نقوس المهدي
كاتب
قضى شيخنا السائح حقبة ليست بالقليلة في أداء رسالته الثقافية بين قومه ثم مضى إلى حيث يجد ثمرة أعماله الخالدة.
شنشنة الحياة في السير قدما طاوية مراحلها المتقاربة أعمارا وأعمارا، فهل يا ترى يشعر الغافل ويستيقظ الولهان، فينظران بعين ملؤها الأسى والأسف على ارتحال عباقرة، وانتقال نبغاء كثيرا ما تلهف الشعب على تكوينهم، وسعى بصدق في إيجادهم حتى إذا ما لبت الظروف المطلب وأسعف برشحة من رشحاتها الضنينة انقلبت على عاداتها مكشرة فأودت بأعز ما كانت أسعفت به، إنها شخصية عالمة قام المغرب بنافس بها نبغاء المعرفة في الشرق والغرب، شخصية نادرة من نوادر الاطلاع، آية بينة من آيات المعرفة- سواء في دروسه التلقينية أو تحريراته العلمية، أو مذكراته الواسعة وأحاديثه الفنية، إذا جلس للدرس تصدى لتحليل موضوعه بطريقة سهلة منتجة مبناها السير والتقسيم، والانتقال من الفظ إلى المدلول ثم منه إلى المراد العلمي،وهو في هذه الأثناء كالطبيب المعالج اسبر غور تلاميذه مستعرضا أقدارهم ونفسية كل على حدة في أسلوب هو إلى الجديد أمس منه بالقديم كطريقة بين الطريقتين يكاد تلميذ المعاهد العصرية لا يميز بين ما نشأ فيه من الدراسات ودراسات المترجم الذي كان في أكثرها يمزج تحليلاته العلمية بنوع خاص من الفلسفة الفنية والتعليلات الصحيحة التي تجعل الطالب القروي كغير مؤمنا في اطمئنان بما يدرس من مسائل العلم لا سيما المشكل منها. إذ كان في تقريراته العلمية، ورجل الكشف والتنقيب عن مخبئات العلم ومكنوناته إزاء أسرار تشريعية تبعث بطبعها في التلميذ الولوع روحا جديدا يكون منه جوا صافيا للكرع من ينابيع المعرفة في هدوء.
فكان ينشئ تلامذته على الفهم والإدراك، مربيا في روعهم ملكة الأخذ، وكيفية البحث والاستطلاع سواء في فروع العلم أو أصوله، وهذا ما نصبو إليه، ونود بملء قلوبنا من رجال المعرفة لو ينهجون نهجه ويسلكون محجته لبناء صرح جديد في أجواء التكوين الصحيح، إذ نحن أحوج في عصرنا المائل إلى هيئة عالمة تحمل مشعل التكوين المنتهج بخلق أساليب يشع نبراسها على المعارف هنا وهناك على المنهج الذي كان ينسج على منواله الشيخ السائح سائرا بخطا واسعة على افريزه حاملا لواءه الخفاق مشيدا بإنتاجه في شتى المناسبات وأكثر الأحاديث التي كانت تنبعث من أعماق شخصه المهيب، وجده المتزن وطبعه اللين ومبدئه الثابت يجنح إلى السلفية مترسما محجتها البيضاء، ذائدا بكل ما أوتي من جهود عن مذاهب أهل السنة في كفاح مستمر، وجهاد متواصل.
فيا خيبة من بدا بمظهر البدعة ومنظر الشعوذة والتدجيل فهناك يتجلى غضب الأستاذ وحنقه وقد زوى وقطب ما بين عينيه مفوقا سهامه الصائبة لجامعات التضليل والتهريج، باعثا الحجة تلو الحجة حتى تراهم وقد اندحروا منهزمين زرافات ووحدانا خصوصا من تقمص منهم بسربال التصوف والكاذب، وتجرد للخداع في ستار مموه أو سجاف مبرقش لاقتناص البسطاء، والإيقاع بالضعفاء، وحرصا منه على خدمة السنة وتنوير الأفكار، حبر رسالة تحدث فيها عن أدعية وأذكار بعض المتصوفة داحضا فيها دعاويهم العريضة ومبارياتهم المغرضة التي تتم عن استقصار الوارد عن الرسول الأعظم أعطاها لقب (المنهل الوارد في تفضيل الوارد) وهي طافحة بالبيانات التقديرية لأذكار الرسول صلوات الله عليه في تأييد بعضها من ىي الوحي المبين مثل قول الله تعالى:( وله الأسماء الحسنى فأدعو بها، وذروا الذين يلحدون في اسمائه) وقوله:(وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه،ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ولا نذهب بعيدا عن فهم أفكاره تلقاء حملاته الشعواء على رؤوس الغواية- إذ لم يكن متطرفا فيها، ولا في حربه متعسفا، بل كان يقف في وجهته الإصلاحية موقف المتبصر المعتدل- يميز الخبيث من الطيب، والرديء من الجيد، فقد شاهدنا له مواقف دراسية حول الغزالي وأفكاره الفلسفية والمنطقية في تهافت الفلاسفة، ومعيار العلم يعرضها للبحث، وبعضها على محك الدرس والنقد لافتا نظره صوب ما كتبه نقاده، وما حاولوه بمعاولهم الهدامة من إسقاط شخصه الفلسفي، قائما مقام الموفق بين آراء المنتقد وناقديه بما يخلق من الموقف انتصارا لجانب فيلسوف الإسلام الغزالين وبنفس الظاهرة نجده كذلك بذود عن فلسفة ابي الوليد بن رشدن وتصويب حكمته، ودراستها بالطرق القانونية والأساليب الفنية لحد الإعجاب بآرائه، والاستشهاد بمقالاته والعكوف على فهم كتابه(فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) كما كان يفعل المستشرق ارنست رينان الذي افرد الفيلسوف ابن رشد ببحث خاص ومن بين سطور هذه الدراسات العميقة يتخلص لأفكار الشيخ الأكبر محللا غموض عبراته المشككة، وأساليب المعقدة، وفهومه الخاصة في_الفتوحات والفصوص) إذ يبسطها بسطا يرى فيه منغمرا في أذواق الشيخ ونزعاته الصوفية سابحا في بحر خياله المتموج أملا بلوغ شاطئ النجاة حيث الملتمس المنشود، ورغم هذا النصب الثقيل يبقى في قرارة النفس شيء من تلك الدراسات النفسية وبالأخص عندما تبدو للدارس أعلام عالم النفس والروح فيعود من هذا المبدأ حامدا سلامة الإياب مؤمنا ببعض، متوقفا في بعض.
ويود الكاتب لو شارك لقارئ في حقل من حلقات المترجم أيام كان يدرس شفاء عياض سنة 1346 هـ موافق 1927م بمناسبة بزوغ هلال ربيع النبوي- فيرى كيف كان يحط رحاله ويتصدى لديباجية الشفاء العامرة.
كلهم حاولا الدواء ولكن = ما أتى بالشفاء إلا عياض
فيعرض فيها لآراء القوم وأفكارهم الصوفية بينا تجده محلقا في سماء الولاية مبددا سحب الأوهام والخرافات إذا بك تلفيه منتقلا إلى مقام الصديقية، ثم منها إلى منبر الوحي والنبوءة في نظام تعلوه مسحة حال في جلد وقوة.
وان انس فلا أنسى مسامرته القيمة حول(فخر الدين الراوزي) بمعهد الدروس العليا بالرباط سنة 1943 م موافق 1362هـ ثاني عيد المولد النبوي تحت رئاسة صاحب السمو الملكي المولى الحسن مسامرة ممتعة برهن فيها الشيخ عن مقدرة فائقة في كيفية العرض والبحث على نسق ما يطرقه علماء الاستشراف في أبحاثهم العلمية ودراساتهم الواسعة تحليلا واستنتاجا اندهش لهما الحاضرون- في تقدير وإعجاب إذ حلل شخصيته تحليلا عميقا حتى ما ترك منقبة من منافيه أي ونشرها خصوصا ما يمت منها إلى الفلسفة والنفس بسبب، ظاهرة حفزت فدماء الثانوية الادريسية لطلب الشيخ في إلحاح إعادة مسامتره الفخرية بنادي المسارمات بفاس الفيحاء، وما كان منه سوى أن لب الطلب العلمي على عادته مما جعل له في الأوساط العلمية والأدبية صدى حميدا وأثرا خالدا.
ومن هذه النبذة الخاطفة نتبين في وضوح ما كان لعمليته المتينة من الميل الطبيعي لدراسة الفلسفة وعلوم النفس والعطف الخاص على كل علمائها الودود بقارع الحجة عن آرائهم المستقيمة وابتكاراتهم الصائبة في تأييد من الكتاب والسنة ما وجد لذلك سبيلا.
علاوة على ما كان لاطلاعه الواسع في العلوم الدينية والأدبية والرياضية وسوها من المشاركة الكافية التي كونت من شخصيته مثال العبقري النادر، يطرق الفن فيهضمه هضما ويركب صعبه فينقلب عن كثب سهلا ذلولا، ومتى ما اعتصت عليه بعض جزئياته، ووقفت تجاهه موقف الأشكال- قام قومه الصنع اللبق لحلها مبددا غيوم الهوس والشك المساورين مندفعا لوضع جزء خاص حول المشكلة، وكمله في هذا النوع من جرات لا نرتاب أن تكون نتيجة الشك. وفي المثل( أهتك ستور الشك بالسؤال) ولا يعزب عن بال المطلع، أن الشك أساس اليقين، ومن لم يشك لم يؤمن، فالشك عنصر من عناصر الدقة، وسلم الاستطلاع والوقوع على الحقيقة، وبالصدف عن فكرة الشك ينشأ الرضى بالتقليد وينطبع في النفس الميل إلى التواكل، والخمول، وما إليهما من صفات الخنوع القاضية على حرية التفكير وانطلاق الضمير.
ما عاش من عاش مقيدا- ولا ننسى دروسه التفسيرية التي كان يبعثها على جناح الأثير المغربي في ثاني الربيعين من سنة 1360هـ بطريقة الاختيار لأي من الذكر الحكيم تارة في الأحكام وأخرى في القصص وآونة في الكون والطبيعة، ففي التشريع ينشر آراء الأئمة ومذاهبهم في كل فرع والإدلاء بكل من النصوص القائمة والحجج الناهضة دون أن ترى له تحزبا لمذهب أو تعصبا لنحلة ولو مذهبه المالكي، إنما الحكم العدل والفيصل الحق لقوة الدليل ونهوض الحجة.
أما القصص فكان يبسطها متلمسا من ثناياها الحكمة والعبرة، وما كان أحب إليه حديث القصة وألذه إليه حيث يعيره التفاتا خاصا واهتماما غريبا يستوحي من بين سطوره مثلا عليا، واختلاقا فاضلة يكون لها حميد الأحدوثة في نفوس المستمعين وعلى الأخص منهم النشء الثابت الذي تعد القصة مناهم العوامل الناجحة في توجيهه الخلقي والثقافي، وما انفكت تلك الدروس التفسيرية لسورة يوسف عليه السلام مرتسمة بالأذهان لما كان لها في القلوب من الواقع الحسن والعظة المؤترة- كتفسير قول الله تعالى( فان كان قميصه قدمن قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) وقوله:( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليهم) وقوله( كذلك كدنا ليوسف) ومن عبقريته، انه كان لا يقف في تقاريره العلمية موقف الحاكي بجلب نصوص الكتاب والمفسرين ويعرضها عرضا جافا دون أن يكون له حظ الأخذ والرد بل والتوليد والابتكار في غير ما فن. ولمجهود باشا البارودي:
لولا مواهب في بعض الأنام لما = تفاوت الناس في الأقدار والقيم
وها هو يقول أثناء محاضرته الثانية( أن من أنواع الأساليب اللفظية المتعددة- أن يوجد خلال فواصل الآي المقفاة فواصل أخرى مغايرة للفواصل التي بينت عليها السورة، وهو نوع على نهجه بنى التوشيح، وعلى وثيرته ارتكز أسلوبه، لم أجده منصوصا لغيري، وإنما وفقت إليه)ولا بدع أن يلهم شيخنا السائح لابتكار هذا النوع الفظي البديع الذي يسمح لشخصه العالم بوصف العبقرية وانطباقها على مهارته الفنية على رأي كنط الفيلسوف الألماني الذي قال عن العبقري:( انه من عمل شيئا ابتكره ابتكارا، ولم يقلد فيه أحدا تقليدا ويصبح عمله أثرا يتبعه الناس من بعهد) أو رأى مثله من فلاسفة الشرق والغرب ممن وقفت أقلامهم في كلمة(عبقرية) وتحديد مدلولها، وهو السائح ما برج يجلى في حلبة العبقرية ويسمو في أوجها بذكائه الفطري وعقليته الجبارة متابعا البحوث الرامية إلى تحليل الطاقة الذرية والتطلع من بعيد إلى معرفة ذراتها، وبذل الجهد لأدراك كنه ما تناثر من أجزائها، وما تطاير من جواهرها، ومنشأ مفعولها العالمي العام الذي خدر أعصاب حتى مخترعيها وسواهم من عباقرة الدول فغدوا يفكرون في اندهاش لوضعها تحت نير الرقابة تفاديا من شرها المتوقع، ولا ما يدعو إلى الغرابة إذا ما كانت الكلمات تروع وتفزع فيسطو عليها قلم الرقابة ومقراض التحذير والتشويش.
ورغم أن مزايا المترجم أفسح من هذا فنقف القلم قائلين:يكفي من القلادة ما أحاط بالجيد.
دعوة الحق العدد 52
شنشنة الحياة في السير قدما طاوية مراحلها المتقاربة أعمارا وأعمارا، فهل يا ترى يشعر الغافل ويستيقظ الولهان، فينظران بعين ملؤها الأسى والأسف على ارتحال عباقرة، وانتقال نبغاء كثيرا ما تلهف الشعب على تكوينهم، وسعى بصدق في إيجادهم حتى إذا ما لبت الظروف المطلب وأسعف برشحة من رشحاتها الضنينة انقلبت على عاداتها مكشرة فأودت بأعز ما كانت أسعفت به، إنها شخصية عالمة قام المغرب بنافس بها نبغاء المعرفة في الشرق والغرب، شخصية نادرة من نوادر الاطلاع، آية بينة من آيات المعرفة- سواء في دروسه التلقينية أو تحريراته العلمية، أو مذكراته الواسعة وأحاديثه الفنية، إذا جلس للدرس تصدى لتحليل موضوعه بطريقة سهلة منتجة مبناها السير والتقسيم، والانتقال من الفظ إلى المدلول ثم منه إلى المراد العلمي،وهو في هذه الأثناء كالطبيب المعالج اسبر غور تلاميذه مستعرضا أقدارهم ونفسية كل على حدة في أسلوب هو إلى الجديد أمس منه بالقديم كطريقة بين الطريقتين يكاد تلميذ المعاهد العصرية لا يميز بين ما نشأ فيه من الدراسات ودراسات المترجم الذي كان في أكثرها يمزج تحليلاته العلمية بنوع خاص من الفلسفة الفنية والتعليلات الصحيحة التي تجعل الطالب القروي كغير مؤمنا في اطمئنان بما يدرس من مسائل العلم لا سيما المشكل منها. إذ كان في تقريراته العلمية، ورجل الكشف والتنقيب عن مخبئات العلم ومكنوناته إزاء أسرار تشريعية تبعث بطبعها في التلميذ الولوع روحا جديدا يكون منه جوا صافيا للكرع من ينابيع المعرفة في هدوء.
فكان ينشئ تلامذته على الفهم والإدراك، مربيا في روعهم ملكة الأخذ، وكيفية البحث والاستطلاع سواء في فروع العلم أو أصوله، وهذا ما نصبو إليه، ونود بملء قلوبنا من رجال المعرفة لو ينهجون نهجه ويسلكون محجته لبناء صرح جديد في أجواء التكوين الصحيح، إذ نحن أحوج في عصرنا المائل إلى هيئة عالمة تحمل مشعل التكوين المنتهج بخلق أساليب يشع نبراسها على المعارف هنا وهناك على المنهج الذي كان ينسج على منواله الشيخ السائح سائرا بخطا واسعة على افريزه حاملا لواءه الخفاق مشيدا بإنتاجه في شتى المناسبات وأكثر الأحاديث التي كانت تنبعث من أعماق شخصه المهيب، وجده المتزن وطبعه اللين ومبدئه الثابت يجنح إلى السلفية مترسما محجتها البيضاء، ذائدا بكل ما أوتي من جهود عن مذاهب أهل السنة في كفاح مستمر، وجهاد متواصل.
فيا خيبة من بدا بمظهر البدعة ومنظر الشعوذة والتدجيل فهناك يتجلى غضب الأستاذ وحنقه وقد زوى وقطب ما بين عينيه مفوقا سهامه الصائبة لجامعات التضليل والتهريج، باعثا الحجة تلو الحجة حتى تراهم وقد اندحروا منهزمين زرافات ووحدانا خصوصا من تقمص منهم بسربال التصوف والكاذب، وتجرد للخداع في ستار مموه أو سجاف مبرقش لاقتناص البسطاء، والإيقاع بالضعفاء، وحرصا منه على خدمة السنة وتنوير الأفكار، حبر رسالة تحدث فيها عن أدعية وأذكار بعض المتصوفة داحضا فيها دعاويهم العريضة ومبارياتهم المغرضة التي تتم عن استقصار الوارد عن الرسول الأعظم أعطاها لقب (المنهل الوارد في تفضيل الوارد) وهي طافحة بالبيانات التقديرية لأذكار الرسول صلوات الله عليه في تأييد بعضها من ىي الوحي المبين مثل قول الله تعالى:( وله الأسماء الحسنى فأدعو بها، وذروا الذين يلحدون في اسمائه) وقوله:(وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه،ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ولا نذهب بعيدا عن فهم أفكاره تلقاء حملاته الشعواء على رؤوس الغواية- إذ لم يكن متطرفا فيها، ولا في حربه متعسفا، بل كان يقف في وجهته الإصلاحية موقف المتبصر المعتدل- يميز الخبيث من الطيب، والرديء من الجيد، فقد شاهدنا له مواقف دراسية حول الغزالي وأفكاره الفلسفية والمنطقية في تهافت الفلاسفة، ومعيار العلم يعرضها للبحث، وبعضها على محك الدرس والنقد لافتا نظره صوب ما كتبه نقاده، وما حاولوه بمعاولهم الهدامة من إسقاط شخصه الفلسفي، قائما مقام الموفق بين آراء المنتقد وناقديه بما يخلق من الموقف انتصارا لجانب فيلسوف الإسلام الغزالين وبنفس الظاهرة نجده كذلك بذود عن فلسفة ابي الوليد بن رشدن وتصويب حكمته، ودراستها بالطرق القانونية والأساليب الفنية لحد الإعجاب بآرائه، والاستشهاد بمقالاته والعكوف على فهم كتابه(فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) كما كان يفعل المستشرق ارنست رينان الذي افرد الفيلسوف ابن رشد ببحث خاص ومن بين سطور هذه الدراسات العميقة يتخلص لأفكار الشيخ الأكبر محللا غموض عبراته المشككة، وأساليب المعقدة، وفهومه الخاصة في_الفتوحات والفصوص) إذ يبسطها بسطا يرى فيه منغمرا في أذواق الشيخ ونزعاته الصوفية سابحا في بحر خياله المتموج أملا بلوغ شاطئ النجاة حيث الملتمس المنشود، ورغم هذا النصب الثقيل يبقى في قرارة النفس شيء من تلك الدراسات النفسية وبالأخص عندما تبدو للدارس أعلام عالم النفس والروح فيعود من هذا المبدأ حامدا سلامة الإياب مؤمنا ببعض، متوقفا في بعض.
ويود الكاتب لو شارك لقارئ في حقل من حلقات المترجم أيام كان يدرس شفاء عياض سنة 1346 هـ موافق 1927م بمناسبة بزوغ هلال ربيع النبوي- فيرى كيف كان يحط رحاله ويتصدى لديباجية الشفاء العامرة.
كلهم حاولا الدواء ولكن = ما أتى بالشفاء إلا عياض
فيعرض فيها لآراء القوم وأفكارهم الصوفية بينا تجده محلقا في سماء الولاية مبددا سحب الأوهام والخرافات إذا بك تلفيه منتقلا إلى مقام الصديقية، ثم منها إلى منبر الوحي والنبوءة في نظام تعلوه مسحة حال في جلد وقوة.
وان انس فلا أنسى مسامرته القيمة حول(فخر الدين الراوزي) بمعهد الدروس العليا بالرباط سنة 1943 م موافق 1362هـ ثاني عيد المولد النبوي تحت رئاسة صاحب السمو الملكي المولى الحسن مسامرة ممتعة برهن فيها الشيخ عن مقدرة فائقة في كيفية العرض والبحث على نسق ما يطرقه علماء الاستشراف في أبحاثهم العلمية ودراساتهم الواسعة تحليلا واستنتاجا اندهش لهما الحاضرون- في تقدير وإعجاب إذ حلل شخصيته تحليلا عميقا حتى ما ترك منقبة من منافيه أي ونشرها خصوصا ما يمت منها إلى الفلسفة والنفس بسبب، ظاهرة حفزت فدماء الثانوية الادريسية لطلب الشيخ في إلحاح إعادة مسامتره الفخرية بنادي المسارمات بفاس الفيحاء، وما كان منه سوى أن لب الطلب العلمي على عادته مما جعل له في الأوساط العلمية والأدبية صدى حميدا وأثرا خالدا.
ومن هذه النبذة الخاطفة نتبين في وضوح ما كان لعمليته المتينة من الميل الطبيعي لدراسة الفلسفة وعلوم النفس والعطف الخاص على كل علمائها الودود بقارع الحجة عن آرائهم المستقيمة وابتكاراتهم الصائبة في تأييد من الكتاب والسنة ما وجد لذلك سبيلا.
علاوة على ما كان لاطلاعه الواسع في العلوم الدينية والأدبية والرياضية وسوها من المشاركة الكافية التي كونت من شخصيته مثال العبقري النادر، يطرق الفن فيهضمه هضما ويركب صعبه فينقلب عن كثب سهلا ذلولا، ومتى ما اعتصت عليه بعض جزئياته، ووقفت تجاهه موقف الأشكال- قام قومه الصنع اللبق لحلها مبددا غيوم الهوس والشك المساورين مندفعا لوضع جزء خاص حول المشكلة، وكمله في هذا النوع من جرات لا نرتاب أن تكون نتيجة الشك. وفي المثل( أهتك ستور الشك بالسؤال) ولا يعزب عن بال المطلع، أن الشك أساس اليقين، ومن لم يشك لم يؤمن، فالشك عنصر من عناصر الدقة، وسلم الاستطلاع والوقوع على الحقيقة، وبالصدف عن فكرة الشك ينشأ الرضى بالتقليد وينطبع في النفس الميل إلى التواكل، والخمول، وما إليهما من صفات الخنوع القاضية على حرية التفكير وانطلاق الضمير.
ما عاش من عاش مقيدا- ولا ننسى دروسه التفسيرية التي كان يبعثها على جناح الأثير المغربي في ثاني الربيعين من سنة 1360هـ بطريقة الاختيار لأي من الذكر الحكيم تارة في الأحكام وأخرى في القصص وآونة في الكون والطبيعة، ففي التشريع ينشر آراء الأئمة ومذاهبهم في كل فرع والإدلاء بكل من النصوص القائمة والحجج الناهضة دون أن ترى له تحزبا لمذهب أو تعصبا لنحلة ولو مذهبه المالكي، إنما الحكم العدل والفيصل الحق لقوة الدليل ونهوض الحجة.
أما القصص فكان يبسطها متلمسا من ثناياها الحكمة والعبرة، وما كان أحب إليه حديث القصة وألذه إليه حيث يعيره التفاتا خاصا واهتماما غريبا يستوحي من بين سطوره مثلا عليا، واختلاقا فاضلة يكون لها حميد الأحدوثة في نفوس المستمعين وعلى الأخص منهم النشء الثابت الذي تعد القصة مناهم العوامل الناجحة في توجيهه الخلقي والثقافي، وما انفكت تلك الدروس التفسيرية لسورة يوسف عليه السلام مرتسمة بالأذهان لما كان لها في القلوب من الواقع الحسن والعظة المؤترة- كتفسير قول الله تعالى( فان كان قميصه قدمن قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) وقوله:( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليهم) وقوله( كذلك كدنا ليوسف) ومن عبقريته، انه كان لا يقف في تقاريره العلمية موقف الحاكي بجلب نصوص الكتاب والمفسرين ويعرضها عرضا جافا دون أن يكون له حظ الأخذ والرد بل والتوليد والابتكار في غير ما فن. ولمجهود باشا البارودي:
لولا مواهب في بعض الأنام لما = تفاوت الناس في الأقدار والقيم
وها هو يقول أثناء محاضرته الثانية( أن من أنواع الأساليب اللفظية المتعددة- أن يوجد خلال فواصل الآي المقفاة فواصل أخرى مغايرة للفواصل التي بينت عليها السورة، وهو نوع على نهجه بنى التوشيح، وعلى وثيرته ارتكز أسلوبه، لم أجده منصوصا لغيري، وإنما وفقت إليه)ولا بدع أن يلهم شيخنا السائح لابتكار هذا النوع الفظي البديع الذي يسمح لشخصه العالم بوصف العبقرية وانطباقها على مهارته الفنية على رأي كنط الفيلسوف الألماني الذي قال عن العبقري:( انه من عمل شيئا ابتكره ابتكارا، ولم يقلد فيه أحدا تقليدا ويصبح عمله أثرا يتبعه الناس من بعهد) أو رأى مثله من فلاسفة الشرق والغرب ممن وقفت أقلامهم في كلمة(عبقرية) وتحديد مدلولها، وهو السائح ما برج يجلى في حلبة العبقرية ويسمو في أوجها بذكائه الفطري وعقليته الجبارة متابعا البحوث الرامية إلى تحليل الطاقة الذرية والتطلع من بعيد إلى معرفة ذراتها، وبذل الجهد لأدراك كنه ما تناثر من أجزائها، وما تطاير من جواهرها، ومنشأ مفعولها العالمي العام الذي خدر أعصاب حتى مخترعيها وسواهم من عباقرة الدول فغدوا يفكرون في اندهاش لوضعها تحت نير الرقابة تفاديا من شرها المتوقع، ولا ما يدعو إلى الغرابة إذا ما كانت الكلمات تروع وتفزع فيسطو عليها قلم الرقابة ومقراض التحذير والتشويش.
ورغم أن مزايا المترجم أفسح من هذا فنقف القلم قائلين:يكفي من القلادة ما أحاط بالجيد.
دعوة الحق العدد 52