهات هؤلاء الإخوان حتى فيما يتعلق بموضوع الأداء الفني، وبموضعهم بين التراث والمعاصرة.
وإذا كان حضور بعض أدباء المغرب الكبير هو السبب قطعا في طرح مثل هذا السؤال من طرف الإخوان الشرقيين الذي جوبهوا بهذا الحضور نفسه، والذي يعتبره أدباؤنا نحن المغاربة نوعا من الالتزام، مع القطع بأن جوابا شافيا ولو معنويا لم يكن له وجود، باستثناء دوامة من الآراء الطوباوية التي تبحث عن نفسها، فإن السؤال الذي نطرحه نحن – ونحن نحاول معالجة مظاهر الثقافة والفكر في المغرب عبر مراحله التاريخية، ومن خلال ما تبقى لنا من أثرا رجاله، والشيء بالشيء يذكر فيشكر أو يحترق – هو لماذا لا نهتم نحن الأدباء المغاربة أولا بتراثنا الفكري والحضاري لا القديم – وهو تراث ضخم دسم، ولا المعاصر، وهو ذو معطيات، من الإنكار للواقع، وصفها بأنها متقاعسة كلية عن مسايرة واقعنا المعيش؟ أو على الأقل، لماذا لا يكون من بين اهتمامانا الثقافية؟ أو لماذا لا يأخذ حظا محترما من هذه الاهتمامات، لا ف خصوص الدراسات الجامعية والأكاديمية وإنما أيضا في مناهجنا المدرسية، حق لا ينفصم حاضرنا عن ماضينا بالمرة، وحتى لا ينعزل هذان عن الواقع الإنساني العام، لأن الاستعداد – وإن لم يكن فطريا لدى جميع شعوب الأرض – فإن الصالة تحتاج إلى معاناة مستمرة، وتواصل الأزمنة، إذ ما كان لمجتمع يتعمد قطع صلاته بماضيه- ولا سيما إذا كان هذا الماضي مشرقا وضاء كماضينا – أن يحقق شيئا كثيرا في حاضره أنو أن يطمح إلى أن يصبح شيئا مذكورا في مستقبله.
وإذا كان (الماهتما غاندي) محرر القارة الهندية بمعونة (على جناح) و(محمد إقبال) مصيبا إلى أقصى حد، حين نادى بضرورة فتح النوافذ على العوالم الخارجية حتى يجدد هواء البيت ويتكيف، فإن الاقتصار على ما تحمله هذه النوافذ الخارجية مع التفكير في هجر الدار وذكرياتها وتاريخ تأسيسها ومن أسسوها وتحملوا العرق، وبدلوا الدم والتضحيات في سبيل إرساء قاعدها ورفع بنائها، ليس فحسب جهلا لقيمة الوطن أو المنبت والمنحدر لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم مهما يكن وضعها الاجتماعي – وإنما هو بالدرجة الأولى إنكار لأهم ميزات الأدب الواقعي.
أعني مؤثرات البيئة والمناخ، وبالتالي هو إنكار للمقومات الذاتية له، وللمجتمع الذي يصروه ويحاول بإيحاءاته وتوجيهاته الهادئة أو الصاخبة أن يطوره لما هو أحسن وأفضل، ثم هو أيضا تخل عن الالتزامية المنادى بها آنيا، وهروبا وإنسيابا من الواقع المفروض.
ومن هنا التزمنا نحن – في دراساتنا لهذا الجانب من الحضارة الفكرية للأمة العربية، والمغرب جزء من هذه الأمة، وترائها – تناول خصوص أدباء المغرب وشعرائه، ومعالجة أثارهم ومخلفاتهم مع محاولة إبراز تأثيره في أحداث زمانه أو تأثرهم بهذه الأحداث.
والتزمنا كذلك أن نتناول لا خصوص القلة المشهورين وإنما أيضا، وربما بالدرجة الأولى – أولئك المغمورين الذي تراكم على أخبارهم الطمى، وتحولت أضابير أخبارهم إلى خروم.
ومن هؤلاء هذه الشخصية الموحدية التي نحللها الآن محاولين عن طريق ما عثرنا عليه من أثراهم القليلة جدا أن نعالج بعض مناحيها.
وهذه الشخصية هي شخصية أبي عبد الله محمد بن علي بن العابد الفاسي...ونسبة ابن العابد الفاسية – أي إلى فاس – لا تعني قطعا انتماءه إلى أسرة الفاسيين الفهريين، إذ لم تكن ظهرت بعد الأسرة الفهرية الفاسية، ذات المجد العلمي على مسرح الأحداث، وإنما تعني هذه النسبة أن مسقط رأس الرجل أو منحدره هو مدينة فاس، تماما كأبي عشرة الفاسي قاضي الجماعة بمراكش لعهد مترجمنا، وقد تكون هذه النسبة هي الجامعة بين الرجلين والسبب الذي من أجله دعا القاضي أبو عشرة ابن العابد لتقلد مهام عقد الشروط والكتب عنه.
والمراكشي صاحب الإعلام لدى تقديمه ابن العابد الفاسي، لا يشير لا إلى تاريخ ولادته، ولا إلى تاريخ وفاته، وإنما يشير إلى أن الرجل (وفد على الأندلس في حدود الثلاثين وستمائة هجرية 630هـ) مما يثبت عصر المترجم له أي أنه العصر الموحدي وأنه ممن نشأ في عنفوان دولتهم وزاهر.
ويشير المراكشي بعد ذلك إلي كيف أن ابن العابد الفاسي لدى وفادته على الأندلس (ارتسم بالكتابة عن الأمير أبي عبد الله بن يوسف بن نصر بن الأحمر).د
ومن المؤكد أن الوصول إلى منصب من هذا القبيل يتطلب نضجا عقليا وتجربة غير قليلة وعمرا مناسبا الشيء الذي قد يدفعنا على الظن بأن صاحبنا هو من مواليد العشر الأوائل من سنوات القرن السابع الهجري...
أما متى غادر فاسا في اتجاه الأندلس، وما هي الفترة التي قضاها هناك، وهل توجه ابتداء برسم الكتابة عند الأمير ابن الأحمر؟ أم لتلقي العلم كما كان شأن جل علماء المغرب بذلك العهد؟ أم برسم الرباط والجهاد وقد كانت بلاد الأندلس يومئذ تعد دار رباط، وكان من ألزم ميزات العلماء لن يحجوا ويعتمروا ويعتكفوا ويرابطوا في الثغور برسم الجهاد، كل هذه الأسئلة لا يوجد عنها جواب محدد شاف.
أما من هم شيوخه الذين تلقى عنهم العلم والرواية، ومن هم تلامذته الذين تلقوا عليه ونقلوا عنه إلى غير ذلك من الأمور التي اعتاد مؤلفوا كتب الطبقات أن ينصوا عليها فهذه أشياء أيضا لا نجد عنها أي جواب.
إلا أن ما سبقت الإشارة إليه ممن أن ابن العابد (تلبس حينا بعقد الشروط والكتب عن قاضي الجماعة بمراكش أي الحسن بن محمد بن أبي عشرة الفاسي ومن توليه الكتابة للأمير ابن الأحمر، وما ثبت أنه كان مقصود الأدباء والشعراء يوجهون إليه إنتاجهم، التماسا لتشجيعه لهم، كما حدث لابن عبد الله الجنان، الذي فاتحه بالرسالة العينية، أو يمدحونه بأشعارهم كما تثبت المراسلة التي تمت بينه وبين أبي القاسم عبد الكريم بن عمران، والتي مهد لها ابن عمران هذا بالأبيات الشعرية التالية وهي أبيات تؤكد ما نذهب إليه من تغلب الروح الدينية والتصوف على أدباء ذلك العصر وقد جاء في هذه الأبيات:
إذا الشعر وافى في شعار ابن عاد = تقاصر فيه الوصف عن حسن موصـوف
سي مهج الرائين لألأ لــؤلــؤ له = فوق أجياد الاجادة مرصـــــوف
ورق نسيما فانتشق لهبوبــــه = شذا ورف من جنة الخلد مخصـــوف
يولد في أهل الوقار سماعه = خفوق اهتزاز مثلما شطح الصـوفي
لئن زان تأليفي ببعض قريضه = فقد تجتلى لحسناء في خشن الصوف
مل هذه الأمور تثبت:
أولا: إن الرجل كان ممن حيث الوضع الاجتماعي منسوبا في زمرة الفقهاء، وإنه لذلك كان على درجة عليمة عالية، أهلته لتقلد مهمة عقد الشروط وكتابة الضبط لفاضي الجماعة، خاصة إذا استحضرنا الأهلية المفروضة في هذا الصنف من الرجال معهد الموحدين، حيث كان يشترط، لا التفتح الفكري والعقلي، مع القدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة فحسب، وبما يتساوق والوضع العام – وإنما كان يتطلب بعد توفر كل ذلك وفرة التضلع الواسع والكافي لمعرفة عقائد القوم وأسس مذهبهم الكلامي.
ثانيا: إن الرجل كان ذا اتصال بالسياسة والشؤون العامة، إذ مهمة الكتابة للأمراء في تلك العصور، كانت تعني الكون على أهبة تقلد المهام الوزارية، بل كانت هي ومهمة الوزارة سواء إذ على أساسها يقع الاختيار على من ينصبون في مراكز الوزارات.
أما منحى تفكير الرجل ثقافيا، وموقفه من الأداء الفني، فقد تعطينا الجذاذات التبقية من آثاره- مع طفافتها – صورة تقريبية عنهما.
وهذه الجذاذات بصورة عامة لا تؤكد لنا بإطلاق صدق ما وصفه به صاحب الجذوة، حين تعرض له من أنه: (كان كاتبا محسنا وشاعرا مطبوعا)، فعلى كتابته النثرية- وكل ما لدينا منها رسالته التي رد بها على كتاب أبي القاسم عبد الكريم بن عمران المشار إليه آنفا – تبدو وصنعة السجع للمتكلف، وربما كان ذلك تقليدا لأسلوب العصر، كما يلاحظ عليه إيراد الغريب مع التلاعب بالألفاظ لمجرد لوكها.
وكنموذج لأسلوبه النثري نقتطف من تلك الرسالة هذه الفقرة: (أيها البحر الموهوب لفرادي الجواهر والتوام، والحبر اللعوب بأطراف الكلام، وفيت عين الكمال، وبقيت محروس الجمال تتألف لمن بارك في ارتياد البراعة، وتسبق من جاراك بجياد اليراعة، وتتبختر من ملابس السعادة في موشى برودها، وتظفر من أوانس الآمال المنقادة بشهي برودها..وصلتني رقعتك الخ)...
وأما آثاره الشعرية – وكل ما لدينا منها مما عثرنا عليه نحن هو خمس قطع فتبدو عليها هي الأخرى مسحة التقليد للشعر الأندلسي في مراحل عهوده الأخيرة، تناولا وأسلوبا ومجالا، من الإغراق في المحسنات اللفظية، من تورية، وطباق، وجناس، مع محاولة إدخال العناصر التجسيمة في الوصف دون اعتبار متزايد لرصف الكلمات.
وشعر العهد الأخير لدولة الموحدين يلاحظ عليه أنه انحدر من قمته التي كان يتسنها لعهد ابن هانئ وابن حبوس والجرواي إلى مسارب باهتة الألوان، معتمة الرؤيا، بل أوشك أن ينحصر – بعد أن انحسر مده في قوقعة المديح المعجوج والوصف المتكلف. كما غلبت على مظهره العام نغمة الغيبيات والتصوف التي لم تبلغ درجة شعر ابن الفارض أو حتى البوصيري.
ولعل مرد هذا الانحدار هو الشعور بالكبت الذي أحسته – أو فرض عليها – طائفة المثقفين من الفقهاء الذين أرغموا – بعد تثبيت الوجود الموحدي – على طرح أفكارهم جانبا، وعلى نبذ مذاهبهم العقدية وراءهم ظهريا، وإذ كان لا بد أن يتنفسوا فقد التجأوا على شعر الزهديات التافه، والتصوف الباهت، والكبت، مع الإغراق في فكرة ما، غالبا ما يؤدي إلى الانفجار أو الإغراق في ضدها، إلى هذه الفكرة، متى أحس التحرر منها.
وابن العابد الفاسي كما يبدو من خلال آثاره التي بين أيدينا، عالج – بالإضافة إلى المديح الذي كان النوع الغالب على شعراء تلك العهود – عالج الشعر الذاتي في مجالين: الوصف والغزل، وإن لم يبلغ فغي واحد منهما درجة ابن خفاجة – مثلا – أو بان هانئ، ولا مرتبة عمر بن ربيعة أو صريع الغواني مسلم بن الوليد.
على أن حكمنا عليه بهذا قد يكون فيه بعض التحامل، إذا قدرنا – وهذا ما يحدث الآن – أن الكثيرين من المشتغلين بالشعر في شرخ شبابهم وعنفوان حياتهم وأوائل امتهانهم للكتابة: نثرا أو شعرا، يحاولون – متى تقدمت بهم السن واحتلوا مراكز لها أهمية في نظر مجتمعهم تفوق أهمية الأدب والشعر، الابتعاد عن هذه المجالات، وقد يتملصون مما قد كان سجل عنهم في مبدأ حياتهم تلك، ويتحامى الكثيرون من هؤلاء أن ينسب إليهم شعر ما إطلاقا، وخاصة الشعر الغزلي منه.
وهذا الموقف من مثل هؤلاء كان أحد الأسباب المهمة والرئيسية في ضياع الكثير من آثارنا الأدبية، وحتى لبعض الذين ما يزالون يعيشون الآن بيننا. وأروع ما سجل عن هذه الظاهرة أو من أروعه. ما كتبه محمد بن الطيب العلمي في مقدمة كتابه (الأنيس المطرب فيمن لقيته من أدباء المغرب) حيث قال: "قيدت مائة من الرجال، وأزمعت أن أبيض بهم غرر الكتاب والاحجال، فلم أجد معي شيئا من أنبائهم، ولم أرم إلا بسهام الخيبة من أبنائهم، فآثرت الاختصار، وعلمت أن جنة تلك الآمال أصابها الإعصار، واقتصرت من الرجال على المشهورين والجمهور، وأطلعت فيه من الأهلة بعدد الشهور". ويعين اثني عشر أديبا. فابن الطيب العلمي كان – وهو يهم بوضع كتابه يريد أن يختار لمائة ممن يعرف من الأدباء، وبكن عاقه عن ذلك ضياع الآثار، وقلة ما يتوفر عليه ممن هم في مرتبة الاطلاع من أخبار، وبمثل هذه الأسباب ضاع أكثر تراثنا. فهل ما قاله المرحوم الأشتاذ (حجي) الذي كان كتب مرة في جريدته (المغرب) عن بعض شبابنا المعاصرين يصفهم بأنهم يعرفون كل شيء عن أوروبا والعالم الغربي ولا يعرفون البدهيات عن بلادهم، هي قالة ما تزال صادقة مطبقة فينا وعلينا؟ وبعد فما هي آثار ابن العابد الشعرية؟
وفي هذا المجال نجد لابن العابد في الغزل قطعتين، وأخريي في الوصف، وخامسة في المديح، والقطعة الأولى من غزله هي عبارة عن بيتين اثنين وفي وصف أخوين وسيمين، وقد جاء فيما.
في ابني محمد – إن نظرت = – عجائب إخوان: ظني احور وحوار
لمن الجمال يوجه ذلك منائـــــر = ومن الجمال بظهر ذاك آثار
أما القطعة الثانية من غزله فقد جاء فيها:
وشادن في القلب مرتعــه = مرهف القد أهيف الخصـر
نشوان من خمر مقلتـــه = فما تفيق أعطافه من السكر
رماه قوم بالنقص حين = غدا يزري جمالا على سنا البدر
قالوا سواد بدا بمبســـمه = وما عهدنا الواد في الـدر
فقلت ما ذلكم بعائبــــة = كفوا فعندي حقيقة العـذر
حبة قلبي رأت مقبلــــه = فأفلت من جوانح الصـدر
وارتشفت خمر ريقه فسرى سوادها عند ذلك في الثغر
ثم ثوت فوقه مخـــبرة = من عابه كنه ذلك الأمـر
أما قطعتاه الوصفيتان، فقد جاء في إحداهما، وهي تلك التي يصف فيها شاربا رعف- وصاغ ذلك في بيتين –
ومهفهف البدر حسن جبينه = وليانع الأغصان مائس عطفــه
لما أراق دمي، ولاح بخده = أجراه – قصد إغاظتي – من أنفه
أما قطعته الوضفية الأخرى، فقد وجدت مبتورة، وقد سلم من البتر هذه الأبيات، ثم هي في وصف الحمام، يقول فيها:
زبرجد ضم على لؤلــؤ = صاغهما متسكب القطــر
فاجتمعت أطعمة، حق من = اعطيها، الاقرار بالشكــر
فلم نزل نجهد في ضرها = حتى أراحتنا من الضــر
وحين ضم الليل أذيالــه = وانتشرت ألوية الفجـــر
قمنا لبيت حرج مظلــم = كأنما ادرج في قبــــر
تلوح في اقبائه أنجــم = نقضيه للأنج الزهــــر
تبدو نهارا فإذا ما بـدا = جنح الدجى غارت ولم تسر
يا طيبه ليلا ويا حسنه = صبحا، لقد حاز أسنى العمر
أما مجال المديح، فلم نعثر – فيما بين أيدينا من مراجع – من آثار الرجل على غير هذه الأبيات التي وردت تمهيدا للرسالة الجوابية التي رد بها صاحبنا على رسالة أبي القاسم بن عمران المراكشي، وهي أبيات تشكو من تكلف الصنعة ما يبعدها عن شعر الرجل الذي أوردنا نبذا منه قبل، جاء في هذه الأبيات:
إذا قيل: من رب القريض الذي له = يدين؟ فقل: عبد الكريم بن عمران
حباني بروض من نتيجة فكــره =يروق به للنظم والنثر زهـران
ونزهني في خطه وبيانـــه= فمن سامع مصغ إليه ومـن ران
كأني به فخرا تهنأت لبســه = ومن ليس أثواب الإجادة أعراني
وبعد، أفلا يجب – ونحن كما قال أحمد شوقي الشاعر المصري:
(أمة تنشيء الحياة وتبني= كبناء الأبوة الأمجاد؟)
إن نعمل على إحياء تراثنا وإن نقض عن أضابيره وخرومه الغبار؟ ونستلهم من بعض أبعاده الدروب التي سلكها أولئك الرواد الأولون، حتى نتجنب الزلل ونتعرف أكثر إلى مواقع أقدامنا ماضيا وحاضرا واستقبالا؟ وهذا أقل ما يجب علينا تجاه أولئك الأجداد.
دعوة الحق العدد 240 ذو الحجة 1404/ شتنبر 1984
وكانت القضية المثارة هي فحوى السؤال الآتي: لماذا لا يقرأ الأدباء العرب الشرقيون أدب أخوانهم أدباء المغرب العربي الكبير، ليعرفوا أي مدى يسهم هؤلاء الاخوان في معركة المصير التي تخضوها كافة الشعوب العربية، وإلى أي حد هم ملتزمون ثم ليتعرفوا بالتالي على اتجاهات هؤلاء الإخوان حتى فيما يتعلق بموضوع الأداء الفني، وبموضعهم بين التراث والمعاصرة.
وإذا كان حضور بعض أدباء المغرب الكبير هو السبب قطعا في طرح مثل هذا السؤال من طرف الإخوان الشرقيين الذي جوبهوا بهذا الحضور نفسه، والذي يعتبره أدباؤنا نحن المغاربة نوعا من الالتزام، مع القطع بأن جوابا شافيا ولو معنويا لم يكن له وجود، باستثناء دوامة من الآراء الطوباوية التي تبحث عن نفسها، فإن السؤال الذي نطرحه نحن – ونحن نحاول معالجة مظاهر الثقافة والفكر في المغرب عبر مراحله التاريخية، ومن خلال ما تبقى لنا من أثرا رجاله، والشيء بالشيء يذكر فيشكر أو يحترق – هو لماذا لا نهتم نحن الأدباء المغاربة أولا بتراثنا الفكري والحضاري لا القديم – وهو تراث ضخم دسم، ولا المعاصر، وهو ذو معطيات، من الإنكار للواقع، وصفها بأنها متقاعسة كلية عن مسايرة واقعنا المعيش؟ أو على الأقل، لماذا لا يكون من بين اهتمامانا الثقافية؟ أو لماذا لا يأخذ حظا محترما من هذه الاهتمامات، لا ف خصوص الدراسات الجامعية والأكاديمية وإنما أيضا في مناهجنا المدرسية، حق لا ينفصم حاضرنا عن ماضينا بالمرة، وحتى لا ينعزل هذان عن الواقع الإنساني العام، لأن الاستعداد – وإن لم يكن فطريا لدى جميع شعوب الأرض – فإن الصالة تحتاج إلى معاناة مستمرة، وتواصل الأزمنة، إذ ما كان لمجتمع يتعمد قطع صلاته بماضيه- ولا سيما إذا كان هذا الماضي مشرقا وضاء كماضينا – أن يحقق شيئا كثيرا في حاضره أنو أن يطمح إلى أن يصبح شيئا مذكورا في مستقبله.
وإذا كان (الماهتما غاندي) محرر القارة الهندية بمعونة (على جناح) و(محمد إقبال) مصيبا إلى أقصى حد، حين نادى بضرورة فتح النوافذ على العوالم الخارجية حتى يجدد هواء البيت ويتكيف، فإن الاقتصار على ما تحمله هذه النوافذ الخارجية مع التفكير في هجر الدار وذكرياتها وتاريخ تأسيسها ومن أسسوها وتحملوا العرق، وبدلوا الدم والتضحيات في سبيل إرساء قاعدها ورفع بنائها، ليس فحسب جهلا لقيمة الوطن أو المنبت والمنحدر لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم مهما يكن وضعها الاجتماعي – وإنما هو بالدرجة الأولى إنكار لأهم ميزات الأدب الواقعي.
أعني مؤثرات البيئة والمناخ، وبالتالي هو إنكار للمقومات الذاتية له، وللمجتمع الذي يصروه ويحاول بإيحاءاته وتوجيهاته الهادئة أو الصاخبة أن يطوره لما هو أحسن وأفضل، ثم هو أيضا تخل عن الالتزامية المنادى بها آنيا، وهروبا وإنسيابا من الواقع المفروض.
ومن هنا التزمنا نحن – في دراساتنا لهذا الجانب من الحضارة الفكرية للأمة العربية، والمغرب جزء من هذه الأمة، وترائها – تناول خصوص أدباء المغرب وشعرائه، ومعالجة أثارهم ومخلفاتهم مع محاولة إبراز تأثيره في أحداث زمانه أو تأثرهم بهذه الأحداث.
والتزمنا كذلك أن نتناول لا خصوص القلة المشهورين وإنما أيضا، وربما بالدرجة الأولى – أولئك المغمورين الذي تراكم على أخبارهم الطمى، وتحولت أضابير أخبارهم إلى خروم.
ومن هؤلاء هذه الشخصية الموحدية التي نحللها الآن محاولين عن طريق ما عثرنا عليه من أثراهم القليلة جدا أن نعالج بعض مناحيها.
وهذه الشخصية هي شخصية أبي عبد الله محمد بن علي بن العابد الفاسي...ونسبة ابن العابد الفاسية – أي إلى فاس – لا تعني قطعا انتماءه إلى أسرة الفاسيين الفهريين، إذ لم تكن ظهرت بعد الأسرة الفهرية الفاسية، ذات المجد العلمي على مسرح الأحداث، وإنما تعني هذه النسبة أن مسقط رأس الرجل أو منحدره هو مدينة فاس، تماما كأبي عشرة الفاسي قاضي الجماعة بمراكش لعهد مترجمنا، وقد تكون هذه النسبة هي الجامعة بين الرجلين والسبب الذي من أجله دعا القاضي أبو عشرة ابن العابد لتقلد مهام عقد الشروط والكتب عنه.
والمراكشي صاحب الإعلام لدى تقديمه ابن العابد الفاسي، لا يشير لا إلى تاريخ ولادته، ولا إلى تاريخ وفاته، وإنما يشير إلى أن الرجل (وفد على الأندلس في حدود الثلاثين وستمائة هجرية 630هـ) مما يثبت عصر المترجم له أي أنه العصر الموحدي وأنه ممن نشأ في عنفوان دولتهم وزاهر.
ويشير المراكشي بعد ذلك إلي كيف أن ابن العابد الفاسي لدى وفادته على الأندلس (ارتسم بالكتابة عن الأمير أبي عبد الله بن يوسف بن نصر بن الأحمر).د
ومن المؤكد أن الوصول إلى منصب من هذا القبيل يتطلب نضجا عقليا وتجربة غير قليلة وعمرا مناسبا الشيء الذي قد يدفعنا على الظن بأن صاحبنا هو من مواليد العشر الأوائل من سنوات القرن السابع الهجري...
أما متى غادر فاسا في اتجاه الأندلس، وما هي الفترة التي قضاها هناك، وهل توجه ابتداء برسم الكتابة عند الأمير ابن الأحمر؟ أم لتلقي العلم كما كان شأن جل علماء المغرب بذلك العهد؟ أم برسم الرباط والجهاد وقد كانت بلاد الأندلس يومئذ تعد دار رباط، وكان من ألزم ميزات العلماء لن يحجوا ويعتمروا ويعتكفوا ويرابطوا في الثغور برسم الجهاد، كل هذه الأسئلة لا يوجد عنها جواب محدد شاف.
أما من هم شيوخه الذين تلقى عنهم العلم والرواية، ومن هم تلامذته الذين تلقوا عليه ونقلوا عنه إلى غير ذلك من الأمور التي اعتاد مؤلفوا كتب الطبقات أن ينصوا عليها فهذه أشياء أيضا لا نجد عنها أي جواب.
إلا أن ما سبقت الإشارة إليه ممن أن ابن العابد (تلبس حينا بعقد الشروط والكتب عن قاضي الجماعة بمراكش أي الحسن بن محمد بن أبي عشرة الفاسي ومن توليه الكتابة للأمير ابن الأحمر، وما ثبت أنه كان مقصود الأدباء والشعراء يوجهون إليه إنتاجهم، التماسا لتشجيعه لهم، كما حدث لابن عبد الله الجنان، الذي فاتحه بالرسالة العينية، أو يمدحونه بأشعارهم كما تثبت المراسلة التي تمت بينه وبين أبي القاسم عبد الكريم بن عمران، والتي مهد لها ابن عمران هذا بالأبيات الشعرية التالية وهي أبيات تؤكد ما نذهب إليه من تغلب الروح الدينية والتصوف على أدباء ذلك العصر وقد جاء في هذه الأبيات:
إذا الشعر وافى في شعار ابن عاد = تقاصر فيه الوصف عن حسن موصـوف
سي مهج الرائين لألأ لــؤلــؤ له = فوق أجياد الاجادة مرصـــــوف
ورق نسيما فانتشق لهبوبــــه = شذا ورف من جنة الخلد مخصـــوف
يولد في أهل الوقار سماعه = خفوق اهتزاز مثلما شطح الصـوفي
لئن زان تأليفي ببعض قريضه = فقد تجتلى لحسناء في خشن الصوف
مل هذه الأمور تثبت:
أولا: إن الرجل كان ممن حيث الوضع الاجتماعي منسوبا في زمرة الفقهاء، وإنه لذلك كان على درجة عليمة عالية، أهلته لتقلد مهمة عقد الشروط وكتابة الضبط لفاضي الجماعة، خاصة إذا استحضرنا الأهلية المفروضة في هذا الصنف من الرجال معهد الموحدين، حيث كان يشترط، لا التفتح الفكري والعقلي، مع القدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة فحسب، وبما يتساوق والوضع العام – وإنما كان يتطلب بعد توفر كل ذلك وفرة التضلع الواسع والكافي لمعرفة عقائد القوم وأسس مذهبهم الكلامي.
ثانيا: إن الرجل كان ذا اتصال بالسياسة والشؤون العامة، إذ مهمة الكتابة للأمراء في تلك العصور، كانت تعني الكون على أهبة تقلد المهام الوزارية، بل كانت هي ومهمة الوزارة سواء إذ على أساسها يقع الاختيار على من ينصبون في مراكز الوزارات.
أما منحى تفكير الرجل ثقافيا، وموقفه من الأداء الفني، فقد تعطينا الجذاذات التبقية من آثاره- مع طفافتها – صورة تقريبية عنهما.
وهذه الجذاذات بصورة عامة لا تؤكد لنا بإطلاق صدق ما وصفه به صاحب الجذوة، حين تعرض له من أنه: (كان كاتبا محسنا وشاعرا مطبوعا)، فعلى كتابته النثرية- وكل ما لدينا منها رسالته التي رد بها على كتاب أبي القاسم عبد الكريم بن عمران المشار إليه آنفا – تبدو وصنعة السجع للمتكلف، وربما كان ذلك تقليدا لأسلوب العصر، كما يلاحظ عليه إيراد الغريب مع التلاعب بالألفاظ لمجرد لوكها.
وكنموذج لأسلوبه النثري نقتطف من تلك الرسالة هذه الفقرة: (أيها البحر الموهوب لفرادي الجواهر والتوام، والحبر اللعوب بأطراف الكلام، وفيت عين الكمال، وبقيت محروس الجمال تتألف لمن بارك في ارتياد البراعة، وتسبق من جاراك بجياد اليراعة، وتتبختر من ملابس السعادة في موشى برودها، وتظفر من أوانس الآمال المنقادة بشهي برودها..وصلتني رقعتك الخ)...
وأما آثاره الشعرية – وكل ما لدينا منها مما عثرنا عليه نحن هو خمس قطع فتبدو عليها هي الأخرى مسحة التقليد للشعر الأندلسي في مراحل عهوده الأخيرة، تناولا وأسلوبا ومجالا، من الإغراق في المحسنات اللفظية، من تورية، وطباق، وجناس، مع محاولة إدخال العناصر التجسيمة في الوصف دون اعتبار متزايد لرصف الكلمات.
وشعر العهد الأخير لدولة الموحدين يلاحظ عليه أنه انحدر من قمته التي كان يتسنها لعهد ابن هانئ وابن حبوس والجرواي إلى مسارب باهتة الألوان، معتمة الرؤيا، بل أوشك أن ينحصر – بعد أن انحسر مده في قوقعة المديح المعجوج والوصف المتكلف. كما غلبت على مظهره العام نغمة الغيبيات والتصوف التي لم تبلغ درجة شعر ابن الفارض أو حتى البوصيري.
ولعل مرد هذا الانحدار هو الشعور بالكبت الذي أحسته – أو فرض عليها – طائفة المثقفين من الفقهاء الذين أرغموا – بعد تثبيت الوجود الموحدي – على طرح أفكارهم جانبا، وعلى نبذ مذاهبهم العقدية وراءهم ظهريا، وإذ كان لا بد أن يتنفسوا فقد التجأوا على شعر الزهديات التافه، والتصوف الباهت، والكبت، مع الإغراق في فكرة ما، غالبا ما يؤدي إلى الانفجار أو الإغراق في ضدها، إلى هذه الفكرة، متى أحس التحرر منها.
وابن العابد الفاسي كما يبدو من خلال آثاره التي بين أيدينا، عالج – بالإضافة إلى المديح الذي كان النوع الغالب على شعراء تلك العهود – عالج الشعر الذاتي في مجالين: الوصف والغزل، وإن لم يبلغ فغي واحد منهما درجة ابن خفاجة – مثلا – أو بان هانئ، ولا مرتبة عمر بن ربيعة أو صريع الغواني مسلم بن الوليد.
على أن حكمنا عليه بهذا قد يكون فيه بعض التحامل، إذا قدرنا – وهذا ما يحدث الآن – أن الكثيرين من المشتغلين بالشعر في شرخ شبابهم وعنفوان حياتهم وأوائل امتهانهم للكتابة: نثرا أو شعرا، يحاولون – متى تقدمت بهم السن واحتلوا مراكز لها أهمية في نظر مجتمعهم تفوق أهمية الأدب والشعر، الابتعاد عن هذه المجالات، وقد يتملصون مما قد كان سجل عنهم في مبدأ حياتهم تلك، ويتحامى الكثيرون من هؤلاء أن ينسب إليهم شعر ما إطلاقا، وخاصة الشعر الغزلي منه.
وهذا الموقف من مثل هؤلاء كان أحد الأسباب المهمة والرئيسية في ضياع الكثير من آثارنا الأدبية، وحتى لبعض الذين ما يزالون يعيشون الآن بيننا. وأروع ما سجل عن هذه الظاهرة أو من أروعه. ما كتبه محمد بن الطيب العلمي في مقدمة كتابه (الأنيس المطرب فيمن لقيته من أدباء المغرب) حيث قال: "قيدت مائة من الرجال، وأزمعت أن أبيض بهم غرر الكتاب والاحجال، فلم أجد معي شيئا من أنبائهم، ولم أرم إلا بسهام الخيبة من أبنائهم، فآثرت الاختصار، وعلمت أن جنة تلك الآمال أصابها الإعصار، واقتصرت من الرجال على المشهورين والجمهور، وأطلعت فيه من الأهلة بعدد الشهور". ويعين اثني عشر أديبا. فابن الطيب العلمي كان – وهو يهم بوضع كتابه يريد أن يختار لمائة ممن يعرف من الأدباء، وبكن عاقه عن ذلك ضياع الآثار، وقلة ما يتوفر عليه ممن هم في مرتبة الاطلاع من أخبار، وبمثل هذه الأسباب ضاع أكثر تراثنا. فهل ما قاله المرحوم الأشتاذ (حجي) الذي كان كتب مرة في جريدته (المغرب) عن بعض شبابنا المعاصرين يصفهم بأنهم يعرفون كل شيء عن أوروبا والعالم الغربي ولا يعرفون البدهيات عن بلادهم، هي قالة ما تزال صادقة مطبقة فينا وعلينا؟ وبعد فما هي آثار ابن العابد الشعرية؟
وفي هذا المجال نجد لابن العابد في الغزل قطعتين، وأخريي في الوصف، وخامسة في المديح، والقطعة الأولى من غزله هي عبارة عن بيتين اثنين وفي وصف أخوين وسيمين، وقد جاء فيما.
في ابني محمد – إن نظرت = – عجائب إخوان: ظني احور وحوار
لمن الجمال يوجه ذلك منائـــــر = ومن الجمال بظهر ذاك آثار
أما القطعة الثانية من غزله فقد جاء فيها:
وشادن في القلب مرتعــه = مرهف القد أهيف الخصـر
نشوان من خمر مقلتـــه = فما تفيق أعطافه من السكر
رماه قوم بالنقص حين = غدا يزري جمالا على سنا البدر
قالوا سواد بدا بمبســـمه = وما عهدنا الواد في الـدر
فقلت ما ذلكم بعائبــــة = كفوا فعندي حقيقة العـذر
حبة قلبي رأت مقبلــــه = فأفلت من جوانح الصـدر
وارتشفت خمر ريقه فسرى سوادها عند ذلك في الثغر
ثم ثوت فوقه مخـــبرة = من عابه كنه ذلك الأمـر
أما قطعتاه الوصفيتان، فقد جاء في إحداهما، وهي تلك التي يصف فيها شاربا رعف- وصاغ ذلك في بيتين –
ومهفهف البدر حسن جبينه = وليانع الأغصان مائس عطفــه
لما أراق دمي، ولاح بخده = أجراه – قصد إغاظتي – من أنفه
أما قطعته الوضفية الأخرى، فقد وجدت مبتورة، وقد سلم من البتر هذه الأبيات، ثم هي في وصف الحمام، يقول فيها:
زبرجد ضم على لؤلــؤ = صاغهما متسكب القطــر
فاجتمعت أطعمة، حق من = اعطيها، الاقرار بالشكــر
فلم نزل نجهد في ضرها = حتى أراحتنا من الضــر
وحين ضم الليل أذيالــه = وانتشرت ألوية الفجـــر
قمنا لبيت حرج مظلــم = كأنما ادرج في قبــــر
تلوح في اقبائه أنجــم = نقضيه للأنج الزهــــر
تبدو نهارا فإذا ما بـدا = جنح الدجى غارت ولم تسر
يا طيبه ليلا ويا حسنه = صبحا، لقد حاز أسنى العمر
أما مجال المديح، فلم نعثر – فيما بين أيدينا من مراجع – من آثار الرجل على غير هذه الأبيات التي وردت تمهيدا للرسالة الجوابية التي رد بها صاحبنا على رسالة أبي القاسم بن عمران المراكشي، وهي أبيات تشكو من تكلف الصنعة ما يبعدها عن شعر الرجل الذي أوردنا نبذا منه قبل، جاء في هذه الأبيات:
إذا قيل: من رب القريض الذي له = يدين؟ فقل: عبد الكريم بن عمران
حباني بروض من نتيجة فكــره =يروق به للنظم والنثر زهـران
ونزهني في خطه وبيانـــه= فمن سامع مصغ إليه ومـن ران
كأني به فخرا تهنأت لبســه = ومن ليس أثواب الإجادة أعراني
وبعد، أفلا يجب – ونحن كما قال أحمد شوقي الشاعر المصري:
(أمة تنشيء الحياة وتبني= كبناء الأبوة الأمجاد؟)
إن نعمل على إحياء تراثنا وإن نقض عن أضابيره وخرومه الغبار؟ ونستلهم من بعض أبعاده الدروب التي سلكها أولئك الرواد الأولون، حتى نتجنب الزلل ونتعرف أكثر إلى مواقع أقدامنا ماضيا وحاضرا واستقبالا؟ وهذا أقل ما يجب علينا تجاه أولئك الأجداد.
دعوة الحق العدد 240 ذو الحجة 1404/ شتنبر 1984