نقوس المهدي
كاتب
دراسة الفكر السياسي و الحضاري المغربي خلال القرن التاسع عشر : ميدان بحث واستطلاع خصيب بقد كبير في روافده و موارده، و ذلك بالنظر لتشعب الأوضاع العالمية آنئذ ونجاح المغرب في اتخاذ موقف متميز به، إزاء تلك الأوضاع، و تبلور أحوال إيجابية مغربية من خلال كل ذلك.
إن الموضوع من سعة الأفق في درجة كبيرة، هذه نظرة سريعة جدا، فهي بمثابة مدخل بسيط إلى صلب القضايا الأساسية، فعسى أن تتضافر الجهود من أجل العمل على بلورة لوحة علمية كاملة عن ذلك العهد الحاسم من تاريخ بلدنا.
يكتسي القرن التاسع عشر قدرا كبيرا من الأهمية في مجال التعرف على تطور العلاقات الإنسانية في الأعصر الحديثة، و تقييم التبلورات السياسية و الحضارية، الناتجة عن سعة التحول التاريخي، و عمق أبعاده في ذلك القرن، و مرجع هذه الأهمية التي تعزوها للقرن التاسع عشر، إنه كان بمثابة مفترق طرق تاريخي بين حقبتين من حياة المجتمعات الإنسانية. في العصور الحديثة، حقبة بداية الاستعمار، و استفحاله قبل القرن التاسع عشر، ثم الحقبة التي يسجلها ما بع القرن التاسع عشر، و تتمثل في تراجع المد الاستعماري و تحول مراكز الثقل الحضاري في العالم، و أخذ الشعوب المعتبرة متخلفة، بزمام أمرها التاريخي الأساسي، لقد كان القرن التاسع عشر، مفترق طرق رئيسية بين هذين العهدين من التاريخ الإنساني الحديث، ومن ثم فهو يسجل حالة بلوغ الحقبة الأولى قبله أقصاها، و مظهر هذه الحقبة في الأساس، كان هو المد الأوربي عبر العالم، إذ بلغ بكل أشكاله و مقتضياته، و في مضمون هذا المد الأوربي كان هناك نوع من التواجه بينه و بين الشعوب الإفريقية – الآسيوية، تواجه سياسي يتمثل في الاستعمار و النضال ضده، و تواجه حضاري، يتشخص في التجاذب بين المدنية الحديثة، و الحضارات التقليدية في آسيا و إفريقيا و الاقيانوسية، و فيما كان المد الاستعماري بالغا الأوج في غضون تلك الظروف، كان التواجه بين المدنية الحديثة، و الحضارات التقليدية، قد أدرك المدى الذي كان من اللازم أن يصل إليه الأمر بعد خمسة قرون من الانفصام الحضاري بين الشرق و الغرب، و نمو الحضارة في أوربا، تحت ظروف و بحسب مقاييس جديدة، ثم استعداد هذه الحضارة بعد ذلك، لابتلاع غيرها من الحضارات بعد أن نمت و بلغت عنفوانها، و إذا كان القرن التاسع عشر، قد سجل حالة بلوغ الحقبة الأولى قبله أقصاها، فقد كان أيضا، و بنفس المقدار إيذانا بانفتاح المرحلة بعده المتمثلة في القرن العشرين. و ما حصل بالعالم، فيه من تقلبات في موازين السياسة و الحضارة بالعالم، ففي القرن العشرين أخذت الحيرة في إفريقيا و آسيا إزاء المدنية الحديثة تنجاب أكثر فأكثر، و أصبح من الممكن بذلك تبين قدر متزايد من التعاطي بين المدينة الحديثة، و الحضارات القديمة، في مجالات فكرية و فنية و اجتماعية و نحوها، و قد صاحب هذا التطور الواقع في مستوى حضاري، تطور مواز على الصعيد السياسي يشمل كل العالم، و يتمثل في إنهاء عهد الاستعمار الأوربي، و بروز الدول الصغرى كقوة دولية في الميدان، لها أهمية مطردة، و لم يكن الأمر، مثل هذا، في غضون القرن التاسع عشر حيث كان الوضع السياسي العام في العالم، مختلفا تماما، عما هو عليه في هذا النصف الثاني من قرننا، وحيث كانت نفسيات الشرقيين و الأفارقة، إزاء المد الحضاري الأوربي، غير ما عليه نفسياتهم الآن، بعد أن ألقوه، و صار يراودهم الأمل في أن يذهبوا إلى حد مجاراته و اللحاق بركبه ! ذلك أنه إلى حد القرن التاسع عشر، بينما كان الغربيون يتمركزون في العالم، كانت هناك حالة من الانبهار أمام المدنية الحديثة حالة انبهار اجتاحت شعوب القارتين ينسب تقل أو تكثر، و بمقدار احتكاك شعب من هذه الشعوب بآثار المدنية الزاحفة، و درجة استعداده للانفعال بها. و قد كانت حالة الانبهار هذه تقع بصورة طبيعية في كثير من الأحيان، نتيج لقوة ملامح المدنية الحديثة، وسعة نطاق مظاهرها و طول خمود الشعوب غير الأوربية قرونا عديدة، قبل انسياح المد الأوربي في بلدانها، إلى أن هذا الانبهار، كان يستغل في عدة أحيان، من ناحية عسكرية و سياسية، و كان التوسعيون الأوربيون، يعملون كل ما أمكنهم على تضخيمه، و تهويل أمره، ليمكنهم الاستفادة بقدر كبير من الآثار النفسية الملائمة لهم، التي كان من شأنه أن يخلقها على نحو أو آخر، بين الشعوب الإفريقية و الآسيوية، و قد بلغت حالة الانبهار هذه، أوجها في غضون القرن الماضي، و من ثم كانت نظرتنا إلى ذلك القرن، باعتباره مفترق طرق تاريخي، يقع بين القرون الأربعة الماضية التي اختلت فيها موازين التفوق الحضاري و السياسي في العالم لفائدة الغرب، و بين القرن العشرين، الذي استنفذت فيه حالة الانبهار عند شعوب آسيا و إفريقيا كل حتمياتها، و أخذ العالم يتجه،و لكن ببطء شديد، إلى نوع من التفاعل الحضاري، جديد من نوعه، يربط بين مختلف العبقريات الحضارية في العلام، برباط أكثير إيجابية، و أوسع تجاوبا، لكن علينا في هذه العجالة، أن نصرف نظرنا عن المستقبل، و عن الحاضر أيضا، لنركز النظر في هذا الماضي القريب، حوالي القرن 19 و لنرى الأمر خاصة من زاوية الحياة المغربية : هناك حقيقتان مهمتان كانتا تحيطان بالمغرب في خضم الظروف العالمية للقرن التاسع عشر أولى الحقيقتين تتعلق بموقع المغرب، و الثانية تتعلق بصفته السياسية و الحضارية، فمن حيث الموقع المغربي الأدنى إلى أوربا من أي موقع عربي إسلامي آخر. نجد أن هذا الموقع قد جعل من هذه البلاد، الأرض الأكثر تعرضا من الناحية المنطقية، لآثار المد الأوربي البالغ آنئذ أوج عنفوانه و سعة نطاقه، و موجب المنطقية في هذا ، هو أن المغرب مجاور بالأخص لمنطقة غربي أوروبا، و قد كان الغرب الأوربي، في غضون القرن التاسع عشر، محور كل اندفاعية للتوسع الأوربي عبر البحر الأبيض المتوسط و المحيطين الأطلسي و الهندي، و مصدر طاقة هذا التوسع، و رافده سياسيا و حضاريا !. و من ثم، فقد كان المغرب بمثابة ملتقى الحساسية الأكثر مباشرة، بين كل العالم العربي – الإسلامي المعرض للغزو و التوسع فيه، و بين غرب أوروبا، القائم على هذا التوسع، و مديره و المستفيد منه، و ليس المهم في التوسع الأوربي الغربي آنئذ، جانبه السياسي و العسكري فحسب بل أيضا، وجهه الحضاري، و بالأخص ما يتعلق من أمر الحضارة الحديثة بملابساتها المادية و التنظيمية الباهرة للأبصار، فموقع المغرب من حيث هذا الاعتبار، كان يفرض على هذه البلاد، تحديات قوية، في مختلف ميادين الحياة، و يخلق مضاعفات حتمية على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي، لم يكن هناك مناص منها، بسبب الاحتكاك المباشر المفروض وقوعه، بين المدنية الحديثة، و الحالة الحضارية التليدة المتوارثة بالمغرب، و هنا نبلغ الحقيقة الثانية التي أشرنا إليها من قبل. ذلك أن المغرب الذي كان عليه في غضون القرن التاسع عشر، أن يواجه التحديات الحضارية الواردة عليه من شمال المتوسط، و أن يهضمها و يتمثلها على نحو أو غيره، كان هو – أي المغرب، أمينا في نفس الوقت – على تراث حضاري أثيل، تقلد مسؤوليته لدى قرون و قرون، و حمل بمقتضاه رسالة تاريخية، أسهم بها في عملية التكييف الحضاري طويل الأمد بحوض البحر الأبيض المتوسط، و هذه الصفة الحضارية الأصيلة التي للمغرب كان من شأنها أن تسبغ على وجوده السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي رداء ذا مناعة قوية، خاصة و أن الرداء الحضاري هذا يقوم باستمرار كإطار واسع و مستوعب لقضايا الحياة و آفاتها عند المجتمع الذي يضمه هذا الإطار. و يكفل له – بسبب ذلك – القدرة على مواجهة مستمرة لحاجياته و متطلباته. لكن المد التوسعي الغربي كان من الطموح و النزوع إلى الانتشار، بالقدر الذي يستهدف به اكتساح مختلف حالات الوجود السياسي و الحضاري في القارات الأخرى، الواقعة فيما بين المحيط الأطلسي و الهندي و الهادئ، و من هنا كانت تبدو في غضون القرن التاسع عشر، دقة الوضع الذي كان عليه المغرب، العريق حضارة، و المرتكز سياسة و تنظيما، أمام امتداد أوروبي قوي الروافد، تحفزه نزعة جارفة لكسح القيم السياسية و الأخلاقية الحضارية، المتوارثة في آسيا و إفريقيا، في نفس الوقت الذي يندفع فيه الغربيون ضمن هذا التوسع، إلى الاستيطان خارج أوروبا، و إحلال مجتمعات أوروبية في القارتين الملونتين، كضمانة لفعالية هذا الاستيطان، و تعميق لصورته المادية و الإنسانية. إن دقة الوضع المغربي، من هذه الناحية، لم يكن يوازيها من الجانب الآخر، إلا سعة فعالية الوجود المغربي، و قوة الروافد السياسية و الحضارية، التي تسند هذا الوجود، وتمد له، بما يبقي له حركيته، و قدرته على المواجهة و المصاولة و التكيف، و هذه المكامن الإيجابية التي تنطوي عليها الفعالية السياسية و الحضارية بمغرب القرن التاسع عشر، قد جعلت المغرب مجالا مستعصيا على الغزو الأوروبي، بينما كانت أكثرية ما يدعى بالعالم الثالث الآن، قد وقعت فعلا تحت طائلة الاكتساح التوسعي الغربي. و صار وضعها كمستعمرات أمرا مفروغا منه، من وجهة النظرة القانونية للتوسعيين الأوروبيين، و تكمن ميزة الفعالية التي يسجلها تاريخ القرن التاسع عشر للمغرب، في قدرة هذه البلاد على الاحتفاظ بحالة مناعة إزاء الغزو الأوروبي لم تتوفر لكثير غيرها، لكن هل كانت هذه المناعة نتيجة عزلة جعلت هذه البلاد حينئذ بمنأى عن التأثر بالتيارات الخارجية ؟ إن هذه نقطة جديرة بالالتفات، يثيرها هذا التساؤل في أول ما يثيره، و تتعلق هذه النقطة التي نثير، بموضوع العزلة أو اللا عزلة، التي يمكن أن يكون موقف المغرب قد انطبع بها في تلك الظروف العالمية الدقيقة بالذات : فتمة من قد تذهب به محاولة تعليل الظاهرة، ظاهرة مناعة المغرب في القرن التاسع عشر – و هو أدق و أحرج فترات تاريخ الاستعمار الأوروبي. كما أسلفنا – هناك من قد يذهب في محاولة التعليل إلى القول بأن تلك المناعة كانت ناشئة، في كثير من أسبابها عن حالة عزلة، التزمت بها هذه البلاد، حفاظا على استقلالها و ضنا به على أي ظرف خارجي، قد يأتي فيودي به، و مثل هذا المنطق في التعليل، قد يغرى بالأخذ به في كثير من مواطن النظر التاريخي المتعلقة بالمغرب في خلال القرن التاسع عشر، غلا أن الذي يتبلور عند تدقيق النظر، أن المغرب لم يكن حينئذ، منغلقا، يعيش في حالة عزلة دولية، كما قد نتصور من مفهوم العزلة، لقد كان المغرب ضنينا حقا باستقلاله، شديد الحرص و الحذر أمام المناورات السياسية الدولية بيد أنه لم يكن يعيش حالة عزلة حقيقة، و إن كانت الأحوال الدولية قد انصبت حالتئذ على عزلة جغرافية، و تضييق المجال أمامه بالأخص، من ناحية علاقاته الإفريقية و المتوسطية. أن علينا – بصدد النظر في أمر العزلة أو اللا عزلة بالنسبة لمغرب القرن التاسع عشر، أن نميز بين حقيقتين أساسيتين، تتعلقان بالموضوع : (أولا) سياسة عزل المغرب التي كانت تنهجها كثير من دول الغرب الأوروبي الطامحة إلى اصطناع مواطئ قدم لها بهذه البلاد. (ثانيا) عمل المغرب على تحديد نطاق العزلة المفروضة عليه من جهة، و تلافيه في نفس الوقت، المحاذير التي تنتج عن سياسة تفتح واسع على أوروبا في غير تحفظ و لا حذر. و فيما يتصل بالنقطة الأولى نجد المغرب الذي كان في القرون السابقة للقرن التاسع عشر، على درجة من الترابط وثيق مع دول المتوسط و مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، نجد المغرب هدأ، قد دارت حوله حركة التفاف توسعية أوروبية، بعد أن سيطر الأوروبيون على غرب إفريقيا السوداء، و نهجوا نهجهم التوسعي في الشمال الإفريقي، إلى الشرق من المغرب، و ليس هذا وحسب، بل أن البحر المتوسط الذي كان – خلال الدهور – مجال تفتح مغربي على أوروبا و الشرق، قد صار هو كذلك، في غضون القرن التاسع عشر، بمثابة بحيرة أوروبية محفوظة، يحط فيها النفوذ التجاري و السياسي الأوروبي بكل كلكله، و لا يترك للبلدان الأخرى غير الأوروبية، مجالا له أهمية ما للتحرك في نطاق هذه المنطقة الحساسة أن العزلة التي أحيط بها المغرب حينئذ – هكذا – في القطاع الإفريقي و المتوسطي، لم يخفف من وطأتها إلا عمل المغرب نفسه- كما أسلفنا – من أجل تحديد نطاق هذه العزلة، و تجريدها كلما أمكن، من المفهوم السلبي الذي تفرضه حالة العزلة في العادة. وقد كان التفتح المغربي، الواقع في إطار من الحيطة و الحذر ، كان ذلك التفتح، بمثابة رد فعل حالتئذ، و قد برز المولى الحسن الأول في ذلك الظرف التاريخي الدقيق، ليكون رائد هذا التفتح الإيجابي المغربي، و ليكون في نفس الوقت أمينا على هذا التفتح، كي لا يصبح بمثابة الثغرة الكبيرة، تتمكن معها السياسة التوسعية الدولية من تسجيل نقطة أو نقط في رقعة الصراع، الذي كان كل البحر المتوسط، مجالا له، و متأثرا بظروفه. إن عملية التفتح في حد ذاتها عملية جد دقيقة، و ذلك لما تتطلبه من مهارة فائقة في الملاءمة بين عناصر البيئة المتفتحة، و العالم الخارجي المتفتح عليه، وما تقتضيه من استعدادات فكرية بعيدة الأفق، للتوصل إلى حالة ملاءمة ناجحة من هذا القبيل، لكن الظرف الدقيقة الذي تميز به الجو العالمي في القرن التاسع عشر، قد أضاف إلى دقة عملية التفتح من حيث مبدأها مصاعب أخرى ذات صيغة سياسية و سيكولوجية و مادية، ناشئة في أساسها من صبغة التناقض في الأحوال و الممكنات بين أوربا الغربية كقوة توسعية، و بين الضفة الإفريقية للبحر المتوسط كمجال متوسع فيه، و أرض محكوم عليها آنئذ بالتبعية. هذا التناقض في الحال و الممكنات، لم يكن من اليسير معه التخطيط لسياسة تفتح على العالم الأوروبي، و تنفيذ هذه السياسة في ظروف ملائمة أو بالأقل في ظروف مقبولة بقدر عادي. وقد عاش المغرب طوال العصر الوسيط، متفتحا على عالم البحر المتوسط، عاملا في محيط سياسته الدولية مؤثرا، و بصورة قوية الفاعلية، على تيارات التاريخ و تطوراته في عموم المنطقة، و يسجل تاريخ العلاقات السياسية و الحضارية بين المغرب و أوروبا خلال العصر الوسيط و أثناء عهد الدولة العلوية، يسجل خطوطا طويلة عريضة، يحفل بها تاريخ الضفتين، و تنطبع بها كثير من صور هذا التاريخ، إلا أن ظروف القرن التاسع عشر، بهذا الصدد، كانت – كما سقناه – ذات خصوصية جد مهمة، و يأتي ذلك من انقلاب موازين القوى في المتوسط و في العالم، لصالح الغرب الأوروبي في الغالب. و انفراد المغرب تقريبا من بين الأكثرية الكاثرة من مناطق آسيا و إفريقيا، بموقفه الصامد سياسيا و حضاريا تجاه المد التوسعي الغربي الأوروبي، و وجوده نتيجة لذلك، ملزم بزيادة الانفتاح على هذا الغرب نفسه، ليكون في مستوى مصاولته بالوسائل الجديدة المتطورة، المتوفرة للغربيين. و تسوق الرواية التاريخية الحديثة عن جهود المولى الحسن الأول من أجل تنظيم هذه المواجهة السياسية و الحضارية الواسعة بين المغرب و غربي أوربا، و ما سار عليه من نهج بعيد المدى في هذا الصدد. و تشير سياسة إيفاد الطلبة إلى غربي أوروبا، للتثقف و التكون الحديث، تشير إلى سعة الأفق الفكري التي أخذ يتم فيها تنفيذ هذا النهج، المستهدف منه الإعداد للرد على التحديات الأوروبية بصورة مناسبة، فالعنصر الإنساني في كل عمل تطويري هو العنصر الأهم من أي عنصر غيره، لأنه الأكثر فعالية، و الأضمن نجاحا. إن العمل على تعليم و تدريب الطلبة، بحسب الأساليب الجديدة، و المقاييس المتطورة في المجال المدني و العسكري، هو بطبيعة الحال، ما ندعوه ب « تكوين الإطارات » طبقا للتعبير السائد في عصرنا. و تكون الأطر – كما نتفق عليه جميعا – هو مفتاح أي عمل جدي للنهوض على مستوى مجتمع من المجتمعات. و بطبيعة الحال، فإن القضية تحتفظ في عصرنا بصبغتها شديدة الإلحاح. و كذلك كان الأمر في مغرب القرن التاسع عشر، الذي أخذ فيه المولى الحسن الأول بزمام فكرة جذرية كهذه الفكرة الجذرية. و ثمة ملحظ له أهميته في الأمر. و يتعلق بجغرافية توزيع الطلاب الذين أوفدوا إلى أوروبا، في هذا المجال، فقد توزع أولئك الطلاب على أقطار أوروبية متعددة، منها ما ينتسب إلى جنوب أوروبا كإيطاليا مثلا، و منها ما ينتمي إلى أواسط أوروبا كألمانيا، و منها ما هو من صميم الغرب الأوروبي، أما جنوبا كإسبانيا، أو شمالا كإنجلترا. إن هذا التوزيع، لا يخلو من دلالات، أن أريد أن تستقى منها دلالات معينة. فهو يشير إلى الرغبة التي كانت قائمة حينئذ – ولا شك – في تنويع المصادر الثقافية و الحضارية المأخوذ عنها. و هذا التنويع مما يضمن لعملية تلاقح من هذا القبيل حظوظا إيجابية مهمة، تؤدي إلى إغناء المحتوى الفكري و التجريبي الحاصل من وراء العملية، و تأمين نوع من التكامل لا غنى عنه في صلب النهضة العلمية و الحضارية المنتظرة من وراء المبادرة من أساسها، و ثمة ما قد يعتبر أهم من هذا كله، و هو ما يرشد إليه تنويع المصادر المأخوذة عنا – كما في مثال المبادرة المغربية – من كون المغرب قد عرف بذلك،كيف يتلاقى الوقوع تحت وطأة توجيه معين، صادر عن دولة معينة من الدول الأوروبية التي كانت تتصارع ساعتها على اتخاذ مواطئ قدم في منطقة أقاصي المتوسط الغربي، و لم يتجه لواحدة فقط من بين الدول الأوروبية التي لها إمكانيات في هذا المجال، على أنه لا بد أن يرد بصدد كل هذا، السؤال عن مدى أهمية هذه المبادرة في المجال المغربي، و الجواب، أن تلك البعثات الطلابية، قد كونت حلقة اتصال للعقل المغربي بتيارات الفكر و العمل السائدة في الغرب خلال القرن التاسع عشر. و أبرزت مدى حيوية هذا العقل في مجال الاستجابة للمقتضيات الجديدة الطارئة عليه، و إذا كانت علائق هذه البلاد بالغرب قد انطوت في المدى الطوي، على ملابسات سياسية و اقتصادية و غيرها، فإن مبادرة إرسال الطلاب، قد أعطت للعلائق المغربية الأوروبية، ملابسات أخرى على الصعيد الفكري و الحضاري بصورته الموجود عليها في القرن التاسع عشر، و كان ذلك حلقة في سلسلة التفتحات المغربية على العالم إلا أنها كانت حلقة ذات أهمية كبيرة في المضمار السيكولوجي خلال فترة تميزت ببلوغ الانتهار عند كثير من الشعوب الإفريقية و الآسيوية درجة قصوى أمام المدنية و الثقافة الأوروبية.
* * *
لم يكن بعث وفود الطلاب لأوروبا إلا مظهرا واحدا من جملة مظاهر تشير إلى سعة المجال الذي انفتح للتفاعل بين المغرب و التيارات الحديثة. و الواقع أن الاحتكاك المغربي بهذه التيارات، لم يكن قوامه فقط الجانب الذي ذكرنا، أي الجانب المتجلي في الإحساس المغربي بإبعاد الوضعية العالمية الجديدة، و استعداد المغرب للتلاقي مع تيارات هذه الوضعية، لاكتساب القدرة على التوقي من ملابساتها السلبية، و إنما تعدى الأمر ذلك إلى درجة حدوث تطورات اقتصادية و اجتماعية بعيدة الأثر في حياة البلاد، و أخذ الدولة المغربية بزمام المبادرة في مواجهة هذه التطورات، و إعطاء الانعكاسات الاجتماعية المترتبة عنها محتوى إيجابيا مناسبا. و ليس من اللازم أن نعزو هذه التطورات إلى عامل الاحتكاك بتيارات الحياة الدولية لا غير، فقد كان على المغرب – بصرف النظر عن ذلك – على اعتباره بلدا ذا إمكانيات مادية و بشرية حصبة، ثم بالنظر – بعد ذلك – لموقعه في عقر دائرة الاتصال بين ثلاث قارات و بحرين عالميين، كان على هذا البلاد، نتيجة لذلك كله، أن تواجه نموا متزايدا في حجمها الإنساني، و أن تجابه بالتالي الانعكاسات المادية التي يخلقها مثل هذا النمو المتطلب باستمرار لواسع الإمكانيات. و قد عرف مغرب القرن التاسع عشر، حالة نمو اقتصادي و اجتماعي مطرد على هذا الغرار، و تمثل هذا النمو في مظاهر أساسية من أبرزها : (1) ازدياد الحجم السكاني بصورة تضاعف فيها عدد السكان في بعض المناطق كطنجة مثلا فيما بين سنة 1884 و 1895. (2) تضخم حجم المدن و انتشار مزيد من مجالات التعمير الحضرية للمغرب، و وسعت من نطاقها بقدر كبير. (3) تركز كثير من النشاطات الاقتصادية بالمدن الساحلية. و بالأخص : المدن التي لها موانئ ذات اتصالات تجارية. (4) ازدياد تنوع مجالات العمل، و بروز قطاع البناء خصوصا كقطاع مهم لاستيعاب الأيدي العاملة. كل هذه التحولات، كان من شأنها أن تحدث مضاعفاتها على الحياة الاجتماعية العامة بالبلاد، و قد كان من أبرز آثار ذلك : حدوث تغيرات كان لابد من حدوثها على مستوى التوزيع السكاني بين المدن و القرى و الأرياف، و تضخم الحجم السكاني للمدن،و اتسع نطاق العلاقات الاجتماعية بالتبعية لذلك، و ملاحظة تطورات كهذه تشعرنا بضرورة تغيير الفكرة التي ربما يأخذ بها البعض، و فحواها أن مظاهر التوسع الحديث، المتمثل في تضخم السكان، و استبحار العمران، لم يعرفها المغرب في عهود استقلاله الأول، و إنما ما حدثت إلا بعد ذلك، فالسجلات و الوثائق المتوافرة، تشير إلى حالة معاكسة لهذه، بقدر كبير، و ترشد إلى أن المغرب قد عرف – في غضون القرن التاسع عشر – أعراض توسع مادي و بشري على نطاق واسع و إن هذا التوسع، كان من سعة النطاق بحيث نشأت عته حركة حضارية ذات شأن في تاريخ التطور الحضاري المغربي. و هذه بعض الأرقام للدلالة على مبلغ التوسع الذي وقع من الناحية الاجتماعية، و الأرقام التي نسوق، تتعلق بالفترة فيما بين سنة 1832 و 1866، أي خلال ثلث قرن تقريبا، فقد ازداد سكان الرباط في غضون تلك الفترة، بنحو 18 في المائة، و سكان آسفي بحوالي 33 في المائة،و العرائش 50 في المائة، و طنجة 60 في المائة، أما الجديدة فقد بلغت نسبة التضخم الاجتماعي فيها درجة 400 في المائة،و أضخم من هذا، مثال الدار البيضاء، التي رقي الرقم السكان فيها إلى 700 في المائة، و ما فتئت النسبة ترتفع بعد ذلك، في غضون القرن التاسع عشر و ما بعده، و قد عرف المغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توسعا في ميادين التجارة الداخلية و الخارجية، موازيا لهذا النمو الحضري الذي سجلته تلك الفترة من تاريخنا القريب، و كان لنشاط الموانئ أثر مهم في اجتذاب أعداد كبيرة من السكان إلى المدن المينائية حيث يجدون مجالات واسعة للنشاط و الحصول على الموارد، و بعرض جان لوي مييج(1) لصورة طريفة من هذا القبيل، منقولة عن الوثائق الصحفية و غيرها أثناء ذلك العصر، و يذكر من ضمن هذه الصور، إن ضواحي طنجة و العارئش قد انتشر فيها العمران خلال القرن التاسع عشر، على نحو واسع النطاق، و أن النمو السكاني في مدينة الجديدة، بلغ درجة صارت معها البيوت كلها غاصة ليس منها فارغ، الأمر الذي ساعد على انسياح المساكن عبر ضواحي المدينة. و مثل هذا في البيضاء، حيث تطلب خزن الحبوب هائلة المقدار، التي جاد بها محصول سنة 1887، و تطلب بناء مزيد من المخازن الواسعة، هذا إلى المزيد أيضا من المساكن التي استوجبها آنئذ، التزايد السكاني المطرد، و نفس الحالة من التضخم الاجتماعي لوحظت أواخر القرن التاسع عشر في مدينة الصويرة، وحتى في المدن الداخلية كسطات و القصر الكبير و سواهما. و قد ارتبط النمو السكاني في المدن الداخلية كمثال ما ذكرنا، ارتبط بحركة نشاط تجاري كبير، نتيجة لجودة المحاصيل من جهة، و الازدهار العام الذي سجلته حركة التصدير و الاستيراد بين المغرب و عدد من الأقطار الأوروبية.
على أن المهم في ظواهر النمو و التوسع التي ذكرنا، لا ينحصر في مجرد وجود هذه الظواهر و كفى، و إنما يبدو جانب كبير من أهمية هذه الأحوال فيما قامت به دولة المولى الحسن الأول، و العهود قبله، من أعمال إيجابية، في نطاق تشجيع عوامل التوسع و النمو المشار إليهما، و مواجهة المتطلبات التي تفرضها أوضاع سريعة التطور من هذا القبيل. ففي سنة 1866، صدرت أوامر شريفة بالقيام بحركة توسع عمراني بعيد المدى، في مدينة أسفي، حيث شيدت مجموعات من الدور و الفنادق و المتاجر. و ي سنة 1890، صدرت أوامر مماثلة، بإقامة حي جديد في مدينة الصويرة، و بناء أعداد كبيرة من المساكن ضمن ذلك. و في سنة 1892، أعطيت أوامر عليا مماثلة أيضا بشأن الدار البيضاء، و هكذا، و لم نسق هذه الوقائع، التي تثبتها المصادر في الموضوع لتجديد إحصائية معينة، و إنما هي مجرد صور نموذجية لحالة اقتصادية و اجتماعية واسعة الأبعاد، سجلها المغرب على عهد المولى الحسن الأول على أن رياح التحول الاقتصادي، و الاجتماعي، التي حملها معه القرن التاسع عشر، قد تشبع بها المغرب آنئذ بقدر كبير، و عرف كيف يصوغ منها أحوالا إيجابية، على الرغم من الجو السياسي المريب، الذي خلقه التوسعيون الأوروبيون في عموم منطقة البحر الأبيض المتوسط، تمهيدا للسيطرة على مجموع الضفة الإفريقية منه.
Le Maroc et l’Europe », Jean-Louis Miège(1
عن دعوة الحق
118 العدد
إن الموضوع من سعة الأفق في درجة كبيرة، هذه نظرة سريعة جدا، فهي بمثابة مدخل بسيط إلى صلب القضايا الأساسية، فعسى أن تتضافر الجهود من أجل العمل على بلورة لوحة علمية كاملة عن ذلك العهد الحاسم من تاريخ بلدنا.
يكتسي القرن التاسع عشر قدرا كبيرا من الأهمية في مجال التعرف على تطور العلاقات الإنسانية في الأعصر الحديثة، و تقييم التبلورات السياسية و الحضارية، الناتجة عن سعة التحول التاريخي، و عمق أبعاده في ذلك القرن، و مرجع هذه الأهمية التي تعزوها للقرن التاسع عشر، إنه كان بمثابة مفترق طرق تاريخي بين حقبتين من حياة المجتمعات الإنسانية. في العصور الحديثة، حقبة بداية الاستعمار، و استفحاله قبل القرن التاسع عشر، ثم الحقبة التي يسجلها ما بع القرن التاسع عشر، و تتمثل في تراجع المد الاستعماري و تحول مراكز الثقل الحضاري في العالم، و أخذ الشعوب المعتبرة متخلفة، بزمام أمرها التاريخي الأساسي، لقد كان القرن التاسع عشر، مفترق طرق رئيسية بين هذين العهدين من التاريخ الإنساني الحديث، ومن ثم فهو يسجل حالة بلوغ الحقبة الأولى قبله أقصاها، و مظهر هذه الحقبة في الأساس، كان هو المد الأوربي عبر العالم، إذ بلغ بكل أشكاله و مقتضياته، و في مضمون هذا المد الأوربي كان هناك نوع من التواجه بينه و بين الشعوب الإفريقية – الآسيوية، تواجه سياسي يتمثل في الاستعمار و النضال ضده، و تواجه حضاري، يتشخص في التجاذب بين المدنية الحديثة، و الحضارات التقليدية في آسيا و إفريقيا و الاقيانوسية، و فيما كان المد الاستعماري بالغا الأوج في غضون تلك الظروف، كان التواجه بين المدنية الحديثة، و الحضارات التقليدية، قد أدرك المدى الذي كان من اللازم أن يصل إليه الأمر بعد خمسة قرون من الانفصام الحضاري بين الشرق و الغرب، و نمو الحضارة في أوربا، تحت ظروف و بحسب مقاييس جديدة، ثم استعداد هذه الحضارة بعد ذلك، لابتلاع غيرها من الحضارات بعد أن نمت و بلغت عنفوانها، و إذا كان القرن التاسع عشر، قد سجل حالة بلوغ الحقبة الأولى قبله أقصاها، فقد كان أيضا، و بنفس المقدار إيذانا بانفتاح المرحلة بعده المتمثلة في القرن العشرين. و ما حصل بالعالم، فيه من تقلبات في موازين السياسة و الحضارة بالعالم، ففي القرن العشرين أخذت الحيرة في إفريقيا و آسيا إزاء المدنية الحديثة تنجاب أكثر فأكثر، و أصبح من الممكن بذلك تبين قدر متزايد من التعاطي بين المدينة الحديثة، و الحضارات القديمة، في مجالات فكرية و فنية و اجتماعية و نحوها، و قد صاحب هذا التطور الواقع في مستوى حضاري، تطور مواز على الصعيد السياسي يشمل كل العالم، و يتمثل في إنهاء عهد الاستعمار الأوربي، و بروز الدول الصغرى كقوة دولية في الميدان، لها أهمية مطردة، و لم يكن الأمر، مثل هذا، في غضون القرن التاسع عشر حيث كان الوضع السياسي العام في العالم، مختلفا تماما، عما هو عليه في هذا النصف الثاني من قرننا، وحيث كانت نفسيات الشرقيين و الأفارقة، إزاء المد الحضاري الأوربي، غير ما عليه نفسياتهم الآن، بعد أن ألقوه، و صار يراودهم الأمل في أن يذهبوا إلى حد مجاراته و اللحاق بركبه ! ذلك أنه إلى حد القرن التاسع عشر، بينما كان الغربيون يتمركزون في العالم، كانت هناك حالة من الانبهار أمام المدنية الحديثة حالة انبهار اجتاحت شعوب القارتين ينسب تقل أو تكثر، و بمقدار احتكاك شعب من هذه الشعوب بآثار المدنية الزاحفة، و درجة استعداده للانفعال بها. و قد كانت حالة الانبهار هذه تقع بصورة طبيعية في كثير من الأحيان، نتيج لقوة ملامح المدنية الحديثة، وسعة نطاق مظاهرها و طول خمود الشعوب غير الأوربية قرونا عديدة، قبل انسياح المد الأوربي في بلدانها، إلى أن هذا الانبهار، كان يستغل في عدة أحيان، من ناحية عسكرية و سياسية، و كان التوسعيون الأوربيون، يعملون كل ما أمكنهم على تضخيمه، و تهويل أمره، ليمكنهم الاستفادة بقدر كبير من الآثار النفسية الملائمة لهم، التي كان من شأنه أن يخلقها على نحو أو آخر، بين الشعوب الإفريقية و الآسيوية، و قد بلغت حالة الانبهار هذه، أوجها في غضون القرن الماضي، و من ثم كانت نظرتنا إلى ذلك القرن، باعتباره مفترق طرق تاريخي، يقع بين القرون الأربعة الماضية التي اختلت فيها موازين التفوق الحضاري و السياسي في العالم لفائدة الغرب، و بين القرن العشرين، الذي استنفذت فيه حالة الانبهار عند شعوب آسيا و إفريقيا كل حتمياتها، و أخذ العالم يتجه،و لكن ببطء شديد، إلى نوع من التفاعل الحضاري، جديد من نوعه، يربط بين مختلف العبقريات الحضارية في العلام، برباط أكثير إيجابية، و أوسع تجاوبا، لكن علينا في هذه العجالة، أن نصرف نظرنا عن المستقبل، و عن الحاضر أيضا، لنركز النظر في هذا الماضي القريب، حوالي القرن 19 و لنرى الأمر خاصة من زاوية الحياة المغربية : هناك حقيقتان مهمتان كانتا تحيطان بالمغرب في خضم الظروف العالمية للقرن التاسع عشر أولى الحقيقتين تتعلق بموقع المغرب، و الثانية تتعلق بصفته السياسية و الحضارية، فمن حيث الموقع المغربي الأدنى إلى أوربا من أي موقع عربي إسلامي آخر. نجد أن هذا الموقع قد جعل من هذه البلاد، الأرض الأكثر تعرضا من الناحية المنطقية، لآثار المد الأوربي البالغ آنئذ أوج عنفوانه و سعة نطاقه، و موجب المنطقية في هذا ، هو أن المغرب مجاور بالأخص لمنطقة غربي أوروبا، و قد كان الغرب الأوربي، في غضون القرن التاسع عشر، محور كل اندفاعية للتوسع الأوربي عبر البحر الأبيض المتوسط و المحيطين الأطلسي و الهندي، و مصدر طاقة هذا التوسع، و رافده سياسيا و حضاريا !. و من ثم، فقد كان المغرب بمثابة ملتقى الحساسية الأكثر مباشرة، بين كل العالم العربي – الإسلامي المعرض للغزو و التوسع فيه، و بين غرب أوروبا، القائم على هذا التوسع، و مديره و المستفيد منه، و ليس المهم في التوسع الأوربي الغربي آنئذ، جانبه السياسي و العسكري فحسب بل أيضا، وجهه الحضاري، و بالأخص ما يتعلق من أمر الحضارة الحديثة بملابساتها المادية و التنظيمية الباهرة للأبصار، فموقع المغرب من حيث هذا الاعتبار، كان يفرض على هذه البلاد، تحديات قوية، في مختلف ميادين الحياة، و يخلق مضاعفات حتمية على الصعيد الاقتصادي و الاجتماعي، لم يكن هناك مناص منها، بسبب الاحتكاك المباشر المفروض وقوعه، بين المدنية الحديثة، و الحالة الحضارية التليدة المتوارثة بالمغرب، و هنا نبلغ الحقيقة الثانية التي أشرنا إليها من قبل. ذلك أن المغرب الذي كان عليه في غضون القرن التاسع عشر، أن يواجه التحديات الحضارية الواردة عليه من شمال المتوسط، و أن يهضمها و يتمثلها على نحو أو غيره، كان هو – أي المغرب، أمينا في نفس الوقت – على تراث حضاري أثيل، تقلد مسؤوليته لدى قرون و قرون، و حمل بمقتضاه رسالة تاريخية، أسهم بها في عملية التكييف الحضاري طويل الأمد بحوض البحر الأبيض المتوسط، و هذه الصفة الحضارية الأصيلة التي للمغرب كان من شأنها أن تسبغ على وجوده السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي رداء ذا مناعة قوية، خاصة و أن الرداء الحضاري هذا يقوم باستمرار كإطار واسع و مستوعب لقضايا الحياة و آفاتها عند المجتمع الذي يضمه هذا الإطار. و يكفل له – بسبب ذلك – القدرة على مواجهة مستمرة لحاجياته و متطلباته. لكن المد التوسعي الغربي كان من الطموح و النزوع إلى الانتشار، بالقدر الذي يستهدف به اكتساح مختلف حالات الوجود السياسي و الحضاري في القارات الأخرى، الواقعة فيما بين المحيط الأطلسي و الهندي و الهادئ، و من هنا كانت تبدو في غضون القرن التاسع عشر، دقة الوضع الذي كان عليه المغرب، العريق حضارة، و المرتكز سياسة و تنظيما، أمام امتداد أوروبي قوي الروافد، تحفزه نزعة جارفة لكسح القيم السياسية و الأخلاقية الحضارية، المتوارثة في آسيا و إفريقيا، في نفس الوقت الذي يندفع فيه الغربيون ضمن هذا التوسع، إلى الاستيطان خارج أوروبا، و إحلال مجتمعات أوروبية في القارتين الملونتين، كضمانة لفعالية هذا الاستيطان، و تعميق لصورته المادية و الإنسانية. إن دقة الوضع المغربي، من هذه الناحية، لم يكن يوازيها من الجانب الآخر، إلا سعة فعالية الوجود المغربي، و قوة الروافد السياسية و الحضارية، التي تسند هذا الوجود، وتمد له، بما يبقي له حركيته، و قدرته على المواجهة و المصاولة و التكيف، و هذه المكامن الإيجابية التي تنطوي عليها الفعالية السياسية و الحضارية بمغرب القرن التاسع عشر، قد جعلت المغرب مجالا مستعصيا على الغزو الأوروبي، بينما كانت أكثرية ما يدعى بالعالم الثالث الآن، قد وقعت فعلا تحت طائلة الاكتساح التوسعي الغربي. و صار وضعها كمستعمرات أمرا مفروغا منه، من وجهة النظرة القانونية للتوسعيين الأوروبيين، و تكمن ميزة الفعالية التي يسجلها تاريخ القرن التاسع عشر للمغرب، في قدرة هذه البلاد على الاحتفاظ بحالة مناعة إزاء الغزو الأوروبي لم تتوفر لكثير غيرها، لكن هل كانت هذه المناعة نتيجة عزلة جعلت هذه البلاد حينئذ بمنأى عن التأثر بالتيارات الخارجية ؟ إن هذه نقطة جديرة بالالتفات، يثيرها هذا التساؤل في أول ما يثيره، و تتعلق هذه النقطة التي نثير، بموضوع العزلة أو اللا عزلة، التي يمكن أن يكون موقف المغرب قد انطبع بها في تلك الظروف العالمية الدقيقة بالذات : فتمة من قد تذهب به محاولة تعليل الظاهرة، ظاهرة مناعة المغرب في القرن التاسع عشر – و هو أدق و أحرج فترات تاريخ الاستعمار الأوروبي. كما أسلفنا – هناك من قد يذهب في محاولة التعليل إلى القول بأن تلك المناعة كانت ناشئة، في كثير من أسبابها عن حالة عزلة، التزمت بها هذه البلاد، حفاظا على استقلالها و ضنا به على أي ظرف خارجي، قد يأتي فيودي به، و مثل هذا المنطق في التعليل، قد يغرى بالأخذ به في كثير من مواطن النظر التاريخي المتعلقة بالمغرب في خلال القرن التاسع عشر، غلا أن الذي يتبلور عند تدقيق النظر، أن المغرب لم يكن حينئذ، منغلقا، يعيش في حالة عزلة دولية، كما قد نتصور من مفهوم العزلة، لقد كان المغرب ضنينا حقا باستقلاله، شديد الحرص و الحذر أمام المناورات السياسية الدولية بيد أنه لم يكن يعيش حالة عزلة حقيقة، و إن كانت الأحوال الدولية قد انصبت حالتئذ على عزلة جغرافية، و تضييق المجال أمامه بالأخص، من ناحية علاقاته الإفريقية و المتوسطية. أن علينا – بصدد النظر في أمر العزلة أو اللا عزلة بالنسبة لمغرب القرن التاسع عشر، أن نميز بين حقيقتين أساسيتين، تتعلقان بالموضوع : (أولا) سياسة عزل المغرب التي كانت تنهجها كثير من دول الغرب الأوروبي الطامحة إلى اصطناع مواطئ قدم لها بهذه البلاد. (ثانيا) عمل المغرب على تحديد نطاق العزلة المفروضة عليه من جهة، و تلافيه في نفس الوقت، المحاذير التي تنتج عن سياسة تفتح واسع على أوروبا في غير تحفظ و لا حذر. و فيما يتصل بالنقطة الأولى نجد المغرب الذي كان في القرون السابقة للقرن التاسع عشر، على درجة من الترابط وثيق مع دول المتوسط و مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، نجد المغرب هدأ، قد دارت حوله حركة التفاف توسعية أوروبية، بعد أن سيطر الأوروبيون على غرب إفريقيا السوداء، و نهجوا نهجهم التوسعي في الشمال الإفريقي، إلى الشرق من المغرب، و ليس هذا وحسب، بل أن البحر المتوسط الذي كان – خلال الدهور – مجال تفتح مغربي على أوروبا و الشرق، قد صار هو كذلك، في غضون القرن التاسع عشر، بمثابة بحيرة أوروبية محفوظة، يحط فيها النفوذ التجاري و السياسي الأوروبي بكل كلكله، و لا يترك للبلدان الأخرى غير الأوروبية، مجالا له أهمية ما للتحرك في نطاق هذه المنطقة الحساسة أن العزلة التي أحيط بها المغرب حينئذ – هكذا – في القطاع الإفريقي و المتوسطي، لم يخفف من وطأتها إلا عمل المغرب نفسه- كما أسلفنا – من أجل تحديد نطاق هذه العزلة، و تجريدها كلما أمكن، من المفهوم السلبي الذي تفرضه حالة العزلة في العادة. وقد كان التفتح المغربي، الواقع في إطار من الحيطة و الحذر ، كان ذلك التفتح، بمثابة رد فعل حالتئذ، و قد برز المولى الحسن الأول في ذلك الظرف التاريخي الدقيق، ليكون رائد هذا التفتح الإيجابي المغربي، و ليكون في نفس الوقت أمينا على هذا التفتح، كي لا يصبح بمثابة الثغرة الكبيرة، تتمكن معها السياسة التوسعية الدولية من تسجيل نقطة أو نقط في رقعة الصراع، الذي كان كل البحر المتوسط، مجالا له، و متأثرا بظروفه. إن عملية التفتح في حد ذاتها عملية جد دقيقة، و ذلك لما تتطلبه من مهارة فائقة في الملاءمة بين عناصر البيئة المتفتحة، و العالم الخارجي المتفتح عليه، وما تقتضيه من استعدادات فكرية بعيدة الأفق، للتوصل إلى حالة ملاءمة ناجحة من هذا القبيل، لكن الظرف الدقيقة الذي تميز به الجو العالمي في القرن التاسع عشر، قد أضاف إلى دقة عملية التفتح من حيث مبدأها مصاعب أخرى ذات صيغة سياسية و سيكولوجية و مادية، ناشئة في أساسها من صبغة التناقض في الأحوال و الممكنات بين أوربا الغربية كقوة توسعية، و بين الضفة الإفريقية للبحر المتوسط كمجال متوسع فيه، و أرض محكوم عليها آنئذ بالتبعية. هذا التناقض في الحال و الممكنات، لم يكن من اليسير معه التخطيط لسياسة تفتح على العالم الأوروبي، و تنفيذ هذه السياسة في ظروف ملائمة أو بالأقل في ظروف مقبولة بقدر عادي. وقد عاش المغرب طوال العصر الوسيط، متفتحا على عالم البحر المتوسط، عاملا في محيط سياسته الدولية مؤثرا، و بصورة قوية الفاعلية، على تيارات التاريخ و تطوراته في عموم المنطقة، و يسجل تاريخ العلاقات السياسية و الحضارية بين المغرب و أوروبا خلال العصر الوسيط و أثناء عهد الدولة العلوية، يسجل خطوطا طويلة عريضة، يحفل بها تاريخ الضفتين، و تنطبع بها كثير من صور هذا التاريخ، إلا أن ظروف القرن التاسع عشر، بهذا الصدد، كانت – كما سقناه – ذات خصوصية جد مهمة، و يأتي ذلك من انقلاب موازين القوى في المتوسط و في العالم، لصالح الغرب الأوروبي في الغالب. و انفراد المغرب تقريبا من بين الأكثرية الكاثرة من مناطق آسيا و إفريقيا، بموقفه الصامد سياسيا و حضاريا تجاه المد التوسعي الغربي الأوروبي، و وجوده نتيجة لذلك، ملزم بزيادة الانفتاح على هذا الغرب نفسه، ليكون في مستوى مصاولته بالوسائل الجديدة المتطورة، المتوفرة للغربيين. و تسوق الرواية التاريخية الحديثة عن جهود المولى الحسن الأول من أجل تنظيم هذه المواجهة السياسية و الحضارية الواسعة بين المغرب و غربي أوربا، و ما سار عليه من نهج بعيد المدى في هذا الصدد. و تشير سياسة إيفاد الطلبة إلى غربي أوروبا، للتثقف و التكون الحديث، تشير إلى سعة الأفق الفكري التي أخذ يتم فيها تنفيذ هذا النهج، المستهدف منه الإعداد للرد على التحديات الأوروبية بصورة مناسبة، فالعنصر الإنساني في كل عمل تطويري هو العنصر الأهم من أي عنصر غيره، لأنه الأكثر فعالية، و الأضمن نجاحا. إن العمل على تعليم و تدريب الطلبة، بحسب الأساليب الجديدة، و المقاييس المتطورة في المجال المدني و العسكري، هو بطبيعة الحال، ما ندعوه ب « تكوين الإطارات » طبقا للتعبير السائد في عصرنا. و تكون الأطر – كما نتفق عليه جميعا – هو مفتاح أي عمل جدي للنهوض على مستوى مجتمع من المجتمعات. و بطبيعة الحال، فإن القضية تحتفظ في عصرنا بصبغتها شديدة الإلحاح. و كذلك كان الأمر في مغرب القرن التاسع عشر، الذي أخذ فيه المولى الحسن الأول بزمام فكرة جذرية كهذه الفكرة الجذرية. و ثمة ملحظ له أهميته في الأمر. و يتعلق بجغرافية توزيع الطلاب الذين أوفدوا إلى أوروبا، في هذا المجال، فقد توزع أولئك الطلاب على أقطار أوروبية متعددة، منها ما ينتسب إلى جنوب أوروبا كإيطاليا مثلا، و منها ما ينتمي إلى أواسط أوروبا كألمانيا، و منها ما هو من صميم الغرب الأوروبي، أما جنوبا كإسبانيا، أو شمالا كإنجلترا. إن هذا التوزيع، لا يخلو من دلالات، أن أريد أن تستقى منها دلالات معينة. فهو يشير إلى الرغبة التي كانت قائمة حينئذ – ولا شك – في تنويع المصادر الثقافية و الحضارية المأخوذ عنها. و هذا التنويع مما يضمن لعملية تلاقح من هذا القبيل حظوظا إيجابية مهمة، تؤدي إلى إغناء المحتوى الفكري و التجريبي الحاصل من وراء العملية، و تأمين نوع من التكامل لا غنى عنه في صلب النهضة العلمية و الحضارية المنتظرة من وراء المبادرة من أساسها، و ثمة ما قد يعتبر أهم من هذا كله، و هو ما يرشد إليه تنويع المصادر المأخوذة عنا – كما في مثال المبادرة المغربية – من كون المغرب قد عرف بذلك،كيف يتلاقى الوقوع تحت وطأة توجيه معين، صادر عن دولة معينة من الدول الأوروبية التي كانت تتصارع ساعتها على اتخاذ مواطئ قدم في منطقة أقاصي المتوسط الغربي، و لم يتجه لواحدة فقط من بين الدول الأوروبية التي لها إمكانيات في هذا المجال، على أنه لا بد أن يرد بصدد كل هذا، السؤال عن مدى أهمية هذه المبادرة في المجال المغربي، و الجواب، أن تلك البعثات الطلابية، قد كونت حلقة اتصال للعقل المغربي بتيارات الفكر و العمل السائدة في الغرب خلال القرن التاسع عشر. و أبرزت مدى حيوية هذا العقل في مجال الاستجابة للمقتضيات الجديدة الطارئة عليه، و إذا كانت علائق هذه البلاد بالغرب قد انطوت في المدى الطوي، على ملابسات سياسية و اقتصادية و غيرها، فإن مبادرة إرسال الطلاب، قد أعطت للعلائق المغربية الأوروبية، ملابسات أخرى على الصعيد الفكري و الحضاري بصورته الموجود عليها في القرن التاسع عشر، و كان ذلك حلقة في سلسلة التفتحات المغربية على العالم إلا أنها كانت حلقة ذات أهمية كبيرة في المضمار السيكولوجي خلال فترة تميزت ببلوغ الانتهار عند كثير من الشعوب الإفريقية و الآسيوية درجة قصوى أمام المدنية و الثقافة الأوروبية.
* * *
لم يكن بعث وفود الطلاب لأوروبا إلا مظهرا واحدا من جملة مظاهر تشير إلى سعة المجال الذي انفتح للتفاعل بين المغرب و التيارات الحديثة. و الواقع أن الاحتكاك المغربي بهذه التيارات، لم يكن قوامه فقط الجانب الذي ذكرنا، أي الجانب المتجلي في الإحساس المغربي بإبعاد الوضعية العالمية الجديدة، و استعداد المغرب للتلاقي مع تيارات هذه الوضعية، لاكتساب القدرة على التوقي من ملابساتها السلبية، و إنما تعدى الأمر ذلك إلى درجة حدوث تطورات اقتصادية و اجتماعية بعيدة الأثر في حياة البلاد، و أخذ الدولة المغربية بزمام المبادرة في مواجهة هذه التطورات، و إعطاء الانعكاسات الاجتماعية المترتبة عنها محتوى إيجابيا مناسبا. و ليس من اللازم أن نعزو هذه التطورات إلى عامل الاحتكاك بتيارات الحياة الدولية لا غير، فقد كان على المغرب – بصرف النظر عن ذلك – على اعتباره بلدا ذا إمكانيات مادية و بشرية حصبة، ثم بالنظر – بعد ذلك – لموقعه في عقر دائرة الاتصال بين ثلاث قارات و بحرين عالميين، كان على هذا البلاد، نتيجة لذلك كله، أن تواجه نموا متزايدا في حجمها الإنساني، و أن تجابه بالتالي الانعكاسات المادية التي يخلقها مثل هذا النمو المتطلب باستمرار لواسع الإمكانيات. و قد عرف مغرب القرن التاسع عشر، حالة نمو اقتصادي و اجتماعي مطرد على هذا الغرار، و تمثل هذا النمو في مظاهر أساسية من أبرزها : (1) ازدياد الحجم السكاني بصورة تضاعف فيها عدد السكان في بعض المناطق كطنجة مثلا فيما بين سنة 1884 و 1895. (2) تضخم حجم المدن و انتشار مزيد من مجالات التعمير الحضرية للمغرب، و وسعت من نطاقها بقدر كبير. (3) تركز كثير من النشاطات الاقتصادية بالمدن الساحلية. و بالأخص : المدن التي لها موانئ ذات اتصالات تجارية. (4) ازدياد تنوع مجالات العمل، و بروز قطاع البناء خصوصا كقطاع مهم لاستيعاب الأيدي العاملة. كل هذه التحولات، كان من شأنها أن تحدث مضاعفاتها على الحياة الاجتماعية العامة بالبلاد، و قد كان من أبرز آثار ذلك : حدوث تغيرات كان لابد من حدوثها على مستوى التوزيع السكاني بين المدن و القرى و الأرياف، و تضخم الحجم السكاني للمدن،و اتسع نطاق العلاقات الاجتماعية بالتبعية لذلك، و ملاحظة تطورات كهذه تشعرنا بضرورة تغيير الفكرة التي ربما يأخذ بها البعض، و فحواها أن مظاهر التوسع الحديث، المتمثل في تضخم السكان، و استبحار العمران، لم يعرفها المغرب في عهود استقلاله الأول، و إنما ما حدثت إلا بعد ذلك، فالسجلات و الوثائق المتوافرة، تشير إلى حالة معاكسة لهذه، بقدر كبير، و ترشد إلى أن المغرب قد عرف – في غضون القرن التاسع عشر – أعراض توسع مادي و بشري على نطاق واسع و إن هذا التوسع، كان من سعة النطاق بحيث نشأت عته حركة حضارية ذات شأن في تاريخ التطور الحضاري المغربي. و هذه بعض الأرقام للدلالة على مبلغ التوسع الذي وقع من الناحية الاجتماعية، و الأرقام التي نسوق، تتعلق بالفترة فيما بين سنة 1832 و 1866، أي خلال ثلث قرن تقريبا، فقد ازداد سكان الرباط في غضون تلك الفترة، بنحو 18 في المائة، و سكان آسفي بحوالي 33 في المائة،و العرائش 50 في المائة، و طنجة 60 في المائة، أما الجديدة فقد بلغت نسبة التضخم الاجتماعي فيها درجة 400 في المائة،و أضخم من هذا، مثال الدار البيضاء، التي رقي الرقم السكان فيها إلى 700 في المائة، و ما فتئت النسبة ترتفع بعد ذلك، في غضون القرن التاسع عشر و ما بعده، و قد عرف المغرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توسعا في ميادين التجارة الداخلية و الخارجية، موازيا لهذا النمو الحضري الذي سجلته تلك الفترة من تاريخنا القريب، و كان لنشاط الموانئ أثر مهم في اجتذاب أعداد كبيرة من السكان إلى المدن المينائية حيث يجدون مجالات واسعة للنشاط و الحصول على الموارد، و بعرض جان لوي مييج(1) لصورة طريفة من هذا القبيل، منقولة عن الوثائق الصحفية و غيرها أثناء ذلك العصر، و يذكر من ضمن هذه الصور، إن ضواحي طنجة و العارئش قد انتشر فيها العمران خلال القرن التاسع عشر، على نحو واسع النطاق، و أن النمو السكاني في مدينة الجديدة، بلغ درجة صارت معها البيوت كلها غاصة ليس منها فارغ، الأمر الذي ساعد على انسياح المساكن عبر ضواحي المدينة. و مثل هذا في البيضاء، حيث تطلب خزن الحبوب هائلة المقدار، التي جاد بها محصول سنة 1887، و تطلب بناء مزيد من المخازن الواسعة، هذا إلى المزيد أيضا من المساكن التي استوجبها آنئذ، التزايد السكاني المطرد، و نفس الحالة من التضخم الاجتماعي لوحظت أواخر القرن التاسع عشر في مدينة الصويرة، وحتى في المدن الداخلية كسطات و القصر الكبير و سواهما. و قد ارتبط النمو السكاني في المدن الداخلية كمثال ما ذكرنا، ارتبط بحركة نشاط تجاري كبير، نتيجة لجودة المحاصيل من جهة، و الازدهار العام الذي سجلته حركة التصدير و الاستيراد بين المغرب و عدد من الأقطار الأوروبية.
على أن المهم في ظواهر النمو و التوسع التي ذكرنا، لا ينحصر في مجرد وجود هذه الظواهر و كفى، و إنما يبدو جانب كبير من أهمية هذه الأحوال فيما قامت به دولة المولى الحسن الأول، و العهود قبله، من أعمال إيجابية، في نطاق تشجيع عوامل التوسع و النمو المشار إليهما، و مواجهة المتطلبات التي تفرضها أوضاع سريعة التطور من هذا القبيل. ففي سنة 1866، صدرت أوامر شريفة بالقيام بحركة توسع عمراني بعيد المدى، في مدينة أسفي، حيث شيدت مجموعات من الدور و الفنادق و المتاجر. و ي سنة 1890، صدرت أوامر مماثلة، بإقامة حي جديد في مدينة الصويرة، و بناء أعداد كبيرة من المساكن ضمن ذلك. و في سنة 1892، أعطيت أوامر عليا مماثلة أيضا بشأن الدار البيضاء، و هكذا، و لم نسق هذه الوقائع، التي تثبتها المصادر في الموضوع لتجديد إحصائية معينة، و إنما هي مجرد صور نموذجية لحالة اقتصادية و اجتماعية واسعة الأبعاد، سجلها المغرب على عهد المولى الحسن الأول على أن رياح التحول الاقتصادي، و الاجتماعي، التي حملها معه القرن التاسع عشر، قد تشبع بها المغرب آنئذ بقدر كبير، و عرف كيف يصوغ منها أحوالا إيجابية، على الرغم من الجو السياسي المريب، الذي خلقه التوسعيون الأوروبيون في عموم منطقة البحر الأبيض المتوسط، تمهيدا للسيطرة على مجموع الضفة الإفريقية منه.
Le Maroc et l’Europe », Jean-Louis Miège(1
عن دعوة الحق
118 العدد