نقوس المهدي
كاتب
لم يتبوَّأ الأدب المغربي القديم عامة والنقد خاصة المكانة التي يستحقها من لدن الدَّارسين والباحثين العرب، ولا حتَّى المستشرقين، إلاَّ ما جاء عرضا في بعض المؤلفات من هنا وهناك مشرقا و مغربا، ولكنها تبقى دون مستوى هذا الإرث الكبير. فالأدب العربي القديم في بلاد المغرب العربي ما يزال في حاجة ماسَّة إلى البحث والدراسة و التحليل؛ذلك لأنَّ ما كُتب عنه حتى الآن لا يعكس الصورة الحقيقية لهذا الموروث الأدبي والفكري والحضاري، ولا يُعطي انطباعا صحيحا وصادقا عن الحركة الأدبية والنقدية في ربوع المغرب العربي الكبير قديما.
لهذا لا نستغرب ولا نتعجَّب عندما نقرأ في بداية مقدِّمة كتاب(النقد الأدبي في المغرب العربي) لعبد عبد العزيز قلقيلة هذا الكلام: "وقد يسأل البعض: هل يوجد نقد أدبي في المغرب العربي؟ وأجيب عن خبرة وبكلِّ ثقة: نعم يوجد نقد أدبي في المغرب العربي."[[1]]، وسبب هذا التساؤل ـ الذي قد يبدو غريبا للبعض ـ أنَّ آراء الباحثين والدَّارسين للأدب المغربي القديم عموما تباينت واختلفت كثيرا؛فهناك من يسِمُه بالضعف الفنِّي في معظمه،وهو لا يرقى لأن يصير أدبا مستقلا بنفسه،وبعضهم يُلحقه بالأدب الأندلسي، فيما يرى آخرون أنَّه لا وجود لما يُسمَّى بالأدب المغربي أصلا،في حين نجد فريقا آخر يُقرُّ بوجود هذا الأدب، ويعترف بأصالته وتميُّزه،وهو لا يقلُّ قيمة ومكانة عن صنويه المشرقي والأندلسي.
فالنقص الواضح والكبير في الكتب التي تتناول الأدب المغربي دراسة وتحليلا و تأريخا، والتغييب العفوي أو المتعمَّد للأدب المغربي من بعض الكتَّاب والأدباء المشارقة في مؤلفاتهم التي تؤرِّخ للأدب العربي ـ هذا بطبيعة الحال إذا استثنينا الأندلس ـ هو الذي جعل البعض يتطاول ويتجاسر ويطرح مثل هذا السؤال.
وهنا لابُدَّ أن أشير إلى نقطتين أساسيتين، أرى أنهما كانتا سببا في الحالة المزرية التي آلت إليها حالة الأدب والنقد في المغرب العربي القديم، وتتمثَّل في:
- عدم اهتمام معظم المغاربة ـ سلفا وخلفا ـ بإنتاجهم الأدبي و الفكري، وانشغالهم عنه بالأدب المشرقي،الذي يرون فيه الأنموذج والمثل الأعلى،وهي نظرة قاصرة ظلَّ عليها المغاربة لفترة طويلة من الزمن؛إذا ذكروا الشعر فإنَّهم يذكرون امرئ القيس والمتنبي وأبا تمَّام والبحتري،وغيرهم من شعراء المشرق،وإذا تناولوا النقد ذكروا الجاحظ و قدامة والجرجاني والعسكري وغيرهم من النقاد المشارقة،وإذا كتبوا أدبا كتبوه بصبغة مشرقية فيها الكثير من التقليد، والقليل من الإبداع.
وقد كان الصَّاحب بن عبَّاد صادقا إلى حدٍّ كبير حين قال:" بضاعتنا رُدَّت إلينا "، عندما وصله كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربَّه، إذ كان يتوقَّع أن يجد في العقد الفريد أدبا وشعرا مغربيا وتعريفا بمنتوجهم الأدبي والثقافي، إلاَّ أنَّه وجد فيه أدبا مشرقيا خالصا،وهذا تأكيد للرأي الذي يُقرِّر فيه أصحابه أنَّ المغاربة كانوا على الدوام مفتونين بالمشرق، ومولعين بإنتاجات أعلامه.
وهذا ما لاحظه عبد السلام شقور عند النقاد المغاربة؛ حيث أهملوا تماما الشعر المغربي في كتبهم، ولم يذكروه إلا نادرا، فيقول في ذلك: " نعم نحن لا نجد لدى صاحب (المنزع البديع)، ولا لدى مؤلِّف(الروض المريع)، ولا لدى غيرهما أيَّ عناية بالشعر المغربي، لم يُورد النقاد المغاربة شعرا للمغاربة فيما ألَّفوه في باب النقد لا على سبيل الاستشهاد ولا على سبيل التمثيل أو الإيضاح، إنَّ إهمال الشعر المغربي القديم من لدن النقاد والشُرَّاح المغاربة أمر يبعث على الدهشة حقًّا."[[2]]
وهذا الكلام صحيح؛ فلو تأمَّلنا ـ زيادة على ما ذكر عبد السلام شقورـ كُتب النقد في المغرب العربي، سنجد أهمَّها ألا وهو كتاب (العمدة)، لم يحفل إلاَّ بالقليل من الشواهد الشعرية أو النثرية لشعراء أو كُتَّاب مغاربة، وهذا القليل لا يكاد يُذكر أو يتميَّز. وهو ما ذكره وبيَّنه عبد الرؤوف مخلوف في كتابه(ابن رشيق القيرواني)؛ حيث جاء في معرض حديثه عن (العمدة): " ويلفت نظر الباحث أنه لم يرو عن الأندلسيين، اللَّهم إلا أن يكون عن صاحب (العقد الفريد)، على قلّة وندرة. وتعليل ذلك فيما أرى؛ أنَّ أهل المغرب كانوا يتّخذون من أهل المشرق وعلمائه لأنفسهم إماما."[[3]]، وكذلك هذا الكلام ينطبق على كتاب (بغية الرَّائد فيما تضمَّنه حديث أمِّ زرع من الفوائد) للقاضي عياض، وهو كتاب نقدي بامتياز، جاء فيه صاحبه بشواهد كثيرة من عيون الشعر العربي، للمتنبي وأبي تمَّام والبحتري وغيرهم من شعراء المشرق، كما اعتمد كليا على نقادهم في تفسيره البلاغي لحديث أم زرع.
وفي المقابل نجد الطرف الآخر وأعني إخواننا المشارقة؛فقد اختلفت رؤاهم ونظراتهم للأدب المغربي ـ وهنا يجب أن نستثني الأدب الأندلسي ـ لأنَّه لقي اهتماما خاصا من طرف المشارقة، بالرغم من أنَّه من الناحية الجغرافية فالأدب الأندلسي هو أدب مغربي. ولكنَّ قصدي هنا الأدب في الأقطار المغاربية المعروفة جغرافيا بالمغرب العربي. فمن أولئك من ينظر إلى الأدب المغربي نظرة فوقية استعلائية فيها من الاحتقار والازدراء والاستصغار و التهميش ما فيها،بل ويتعمَّد بعضهم تجاهل ونكران الأدب المغربي، ودليل ذلك عدم التعرُّض إليه في كتبهم ومؤلفاتهم ـ في الغالب الأعمِّ ـ حتَّى نكون منصفين وصادقين في حكمنا،وإن ذكروه فإنَّهم يكتفون بالأدب الأندلسي الذي يعتبرونه سليل الأدب المشرقي ووليده. فهم يرون أنَّ المشارقة أهل إبداع،وأنَّ المغاربة أهل فقه وهوامش؛ ممَّا يُفيد عندهم، أنَّ الإبداع الحقَّ مصدره المشرق،في حين ينحصر دور المغاربة في الشرح والتعليق ووضع الهوامش.[[4]]
إنَّ ما كُتب لحدِّ الساعة من أبحاث ودراسات عن الأدب القديم في المغرب العربي لا يعكس أبدا قيمة وعظمة هذا الموروث الفكري والحضاري والأدبي لهذه المنطقة، هذا في الأدب عموما. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة، لعلَّ محمد مرتاض قد أجملها بقوله: " لقد كان البحث في أدب المغرب العربي القديم حتَّى عهد متأخِّر يُعدُّ من قبيل المغامرة و التحدِّي، وذلك بسبب ما يعرف هذا الحقل المعرفي من انعدام للمظانِّ التي تتكفَّل ببيئة معينة،أو يأخذها على عاتقه منبع معيَّن،بل يُلاحظ الباحث المتَّجه هذا الاتجاه أنَّ المشارب والاتجاهات متعدِّدة ودفينة في مختلف الموضوعات من فقهية وتاريخية وأدبية و نقدية."[[5]]
صحيح أنَّ هناك كتابات ودراسات ظهرت في عصرنا الحديث أماطت اللثام ـ ولو قليلا ـ عن الأدب المغربي القديم، وأصحابها يستحقون بذلك الشكر الجزيل والثناء الجميل على ما بذلوه، خدمة لأمَّتهم وإظهارا لأدبهم وتراثهم. وذلك من خلال عدَّة مظاهر سواء من خلال التأريخ الأدبي كما نجده عند عبد الله كنون، وكتابه القيِّم (النبوغ المغربي في الأدب العربي)، ومحمد بن تاويت وكتابه(الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى)،وإن كان الكتابان معنيين بقطر معيَّن وهو المغرب الأقصى بالتحديد، فجاء كلٌّ منهما خاصا لا عاما،قطريا لا إقليميا. وكذلك ما قام به رابح بونار من خلال كتابه(المغرب العربي تاريخه وثقافته)،ويغلب على هذا الكتاب الجانب التأريخي أكثر من الجانب الأدبي،أو من خلال التحقيق كما نجده عند منجي الكعبي في تحقيقه لكلٍّ من كتاب (الممتع) لعبد الكريم النهشلي، وكتاب (الضرائر الشعرية) للقزَّاز،وما قام به الكثير من المحققين لكتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني، ولعلَّ من أبرزهم محمد محي الدين عبد الحميد و النبوي عبد الواحد شعلان،أو من خلال البحث والدراسة ككتاب عبَّاس الجراري(الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه)،وكتاب محمد طه الجابري(دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية في المغرب العربي)،والكثير من الرسائل الجامعية في شتَّى الجامعات في الأقطار المغاربية. أمَّا في مجال النقد، فإنَّ الأمر أسوأ حالا، وأصعب منالا،وسببه كما يرى مرتاض دائما: أنَّ البحث في مجال النقد والدراسات التي كُتبت تُعدُّ على الأصابع،وما كان منها فهو من المغرب وتونس، أمَّا في الجزائر فما يزال هذا الموضوع بكرا.[[6]]
وإذا بحثنا عمَّا كُتب في مجال النقد الأدبي في المغرب العربي القديم، فإننا نجد ـ على استحياء ـ بعض الكتابات التي كان لها الفضل الكبير في إبراز العديد من الأسماء وبيان ما دوَّنوه في هذا الباب. ومن هذه الكتابات نجد (النقد الأدبي في المغرب العربي) لعبده عبد العزيز قلقيلة،وكتاب (الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي) لبشير خلدون،وكتاب(النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي) لأحمد يزن، وكتاب (النقد الأدبي القديم في المغرب العربي نشأته وتطوره ـ دراسة وتطبيق ـ) لمحمد مرتاض،وكتاب (المقاييس البلاغية والنقدية في قراضة الذهب في نقد أشعار العرب لابن رشيق القيرواني) لمحمد بن سعد الدبل،وكتاب (القاضي عياض الأديب) لعبد السلام شقور، ومؤخَّرا ظهر كتاب آخر لمحمد مرتاض بعنوان (النقد الأدبي في المغرب العربي بين القديم والحديث).
و دون شكٍّ تُعدُّ هذه الأعمال إسهامات جادة ودراسات جليلة قيِّمة، نستطيع من خلالها استكشاف كنوز دفينة وآثار عظيمة كادت عوارض الدهر أن تُزيلها أو تمحوها. ومع هذا كلِّه فالساحة النقدية لا زالت بحاجة ماسَّة إلى المزيد من الدراسات والبحوث والرسائل في هذا التخصص بالذات، لأنَّ الجامعات المغاربية ـ وللأسف الشديد ـ تكاد تكون خالية من مثل هذه الأعمال، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بين دول المغرب العربي، وهذا الأمر ما عاينه محمد مرتاض، وآلمه وجعله يتحسَّر بمرارة شديدة لهذا الوضع المزري في جامعاتنا الجزائرية خاصة،حيث قال: "وقد يُصاب المرء بحسرة وهو يُقلِّب برامجنا الجامعية فلا يلفي إلاَّ صورة باهتة لهذا الأدب ونقده."[[7]]
وهذا الواقع المرير للأدب المغربي القديم و نقده، يجعلنا نقرُّ ونعترف ـ وهو من باب المصارحة والمكاشفة مع أنفسنا ـ بأنَّ الأدب المغربي القديم ونقده لم يحظ بما حظي به الأدب والنقد العربيين في المشرق و الأندلس؛فإخواننا في المشرق العربي استطاعوا إلى حدٍّ كبير تدوين معظم ما تعلَّق بالحركة الأدبية في منطقتهم ـ قديمه وحديثه ـ وكذلك ما تعلَّق بالأدب الأندلسي. ولكن ما كان متصلا بالمغرب العربي فلم يتناولوه إلاَّ نزرا. وهذا ما انتبه إليه بشير خلدون، وجعله يقول في مقدِّمة كتابه(الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي)، يقول: "ستظلُّ الخزانة الأدبية العربية غير كاملة بفقدانها لجانب هام من تراثنا الحضاري: الفكري والأدبي."[[8]]
ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح في هذا المقام،وبصراحة تامة: مَن الذي يُلام في إهمال هذا التراث والموروث الأدبي في بلاد المغرب العربي؟! هل هم المشارقة، أم المغاربة أنفسهم؟ كيف نلوم المشارقة،ونحن مقصِّرون؟! بل وناكرون لتراثنا الأدبي والثقافي والفكري في بعض الأحيان! فإذا جاز لنا أن نلوم بعض المشارقة فإننا نلومهم على عدم تحرِّيهم الدِّقة في حكمهم على هذا الأدب في هذه الربوع، واتِّهامهم إيَّاه بالقصور والتبعية والتقليد في عمومه.
هذا القصور والإهمال من أبناء المغرب العربي تجاه موروثهم الأدبي والفكري جعل بشير خلدون يتوجَّه إلى أبناء هذه المنطقة حاثًا إيَّاهم على تحمُّل مسؤولياتهم تجاه إرثهم وتراثهم الذي ضاع منه الكثير، وأوشك الباقي منه أن يضيع كذلك، قائلا: "من هنا يأتي دور أبناء المغرب العربي ليتحمَّلوا عبء هذه المسؤولية الشاقة، ويقوموا بالمهمة على الوجه الذي نريده لها، وهم إذ يخدمون تراثهم بالقياس إلى إقليمهم الضيق، فإنَّهم يُقدِّمون في الوقت نفسه خدمة قيِّمة للأدب العربي، باعتباره جزءا من تراثنا الحضاري العربي الإسلامي".[[9]]
ومن قبل ذلك حزَّ هذا الأمر ـ ومنذ سنوات عدّة ـ في نفس عبد الله كنون ألاَّ يجد سطرا واحدا عن الأدب المغربي في كتب تاريخ الأدب العربي، فبادر إلى وضع كتابه (النبوغ) ليقف جنبا إلى جنب مع تلك الكتب التي تُؤرِّخ للأدب العربي. فهو يرى أنَّ الأدب المغربي ظلَّ مُتجاهَلا لدى طائفة كبيرة من المهتمين بتاريخ الأدب العربي سواء من المشارقة أو غيرهم، فكانت الحاجة ماسَّة لإخراج كتاب (النبوغ) قصد تصوير الحياة الفكرية والأدبية والسياسية للمغرب وتطوُّرها عبر العصور، إذ يُشير إلى ذلك موضِّحا الغاية والدَّاعي من التأليف قائلا: " لـمَّا ألَّفتُ هذا الكتاب لم أكن أهدف به إلى تمييز أدب المغرب بميزة ليست في الأدب العربي العام، ولا إلى تخصيصه ببحث مستقلٍّ يجعله في نظر المغاربة أو غيرهم كتابا خاصًّا بأدب قطر من أقطار العروبة على حدته، وإنَّما كان مقصودي الأهم من تأليفه هو بيان اللَّبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلُّها."[[10]]
ثنائية النقد والبلاغة في الموروث العربي والمغربي:
إنَّ العلاقة بين النقد والبلاغة في الأدب العربي القديم أثارت ـ ولا زالت ـ الكثير من التساؤلات والنقاشات، وذلك بسبب هيمنة الجانب البلاغي على النقد القديم. فالنقد كان نقدا بلاغيا، والبلاغة كانت بلاغة نقدية، وهذا في الغالب الأعمِّ. ومعنى ذلك اعتماد النقد على مقولات وفنون البلاغة، واعتماد البلاغة على الحسِّ النقدي، فالنقد الأدبي كما يقول مصطفى عبد الرحمن إبراهيم هو" أبو البلاغة العربية في حجره نشأت، وفي رحابه درجت، فهي تُنسب إليه وتنبثق عنه، ولهذا توثَّقت الصلة بينهما."[[11]]
والدارس لبدايات النقد والبلاغة وخاصة في قرونه الأربعة الأولى، يتبيَّن له مدى امتزاجهما وارتباطهما الوثيق في طور النشأة والتكوين، بل يقف على وحدة هدفهما في نقطة الانطلاق ومساحة العمل، وهذا الامتزاج جعل من العسير الفصل بينهما في هذه المرحلة خاصة، فقد تداخلت المباحث البلاغية والنقدية تداخلا يصعب معه وضع الفواصل والحدود بما يُميِّز كلَّ علم عن الآخر قبل مرحلة التقعيد، "ولعلَّ من أسباب ذلك أنَّ النقد لم يظهر عند ظهوره، علما مستقلا بنفسه، ولم تظهر البلاغة عند ظهورها علما مستقلا بنفسه، وربما لم يظهر غيرهما مستقلا بنفسه أيضا، وذلك يعود إلى طبيعة التأليف في العلوم في المرحلة الأولى، التي تمَّ فيها تثبيت المعالم الأولية لكل علم."[[12]]
وهذا ما يُقِّره كذلك أحمد مطلوب؛ فهو يرى أنَّ الباحث مهما صنَّف النقد القديم في اتجاهات، يجد أنَّ النقد العربي كان بلاغيا، ويُرجع ذلك إلى أسباب كثيرة، ثمَّ يقول: "ومهما قيل فإنَّ النقد العربي مرتبط بالبلاغة ارتباطا وثيقا لأنها أهم أركانه، ولأنَّها أهم سمات اللغة العربية التي حفلت بكلِّ فن بديع."[[13]]
كما نجد حسين الأسود يصف تلك العلاقة بين النقد والبلاغة وصفا بديعا؛ حيث يُشبِّه تلك العُرى الوثيقة بين النقد والبلاغة بالحبل السُرِّي الذي يربط الجنين بأمِّه، ويُمدّه بكلِّ ما يحتاج إليه، فيقول: " والحديث عن الأصول التي تجمع البلاغة بالنقد القديم إنَّما هو حديث عن الحبل السُريّ الدقيق الذي يصل البلاغة بالنقد. أمَّا سبب وجود هذا الحبل وعلَّته فهو الطاقة الجمالية التي تُفرزها البلاغة العربية، ثمَّ اعتماد أسباب هذه الطاقة في الأحكام النقدية، فالبلاغة عناصر جمالية، والنقد بوجهٍ عام أحكام تستند إلى هذه العناصر."[[14]]
فالبلاغة نبتٌ تمتدُّ جذوره من رحم النقد الأدبي، وعلاقتها به علاقة الجزء بالكلِّ، والفرع بالأصل، فالنقد هو المنبع وهو الأساس الذي استقت منه وقامت عليه قواعد البلاغة، "وإذا كان هدف النقد البحث عن الجمال، ومحاولة إحصاء مظاهره، والإشادة به، وذِكر القبح في معرض التنديد به والتحذير منه، فإنَّ البلاغة هي ثمرة هذا البحث، ومجتمع مظاهر الجمال، صيغت في فصول وأصول وقواعد."[[15]]
ولابُدَّ أن نشير هنا إلى أنَّ العامل الرئيس الذي جعل المسلمين يهتمون بالبلاغة هو خدمة كتاب الله، وبيان إعجازه، فلقد اختلط العرب الفصحاء بغيرهم، وضعفت فيهم سليقة الذوق الفطري في التعامل مع النصوص الأدبية عموما، والنص القرآني على وجه الخصوص، ثمَّ إنَّ دعوة الإسلام وصلت إلى أقوام مختلفين في لغاتهم، كما أُثيرت شكوك ومطاعن في بلاغة القرآن وإعجازه، فكان هذا أهمَّ الأسباب في اتجاههم إلى البلاغة باحثين فنونها وموضحين أقسامها لتكون لهم عونا على فهم كتاب الله، فانكبُّوا على البحث في تفاصيلها، والتأليف في مواضيعها. وقد أشار إلى هذا الهدف السامي الكثير ممَّن ألَّفوا في البلاغة، فهذا أبو هلال العسكري يقول في مقدِّمة كتابه (الصناعتين): " اعلم علَّمك الله الخيرَ، ودلَّك عليه، وقيَّضه لك، وجعلك من أهله: أنَّ أحقَّ العلوم بالتعلُّم، وأولاها بالتحفُّظ ـــ بعد المعرفة بالله جلَّ ثناؤه ـــ علمُ البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحقِّ، الهادي إلى سبيل الرُّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحَّة النبوَّة، التي رفعت أعلام الحقِّ وأقامت منار الدِّين، وأزالت شُبَه الكُفر ببراهينها، وهتكت حُجُب الشكِّ بيقينها. وقد علمنا أنَّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمُه بإعجاز القرآن من جهة ما خصَّه الله به من حُسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمَّنه من الحلاوة، وجلَّله من رونق الطَّلاوة، مع سهولة كَلِمِه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلقُ عنها، وتحيَّرت عقولهم فيها."[[16]]
ومع نهاية القرن الرابع الهجري، وهو ما يعتبره الكثير من الدارسين العصر الذهبي للبلاغة، تميَّزت كلمة البلاغة بمدلول ومفهوم اصطلاحي خاص بها، " فألَّف عبد القاهر الجرجاني كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، وهو مُدرك لهذا المدلول تمام الإدراك. ويقول المؤرِّخون للبلاغة إنَّ عبد القاهر هو الذي وضع الأسس الواضحة لهذا العلم، بتأليفه كتاب (أسرار البلاغة) في علم البيان، و(دلائل الإعجاز) في علم المعاني."[[17]]
وممَّا تجدر الإشارة إليه كذلك، أنَّ البلاغة العربية تأثَّرت باتجاهين أو بمدرستين مختلفتين، هما المدرسة الأدبية والمدرسة الكلامية، وكان لهما الدور الكبير في ثراء البلاغة وتميُّزها واستقلالها نهائيا عن النقد الأدبي.
فالمدرسة الأدبية طبعت بحوث البلاغة بطابع أدبي بحت، يعتمد على الذوق الرفيع والسليم، وكان بيان إعجاز القرآن الكريم أهمَّ العوامل المساعدة على ذلك، كما كان للكُتَّاب والشعراء أثـــرٌ واضح وبارزٌ على البلاغة،في هذه المدرسة، ممَّا جعلها منذ عهد مبكِّر تتجه اتجاها أدبيا بعيدة عن منهج المدرسة الكلامية،ومن خصائصها التي تُميِّزها عن المدرسة الأخرى أنَّها لم تهتم كثيرا بالتحديد والتقسيم، وإن فعلت فعلى غير تعمُّق، ونبذت وحاربت المنطقيات ومسائل الفلسفة، واستعملت المقاييس الفنية في الحكم على الأدب، ولذلك نجدها مرة تستطيع التعليل، ومرَّة لا تستطيع ذلك،وتُرجعه إلى الذوق والإحساس الفني، وأسلوب كُتبها سهل لا يحتاج إلى عناء كبير لفهمه، كما أسرف رجالها في ذكر الشواهد والأمثلة. وأهم كُتبها التي تضمَّنت خصائصها كتاب (البديع) لابن المعتز،وكتاب (الصناعتين) للعسكري،و(سرّ الفصاحة) لابن سنان الخفاجي، و(أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجاني، و(البديع في نقد الشعر) لابن منقذ، و(المثل السائر) و(الجامع الكبير) لابن الأثير، و(بديع القرآن) و(تحرير التحبير) لابن أبي الإصبع، وغيرها. [[18]]
ونتيجة لتأثير الفلسفة والمنطق وعلم الكلام مبكِّرا على البلاغة في الفكر العربي والإسلامي؛ انعكس ذلك على الدرس البلاغي وتعمَّق هذا الأثر، وظهر جليًّا في القرن السادس للهجرة وما بعده. فكانت المدرسة الكلامية التي اهتمت بالتحديد الدقيق والتقسيم العقلي، وجَعْلِ التعريف جامعا مانعا، واستعمال أساليب المتكلِّمين في بحث الموضوعات وحصرها، والإقلال من الأمثلة الأدبية، وقد يذكرون أمثلة لا جمال فيها؛ لأنَّ صحة الشاهد أو المثال عندهم أصل كلِّ شيء، أمَّا جماله وما يبعث في النفس من إحساس أو شعور فني فلم يُوجِّهوا عنايتهم إليه، وكان من أبرز نتائجها على البلاغة العربية أن تبلورت ملامحها وتحدَّدت معالمها، وذلك بجمع شتاتها، وترتيبها، وتقعيدها وتبويبها، وتقسيمها إلى ثلاثة علوم هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. وأهمُّ كتبها (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) لفخر الدين الرازي و(مفتاح العلوم) للسكاكي و(تلخيص المفتاح) و(الإيضاح) للقزويني و(عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح) لبهاء الدين السبكي، وغيرها من شروح التلخيص الأخرى. [[19]]
هذا إجمالا وبإيجاز ما كانت عليه علاقة النقد بالبلاغة في الأدب العربي عند المشارقة، أمَّا إذا عرَّجنا إلى النقد العربي في المغرب الإسلامي فإنَّ الأمر لا يختلف عمَّا رأيناه في المشرق، فمفهوم البلاغة و تقسيماتها، وألوان كلِّ قسم منها ظلَّت متداخلة ومضطربة نوعا ما عند المغاربة إلى فترة متأخِّرة. يقول محمد مفتاح في كتابه (التلقي والتأويل): " يرى متتبع البلاغة العربية في المغرب أنَّ التسمية بـ (علم البلاغة) لم تسد إلا في عصور متأخِّرة باعتبارها علما شاملا للعلوم الثلاثة: المعاني والبيان والبديع"[[20]]، ويستدل على ذلك بما ذكره ابن خلدون في مقدِّمته؛ فقد استعمل مصطلح(البيان) ويقصد به (البلاغة)، وقد علَّل ابن خلدون ذلك بقوله: "وأُطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسمُ البيان، وهو اسم الصنف الثاني؛ لأنَّ الأقدمين أوَّلُ ما تكلَّموا فيه".[[21]] ويُؤكِّد محمد مفتاح هذا الحكم بذكر مثالين؛ الأول يتعلَّق بالسجلماسي صاحب كتاب(المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع)، حيث يستعمل ثلاث تسميات، هي: (علم البيان) و(صنعة البلاغة) و(البديع)، إلاَّ أنه كثيرا ما يُردِّد (علم البيان) و(صنعة البلاغة). والثاني هو ابن البناء المراكشي العددي، صاحب كتاب(الروض المريع في صناعة البديع)، فيتحدَّث عن (البلاغة) و(صناعة البديع) وعن (علم البيان)، ويرى أنَّ العلم أشمل وأعمُّ من الصناعة؛ لأنَّ العلم يُميِّز الكليات ويُميِّز الجزئيات، وأمَّا الصناعة فتعطي القوانين الكلية التي تنضبط بها الجزئيات، وعلى هذا يخلص إلى أنَّ (علم البيان) أعمُّ وأشمل من (صنعة البلاغة) و(صناعة البديع).[[22]]
وما ذكره ابن خلدون وأكَّده محمد مفتاح يُثبت أنَّ هذا المصطلح (علم البلاغة) احتلَّ شيئا فشيئا مكانة (علم البيان)، وفرض نفسه كما يقول محمد مفتاح: "بعد مجيء كُتب القزويني إلى المغرب"[[23]]
والذي يعنيني من هذه الدراسة ليس تتبّع مسار علم البلاغة بأقسامه وأنواعه عند نقاد المغرب العربي في محطات زمنية متتالية، وإنَّما القصد هو الوقوف على مدى صحة مقولة ابن خلدون حينما عرض لعلم البيان وقارنه بين المشارقة والمغاربة، ورأى بأنَّ أهل المشرق هم أقدر على علم البيان، بينما اختصَّ أهل المغرب بعلم البديع. واضعا كتاب (العمدة) لابن رشيق نموذجا في دراستي، ومنطلقا بطبيعة الحال من مقولة ابن خلدون.
بين المشارقة والمغاربة:
هذه الآراء السالفة الذكر، التي تُنكر الأدب المغربي أو ترميه بالقصور وتتَّهمه بالتقليد والتبعية للمشرق قد وجدت في مقولة ابن خلدون مُرتكزا ودعامة لآرائهم تلك؛ فكلما تناولوا هذه المسألة إلا وأوردوا مقولة ابن خلدون في مقارنته بين أهل المشرق وأهل المغرب في علوم البيان التي تعني اليوم علوم البلاغة،فهو يقول: " وبالجملة: فالمشارقة على هذا الفنِّ أقوم من المغاربة،وسببه ـ والله أعلم ـ أنَّه كماليٌّ في العلوم اللسانية،والصنائعُ الكماليَّةُ توجدُ في وفور العُمران،والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه،أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كلُّه مبنيٌّ على هذا الفنِّ وهو أصله. وإنَّما اختُصَّ بأهل المغرب من أصنافه علمُ البديع خاصَّة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرَّعوا له ألقابا وعدَّدوا أبوابا ونوَّعوا أنواعا. وزعموا أنَّهم أحصوها من لسان العرب، وإنَّما حملهم على ذلك الولوعُ بتزيين الألفاظ، وأنَّ علم البديع سهلُ المأخذ، وصعُبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقَّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما"[[24]].
وهذه المقارنة بين المشارقة والمغاربة ليست الوحيدة في المقدِّمة، فقد تعدَّدت مرَّات كثيرة، فكلَّما استعرض ابن خلدون صناعة من الصنائع سواء كانت فكرية أو يدوية إلاَّ وأتبعها بما هي عليه في المشرق والمغرب، أو بين العرب والعجم، ويُفاضل بينهما رادًّا السبب في غالب الأحيان إلى كثرة العمران ووفرته في منطقة دون أخرى. كما هو الحال بين بلاد المشرق وبلاد المغرب.
وغير بعيد عن المقارنة الأولى، وفي سياق حديثه عن الذوق الأدبي، وأنَّ أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تُستفاد بالتعليم، ومَن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر، ففي هذا الموضع يقول ابن خلدون: "فأهل إفريقية والمغرب لـمَّا كانوا أعرق في العُجمة وأبعدَ عن اللسان الأوّل، كان لهم قصور تامٌّ في تحصيل ملكته بالتعليم... وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل لهذا العهد. ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير الشعراء، إلاَّ ابنُ رشيق وابنُ شرف. وأكثر ما يكونُ فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتَّى الآن مائلةً إلى القُصور".[[25]]
فابن خلدون يرى أنَّ الأدب المغربي إلى زمانه، أي: (المائة الثامنة من الهجرة) أدبٌ ضعيف وأقلُّ درجة من أدب المشرق؛ سواء في شعره أو بلاغته أو في الذوق الأدبي عامة. ويرى أنَّ إفريقية ليس بها مشاهير الشعراء إلاَّ اثنين هما (ابن رشيق وابن شرف)، ويستشهد لحكمه هذا بنصِّ رسالة قصيرة بعثها أحد كُتَّاب القيروان إلى صاحب له، وهذه الرسالة نقلها ابن خلدون عن ابن الرقيق، وفيها: "يا أخي ومَن لا عدمتُ فقده، أعلمني أبو سعيد كلاما أنَّك كنتَ ذكرتَ أنَّك تكونُ مع الذين تأتي، وعاقنا اليومُ فلم يتهيَّأ لنا الخروج. وأمَّا أهل المنزل الكلابُ من أمر الشين فقد كذَّبوا هذا باطلا، ليس من هذا حرفا واحدا. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله."[[26]]
ففي هذا النص يعقد ابن خلدون مقارنة بين المشارقة والمغاربة في فنِّ علم البيان(البلاغة)، فهو يرى أنَّ النقَّاد المشارقة أكثر اهتماما وعناية، وأوسع دراسة من النقَّاد المغاربة، ثمَّ يخصُّ أهل المغرب بتميُّزهم في علم البديع حيث اهتموا به وأولوه عناية كبيرة دون بقية العلوم الأخرى من البلاغة، ويردُّ هذا لسببين رئيسيين هما:
1 ـ أنَّ علم البيان كماليٌّ في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران، والمشرق أوفر عمرانا من المغرب.
2 ـ عناية واهتمام علماء العجم، وهم أكثر أهل المشرق بهذا الفنِّ في جميع علومه،كالزمخشري والجرجاني و القزويني وغيرهم كثير.
فابن خلدون كما نرى نجده يربط كلَّ تطوُّر وازدهار بكثرة العمران و وفرته، في أيِّ مجال كان هذا الازدهار؛سواء كان اقتصاديا أو اجتماعيا أو فكريا أو أدبيا. وهذه الرؤية من مؤسس علم الاجتماع (ابن خلدون) أصبحت اليوم نظرية؛ اهتم بها الكثير من الباحثين و الدارسين، وأكَّدوا صحَّتها إلى حدٍّ كبير. وهذا سبب في الحقيقة وجيه فالمشرق أوفر عمرانا من المغرب، ولكنَّ هذا لا ينفي وجود بعض المناطق المغربية والأندلسية كانت موفورة العمران كثيرة السكان،تُضاهي في ذلك بعض المناطق في المشرق. وإن كان محمد مفتاح يتساءل عمَّا يقصد ابن خلدون بـ(المشرق والمغرب)، وبــ(المشارقة والمغاربة)، وهو لا ريب تساؤل وجيه ومشروع، فابن خلدون لم يُوضِّح في مقدِّمته ما المقصود بالمشرق والمغرب، وأهل المشرق وأهل المغرب؟ وأكتفي بهذا حتَّى لا يحيد بي الكلام إلى قضايا أرى من الأنسب تحاشيها في هذا المقال، تجنُّبا للإطالة وخشية الخروج عن جادة الموضوع.[[27]]
أمَّا ما تعلَّق بالسبب الثاني، وهو اهتمام علماء العجم وهم أكثر أهل المشرق بفنِّ البيان، ويعني به( علم البيان وعلم المعاني)، وقصور أهل المغرب على علم البديع، فهو كلام صحيح نسبيا، أي لا يُمكن أن يكون هذا الحكم عاما على الجميع، وهذا الرأي كما يرى محمد بن شريفة "لا يخلو من الإطلاق والتعميم، ويبدو أنَّه لا يقوم على الاستقراء الدقيق، وممَّا يدل على ذلك أنَّه ـ على سبيل المثال ـ لم يُشرْ إلى (منهاج البلغاء) لحازم القرطاجنِّي، وهو من أرقى ما صُنِّف في البلاغة."[[28]]، فهذا الحكم قد ينطبق على بعض النقاد المغاربة، لكنه حتما لا يُمكن أن ينطبق على الجميع، فمن المؤكَّد أنَّ هناك من النقاد والبلاغيين المغاربة من كانت لهم اليد الطولى في فنِّ البيان. يقول محمد مفتاح في هذا الشأن: "إنَّ قول ابن خلدون صحيح في مجمله لا في تفاصيله؛فمن حيث الإجمال إنَّ الكتب المؤلفة في (فنِّ البيان) قبل ابن خلدون وأثناء حياته يحتلُّ فيها اسم (البديع) وألقابه وأبوابه وأنواعه مكانة مرموقة؛ وأمَّا من حيث التفصيل فإنَّ النماذج التي سنحلِّلها تُثبت أنَّ البيانيين المغاربة لهم باع طويل في فنِّ البيان وقوامة عليه."[[29]]
ثمَّ إنَّ هناك مسألة أخرى أرى أنَّها من الأسباب الرئيسة في اهتمام المغاربة بفنِّ البديع دون غيره، فهذا الاهتمام ليس بدعا منهم؛ فقد حَظِي فنُّ البديع في البلاغة العربية قديمها وحديثها بما لم يحظ به فنُّ البيان أو فنُّ المعاني،و لا أدلَّ على ذلك من الكتب المؤلَّفة في هذا الفنِّ، وما أكثر عناوين الكتب البلاغية التي تشتمل على لفظة البديع، ولعلَّ كتاب (البديع) لابن المعتز أوَّلُها. وهذا الاهتمام مردُّه بعلاقة فنِّ البديع وقضاياه وظواهره ببديع القرآن الكريم وإعجازه،فقضية إعجاز القرآن الكريم كانت من أهمِّ أسباب نشأة وتطوُّر علم البلاغة برمته، والبديع أعلى درجات البلاغة،وأعظمها شأنا،لأنَّه مظهر من مظاهر تزيين الكلام وتحسينه. فلا غرابة إذن إذا اهتمَّ نقاد المغرب العربي القديم بفنِّ البديع وأولوه كلَّ هذا الاهتمام والعناية،وهم يسعون في كلِّ علومهم ومعارفهم إلى خدمة كتاب ربِّهم وبيان وجوه إعجازه، وأسرار نظمه.
وهذا الرأي من ابن خلدون،وهو مَن هو في علمه وفكره،وقبل هذا،هو أحد أبناء المغرب العربي، وجد من الأنصار والمعارضين الكثير من الفريقين، وهذا ما سنراه من خلال عرض كتاب (العمدة) لابن رشيق، الذي اخترناه كنموذج لتلك الآراء المختلفة والمتباينة حول النقد المغربي القديم.
كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني:
فابن رشيق القيرواني(390 ـ 456)ه، علم من أعلام البلاغة العريية والمغربية،أديب وشاعر وناقد، يتميَّز بآرائه ونظراته الحصيفة والجريئة، يتمتَّع بذوق أدبي رفيع،وسعة اطِّلاع،وفطنة وذكاء حاد، وقوة ملاحظة،وحسن استدلال،وقوة ذاكرة،هذه الصفات مكَّنته من بسط قضاياه البلاغية والنقدية منظَّمة سلسة واضحة،لا تعقيد فيها ولا غموض.
وكتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده أهمُّ كُتبه التي زادت على الثلاثين مُؤلَّفا، وقد أراده ابن رشيق أن يكون موسوعة في الشعر ونقده، وفي البلاغة وفنونها المختلفة،" فقد أدخل الكتابُ صاحبَه ميدانَ البلاغة والنقد من أوسع أبوابه، ولا غرو، فهو الكتاب الذي يُمثِّل مرحلة النضج في التأليف البلاغي والنقدي،كما أنَّه الكتاب الجامع المحكم في موضوعه ومنهجه،والذي لا يزال معينا لا ينضب يفيد منه الدارسون والباحثون بما حفظه من نصوص وآراء السابقين،وبما اختزنه من حرِّ وجريء الرأي الخاص."[[30]] وهو بالفعل كذلك فهو موسوعة في الأدب والشعر والنقد والبلاغة،ولا غنى للباحث عنه. ولقد طارت شهرته شرقا وغربا حتَّى خصَّه ابن خلدون بالتفرُّد بهذه الصناعة، وفضَّله على كلِّ ما كُتب قبله وبعده، فقال:"وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقِّها،ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله."[[31]] أهداه ابن رشيق لأبيالحسن بن أبي الرجال الشيباني مُربِّي المعز بن باديس ورئيس ديوان كتّابه. ويضمُّ الكتاب بين دفتيه مائة وسبعة أبواب، منها تسعة وخمسون بابا لها علاقة وثيقة بالشعر ونقده، ومن القضايا النقدية التي تناوها ابن رشيق في عمدته: فضل الشعر، حدّ الشعر وبنيته، المشاهير من الشعراء،منافع الشعر ومضاره، القدماء والمحدثون،اللفظ والمعنى، المطبوع والمصنوع، الأوزان والقوافي،في آداب الشاعر، مشكلة السرقات وغير ذلك. ثم يُفرد الكاتب الحديث عن البلاغة والبيان في تسعة وثلاثين بابا. وأهمُّ القضايا البلاغية التي استعرضها الناقد نجد: البلاغة،الإيجاز،البيان،النظم،المخترع والبديع؛أمَّا في علوم البلاغة الثلاثة، ونعني بها( البيان والمعاني والبديع)، فكما أسلفنا سابقا فالمصطلحات مازالت مضطربة ومتداخلة فيما بينها، إلى زمن ابن رشيق، ولكن إذا حصرنا ما جاء في العمدة في هذه العلوم فإننا نجد ابن رشيق تناول في بحوث البيان: المجاز،الاستعارة،التمثيل،المثل السائر،التشبيه،الإشارة،الكناية،والتتبيع،وفي بحوث المعاني نجد: الالتفات،التقديم والتأخير،الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة، الإيغال، الاحتراس والاحتياط، الحشو وفضول الكلام، الاستدعاء،التكرار،والاشتراك في المعاني. أمَّا في بحوث البديع،فمن فنون البديع المعنوية نجد:المطابقة،ما اختلط فيه التجنيس بالمطابقة، المقابلة، التقسيم،التسهيم،التفسير، الاستطراد، التفريغ، الاستثناء، التتميم، المبالغة، الغلو، التشكك، المذهب الكلامي، نفي الشيء بإيجابه، التضمين والإجازة، الاتِّساع، التغاير. ومن فنون البديع اللفظية نجد: التجنيس، الترديد، التصدير، الترصيع.
أمَّا بقية أبواب الكتاب فقد أورد ابن رشيق مجموعة من الأبواب لها علاقة وطيدة بصناعة الشعر، وهي موضوعات مهمة ومطلوبة لطالب الأدب وعلم الشعر ونقده، فهي من الأمور التي يجب معرفتها وتعلُّمها،والوقوف عليها؛ لتستقيم للطالب آلة الشعر،وتكتمل له ثقافة نقده. ومن ذلك:ما يتعلَّق بالأنساب،ذكر وقائع وأيام العرب، ملوك العرب،العتاق من الخيل ومذكوراتها، معرفة الأماكن والبلدان، ذكر منازل القمر، وغيره.
أمَّا عن منهجه في الكتاب، فقد صرَّح ابن رشيق عنه في المقدِّمة أو خطبة الكتاب ـ كما يقول القدماء ـ والتي جاء فيها: " فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب،وأوفر حظوظ الأدب...ووجدت الناس مختلفين فيه، متخلفين عن كثير منه: يُقدِّمون ويُؤخِّرون، ويُقلّون ويُكثرون، قد بوبوه أبوابا مبهمة،ولقَّبوه ألقابا متهمة،وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه، وشاهد دعواه،فجمعتُ أحسن ما قاله كلُّ واحد منهم في كتابه؛ ليكون (العمدة في في محاسن الشعر وآدابه)،إن شاء الله تعالى. وعوَّلتُ في أكثره على قريحة نفسي، ونتيجة خاطري؛خوف التكرار،ورجاء الاختصار، إلاَّ ما تعلَّق بالخبر، وضبطتْه الرواية، فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه؛ ليُؤتى بالأمر على وجهه، فكل ما لم أُسنده إلى رجل معروف باسمه، ولا أحلتُ فيه على كتاب بعينه؛فهو من ذلك، إلاَّ أن يكون متداولا بين العلماء، لا يختص به واحد منهم دون الآخر، وربما نحلته أحد العرب، وبعض أهل الأدب، تسترا بينهم، ووقوعا دونهم، بعد أن قرنت كلَّ شكل بشكله، ورددتُ كلَ فرع إلى أصله، وبيَّنتُ للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه، وكشفتُ عنه لبْس الارتياب به، حتَّى أُعرِّف باطله من حقِّه، وأميز كذبه من صدقه.[[32]]
من هذا الكلام الفصيح الصريح يتبيَّن لنا منهج ابن رشيق في كتابه، وهو منهج - دون شكٍّ -علمي رصين - قلَّ أن نجده في كتب الأولين، ومنه يُمكن أن نُحدِّد دعائم وركائز هذا المنهج الذي حدَّده ابن رشيق لنفسه، وسار عليه في خطة كتابه، وهي:
ـ التخيُّر والانتقاء، ورصْد أحسن ما قيل في فنِّ الشعر ونقده،واعتمادُه في ذلك على قريحة نفسه، ونتيجة خاطره.
ـ الصِّدق والأمانة في النقل والرواية، سواء من كتاب أو عالم أو ناقد،أو خبر مضبوط، إلاَّ ما كان من الآراء والأقوال المشهورة والمعروفة، والتي أصبحت ملكا مشاعا بين الجميع، فهذه لم ينسبها لأصحابها.
ـ الابتكار والإبداع في ما أضافه من خالص فكره ورأيه؛ مناقشا ومؤيِّدا ومرجِّحا ومعترضا، كلُّ ذلك بالحجة والبرهان.
وانطلاقا من هذا المنهج نستطيع أن نستنتج أقساما ثلاثة تُوضِّح أُطُر القضايا التي عالجها ابن رشيق في كتابه، وهي:
الإطار الأول: قضايا ومسائل نقلها ابن رشيق من غيره من العلماء والنقاد دون تصرُّف فيها أو تغيير، فقد نقلها حرفيا دون نقصان أو زيادة، بكل أمانة ونزاهة.
الإطار الثاني: قضايا نقلها ابن رشيق ممَّن سبقه وقرأ لهم، لكنه لم يكتف بالأخذ والنقل، بل ناقشها وحلّلها وأخذ منها ما أخذ، واعترض على ما اعترض،ورجَّح ما رجَّح. وسلاحه في ذلك كلِّه ذوقُه الأدبي وفكره الثاقب وذكاؤه الحاد، وبصيرته النافذة، وعبقريته الفذّة.
الإطار الثالث: قضايا ومسائل كان لابن رشيق فيها فضل السبق والاكتشاف والابتكار، ولم يسندها لغيره من العلماء.
هذه نظرة عامة وشاملة للكتاب، أردنا ذكرها لنُبيِّن مضمون الكتاب وفحواه ولو بإيجاز شديد، حتَّى نكون على بيِّنة من الأمر من القضايا البلاغية والنقدية التي خاض فيها ابن رشيق الحديث في كتابه العمدة.
أخذ ابن رشيق مادة كتابه عن عدد غير قليل من أدباء ونقاد المشرق العربي،أمثال: الجاحظ، الحاتمي، الرماني، قدامة، الآمدي، ابن قتيبة، العسكري، ابن طباطبا، الثعالبي... أمَّا من النقَّاد المغاربة فأخذ كثيرا عن شيخه وأستاذه عبد الكريم النهشلي، وقد صرَّح هو نفسه بذلك، كما أخذ عن القزَّاز كذلك.
أمَّا الذين تأثَّروا بالكتاب وأخذوا عنه فهُم كثير، "فهذا أبو بكر الشنتريني يُلخِّص في كتابه(جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكُتَّاب) ذي الأجزاء الأربعة جزئين من(العمدة)، ونجد ضياء الدين بن الأثير يقتبس منه خمسة وتسعين بالمائة من حجم مادة كتابه(كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب)، ونقل عنه الرُّندي الأندلسي صاحب(الوافي)،والشَّنتريني صاحب(الذَّخيرة)، واختصره أبو عمرو عثمان بن علي الأنصاري الخزرجي الصِّقلي النَّحوي، وموفَّق الدين البغدادي، وأخذ عنه السجلماسي صاحب(المنزع البديع)."[[33]]
واختلف الدارسون والباحثون والنقاد حول كتاب العمدة وصاحبه، بل إنَّ الأمر قد تجاوز مع بعضهم الأدب والنقد العلمي القائم على الحجة والدليل والموضوعية، وهو ما لاحظه الباحث(محمد بن سليمان الصِّيقل) في رسالته؛ فهو يقول في مقدِّمتها:"غير أنِّي ما شرعت في الكتابة وقرأت ما كتبه الدارسون المحدثون حوله حتَّى هالني ما رأيت من بعضهم من أحكام تقويمية عامة، هي دون المستوى الحقيقي للعمدة وصاحبه، بل إنَّ بعض هذه الأحكام قد تمادت أكثر حين زعم كثير منهم بأنَّه مجرَّد ناقل وجامع، ولقد كانت هذه النظرة مع الأسف هي النظرة السائدة تجاه العمدة وصاحبه بين كثير من أوساط المتخصصين! ليس ذلك وحده، بل لقد تجاوز بعض هؤلاء الدارسين المحدثين الحدَّ في الحكم حتَّى ليُخيَّل أنَّ بينهم وبينه عداوة، وقد سبقهم بألف عام! وسيجد القارئ ذلك في مظانِّه، ولقد حاولتُ جهدي إنصاف الرجل بكلمة الحقِّ ووضْع كتابه في المنزلة التي يستحقها بين كتب البلاغة والنقد."[[34]]
ومن أولئك الذين تحاملوا على كتاب العمدة وصاحبه نجد بدوي طبانة الذي تعرَّض للكتاب في كتابه (البيان العربي)، والذي جاء فيه: "والذي يطَّلع على كتاب العمدة يظهر له بوضوح صدق ما ذهب إليه ابن خلدون؛ فإنَّ ملكة الابتكار تكاد معالمها تكون مفقودة في هذا الكتاب، وإن كان لصاحبه شيء من الفضل، فهو فيما جمعه من الروايات المأثورة، وما نقله من كلام غيره من علماء البيان ونقَّاد الشعر، وقلَّما رأيته ينقض قولا، أو يذهب مذهبا، إلا إذا كان القول منقولا، والمذهب مأثورا."[[35]]، فهو يرى أنَّ كتاب العمدة لا يعدو أن يكون كشكولا جمع فيه صاحبه ما سبقه من آراء وروايات في الشعر ونقده، ولا أثر للإبداع أو الابتكار في مادة هذا الكتاب، ولا فضل لصاحبه إلاَّ جمع هذه المادة وترتيبها.بل ويُعمِّم حكمه هذا على المغاربة كلِّهم في قصورهم وعجزهم في البحث البياني، فيقول في موضع آخر: "ولو لم يكن من ابن رشيق إلاَّ أن يعيب الباحث المنقِّب المستقل بالرأي والمنهج لكفاه ذلك مُثلةً ودليلَ عجز وضيق أفق في البحث البياني. وهذا ما يصدق أنَّ المغاربة ـ وهذا إمام من أئمتهم في البيان ـ كانوا عيالا على المشارقة، وأنَّهم فقدوا الاستقلال، وفقدوا علم الدراية، وقنعوا بعلم الرواية والنقل عن علماء المشارقة ورواتهم ما قرأوه في كتبهم وما نقلوه من رواياتهم."[[36]]
ولا ندري من أين تأتَّى لطبانة أنَّ ابن رشيق يعيب الباحث المنقّب المستقل بالرأي والمنهج، فهو لم يستدلَّ على ذلك، وانظر إلى النقد اللاذع، والحكم البعيد كلَّ البُعد عن العلمية والموضوعية؛ حين يقول:" لكفاه ذلك مُثلةً ودليلَ عجز وضيق أفق في البحث البياني"، ثمَّ يعترض قائلا:" وهذا إمام من أئمتهم في البيان"، فكيف يكون إماما من أئمة البيان، وهو ضيِّق الأفق في البحث البياني؟! هذا لعمري في القياس بديع! ثمَّ نعتُه المغاربة بأنَّهم عيال على المشارقة، وكان أكثر جهدهم النقل واتِّباع المشارقة، لأنَّهم فقدوا علم الدراية.
والموقف نفسه نجده كذلك عند عبد القادر حسين في كتابه (المختصر في تاريخ البلاغة)؛ فهو يقول عن ابن رشيق من خلال كتابه العمدة: "فقد اقتصر على نقل الأبواب المتعلِّقة بالبلاغة من كتب السابقين دون أن يُمحِّص آراءهم أو يُضيف إليها شيئا جديرا بالذكر. وإذا كان لكتاب العمدة من فضل، فهو فضل الجمع بين خيرة آراء السابقين ممَّا يُغني عن قراءة كتبهم، فهو خلاصة يجد فيه القارئ بغيته دون الرجوع إلى ما كتبه السابقون عن أبواب البلاغة."[[37]]، فهو يذكر صراحة أنَّه لا فضل لابن رشيق في كتابه العمدة سوى فضل جمع خيرة آراء السابقين له فيما كتبوه عن الشعر ونقده، وعن البلاغة وألوانها وأنواعها، وفي جمعه ذاك من كتب السابقين، كان لا يُمحِّص آراءهم ولا يُدقِّق فيها، ولا يتخيَّر منها، ويذكر الخاطئ والشاذ، فهو كحاطب ليل؛ يأخذ كلَّ ما وصلت إليه يداه دون تصرُّف أو إضافة. وهذا كلام لا يستقيم مع روح البحث العلمي النزيه والسليم. صحيح أنَّ ابن رشيق قد اعترف صراحة في مقدِّمة الكتاب أنَّه جمع أحسن ما قاله كلُّ واحد منهم في كتابه ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه، وهذا لوحده ليس بالعمل الهيِّن البسيط، فهو يحتاج إلى جهد كبير ووقت كثير. ولو قام بهذا العمل فقط لكفاه، فما بالك والحقيقة خلاف ما ذكر عبد القادر حسين.
وكذلك الأمر عند محمد مندور في كتابه(النقد المنهجي عند العرب)، فقد قال: "وتلا عبد القاهر مؤلفون بل وعاصره مؤلفون كأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني..صاحب (العمدة)، الذي جمع في كتابه الكثير من أخبار الأدب العربي والنقد وعلوم البلاغة العربية دون أن يتَّضح للمؤلِّف منهج خاص وشخصية متميِّزة."[[38]]
فمن خلال هذا الحكم العاجل وغير المتأنِّي يرى مندور أنَّ كتاب العمدة مجرَّد كتاب ضمَّ بين دفتيه مجموعة من الأخبار في الأدب والنقد واللغة، وأنَّ مؤلِّفه لا منهج له واضح في الكتاب، فهو يتخبَّط خبط عشواء، ولا أثر لشخصيته فيه، فقد ذابت وانحلَّت في شخصيات من نقل عنهم. وهذا الحكم بعيد كلَّ البعد عن الحقيقة والصواب، ولو أمعن مندور النظر جيِّدا، وتروَّى في حكمه لكان كلامه خلاف ما قال، فالكتاب ـ كما سنرى من بعض الدارسين المنصفين ـ قد ازدان بالكثير من الاضافات الجديدة والبديعة التي تدل على موهبة الرجل وسعة اطّلاعه، ونظرته النقدية والبلاغية الحصيفة.
أمَّا إذا استعرضنا آراء الدارسين المنصفين فإننا سنجدهم يُقرِّون بمكانة كتاب العمدة، وما حواه من آراء كثيرة في قضايا الشعر والنقد والبلاغة، تدل على غزارة علم صاحبه، وبُعد أفقه ونظرته الثاقبة، وحسِّه الفني وذوقه الأدبي الرفيع. ومن هؤلاء نجد الكاتب الكبير أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) حيث يقول: " وظهرت في المغرب حركة جيِّدة في النقد الأدبي، وردت أول الأمر نُتفا في كُتب الأدب عندهم... ثمَّ ارتقى هذا حتى صار موضوعا قائما بنفسه، وتُوِّجت هذه الحركة بكتاب(العمدة) لابن رشيق و(أعلام الكلام) لابن شرف، وهما من خير الكتب في النقد الأدبي. إلى أن يقول: وقد نقل ابن رشيق في كتابه العمدة فنَّ النقد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين ـ كما فعل صاحب الموازنة والوساطة ـ إلى نقد الشعر عامة."[[39]]
ومنهم كذلك بشير خلدون صاحب كتاب(الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي)، فقد أشاد كثيرا بالكتاب وصاحبه، وذكر أنَّ كتاب (العمدة) يُعدُّ حوصلة وتتويجا لمجهودات العلماء قبله من المشرق والمغرب، وأبرز قيمته العلمية في النقد والبلاغة، كما اعتبر صاحبه أديبا متميِّزا ذواقة، وناقدا حصيفا متزنا، جريئا في أقواله وآرائه، أمينا في رواياته ونقوله، ونكتفي بمقولة واحدة لخلدون يبيِّن من خلالها مكانة ابن رشيق وكتابه العمدة، فيقول:" وكان لابدَّ إذن أن تتقدَّم حركة النقد وتتطور وتظهر بصورة أشمل وأعمق عند شخص آخر يكون أكثر ثقافة وأبعد نظرة وأوسع أفقا وأعمق تفكيرا، وفعلا كان هذا الشخص هو ابن رشيق المسيلي الذي طلع علينا بكتابات عديدة وعلى الخصوص كتابه القيّم(العمدة في محاسن الشعر وآدابه)...ولم يكن دور ابن رشيق وهو يعرض لنا هذه الآراء المختلفة راوية ناقلا، وإنما كان في كل مرة يتدخل ويُعطي رأيه هو كناقد حصيف متزن، وأديب متميّز ذواقة، وكشاعر فنان يحس." [[40]]
ومن الدارسين المنصفين والمعتدلين في موقفهم تجاه ابن رشيق وكتابه (العمدة) نجد عبد العزيز عتيق في كتابه الموسوم بـ (في البلاغة العربية ـ علم البيان ـ)، فهو يقول في حقِّ ابن رشيق وكتابه (العمدة): " وما دُمنا نتحدَّث عن نشأة علم البيان والجهود التي أسهمت في تطويره من ملاحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إلى علم بلاغي قائم بذاته، فإنَّ موضع اهتمامنا من كتاب العمدة معلَّق بالأبواب التي عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان، من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية. حقَّا إنَّه جمع تحت كلِّ باب من هذه الأبواب أقوال السابقين فيه وعرضها عرضا حسنا ييسرها للطالبين، وليس هذا الجهد في حدِّ ذاته بقليل. ولكن من الحقِّ أيضا أنَّ له إضافات جديدة في هذه الأبواب تدلُّ على غزارة علمه، ودقَّة فهمه، وسلامة ذوقه الأدبي."[[41]]، فكأني بعبد العزيز عتيق يردُّ على مَن زعم أنَّ ابن رشيق لم يبذل أيَّ جهد في كتابه العمدة سوى جمع آراء من سبقه، ولم يُضف على ما قالوه شيئا؛ قائلا لهم: فليكفه هذا الجهد، وهو دون شكٍّ عمل محمود، وصاحبه مأجور ومشكور.
وهذا ما يراه أيضا شوقي ضيف حين قال: "ولعلَّ في كلِّ ما سبق ما يُصوِّر قيمة العمدة في تاريخ البلاغة وأنَّ هذه القيمة ترجع إلى دقَّة جمعه للآراء المتقابلة في فنونها المختلفة."[[42]]، وهو كذلك ما يراه مازن المبارك بقوله: "على أنَّ كتاب العمدة عامة، بما امتاز به من استيعاب لفنون البلاغة وأقوال المتقدِّمين فيها، يصلح أن يكون حلقة في تاريخ التأليف البلاغي، أو مرآة لما وصل إليه علم البلاغة حتَّى عصر مؤلِّفه."[[43]]، بل نجد مصطفى هدَّارة وهو يُعدِّد علماء البلاغة الذين كان لهم فضل في علم البيان خاصة، يذكر من بينهم ابن رشيق، ويقول في شأنه: "ونجد من علماء البلاغة الذين أسهموا في تطوُّر علم البيان ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة."[[44]]
بل نجد حفني محمد شرف حين يتناول كتاب العمدة لابن رشيق يُثني كثيرا على الكتاب وصاحبه، فيصف الكتاب بدقة التنظيم وحسن الترتيب والتبويب، ويصف ابن رشيق في عرضه للقضايا النقدية والبلاغية بالفهم والنضج وحُسن البرهنة والاستنتاج، فيقول: " ثم إذا انتقلنا إلى كتاب العمدة وتقابلنا مع ابن رشيق، وجدناه يمتاز عمَّن سبقه من العلماء بالبُعد عن الاضطراب، وأنَّه يتناول الفكرة الواحدة، فيُناصرها ويدرسها دراسة هادفة ممحَّصة، كما أنَّه كان أحسنَ من سابقيه تنظيما وترتيبا وتبويبا، فلا استطراد ولا تَكرار. ولا غَرْوَ، فابن رشيق كان أكثر فهما ونُضجا، وأحسن برهنة واستنتاجا من العلماء المتقدِّمين عليه زمانا، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ فهمه للبلاغة كاد يقترب من فهمنا لها في العصر الحديث."[[45]]
ونختم آراء الدارسين والباحثين المنصفين للكاتب والكتاب معا بمحمد قرقزان الذي يرى أنَّ كتاب (العمدة) من أجلِّ آثار أعلام مدرسة القيروان في العهد الصنهاجي، و أبعدِها أثرا وتأثيرا في الأجيال القديمة والحديثة على الإطلاق. وأنَّه قد فاق معظم المؤلَّفات التي أُلِّفت قبله ككتاب (الحلية) لأبي علي الحاتمي، و(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، من حيث الحجم، ومن حيث التوسعة والإكثار في الأنواع والأمثلة والشواهد، فقد امتاز(العمدة) بنظرة شمولية في فهم الشعر وصناعته والعلوم التي تخدمه. وبعد هذا يقول صراحة: " ولا أعرف كتابا قبل العمدة جمع كلَّ هذه المعارف حول الشعر ونقده، وكانت له هذه النظرة الشمولية في فهم الشعر وصناعته والعلوم التي تخدمه من قريب أو بعيد، كل أولئك في صالح الفكرة المركزية للكتاب؛ ألا وهي توضيح مفهوم الشعر الصحيح الصافي المثير، والسير بقائله نحو الكمال الثقافي، وما يلزمه من العلوم المساعدة وكذلك الناقد. وفد حشد ابن رشيق من أجل بلوغه هذا الهدف معارفه وزهرة شبابه ونضجه، وأحسن توظيف علوم عشرات من كتب المشارقة ودواوينهم وتحصيله عن مشايخه فيه مما لم يتوفر عليه ناقد آخر."[[46]]
هذا هو إذن كتاب العمدة لابن رشيق، الذي أثار ولا زال الكثير من الخلاف بين البلاغيين والنقاد، ما بين معجب بالكتاب وبما فيه من قضايا نقدية وبلاغية، ويعتبر ما فيه عملا مميَّزا وجهدا عظيما قام به ابن رشيق سواء في مادته أو في منهجه وتنظيمه، ومن خلال الكتاب فهو يرى في صاحبه ناقدا حصيفا ومبدعا. وبين مُهوِّن لقيمة الكتاب، ولا يرى فيه سوى جمْع لآراء من سبق ابن رشيق، وتقليدهم واتّباعهم في معظم القضايا، إن لم نقل كلّها. وعليه فابن رشيق لا يستحق هذه الشهرة وهذا الصيت الذي طار شرقا وغربا. ويبقى الخوض في كتاب العمدة وصاحبه مفتوحا إلى حين.
وفي آخر المطاف نُحاول إجمال ما جاء في هذه الدراسة من استنتاجات ونتائج، في شكل نقاط موجزة ومختصرة، ومن أهمِّها ما يلي:
1 ـ ليس من البحث العلمي النزيه أن يُقال أنَّ الأدب المغربي ـ والنقد جزء منه ـ كان قائما ومعتمدا على نظيره المشرقي، وأنَّه في عمومه بُني على التقليد والاتِّباع. نعم هناك تقليد ونقل وأخذ، وهذا من الطبيعي والبديهي، التزاما بسنن التفاعل والتلاقح بين الآداب والأفكار والثقافات، وانطلاقا كذلك من أنَّ الحركة الأدبية والعلمية كانت سابقة ورائدة في المشرق، وهذا إن كان مزيَّة في المشرق، فهو لا يُنقص من قدر المغرب شيئا. لكنَّ هذا التقليد لا يُمكن أن يكون حكما عاما وقاطعا ومطلقا، فليس كلُّ المغاربة كذلك. فالمقلِّد قد يأخذ شيئا، لكن تبقى مع ذلك شخصيته وثقافته وفكره المستقل، فيأخذ ويرفض، ويزيد ويُنقص، محتكما في ذلك إلى ثقافته وأدبيته وتجاربه الشخصية.
2 ـ علوم البلاغة في النقد المغربي القديم وإلى عهد ابن رشيق لم تتحدَّد معالمها وأقسامها الثلاثة التي عُرفت فيما بعد بالبيان والمعاني والبديع، كما أنَّ الكثير من المصطلحات والفنون ما زالت مضطربة متداخلة. كما أنَّ النقد المغربي القديم اهتمَّ بجميع علوم البلاغة، ولو كان ذلك بنسب متفاوتة بين النقاد، فليس صحيحا أنَّ المغاربة اهتموا بالبديع فقط دون سواه، وهو ما رأيناه عند ابن رشيق بصفة خاصة. قد يكون اهتمامهم بالبديع قد أخذ نصيبا وافرا لاعتبارات كثيرة وأسباب متنوعة، لكنهم مع ذلك تناولوا علمي البيان والمعاني، ودرسوا بعضا من فنونهما.
3 ـ يُعدُّ ابن رشيق ناقدا من الطراز الأول، وأحدَ أعلام النقد عربيا ومغاربيا في القديم، لما امتاز به من آراء ونظرات نقدية وبلاغية ثاقبة وحصيفة، وما قام به من جهد في تآليفه وخاصة (العمدة)، الذي يُعتبر من أجلِّ وأحسن ما كُتب في نقد الشعر، فهو بحقٍّ "عمدة" لكلِّ باحث ودارس، وهو ما نراه اليوم؛ فلا يكاد يخلو بحث أو دراسة أو رسالة في الأدب أو النقدـ ضمن قائمة مراجعه ـ من اسم ابن رشيق وكتابه العمدة.
[1] ـ قلقيلة عبده عبد العزيز: النقد الأدبي في المغرب العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، ط2، 1988م،
ج1، ص8.
[2] ـ شقور عبد السلام: حدود المنهج والمصطلح في نقد الشعر المغربي القديم، مقال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، ع3، ماي وجوان 1998م، ص64.
[3] ـ مخلوف عبد الرؤوف: ابن رشيق القيرواني(سلسلة نوابغ الفكر العربي، ع32)، دار المعارف، القاهرة، مصر، دط، 1964، ص56.
[4] ـ يُنظر: الغرافي مصطفى: الأدب المغربي وعقدة المشرق، مقال، مجلة الزمان الالكترونية، الرباط، المغرب، تاريخ:19/01/ 2014.
[5] ـ مرتاض محمد: النقد الأدبي القديم في المغرب العربي ـ نشأته وتطوره ـ (دراسة وتطبيق)، منشورات اتِّحاد الكتَّاب العرب،
دمشق، سوريا، ط1، 2000م، ص5.
[6] ـ يُنظر: المرجع نفسه، ص5.
[7] ـ نفسه، ص5.
[8] ـ خلدون بشير: الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الجزائر، دط، 1981م ، ص5.
[9] ـ المرجع نفسه، ص5.
[10] ـ كنون عبد الله: النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب، لبنان، بيروت، ط2، 1961م، ج1، ص7.
[11] ـ مصطفى عبد الرحمن إبراهيم: في النقد الأدبي القديم عند العرب، مكة للطباعة، القاهرة، مصر، دط، 1998م، ص185.
[12] ـ الكواز محمد كريم: البلاغة والنقد (المصطلح والنشأة والتجديد)، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2006 م، ص 200.
[13] ـ يُنظر: مطلوب أحمد: النقد البلاغي، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 38، ج(2و3)، 1987م، ص 200 ـ 201.
[14] ـ الأسود حسين: أصول العلاقة بين البلاغة والنقد القديم حتى نهاية القرن 4 هـ، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، سوريا، المجلد81، ج1، 2007م، ص 115.
[15] ـ طبانة بدوي: قدامة بن جعفر والنقد الأدبي، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، مصر، ط3، 1969م، ص 18 ـ 19.
[16]ـ العسكري: الصناعتين، ص1.
[17] ـ مصطفى عبد الرحمن إبراهيم: في النقد الأدبي القديم عند العرب، ص 185 ـ 186.
[18] ـ يُنظر: مطلوب أحمد والبصير كامل حسن: البلاغة والتطبيق، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق ،ط2، 1999 م، ص30 ـ 31ـ32.
[19] ـ يُنظر: المرجع نفسه، ص 32 ـ 33.
[20] ـ مفتاح محمد: التلقي والتأويل مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1994م، ص13.
[21] ـ ابن خلدون: المقدِّمة ، ص571.
[22] ـ مفتاح محمد: المرجع السابق، ص14.
[23] ـ يُنظر: نفسه، ص 15.
[24] ـ ابن خلدون: المرجع السابق، ص 572.
[25] ـ نفسه، ص584.
[26] ـ نفسه، ص 584
[27] ـ يُنظر: محمد مفتاح، التلقي والتأويل مقاربة نسقية، ص15 ـ 16.
[28] ـ أبو المطرف، أحمد بن عميرة: التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، تقديم وتحقيق: محمد بن شريفة، ص5.
[29] ـ مفتاح محمد: المرجع السابق، ص16.
[30] ـ الصّيقل محمد بن سليمان: البحث البلاغي والنقدي في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، رسالة ماجستير، إشراف: د
محمد علي رزق الخفاجي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية اللغة العربية، قسم البلاغة والنقد والمنهج الإسلامي، الرياض، السعودية، 1405 هـ، المقدِّمة، ص أ.
[31] ـ ابن خلدون: المقدِّمة، ص593.
[32] ـ ابن رشيق الحسن القيرواني: العمدةفي محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار
الطلائع، القاهرة، مصر، دط، 2009، ج1، ص15 ـ 16.
[33] ـ قرقزان محمد: قراءة نقدية توثيقية جديدة لكتاب العمدة لابن رشيق، مقال في كتاب(التراث المغربي والأندلسي ـ التوثيق
والقراءة)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، تطوان، المغرب، الندوة الثالثة أبريل1991، ص163ـ164.
[34] ـ الصيقل محمد بن سليمان بن ناصر: البحث البلاغي والنقدي في كتاب العمدة لابن رشيق القيرولني، المقدمة(أ ـ ب).
[35] ـ طبانة بدوي: البيان العربي(دراسة تاريخية فنية في أصول البلاغة العربية)، ص91.
[36] ـ نفسه، ص91.
[37] ـ حسين عبد القادر: المختصر في تاريخ البلاغة، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط2، 2000م، ص125ـ126.
[38] ـ مندور محمد: النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، دط، 1996، ص339.
[39] ـ أحمد أمين: ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، ط3، 1962، ج1، ص306 ـ 307.
[40] ـ خلدون بشير: الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981، ص106 ـ 107.
[41] ـ عتيق عبد العزيز: في البلاغة العربية(علم البيان)، دار النهضة العربية ، بيروت، لبنان، دط، 1985م، ص18.
[42] ـ ضيف شوقي: البلاغة تطوُّر وتاريخ، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط9، 1995م، ص152.
[43] ـ المبارك مازن: الموجز في تاريخ البلاغة، دار الفكر، دمشق، سوريا، دط، دت، ص87.
[44] ـ هدَّارة محمد مصطفى: في البلاغة العربية(علم البيان)، دار العلوم العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1989م، ص25.
[45] ـ حفني محمد شرف: الصور البيانية بين النظرية والتطبيق، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، مصر، ط1، 1965م، ص11.
[46] ـ قرقزان محمد: التراث المغربي والأندلسي التوثيق والقراءة، مقال، قراءة نقدية توثيقية جديدة لكتاب العمدة لابن رشيق، ص173 ـ 174.
لهذا لا نستغرب ولا نتعجَّب عندما نقرأ في بداية مقدِّمة كتاب(النقد الأدبي في المغرب العربي) لعبد عبد العزيز قلقيلة هذا الكلام: "وقد يسأل البعض: هل يوجد نقد أدبي في المغرب العربي؟ وأجيب عن خبرة وبكلِّ ثقة: نعم يوجد نقد أدبي في المغرب العربي."[[1]]، وسبب هذا التساؤل ـ الذي قد يبدو غريبا للبعض ـ أنَّ آراء الباحثين والدَّارسين للأدب المغربي القديم عموما تباينت واختلفت كثيرا؛فهناك من يسِمُه بالضعف الفنِّي في معظمه،وهو لا يرقى لأن يصير أدبا مستقلا بنفسه،وبعضهم يُلحقه بالأدب الأندلسي، فيما يرى آخرون أنَّه لا وجود لما يُسمَّى بالأدب المغربي أصلا،في حين نجد فريقا آخر يُقرُّ بوجود هذا الأدب، ويعترف بأصالته وتميُّزه،وهو لا يقلُّ قيمة ومكانة عن صنويه المشرقي والأندلسي.
فالنقص الواضح والكبير في الكتب التي تتناول الأدب المغربي دراسة وتحليلا و تأريخا، والتغييب العفوي أو المتعمَّد للأدب المغربي من بعض الكتَّاب والأدباء المشارقة في مؤلفاتهم التي تؤرِّخ للأدب العربي ـ هذا بطبيعة الحال إذا استثنينا الأندلس ـ هو الذي جعل البعض يتطاول ويتجاسر ويطرح مثل هذا السؤال.
وهنا لابُدَّ أن أشير إلى نقطتين أساسيتين، أرى أنهما كانتا سببا في الحالة المزرية التي آلت إليها حالة الأدب والنقد في المغرب العربي القديم، وتتمثَّل في:
- عدم اهتمام معظم المغاربة ـ سلفا وخلفا ـ بإنتاجهم الأدبي و الفكري، وانشغالهم عنه بالأدب المشرقي،الذي يرون فيه الأنموذج والمثل الأعلى،وهي نظرة قاصرة ظلَّ عليها المغاربة لفترة طويلة من الزمن؛إذا ذكروا الشعر فإنَّهم يذكرون امرئ القيس والمتنبي وأبا تمَّام والبحتري،وغيرهم من شعراء المشرق،وإذا تناولوا النقد ذكروا الجاحظ و قدامة والجرجاني والعسكري وغيرهم من النقاد المشارقة،وإذا كتبوا أدبا كتبوه بصبغة مشرقية فيها الكثير من التقليد، والقليل من الإبداع.
وقد كان الصَّاحب بن عبَّاد صادقا إلى حدٍّ كبير حين قال:" بضاعتنا رُدَّت إلينا "، عندما وصله كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربَّه، إذ كان يتوقَّع أن يجد في العقد الفريد أدبا وشعرا مغربيا وتعريفا بمنتوجهم الأدبي والثقافي، إلاَّ أنَّه وجد فيه أدبا مشرقيا خالصا،وهذا تأكيد للرأي الذي يُقرِّر فيه أصحابه أنَّ المغاربة كانوا على الدوام مفتونين بالمشرق، ومولعين بإنتاجات أعلامه.
وهذا ما لاحظه عبد السلام شقور عند النقاد المغاربة؛ حيث أهملوا تماما الشعر المغربي في كتبهم، ولم يذكروه إلا نادرا، فيقول في ذلك: " نعم نحن لا نجد لدى صاحب (المنزع البديع)، ولا لدى مؤلِّف(الروض المريع)، ولا لدى غيرهما أيَّ عناية بالشعر المغربي، لم يُورد النقاد المغاربة شعرا للمغاربة فيما ألَّفوه في باب النقد لا على سبيل الاستشهاد ولا على سبيل التمثيل أو الإيضاح، إنَّ إهمال الشعر المغربي القديم من لدن النقاد والشُرَّاح المغاربة أمر يبعث على الدهشة حقًّا."[[2]]
وهذا الكلام صحيح؛ فلو تأمَّلنا ـ زيادة على ما ذكر عبد السلام شقورـ كُتب النقد في المغرب العربي، سنجد أهمَّها ألا وهو كتاب (العمدة)، لم يحفل إلاَّ بالقليل من الشواهد الشعرية أو النثرية لشعراء أو كُتَّاب مغاربة، وهذا القليل لا يكاد يُذكر أو يتميَّز. وهو ما ذكره وبيَّنه عبد الرؤوف مخلوف في كتابه(ابن رشيق القيرواني)؛ حيث جاء في معرض حديثه عن (العمدة): " ويلفت نظر الباحث أنه لم يرو عن الأندلسيين، اللَّهم إلا أن يكون عن صاحب (العقد الفريد)، على قلّة وندرة. وتعليل ذلك فيما أرى؛ أنَّ أهل المغرب كانوا يتّخذون من أهل المشرق وعلمائه لأنفسهم إماما."[[3]]، وكذلك هذا الكلام ينطبق على كتاب (بغية الرَّائد فيما تضمَّنه حديث أمِّ زرع من الفوائد) للقاضي عياض، وهو كتاب نقدي بامتياز، جاء فيه صاحبه بشواهد كثيرة من عيون الشعر العربي، للمتنبي وأبي تمَّام والبحتري وغيرهم من شعراء المشرق، كما اعتمد كليا على نقادهم في تفسيره البلاغي لحديث أم زرع.
وفي المقابل نجد الطرف الآخر وأعني إخواننا المشارقة؛فقد اختلفت رؤاهم ونظراتهم للأدب المغربي ـ وهنا يجب أن نستثني الأدب الأندلسي ـ لأنَّه لقي اهتماما خاصا من طرف المشارقة، بالرغم من أنَّه من الناحية الجغرافية فالأدب الأندلسي هو أدب مغربي. ولكنَّ قصدي هنا الأدب في الأقطار المغاربية المعروفة جغرافيا بالمغرب العربي. فمن أولئك من ينظر إلى الأدب المغربي نظرة فوقية استعلائية فيها من الاحتقار والازدراء والاستصغار و التهميش ما فيها،بل ويتعمَّد بعضهم تجاهل ونكران الأدب المغربي، ودليل ذلك عدم التعرُّض إليه في كتبهم ومؤلفاتهم ـ في الغالب الأعمِّ ـ حتَّى نكون منصفين وصادقين في حكمنا،وإن ذكروه فإنَّهم يكتفون بالأدب الأندلسي الذي يعتبرونه سليل الأدب المشرقي ووليده. فهم يرون أنَّ المشارقة أهل إبداع،وأنَّ المغاربة أهل فقه وهوامش؛ ممَّا يُفيد عندهم، أنَّ الإبداع الحقَّ مصدره المشرق،في حين ينحصر دور المغاربة في الشرح والتعليق ووضع الهوامش.[[4]]
إنَّ ما كُتب لحدِّ الساعة من أبحاث ودراسات عن الأدب القديم في المغرب العربي لا يعكس أبدا قيمة وعظمة هذا الموروث الفكري والحضاري والأدبي لهذه المنطقة، هذا في الأدب عموما. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة، لعلَّ محمد مرتاض قد أجملها بقوله: " لقد كان البحث في أدب المغرب العربي القديم حتَّى عهد متأخِّر يُعدُّ من قبيل المغامرة و التحدِّي، وذلك بسبب ما يعرف هذا الحقل المعرفي من انعدام للمظانِّ التي تتكفَّل ببيئة معينة،أو يأخذها على عاتقه منبع معيَّن،بل يُلاحظ الباحث المتَّجه هذا الاتجاه أنَّ المشارب والاتجاهات متعدِّدة ودفينة في مختلف الموضوعات من فقهية وتاريخية وأدبية و نقدية."[[5]]
صحيح أنَّ هناك كتابات ودراسات ظهرت في عصرنا الحديث أماطت اللثام ـ ولو قليلا ـ عن الأدب المغربي القديم، وأصحابها يستحقون بذلك الشكر الجزيل والثناء الجميل على ما بذلوه، خدمة لأمَّتهم وإظهارا لأدبهم وتراثهم. وذلك من خلال عدَّة مظاهر سواء من خلال التأريخ الأدبي كما نجده عند عبد الله كنون، وكتابه القيِّم (النبوغ المغربي في الأدب العربي)، ومحمد بن تاويت وكتابه(الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى)،وإن كان الكتابان معنيين بقطر معيَّن وهو المغرب الأقصى بالتحديد، فجاء كلٌّ منهما خاصا لا عاما،قطريا لا إقليميا. وكذلك ما قام به رابح بونار من خلال كتابه(المغرب العربي تاريخه وثقافته)،ويغلب على هذا الكتاب الجانب التأريخي أكثر من الجانب الأدبي،أو من خلال التحقيق كما نجده عند منجي الكعبي في تحقيقه لكلٍّ من كتاب (الممتع) لعبد الكريم النهشلي، وكتاب (الضرائر الشعرية) للقزَّاز،وما قام به الكثير من المحققين لكتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني، ولعلَّ من أبرزهم محمد محي الدين عبد الحميد و النبوي عبد الواحد شعلان،أو من خلال البحث والدراسة ككتاب عبَّاس الجراري(الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه)،وكتاب محمد طه الجابري(دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية في المغرب العربي)،والكثير من الرسائل الجامعية في شتَّى الجامعات في الأقطار المغاربية. أمَّا في مجال النقد، فإنَّ الأمر أسوأ حالا، وأصعب منالا،وسببه كما يرى مرتاض دائما: أنَّ البحث في مجال النقد والدراسات التي كُتبت تُعدُّ على الأصابع،وما كان منها فهو من المغرب وتونس، أمَّا في الجزائر فما يزال هذا الموضوع بكرا.[[6]]
وإذا بحثنا عمَّا كُتب في مجال النقد الأدبي في المغرب العربي القديم، فإننا نجد ـ على استحياء ـ بعض الكتابات التي كان لها الفضل الكبير في إبراز العديد من الأسماء وبيان ما دوَّنوه في هذا الباب. ومن هذه الكتابات نجد (النقد الأدبي في المغرب العربي) لعبده عبد العزيز قلقيلة،وكتاب (الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي) لبشير خلدون،وكتاب(النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي) لأحمد يزن، وكتاب (النقد الأدبي القديم في المغرب العربي نشأته وتطوره ـ دراسة وتطبيق ـ) لمحمد مرتاض،وكتاب (المقاييس البلاغية والنقدية في قراضة الذهب في نقد أشعار العرب لابن رشيق القيرواني) لمحمد بن سعد الدبل،وكتاب (القاضي عياض الأديب) لعبد السلام شقور، ومؤخَّرا ظهر كتاب آخر لمحمد مرتاض بعنوان (النقد الأدبي في المغرب العربي بين القديم والحديث).
و دون شكٍّ تُعدُّ هذه الأعمال إسهامات جادة ودراسات جليلة قيِّمة، نستطيع من خلالها استكشاف كنوز دفينة وآثار عظيمة كادت عوارض الدهر أن تُزيلها أو تمحوها. ومع هذا كلِّه فالساحة النقدية لا زالت بحاجة ماسَّة إلى المزيد من الدراسات والبحوث والرسائل في هذا التخصص بالذات، لأنَّ الجامعات المغاربية ـ وللأسف الشديد ـ تكاد تكون خالية من مثل هذه الأعمال، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بين دول المغرب العربي، وهذا الأمر ما عاينه محمد مرتاض، وآلمه وجعله يتحسَّر بمرارة شديدة لهذا الوضع المزري في جامعاتنا الجزائرية خاصة،حيث قال: "وقد يُصاب المرء بحسرة وهو يُقلِّب برامجنا الجامعية فلا يلفي إلاَّ صورة باهتة لهذا الأدب ونقده."[[7]]
وهذا الواقع المرير للأدب المغربي القديم و نقده، يجعلنا نقرُّ ونعترف ـ وهو من باب المصارحة والمكاشفة مع أنفسنا ـ بأنَّ الأدب المغربي القديم ونقده لم يحظ بما حظي به الأدب والنقد العربيين في المشرق و الأندلس؛فإخواننا في المشرق العربي استطاعوا إلى حدٍّ كبير تدوين معظم ما تعلَّق بالحركة الأدبية في منطقتهم ـ قديمه وحديثه ـ وكذلك ما تعلَّق بالأدب الأندلسي. ولكن ما كان متصلا بالمغرب العربي فلم يتناولوه إلاَّ نزرا. وهذا ما انتبه إليه بشير خلدون، وجعله يقول في مقدِّمة كتابه(الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي)، يقول: "ستظلُّ الخزانة الأدبية العربية غير كاملة بفقدانها لجانب هام من تراثنا الحضاري: الفكري والأدبي."[[8]]
ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح في هذا المقام،وبصراحة تامة: مَن الذي يُلام في إهمال هذا التراث والموروث الأدبي في بلاد المغرب العربي؟! هل هم المشارقة، أم المغاربة أنفسهم؟ كيف نلوم المشارقة،ونحن مقصِّرون؟! بل وناكرون لتراثنا الأدبي والثقافي والفكري في بعض الأحيان! فإذا جاز لنا أن نلوم بعض المشارقة فإننا نلومهم على عدم تحرِّيهم الدِّقة في حكمهم على هذا الأدب في هذه الربوع، واتِّهامهم إيَّاه بالقصور والتبعية والتقليد في عمومه.
هذا القصور والإهمال من أبناء المغرب العربي تجاه موروثهم الأدبي والفكري جعل بشير خلدون يتوجَّه إلى أبناء هذه المنطقة حاثًا إيَّاهم على تحمُّل مسؤولياتهم تجاه إرثهم وتراثهم الذي ضاع منه الكثير، وأوشك الباقي منه أن يضيع كذلك، قائلا: "من هنا يأتي دور أبناء المغرب العربي ليتحمَّلوا عبء هذه المسؤولية الشاقة، ويقوموا بالمهمة على الوجه الذي نريده لها، وهم إذ يخدمون تراثهم بالقياس إلى إقليمهم الضيق، فإنَّهم يُقدِّمون في الوقت نفسه خدمة قيِّمة للأدب العربي، باعتباره جزءا من تراثنا الحضاري العربي الإسلامي".[[9]]
ومن قبل ذلك حزَّ هذا الأمر ـ ومنذ سنوات عدّة ـ في نفس عبد الله كنون ألاَّ يجد سطرا واحدا عن الأدب المغربي في كتب تاريخ الأدب العربي، فبادر إلى وضع كتابه (النبوغ) ليقف جنبا إلى جنب مع تلك الكتب التي تُؤرِّخ للأدب العربي. فهو يرى أنَّ الأدب المغربي ظلَّ مُتجاهَلا لدى طائفة كبيرة من المهتمين بتاريخ الأدب العربي سواء من المشارقة أو غيرهم، فكانت الحاجة ماسَّة لإخراج كتاب (النبوغ) قصد تصوير الحياة الفكرية والأدبية والسياسية للمغرب وتطوُّرها عبر العصور، إذ يُشير إلى ذلك موضِّحا الغاية والدَّاعي من التأليف قائلا: " لـمَّا ألَّفتُ هذا الكتاب لم أكن أهدف به إلى تمييز أدب المغرب بميزة ليست في الأدب العربي العام، ولا إلى تخصيصه ببحث مستقلٍّ يجعله في نظر المغاربة أو غيرهم كتابا خاصًّا بأدب قطر من أقطار العروبة على حدته، وإنَّما كان مقصودي الأهم من تأليفه هو بيان اللَّبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلُّها."[[10]]
ثنائية النقد والبلاغة في الموروث العربي والمغربي:
إنَّ العلاقة بين النقد والبلاغة في الأدب العربي القديم أثارت ـ ولا زالت ـ الكثير من التساؤلات والنقاشات، وذلك بسبب هيمنة الجانب البلاغي على النقد القديم. فالنقد كان نقدا بلاغيا، والبلاغة كانت بلاغة نقدية، وهذا في الغالب الأعمِّ. ومعنى ذلك اعتماد النقد على مقولات وفنون البلاغة، واعتماد البلاغة على الحسِّ النقدي، فالنقد الأدبي كما يقول مصطفى عبد الرحمن إبراهيم هو" أبو البلاغة العربية في حجره نشأت، وفي رحابه درجت، فهي تُنسب إليه وتنبثق عنه، ولهذا توثَّقت الصلة بينهما."[[11]]
والدارس لبدايات النقد والبلاغة وخاصة في قرونه الأربعة الأولى، يتبيَّن له مدى امتزاجهما وارتباطهما الوثيق في طور النشأة والتكوين، بل يقف على وحدة هدفهما في نقطة الانطلاق ومساحة العمل، وهذا الامتزاج جعل من العسير الفصل بينهما في هذه المرحلة خاصة، فقد تداخلت المباحث البلاغية والنقدية تداخلا يصعب معه وضع الفواصل والحدود بما يُميِّز كلَّ علم عن الآخر قبل مرحلة التقعيد، "ولعلَّ من أسباب ذلك أنَّ النقد لم يظهر عند ظهوره، علما مستقلا بنفسه، ولم تظهر البلاغة عند ظهورها علما مستقلا بنفسه، وربما لم يظهر غيرهما مستقلا بنفسه أيضا، وذلك يعود إلى طبيعة التأليف في العلوم في المرحلة الأولى، التي تمَّ فيها تثبيت المعالم الأولية لكل علم."[[12]]
وهذا ما يُقِّره كذلك أحمد مطلوب؛ فهو يرى أنَّ الباحث مهما صنَّف النقد القديم في اتجاهات، يجد أنَّ النقد العربي كان بلاغيا، ويُرجع ذلك إلى أسباب كثيرة، ثمَّ يقول: "ومهما قيل فإنَّ النقد العربي مرتبط بالبلاغة ارتباطا وثيقا لأنها أهم أركانه، ولأنَّها أهم سمات اللغة العربية التي حفلت بكلِّ فن بديع."[[13]]
كما نجد حسين الأسود يصف تلك العلاقة بين النقد والبلاغة وصفا بديعا؛ حيث يُشبِّه تلك العُرى الوثيقة بين النقد والبلاغة بالحبل السُرِّي الذي يربط الجنين بأمِّه، ويُمدّه بكلِّ ما يحتاج إليه، فيقول: " والحديث عن الأصول التي تجمع البلاغة بالنقد القديم إنَّما هو حديث عن الحبل السُريّ الدقيق الذي يصل البلاغة بالنقد. أمَّا سبب وجود هذا الحبل وعلَّته فهو الطاقة الجمالية التي تُفرزها البلاغة العربية، ثمَّ اعتماد أسباب هذه الطاقة في الأحكام النقدية، فالبلاغة عناصر جمالية، والنقد بوجهٍ عام أحكام تستند إلى هذه العناصر."[[14]]
فالبلاغة نبتٌ تمتدُّ جذوره من رحم النقد الأدبي، وعلاقتها به علاقة الجزء بالكلِّ، والفرع بالأصل، فالنقد هو المنبع وهو الأساس الذي استقت منه وقامت عليه قواعد البلاغة، "وإذا كان هدف النقد البحث عن الجمال، ومحاولة إحصاء مظاهره، والإشادة به، وذِكر القبح في معرض التنديد به والتحذير منه، فإنَّ البلاغة هي ثمرة هذا البحث، ومجتمع مظاهر الجمال، صيغت في فصول وأصول وقواعد."[[15]]
ولابُدَّ أن نشير هنا إلى أنَّ العامل الرئيس الذي جعل المسلمين يهتمون بالبلاغة هو خدمة كتاب الله، وبيان إعجازه، فلقد اختلط العرب الفصحاء بغيرهم، وضعفت فيهم سليقة الذوق الفطري في التعامل مع النصوص الأدبية عموما، والنص القرآني على وجه الخصوص، ثمَّ إنَّ دعوة الإسلام وصلت إلى أقوام مختلفين في لغاتهم، كما أُثيرت شكوك ومطاعن في بلاغة القرآن وإعجازه، فكان هذا أهمَّ الأسباب في اتجاههم إلى البلاغة باحثين فنونها وموضحين أقسامها لتكون لهم عونا على فهم كتاب الله، فانكبُّوا على البحث في تفاصيلها، والتأليف في مواضيعها. وقد أشار إلى هذا الهدف السامي الكثير ممَّن ألَّفوا في البلاغة، فهذا أبو هلال العسكري يقول في مقدِّمة كتابه (الصناعتين): " اعلم علَّمك الله الخيرَ، ودلَّك عليه، وقيَّضه لك، وجعلك من أهله: أنَّ أحقَّ العلوم بالتعلُّم، وأولاها بالتحفُّظ ـــ بعد المعرفة بالله جلَّ ثناؤه ـــ علمُ البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يُعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحقِّ، الهادي إلى سبيل الرُّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحَّة النبوَّة، التي رفعت أعلام الحقِّ وأقامت منار الدِّين، وأزالت شُبَه الكُفر ببراهينها، وهتكت حُجُب الشكِّ بيقينها. وقد علمنا أنَّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمُه بإعجاز القرآن من جهة ما خصَّه الله به من حُسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمَّنه من الحلاوة، وجلَّله من رونق الطَّلاوة، مع سهولة كَلِمِه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلقُ عنها، وتحيَّرت عقولهم فيها."[[16]]
ومع نهاية القرن الرابع الهجري، وهو ما يعتبره الكثير من الدارسين العصر الذهبي للبلاغة، تميَّزت كلمة البلاغة بمدلول ومفهوم اصطلاحي خاص بها، " فألَّف عبد القاهر الجرجاني كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، وهو مُدرك لهذا المدلول تمام الإدراك. ويقول المؤرِّخون للبلاغة إنَّ عبد القاهر هو الذي وضع الأسس الواضحة لهذا العلم، بتأليفه كتاب (أسرار البلاغة) في علم البيان، و(دلائل الإعجاز) في علم المعاني."[[17]]
وممَّا تجدر الإشارة إليه كذلك، أنَّ البلاغة العربية تأثَّرت باتجاهين أو بمدرستين مختلفتين، هما المدرسة الأدبية والمدرسة الكلامية، وكان لهما الدور الكبير في ثراء البلاغة وتميُّزها واستقلالها نهائيا عن النقد الأدبي.
فالمدرسة الأدبية طبعت بحوث البلاغة بطابع أدبي بحت، يعتمد على الذوق الرفيع والسليم، وكان بيان إعجاز القرآن الكريم أهمَّ العوامل المساعدة على ذلك، كما كان للكُتَّاب والشعراء أثـــرٌ واضح وبارزٌ على البلاغة،في هذه المدرسة، ممَّا جعلها منذ عهد مبكِّر تتجه اتجاها أدبيا بعيدة عن منهج المدرسة الكلامية،ومن خصائصها التي تُميِّزها عن المدرسة الأخرى أنَّها لم تهتم كثيرا بالتحديد والتقسيم، وإن فعلت فعلى غير تعمُّق، ونبذت وحاربت المنطقيات ومسائل الفلسفة، واستعملت المقاييس الفنية في الحكم على الأدب، ولذلك نجدها مرة تستطيع التعليل، ومرَّة لا تستطيع ذلك،وتُرجعه إلى الذوق والإحساس الفني، وأسلوب كُتبها سهل لا يحتاج إلى عناء كبير لفهمه، كما أسرف رجالها في ذكر الشواهد والأمثلة. وأهم كُتبها التي تضمَّنت خصائصها كتاب (البديع) لابن المعتز،وكتاب (الصناعتين) للعسكري،و(سرّ الفصاحة) لابن سنان الخفاجي، و(أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجاني، و(البديع في نقد الشعر) لابن منقذ، و(المثل السائر) و(الجامع الكبير) لابن الأثير، و(بديع القرآن) و(تحرير التحبير) لابن أبي الإصبع، وغيرها. [[18]]
ونتيجة لتأثير الفلسفة والمنطق وعلم الكلام مبكِّرا على البلاغة في الفكر العربي والإسلامي؛ انعكس ذلك على الدرس البلاغي وتعمَّق هذا الأثر، وظهر جليًّا في القرن السادس للهجرة وما بعده. فكانت المدرسة الكلامية التي اهتمت بالتحديد الدقيق والتقسيم العقلي، وجَعْلِ التعريف جامعا مانعا، واستعمال أساليب المتكلِّمين في بحث الموضوعات وحصرها، والإقلال من الأمثلة الأدبية، وقد يذكرون أمثلة لا جمال فيها؛ لأنَّ صحة الشاهد أو المثال عندهم أصل كلِّ شيء، أمَّا جماله وما يبعث في النفس من إحساس أو شعور فني فلم يُوجِّهوا عنايتهم إليه، وكان من أبرز نتائجها على البلاغة العربية أن تبلورت ملامحها وتحدَّدت معالمها، وذلك بجمع شتاتها، وترتيبها، وتقعيدها وتبويبها، وتقسيمها إلى ثلاثة علوم هي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. وأهمُّ كتبها (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) لفخر الدين الرازي و(مفتاح العلوم) للسكاكي و(تلخيص المفتاح) و(الإيضاح) للقزويني و(عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح) لبهاء الدين السبكي، وغيرها من شروح التلخيص الأخرى. [[19]]
هذا إجمالا وبإيجاز ما كانت عليه علاقة النقد بالبلاغة في الأدب العربي عند المشارقة، أمَّا إذا عرَّجنا إلى النقد العربي في المغرب الإسلامي فإنَّ الأمر لا يختلف عمَّا رأيناه في المشرق، فمفهوم البلاغة و تقسيماتها، وألوان كلِّ قسم منها ظلَّت متداخلة ومضطربة نوعا ما عند المغاربة إلى فترة متأخِّرة. يقول محمد مفتاح في كتابه (التلقي والتأويل): " يرى متتبع البلاغة العربية في المغرب أنَّ التسمية بـ (علم البلاغة) لم تسد إلا في عصور متأخِّرة باعتبارها علما شاملا للعلوم الثلاثة: المعاني والبيان والبديع"[[20]]، ويستدل على ذلك بما ذكره ابن خلدون في مقدِّمته؛ فقد استعمل مصطلح(البيان) ويقصد به (البلاغة)، وقد علَّل ابن خلدون ذلك بقوله: "وأُطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسمُ البيان، وهو اسم الصنف الثاني؛ لأنَّ الأقدمين أوَّلُ ما تكلَّموا فيه".[[21]] ويُؤكِّد محمد مفتاح هذا الحكم بذكر مثالين؛ الأول يتعلَّق بالسجلماسي صاحب كتاب(المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع)، حيث يستعمل ثلاث تسميات، هي: (علم البيان) و(صنعة البلاغة) و(البديع)، إلاَّ أنه كثيرا ما يُردِّد (علم البيان) و(صنعة البلاغة). والثاني هو ابن البناء المراكشي العددي، صاحب كتاب(الروض المريع في صناعة البديع)، فيتحدَّث عن (البلاغة) و(صناعة البديع) وعن (علم البيان)، ويرى أنَّ العلم أشمل وأعمُّ من الصناعة؛ لأنَّ العلم يُميِّز الكليات ويُميِّز الجزئيات، وأمَّا الصناعة فتعطي القوانين الكلية التي تنضبط بها الجزئيات، وعلى هذا يخلص إلى أنَّ (علم البيان) أعمُّ وأشمل من (صنعة البلاغة) و(صناعة البديع).[[22]]
وما ذكره ابن خلدون وأكَّده محمد مفتاح يُثبت أنَّ هذا المصطلح (علم البلاغة) احتلَّ شيئا فشيئا مكانة (علم البيان)، وفرض نفسه كما يقول محمد مفتاح: "بعد مجيء كُتب القزويني إلى المغرب"[[23]]
والذي يعنيني من هذه الدراسة ليس تتبّع مسار علم البلاغة بأقسامه وأنواعه عند نقاد المغرب العربي في محطات زمنية متتالية، وإنَّما القصد هو الوقوف على مدى صحة مقولة ابن خلدون حينما عرض لعلم البيان وقارنه بين المشارقة والمغاربة، ورأى بأنَّ أهل المشرق هم أقدر على علم البيان، بينما اختصَّ أهل المغرب بعلم البديع. واضعا كتاب (العمدة) لابن رشيق نموذجا في دراستي، ومنطلقا بطبيعة الحال من مقولة ابن خلدون.
بين المشارقة والمغاربة:
هذه الآراء السالفة الذكر، التي تُنكر الأدب المغربي أو ترميه بالقصور وتتَّهمه بالتقليد والتبعية للمشرق قد وجدت في مقولة ابن خلدون مُرتكزا ودعامة لآرائهم تلك؛ فكلما تناولوا هذه المسألة إلا وأوردوا مقولة ابن خلدون في مقارنته بين أهل المشرق وأهل المغرب في علوم البيان التي تعني اليوم علوم البلاغة،فهو يقول: " وبالجملة: فالمشارقة على هذا الفنِّ أقوم من المغاربة،وسببه ـ والله أعلم ـ أنَّه كماليٌّ في العلوم اللسانية،والصنائعُ الكماليَّةُ توجدُ في وفور العُمران،والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه،أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كلُّه مبنيٌّ على هذا الفنِّ وهو أصله. وإنَّما اختُصَّ بأهل المغرب من أصنافه علمُ البديع خاصَّة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرَّعوا له ألقابا وعدَّدوا أبوابا ونوَّعوا أنواعا. وزعموا أنَّهم أحصوها من لسان العرب، وإنَّما حملهم على ذلك الولوعُ بتزيين الألفاظ، وأنَّ علم البديع سهلُ المأخذ، وصعُبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقَّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما"[[24]].
وهذه المقارنة بين المشارقة والمغاربة ليست الوحيدة في المقدِّمة، فقد تعدَّدت مرَّات كثيرة، فكلَّما استعرض ابن خلدون صناعة من الصنائع سواء كانت فكرية أو يدوية إلاَّ وأتبعها بما هي عليه في المشرق والمغرب، أو بين العرب والعجم، ويُفاضل بينهما رادًّا السبب في غالب الأحيان إلى كثرة العمران ووفرته في منطقة دون أخرى. كما هو الحال بين بلاد المشرق وبلاد المغرب.
وغير بعيد عن المقارنة الأولى، وفي سياق حديثه عن الذوق الأدبي، وأنَّ أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تُستفاد بالتعليم، ومَن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر، ففي هذا الموضع يقول ابن خلدون: "فأهل إفريقية والمغرب لـمَّا كانوا أعرق في العُجمة وأبعدَ عن اللسان الأوّل، كان لهم قصور تامٌّ في تحصيل ملكته بالتعليم... وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل لهذا العهد. ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير الشعراء، إلاَّ ابنُ رشيق وابنُ شرف. وأكثر ما يكونُ فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتَّى الآن مائلةً إلى القُصور".[[25]]
فابن خلدون يرى أنَّ الأدب المغربي إلى زمانه، أي: (المائة الثامنة من الهجرة) أدبٌ ضعيف وأقلُّ درجة من أدب المشرق؛ سواء في شعره أو بلاغته أو في الذوق الأدبي عامة. ويرى أنَّ إفريقية ليس بها مشاهير الشعراء إلاَّ اثنين هما (ابن رشيق وابن شرف)، ويستشهد لحكمه هذا بنصِّ رسالة قصيرة بعثها أحد كُتَّاب القيروان إلى صاحب له، وهذه الرسالة نقلها ابن خلدون عن ابن الرقيق، وفيها: "يا أخي ومَن لا عدمتُ فقده، أعلمني أبو سعيد كلاما أنَّك كنتَ ذكرتَ أنَّك تكونُ مع الذين تأتي، وعاقنا اليومُ فلم يتهيَّأ لنا الخروج. وأمَّا أهل المنزل الكلابُ من أمر الشين فقد كذَّبوا هذا باطلا، ليس من هذا حرفا واحدا. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله."[[26]]
ففي هذا النص يعقد ابن خلدون مقارنة بين المشارقة والمغاربة في فنِّ علم البيان(البلاغة)، فهو يرى أنَّ النقَّاد المشارقة أكثر اهتماما وعناية، وأوسع دراسة من النقَّاد المغاربة، ثمَّ يخصُّ أهل المغرب بتميُّزهم في علم البديع حيث اهتموا به وأولوه عناية كبيرة دون بقية العلوم الأخرى من البلاغة، ويردُّ هذا لسببين رئيسيين هما:
1 ـ أنَّ علم البيان كماليٌّ في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران، والمشرق أوفر عمرانا من المغرب.
2 ـ عناية واهتمام علماء العجم، وهم أكثر أهل المشرق بهذا الفنِّ في جميع علومه،كالزمخشري والجرجاني و القزويني وغيرهم كثير.
فابن خلدون كما نرى نجده يربط كلَّ تطوُّر وازدهار بكثرة العمران و وفرته، في أيِّ مجال كان هذا الازدهار؛سواء كان اقتصاديا أو اجتماعيا أو فكريا أو أدبيا. وهذه الرؤية من مؤسس علم الاجتماع (ابن خلدون) أصبحت اليوم نظرية؛ اهتم بها الكثير من الباحثين و الدارسين، وأكَّدوا صحَّتها إلى حدٍّ كبير. وهذا سبب في الحقيقة وجيه فالمشرق أوفر عمرانا من المغرب، ولكنَّ هذا لا ينفي وجود بعض المناطق المغربية والأندلسية كانت موفورة العمران كثيرة السكان،تُضاهي في ذلك بعض المناطق في المشرق. وإن كان محمد مفتاح يتساءل عمَّا يقصد ابن خلدون بـ(المشرق والمغرب)، وبــ(المشارقة والمغاربة)، وهو لا ريب تساؤل وجيه ومشروع، فابن خلدون لم يُوضِّح في مقدِّمته ما المقصود بالمشرق والمغرب، وأهل المشرق وأهل المغرب؟ وأكتفي بهذا حتَّى لا يحيد بي الكلام إلى قضايا أرى من الأنسب تحاشيها في هذا المقال، تجنُّبا للإطالة وخشية الخروج عن جادة الموضوع.[[27]]
أمَّا ما تعلَّق بالسبب الثاني، وهو اهتمام علماء العجم وهم أكثر أهل المشرق بفنِّ البيان، ويعني به( علم البيان وعلم المعاني)، وقصور أهل المغرب على علم البديع، فهو كلام صحيح نسبيا، أي لا يُمكن أن يكون هذا الحكم عاما على الجميع، وهذا الرأي كما يرى محمد بن شريفة "لا يخلو من الإطلاق والتعميم، ويبدو أنَّه لا يقوم على الاستقراء الدقيق، وممَّا يدل على ذلك أنَّه ـ على سبيل المثال ـ لم يُشرْ إلى (منهاج البلغاء) لحازم القرطاجنِّي، وهو من أرقى ما صُنِّف في البلاغة."[[28]]، فهذا الحكم قد ينطبق على بعض النقاد المغاربة، لكنه حتما لا يُمكن أن ينطبق على الجميع، فمن المؤكَّد أنَّ هناك من النقاد والبلاغيين المغاربة من كانت لهم اليد الطولى في فنِّ البيان. يقول محمد مفتاح في هذا الشأن: "إنَّ قول ابن خلدون صحيح في مجمله لا في تفاصيله؛فمن حيث الإجمال إنَّ الكتب المؤلفة في (فنِّ البيان) قبل ابن خلدون وأثناء حياته يحتلُّ فيها اسم (البديع) وألقابه وأبوابه وأنواعه مكانة مرموقة؛ وأمَّا من حيث التفصيل فإنَّ النماذج التي سنحلِّلها تُثبت أنَّ البيانيين المغاربة لهم باع طويل في فنِّ البيان وقوامة عليه."[[29]]
ثمَّ إنَّ هناك مسألة أخرى أرى أنَّها من الأسباب الرئيسة في اهتمام المغاربة بفنِّ البديع دون غيره، فهذا الاهتمام ليس بدعا منهم؛ فقد حَظِي فنُّ البديع في البلاغة العربية قديمها وحديثها بما لم يحظ به فنُّ البيان أو فنُّ المعاني،و لا أدلَّ على ذلك من الكتب المؤلَّفة في هذا الفنِّ، وما أكثر عناوين الكتب البلاغية التي تشتمل على لفظة البديع، ولعلَّ كتاب (البديع) لابن المعتز أوَّلُها. وهذا الاهتمام مردُّه بعلاقة فنِّ البديع وقضاياه وظواهره ببديع القرآن الكريم وإعجازه،فقضية إعجاز القرآن الكريم كانت من أهمِّ أسباب نشأة وتطوُّر علم البلاغة برمته، والبديع أعلى درجات البلاغة،وأعظمها شأنا،لأنَّه مظهر من مظاهر تزيين الكلام وتحسينه. فلا غرابة إذن إذا اهتمَّ نقاد المغرب العربي القديم بفنِّ البديع وأولوه كلَّ هذا الاهتمام والعناية،وهم يسعون في كلِّ علومهم ومعارفهم إلى خدمة كتاب ربِّهم وبيان وجوه إعجازه، وأسرار نظمه.
وهذا الرأي من ابن خلدون،وهو مَن هو في علمه وفكره،وقبل هذا،هو أحد أبناء المغرب العربي، وجد من الأنصار والمعارضين الكثير من الفريقين، وهذا ما سنراه من خلال عرض كتاب (العمدة) لابن رشيق، الذي اخترناه كنموذج لتلك الآراء المختلفة والمتباينة حول النقد المغربي القديم.
كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني:
فابن رشيق القيرواني(390 ـ 456)ه، علم من أعلام البلاغة العريية والمغربية،أديب وشاعر وناقد، يتميَّز بآرائه ونظراته الحصيفة والجريئة، يتمتَّع بذوق أدبي رفيع،وسعة اطِّلاع،وفطنة وذكاء حاد، وقوة ملاحظة،وحسن استدلال،وقوة ذاكرة،هذه الصفات مكَّنته من بسط قضاياه البلاغية والنقدية منظَّمة سلسة واضحة،لا تعقيد فيها ولا غموض.
وكتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده أهمُّ كُتبه التي زادت على الثلاثين مُؤلَّفا، وقد أراده ابن رشيق أن يكون موسوعة في الشعر ونقده، وفي البلاغة وفنونها المختلفة،" فقد أدخل الكتابُ صاحبَه ميدانَ البلاغة والنقد من أوسع أبوابه، ولا غرو، فهو الكتاب الذي يُمثِّل مرحلة النضج في التأليف البلاغي والنقدي،كما أنَّه الكتاب الجامع المحكم في موضوعه ومنهجه،والذي لا يزال معينا لا ينضب يفيد منه الدارسون والباحثون بما حفظه من نصوص وآراء السابقين،وبما اختزنه من حرِّ وجريء الرأي الخاص."[[30]] وهو بالفعل كذلك فهو موسوعة في الأدب والشعر والنقد والبلاغة،ولا غنى للباحث عنه. ولقد طارت شهرته شرقا وغربا حتَّى خصَّه ابن خلدون بالتفرُّد بهذه الصناعة، وفضَّله على كلِّ ما كُتب قبله وبعده، فقال:"وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقِّها،ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله."[[31]] أهداه ابن رشيق لأبيالحسن بن أبي الرجال الشيباني مُربِّي المعز بن باديس ورئيس ديوان كتّابه. ويضمُّ الكتاب بين دفتيه مائة وسبعة أبواب، منها تسعة وخمسون بابا لها علاقة وثيقة بالشعر ونقده، ومن القضايا النقدية التي تناوها ابن رشيق في عمدته: فضل الشعر، حدّ الشعر وبنيته، المشاهير من الشعراء،منافع الشعر ومضاره، القدماء والمحدثون،اللفظ والمعنى، المطبوع والمصنوع، الأوزان والقوافي،في آداب الشاعر، مشكلة السرقات وغير ذلك. ثم يُفرد الكاتب الحديث عن البلاغة والبيان في تسعة وثلاثين بابا. وأهمُّ القضايا البلاغية التي استعرضها الناقد نجد: البلاغة،الإيجاز،البيان،النظم،المخترع والبديع؛أمَّا في علوم البلاغة الثلاثة، ونعني بها( البيان والمعاني والبديع)، فكما أسلفنا سابقا فالمصطلحات مازالت مضطربة ومتداخلة فيما بينها، إلى زمن ابن رشيق، ولكن إذا حصرنا ما جاء في العمدة في هذه العلوم فإننا نجد ابن رشيق تناول في بحوث البيان: المجاز،الاستعارة،التمثيل،المثل السائر،التشبيه،الإشارة،الكناية،والتتبيع،وفي بحوث المعاني نجد: الالتفات،التقديم والتأخير،الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة، الإيغال، الاحتراس والاحتياط، الحشو وفضول الكلام، الاستدعاء،التكرار،والاشتراك في المعاني. أمَّا في بحوث البديع،فمن فنون البديع المعنوية نجد:المطابقة،ما اختلط فيه التجنيس بالمطابقة، المقابلة، التقسيم،التسهيم،التفسير، الاستطراد، التفريغ، الاستثناء، التتميم، المبالغة، الغلو، التشكك، المذهب الكلامي، نفي الشيء بإيجابه، التضمين والإجازة، الاتِّساع، التغاير. ومن فنون البديع اللفظية نجد: التجنيس، الترديد، التصدير، الترصيع.
أمَّا بقية أبواب الكتاب فقد أورد ابن رشيق مجموعة من الأبواب لها علاقة وطيدة بصناعة الشعر، وهي موضوعات مهمة ومطلوبة لطالب الأدب وعلم الشعر ونقده، فهي من الأمور التي يجب معرفتها وتعلُّمها،والوقوف عليها؛ لتستقيم للطالب آلة الشعر،وتكتمل له ثقافة نقده. ومن ذلك:ما يتعلَّق بالأنساب،ذكر وقائع وأيام العرب، ملوك العرب،العتاق من الخيل ومذكوراتها، معرفة الأماكن والبلدان، ذكر منازل القمر، وغيره.
أمَّا عن منهجه في الكتاب، فقد صرَّح ابن رشيق عنه في المقدِّمة أو خطبة الكتاب ـ كما يقول القدماء ـ والتي جاء فيها: " فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب،وأوفر حظوظ الأدب...ووجدت الناس مختلفين فيه، متخلفين عن كثير منه: يُقدِّمون ويُؤخِّرون، ويُقلّون ويُكثرون، قد بوبوه أبوابا مبهمة،ولقَّبوه ألقابا متهمة،وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهبا هو فيه إمام نفسه، وشاهد دعواه،فجمعتُ أحسن ما قاله كلُّ واحد منهم في كتابه؛ ليكون (العمدة في في محاسن الشعر وآدابه)،إن شاء الله تعالى. وعوَّلتُ في أكثره على قريحة نفسي، ونتيجة خاطري؛خوف التكرار،ورجاء الاختصار، إلاَّ ما تعلَّق بالخبر، وضبطتْه الرواية، فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه؛ ليُؤتى بالأمر على وجهه، فكل ما لم أُسنده إلى رجل معروف باسمه، ولا أحلتُ فيه على كتاب بعينه؛فهو من ذلك، إلاَّ أن يكون متداولا بين العلماء، لا يختص به واحد منهم دون الآخر، وربما نحلته أحد العرب، وبعض أهل الأدب، تسترا بينهم، ووقوعا دونهم، بعد أن قرنت كلَّ شكل بشكله، ورددتُ كلَ فرع إلى أصله، وبيَّنتُ للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه، وكشفتُ عنه لبْس الارتياب به، حتَّى أُعرِّف باطله من حقِّه، وأميز كذبه من صدقه.[[32]]
من هذا الكلام الفصيح الصريح يتبيَّن لنا منهج ابن رشيق في كتابه، وهو منهج - دون شكٍّ -علمي رصين - قلَّ أن نجده في كتب الأولين، ومنه يُمكن أن نُحدِّد دعائم وركائز هذا المنهج الذي حدَّده ابن رشيق لنفسه، وسار عليه في خطة كتابه، وهي:
ـ التخيُّر والانتقاء، ورصْد أحسن ما قيل في فنِّ الشعر ونقده،واعتمادُه في ذلك على قريحة نفسه، ونتيجة خاطره.
ـ الصِّدق والأمانة في النقل والرواية، سواء من كتاب أو عالم أو ناقد،أو خبر مضبوط، إلاَّ ما كان من الآراء والأقوال المشهورة والمعروفة، والتي أصبحت ملكا مشاعا بين الجميع، فهذه لم ينسبها لأصحابها.
ـ الابتكار والإبداع في ما أضافه من خالص فكره ورأيه؛ مناقشا ومؤيِّدا ومرجِّحا ومعترضا، كلُّ ذلك بالحجة والبرهان.
وانطلاقا من هذا المنهج نستطيع أن نستنتج أقساما ثلاثة تُوضِّح أُطُر القضايا التي عالجها ابن رشيق في كتابه، وهي:
الإطار الأول: قضايا ومسائل نقلها ابن رشيق من غيره من العلماء والنقاد دون تصرُّف فيها أو تغيير، فقد نقلها حرفيا دون نقصان أو زيادة، بكل أمانة ونزاهة.
الإطار الثاني: قضايا نقلها ابن رشيق ممَّن سبقه وقرأ لهم، لكنه لم يكتف بالأخذ والنقل، بل ناقشها وحلّلها وأخذ منها ما أخذ، واعترض على ما اعترض،ورجَّح ما رجَّح. وسلاحه في ذلك كلِّه ذوقُه الأدبي وفكره الثاقب وذكاؤه الحاد، وبصيرته النافذة، وعبقريته الفذّة.
الإطار الثالث: قضايا ومسائل كان لابن رشيق فيها فضل السبق والاكتشاف والابتكار، ولم يسندها لغيره من العلماء.
هذه نظرة عامة وشاملة للكتاب، أردنا ذكرها لنُبيِّن مضمون الكتاب وفحواه ولو بإيجاز شديد، حتَّى نكون على بيِّنة من الأمر من القضايا البلاغية والنقدية التي خاض فيها ابن رشيق الحديث في كتابه العمدة.
أخذ ابن رشيق مادة كتابه عن عدد غير قليل من أدباء ونقاد المشرق العربي،أمثال: الجاحظ، الحاتمي، الرماني، قدامة، الآمدي، ابن قتيبة، العسكري، ابن طباطبا، الثعالبي... أمَّا من النقَّاد المغاربة فأخذ كثيرا عن شيخه وأستاذه عبد الكريم النهشلي، وقد صرَّح هو نفسه بذلك، كما أخذ عن القزَّاز كذلك.
أمَّا الذين تأثَّروا بالكتاب وأخذوا عنه فهُم كثير، "فهذا أبو بكر الشنتريني يُلخِّص في كتابه(جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكُتَّاب) ذي الأجزاء الأربعة جزئين من(العمدة)، ونجد ضياء الدين بن الأثير يقتبس منه خمسة وتسعين بالمائة من حجم مادة كتابه(كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب)، ونقل عنه الرُّندي الأندلسي صاحب(الوافي)،والشَّنتريني صاحب(الذَّخيرة)، واختصره أبو عمرو عثمان بن علي الأنصاري الخزرجي الصِّقلي النَّحوي، وموفَّق الدين البغدادي، وأخذ عنه السجلماسي صاحب(المنزع البديع)."[[33]]
واختلف الدارسون والباحثون والنقاد حول كتاب العمدة وصاحبه، بل إنَّ الأمر قد تجاوز مع بعضهم الأدب والنقد العلمي القائم على الحجة والدليل والموضوعية، وهو ما لاحظه الباحث(محمد بن سليمان الصِّيقل) في رسالته؛ فهو يقول في مقدِّمتها:"غير أنِّي ما شرعت في الكتابة وقرأت ما كتبه الدارسون المحدثون حوله حتَّى هالني ما رأيت من بعضهم من أحكام تقويمية عامة، هي دون المستوى الحقيقي للعمدة وصاحبه، بل إنَّ بعض هذه الأحكام قد تمادت أكثر حين زعم كثير منهم بأنَّه مجرَّد ناقل وجامع، ولقد كانت هذه النظرة مع الأسف هي النظرة السائدة تجاه العمدة وصاحبه بين كثير من أوساط المتخصصين! ليس ذلك وحده، بل لقد تجاوز بعض هؤلاء الدارسين المحدثين الحدَّ في الحكم حتَّى ليُخيَّل أنَّ بينهم وبينه عداوة، وقد سبقهم بألف عام! وسيجد القارئ ذلك في مظانِّه، ولقد حاولتُ جهدي إنصاف الرجل بكلمة الحقِّ ووضْع كتابه في المنزلة التي يستحقها بين كتب البلاغة والنقد."[[34]]
ومن أولئك الذين تحاملوا على كتاب العمدة وصاحبه نجد بدوي طبانة الذي تعرَّض للكتاب في كتابه (البيان العربي)، والذي جاء فيه: "والذي يطَّلع على كتاب العمدة يظهر له بوضوح صدق ما ذهب إليه ابن خلدون؛ فإنَّ ملكة الابتكار تكاد معالمها تكون مفقودة في هذا الكتاب، وإن كان لصاحبه شيء من الفضل، فهو فيما جمعه من الروايات المأثورة، وما نقله من كلام غيره من علماء البيان ونقَّاد الشعر، وقلَّما رأيته ينقض قولا، أو يذهب مذهبا، إلا إذا كان القول منقولا، والمذهب مأثورا."[[35]]، فهو يرى أنَّ كتاب العمدة لا يعدو أن يكون كشكولا جمع فيه صاحبه ما سبقه من آراء وروايات في الشعر ونقده، ولا أثر للإبداع أو الابتكار في مادة هذا الكتاب، ولا فضل لصاحبه إلاَّ جمع هذه المادة وترتيبها.بل ويُعمِّم حكمه هذا على المغاربة كلِّهم في قصورهم وعجزهم في البحث البياني، فيقول في موضع آخر: "ولو لم يكن من ابن رشيق إلاَّ أن يعيب الباحث المنقِّب المستقل بالرأي والمنهج لكفاه ذلك مُثلةً ودليلَ عجز وضيق أفق في البحث البياني. وهذا ما يصدق أنَّ المغاربة ـ وهذا إمام من أئمتهم في البيان ـ كانوا عيالا على المشارقة، وأنَّهم فقدوا الاستقلال، وفقدوا علم الدراية، وقنعوا بعلم الرواية والنقل عن علماء المشارقة ورواتهم ما قرأوه في كتبهم وما نقلوه من رواياتهم."[[36]]
ولا ندري من أين تأتَّى لطبانة أنَّ ابن رشيق يعيب الباحث المنقّب المستقل بالرأي والمنهج، فهو لم يستدلَّ على ذلك، وانظر إلى النقد اللاذع، والحكم البعيد كلَّ البُعد عن العلمية والموضوعية؛ حين يقول:" لكفاه ذلك مُثلةً ودليلَ عجز وضيق أفق في البحث البياني"، ثمَّ يعترض قائلا:" وهذا إمام من أئمتهم في البيان"، فكيف يكون إماما من أئمة البيان، وهو ضيِّق الأفق في البحث البياني؟! هذا لعمري في القياس بديع! ثمَّ نعتُه المغاربة بأنَّهم عيال على المشارقة، وكان أكثر جهدهم النقل واتِّباع المشارقة، لأنَّهم فقدوا علم الدراية.
والموقف نفسه نجده كذلك عند عبد القادر حسين في كتابه (المختصر في تاريخ البلاغة)؛ فهو يقول عن ابن رشيق من خلال كتابه العمدة: "فقد اقتصر على نقل الأبواب المتعلِّقة بالبلاغة من كتب السابقين دون أن يُمحِّص آراءهم أو يُضيف إليها شيئا جديرا بالذكر. وإذا كان لكتاب العمدة من فضل، فهو فضل الجمع بين خيرة آراء السابقين ممَّا يُغني عن قراءة كتبهم، فهو خلاصة يجد فيه القارئ بغيته دون الرجوع إلى ما كتبه السابقون عن أبواب البلاغة."[[37]]، فهو يذكر صراحة أنَّه لا فضل لابن رشيق في كتابه العمدة سوى فضل جمع خيرة آراء السابقين له فيما كتبوه عن الشعر ونقده، وعن البلاغة وألوانها وأنواعها، وفي جمعه ذاك من كتب السابقين، كان لا يُمحِّص آراءهم ولا يُدقِّق فيها، ولا يتخيَّر منها، ويذكر الخاطئ والشاذ، فهو كحاطب ليل؛ يأخذ كلَّ ما وصلت إليه يداه دون تصرُّف أو إضافة. وهذا كلام لا يستقيم مع روح البحث العلمي النزيه والسليم. صحيح أنَّ ابن رشيق قد اعترف صراحة في مقدِّمة الكتاب أنَّه جمع أحسن ما قاله كلُّ واحد منهم في كتابه ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه، وهذا لوحده ليس بالعمل الهيِّن البسيط، فهو يحتاج إلى جهد كبير ووقت كثير. ولو قام بهذا العمل فقط لكفاه، فما بالك والحقيقة خلاف ما ذكر عبد القادر حسين.
وكذلك الأمر عند محمد مندور في كتابه(النقد المنهجي عند العرب)، فقد قال: "وتلا عبد القاهر مؤلفون بل وعاصره مؤلفون كأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني..صاحب (العمدة)، الذي جمع في كتابه الكثير من أخبار الأدب العربي والنقد وعلوم البلاغة العربية دون أن يتَّضح للمؤلِّف منهج خاص وشخصية متميِّزة."[[38]]
فمن خلال هذا الحكم العاجل وغير المتأنِّي يرى مندور أنَّ كتاب العمدة مجرَّد كتاب ضمَّ بين دفتيه مجموعة من الأخبار في الأدب والنقد واللغة، وأنَّ مؤلِّفه لا منهج له واضح في الكتاب، فهو يتخبَّط خبط عشواء، ولا أثر لشخصيته فيه، فقد ذابت وانحلَّت في شخصيات من نقل عنهم. وهذا الحكم بعيد كلَّ البعد عن الحقيقة والصواب، ولو أمعن مندور النظر جيِّدا، وتروَّى في حكمه لكان كلامه خلاف ما قال، فالكتاب ـ كما سنرى من بعض الدارسين المنصفين ـ قد ازدان بالكثير من الاضافات الجديدة والبديعة التي تدل على موهبة الرجل وسعة اطّلاعه، ونظرته النقدية والبلاغية الحصيفة.
أمَّا إذا استعرضنا آراء الدارسين المنصفين فإننا سنجدهم يُقرِّون بمكانة كتاب العمدة، وما حواه من آراء كثيرة في قضايا الشعر والنقد والبلاغة، تدل على غزارة علم صاحبه، وبُعد أفقه ونظرته الثاقبة، وحسِّه الفني وذوقه الأدبي الرفيع. ومن هؤلاء نجد الكاتب الكبير أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) حيث يقول: " وظهرت في المغرب حركة جيِّدة في النقد الأدبي، وردت أول الأمر نُتفا في كُتب الأدب عندهم... ثمَّ ارتقى هذا حتى صار موضوعا قائما بنفسه، وتُوِّجت هذه الحركة بكتاب(العمدة) لابن رشيق و(أعلام الكلام) لابن شرف، وهما من خير الكتب في النقد الأدبي. إلى أن يقول: وقد نقل ابن رشيق في كتابه العمدة فنَّ النقد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين ـ كما فعل صاحب الموازنة والوساطة ـ إلى نقد الشعر عامة."[[39]]
ومنهم كذلك بشير خلدون صاحب كتاب(الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي)، فقد أشاد كثيرا بالكتاب وصاحبه، وذكر أنَّ كتاب (العمدة) يُعدُّ حوصلة وتتويجا لمجهودات العلماء قبله من المشرق والمغرب، وأبرز قيمته العلمية في النقد والبلاغة، كما اعتبر صاحبه أديبا متميِّزا ذواقة، وناقدا حصيفا متزنا، جريئا في أقواله وآرائه، أمينا في رواياته ونقوله، ونكتفي بمقولة واحدة لخلدون يبيِّن من خلالها مكانة ابن رشيق وكتابه العمدة، فيقول:" وكان لابدَّ إذن أن تتقدَّم حركة النقد وتتطور وتظهر بصورة أشمل وأعمق عند شخص آخر يكون أكثر ثقافة وأبعد نظرة وأوسع أفقا وأعمق تفكيرا، وفعلا كان هذا الشخص هو ابن رشيق المسيلي الذي طلع علينا بكتابات عديدة وعلى الخصوص كتابه القيّم(العمدة في محاسن الشعر وآدابه)...ولم يكن دور ابن رشيق وهو يعرض لنا هذه الآراء المختلفة راوية ناقلا، وإنما كان في كل مرة يتدخل ويُعطي رأيه هو كناقد حصيف متزن، وأديب متميّز ذواقة، وكشاعر فنان يحس." [[40]]
ومن الدارسين المنصفين والمعتدلين في موقفهم تجاه ابن رشيق وكتابه (العمدة) نجد عبد العزيز عتيق في كتابه الموسوم بـ (في البلاغة العربية ـ علم البيان ـ)، فهو يقول في حقِّ ابن رشيق وكتابه (العمدة): " وما دُمنا نتحدَّث عن نشأة علم البيان والجهود التي أسهمت في تطويره من ملاحظات بيانية متناثرة هنا وهناك إلى علم بلاغي قائم بذاته، فإنَّ موضع اهتمامنا من كتاب العمدة معلَّق بالأبواب التي عرض فيها بشيء من التفصيل لفنون علم البيان، من مجاز واستعارة وتشبيه وكناية. حقَّا إنَّه جمع تحت كلِّ باب من هذه الأبواب أقوال السابقين فيه وعرضها عرضا حسنا ييسرها للطالبين، وليس هذا الجهد في حدِّ ذاته بقليل. ولكن من الحقِّ أيضا أنَّ له إضافات جديدة في هذه الأبواب تدلُّ على غزارة علمه، ودقَّة فهمه، وسلامة ذوقه الأدبي."[[41]]، فكأني بعبد العزيز عتيق يردُّ على مَن زعم أنَّ ابن رشيق لم يبذل أيَّ جهد في كتابه العمدة سوى جمع آراء من سبقه، ولم يُضف على ما قالوه شيئا؛ قائلا لهم: فليكفه هذا الجهد، وهو دون شكٍّ عمل محمود، وصاحبه مأجور ومشكور.
وهذا ما يراه أيضا شوقي ضيف حين قال: "ولعلَّ في كلِّ ما سبق ما يُصوِّر قيمة العمدة في تاريخ البلاغة وأنَّ هذه القيمة ترجع إلى دقَّة جمعه للآراء المتقابلة في فنونها المختلفة."[[42]]، وهو كذلك ما يراه مازن المبارك بقوله: "على أنَّ كتاب العمدة عامة، بما امتاز به من استيعاب لفنون البلاغة وأقوال المتقدِّمين فيها، يصلح أن يكون حلقة في تاريخ التأليف البلاغي، أو مرآة لما وصل إليه علم البلاغة حتَّى عصر مؤلِّفه."[[43]]، بل نجد مصطفى هدَّارة وهو يُعدِّد علماء البلاغة الذين كان لهم فضل في علم البيان خاصة، يذكر من بينهم ابن رشيق، ويقول في شأنه: "ونجد من علماء البلاغة الذين أسهموا في تطوُّر علم البيان ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة."[[44]]
بل نجد حفني محمد شرف حين يتناول كتاب العمدة لابن رشيق يُثني كثيرا على الكتاب وصاحبه، فيصف الكتاب بدقة التنظيم وحسن الترتيب والتبويب، ويصف ابن رشيق في عرضه للقضايا النقدية والبلاغية بالفهم والنضج وحُسن البرهنة والاستنتاج، فيقول: " ثم إذا انتقلنا إلى كتاب العمدة وتقابلنا مع ابن رشيق، وجدناه يمتاز عمَّن سبقه من العلماء بالبُعد عن الاضطراب، وأنَّه يتناول الفكرة الواحدة، فيُناصرها ويدرسها دراسة هادفة ممحَّصة، كما أنَّه كان أحسنَ من سابقيه تنظيما وترتيبا وتبويبا، فلا استطراد ولا تَكرار. ولا غَرْوَ، فابن رشيق كان أكثر فهما ونُضجا، وأحسن برهنة واستنتاجا من العلماء المتقدِّمين عليه زمانا، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ فهمه للبلاغة كاد يقترب من فهمنا لها في العصر الحديث."[[45]]
ونختم آراء الدارسين والباحثين المنصفين للكاتب والكتاب معا بمحمد قرقزان الذي يرى أنَّ كتاب (العمدة) من أجلِّ آثار أعلام مدرسة القيروان في العهد الصنهاجي، و أبعدِها أثرا وتأثيرا في الأجيال القديمة والحديثة على الإطلاق. وأنَّه قد فاق معظم المؤلَّفات التي أُلِّفت قبله ككتاب (الحلية) لأبي علي الحاتمي، و(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، من حيث الحجم، ومن حيث التوسعة والإكثار في الأنواع والأمثلة والشواهد، فقد امتاز(العمدة) بنظرة شمولية في فهم الشعر وصناعته والعلوم التي تخدمه. وبعد هذا يقول صراحة: " ولا أعرف كتابا قبل العمدة جمع كلَّ هذه المعارف حول الشعر ونقده، وكانت له هذه النظرة الشمولية في فهم الشعر وصناعته والعلوم التي تخدمه من قريب أو بعيد، كل أولئك في صالح الفكرة المركزية للكتاب؛ ألا وهي توضيح مفهوم الشعر الصحيح الصافي المثير، والسير بقائله نحو الكمال الثقافي، وما يلزمه من العلوم المساعدة وكذلك الناقد. وفد حشد ابن رشيق من أجل بلوغه هذا الهدف معارفه وزهرة شبابه ونضجه، وأحسن توظيف علوم عشرات من كتب المشارقة ودواوينهم وتحصيله عن مشايخه فيه مما لم يتوفر عليه ناقد آخر."[[46]]
هذا هو إذن كتاب العمدة لابن رشيق، الذي أثار ولا زال الكثير من الخلاف بين البلاغيين والنقاد، ما بين معجب بالكتاب وبما فيه من قضايا نقدية وبلاغية، ويعتبر ما فيه عملا مميَّزا وجهدا عظيما قام به ابن رشيق سواء في مادته أو في منهجه وتنظيمه، ومن خلال الكتاب فهو يرى في صاحبه ناقدا حصيفا ومبدعا. وبين مُهوِّن لقيمة الكتاب، ولا يرى فيه سوى جمْع لآراء من سبق ابن رشيق، وتقليدهم واتّباعهم في معظم القضايا، إن لم نقل كلّها. وعليه فابن رشيق لا يستحق هذه الشهرة وهذا الصيت الذي طار شرقا وغربا. ويبقى الخوض في كتاب العمدة وصاحبه مفتوحا إلى حين.
وفي آخر المطاف نُحاول إجمال ما جاء في هذه الدراسة من استنتاجات ونتائج، في شكل نقاط موجزة ومختصرة، ومن أهمِّها ما يلي:
1 ـ ليس من البحث العلمي النزيه أن يُقال أنَّ الأدب المغربي ـ والنقد جزء منه ـ كان قائما ومعتمدا على نظيره المشرقي، وأنَّه في عمومه بُني على التقليد والاتِّباع. نعم هناك تقليد ونقل وأخذ، وهذا من الطبيعي والبديهي، التزاما بسنن التفاعل والتلاقح بين الآداب والأفكار والثقافات، وانطلاقا كذلك من أنَّ الحركة الأدبية والعلمية كانت سابقة ورائدة في المشرق، وهذا إن كان مزيَّة في المشرق، فهو لا يُنقص من قدر المغرب شيئا. لكنَّ هذا التقليد لا يُمكن أن يكون حكما عاما وقاطعا ومطلقا، فليس كلُّ المغاربة كذلك. فالمقلِّد قد يأخذ شيئا، لكن تبقى مع ذلك شخصيته وثقافته وفكره المستقل، فيأخذ ويرفض، ويزيد ويُنقص، محتكما في ذلك إلى ثقافته وأدبيته وتجاربه الشخصية.
2 ـ علوم البلاغة في النقد المغربي القديم وإلى عهد ابن رشيق لم تتحدَّد معالمها وأقسامها الثلاثة التي عُرفت فيما بعد بالبيان والمعاني والبديع، كما أنَّ الكثير من المصطلحات والفنون ما زالت مضطربة متداخلة. كما أنَّ النقد المغربي القديم اهتمَّ بجميع علوم البلاغة، ولو كان ذلك بنسب متفاوتة بين النقاد، فليس صحيحا أنَّ المغاربة اهتموا بالبديع فقط دون سواه، وهو ما رأيناه عند ابن رشيق بصفة خاصة. قد يكون اهتمامهم بالبديع قد أخذ نصيبا وافرا لاعتبارات كثيرة وأسباب متنوعة، لكنهم مع ذلك تناولوا علمي البيان والمعاني، ودرسوا بعضا من فنونهما.
3 ـ يُعدُّ ابن رشيق ناقدا من الطراز الأول، وأحدَ أعلام النقد عربيا ومغاربيا في القديم، لما امتاز به من آراء ونظرات نقدية وبلاغية ثاقبة وحصيفة، وما قام به من جهد في تآليفه وخاصة (العمدة)، الذي يُعتبر من أجلِّ وأحسن ما كُتب في نقد الشعر، فهو بحقٍّ "عمدة" لكلِّ باحث ودارس، وهو ما نراه اليوم؛ فلا يكاد يخلو بحث أو دراسة أو رسالة في الأدب أو النقدـ ضمن قائمة مراجعه ـ من اسم ابن رشيق وكتابه العمدة.
[1] ـ قلقيلة عبده عبد العزيز: النقد الأدبي في المغرب العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، ط2، 1988م،
ج1، ص8.
[2] ـ شقور عبد السلام: حدود المنهج والمصطلح في نقد الشعر المغربي القديم، مقال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، ع3، ماي وجوان 1998م، ص64.
[3] ـ مخلوف عبد الرؤوف: ابن رشيق القيرواني(سلسلة نوابغ الفكر العربي، ع32)، دار المعارف، القاهرة، مصر، دط، 1964، ص56.
[4] ـ يُنظر: الغرافي مصطفى: الأدب المغربي وعقدة المشرق، مقال، مجلة الزمان الالكترونية، الرباط، المغرب، تاريخ:19/01/ 2014.
[5] ـ مرتاض محمد: النقد الأدبي القديم في المغرب العربي ـ نشأته وتطوره ـ (دراسة وتطبيق)، منشورات اتِّحاد الكتَّاب العرب،
دمشق، سوريا، ط1، 2000م، ص5.
[6] ـ يُنظر: المرجع نفسه، ص5.
[7] ـ نفسه، ص5.
[8] ـ خلدون بشير: الحركة النقدية على أيَّام ابن رشيق المسيلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الجزائر، دط، 1981م ، ص5.
[9] ـ المرجع نفسه، ص5.
[10] ـ كنون عبد الله: النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب، لبنان، بيروت، ط2، 1961م، ج1، ص7.
[11] ـ مصطفى عبد الرحمن إبراهيم: في النقد الأدبي القديم عند العرب، مكة للطباعة، القاهرة، مصر، دط، 1998م، ص185.
[12] ـ الكواز محمد كريم: البلاغة والنقد (المصطلح والنشأة والتجديد)، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2006 م، ص 200.
[13] ـ يُنظر: مطلوب أحمد: النقد البلاغي، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 38، ج(2و3)، 1987م، ص 200 ـ 201.
[14] ـ الأسود حسين: أصول العلاقة بين البلاغة والنقد القديم حتى نهاية القرن 4 هـ، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، سوريا، المجلد81، ج1، 2007م، ص 115.
[15] ـ طبانة بدوي: قدامة بن جعفر والنقد الأدبي، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، مصر، ط3، 1969م، ص 18 ـ 19.
[16]ـ العسكري: الصناعتين، ص1.
[17] ـ مصطفى عبد الرحمن إبراهيم: في النقد الأدبي القديم عند العرب، ص 185 ـ 186.
[18] ـ يُنظر: مطلوب أحمد والبصير كامل حسن: البلاغة والتطبيق، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق ،ط2، 1999 م، ص30 ـ 31ـ32.
[19] ـ يُنظر: المرجع نفسه، ص 32 ـ 33.
[20] ـ مفتاح محمد: التلقي والتأويل مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1994م، ص13.
[21] ـ ابن خلدون: المقدِّمة ، ص571.
[22] ـ مفتاح محمد: المرجع السابق، ص14.
[23] ـ يُنظر: نفسه، ص 15.
[24] ـ ابن خلدون: المرجع السابق، ص 572.
[25] ـ نفسه، ص584.
[26] ـ نفسه، ص 584
[27] ـ يُنظر: محمد مفتاح، التلقي والتأويل مقاربة نسقية، ص15 ـ 16.
[28] ـ أبو المطرف، أحمد بن عميرة: التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، تقديم وتحقيق: محمد بن شريفة، ص5.
[29] ـ مفتاح محمد: المرجع السابق، ص16.
[30] ـ الصّيقل محمد بن سليمان: البحث البلاغي والنقدي في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، رسالة ماجستير، إشراف: د
محمد علي رزق الخفاجي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية اللغة العربية، قسم البلاغة والنقد والمنهج الإسلامي، الرياض، السعودية، 1405 هـ، المقدِّمة، ص أ.
[31] ـ ابن خلدون: المقدِّمة، ص593.
[32] ـ ابن رشيق الحسن القيرواني: العمدةفي محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار
الطلائع، القاهرة، مصر، دط، 2009، ج1، ص15 ـ 16.
[33] ـ قرقزان محمد: قراءة نقدية توثيقية جديدة لكتاب العمدة لابن رشيق، مقال في كتاب(التراث المغربي والأندلسي ـ التوثيق
والقراءة)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، تطوان، المغرب، الندوة الثالثة أبريل1991، ص163ـ164.
[34] ـ الصيقل محمد بن سليمان بن ناصر: البحث البلاغي والنقدي في كتاب العمدة لابن رشيق القيرولني، المقدمة(أ ـ ب).
[35] ـ طبانة بدوي: البيان العربي(دراسة تاريخية فنية في أصول البلاغة العربية)، ص91.
[36] ـ نفسه، ص91.
[37] ـ حسين عبد القادر: المختصر في تاريخ البلاغة، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط2، 2000م، ص125ـ126.
[38] ـ مندور محمد: النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، دط، 1996، ص339.
[39] ـ أحمد أمين: ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، ط3، 1962، ج1، ص306 ـ 307.
[40] ـ خلدون بشير: الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981، ص106 ـ 107.
[41] ـ عتيق عبد العزيز: في البلاغة العربية(علم البيان)، دار النهضة العربية ، بيروت، لبنان، دط، 1985م، ص18.
[42] ـ ضيف شوقي: البلاغة تطوُّر وتاريخ، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط9، 1995م، ص152.
[43] ـ المبارك مازن: الموجز في تاريخ البلاغة، دار الفكر، دمشق، سوريا، دط، دت، ص87.
[44] ـ هدَّارة محمد مصطفى: في البلاغة العربية(علم البيان)، دار العلوم العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1989م، ص25.
[45] ـ حفني محمد شرف: الصور البيانية بين النظرية والتطبيق، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، مصر، ط1، 1965م، ص11.
[46] ـ قرقزان محمد: التراث المغربي والأندلسي التوثيق والقراءة، مقال، قراءة نقدية توثيقية جديدة لكتاب العمدة لابن رشيق، ص173 ـ 174.