نقوس المهدي
كاتب
أوحماو محمد، هو أحد شعراء توزونين الموهوبين الذين كانت لهم شهرة كبيرة بعد الاستقلال، أغفلته أقلام الباحثين والمتخصصين في تدوين التراث الشفاهي الأمازيغي، لكن هدير كلماته الموزونة و المؤثرة لا يزال يدوي بين جدران وفضاءات وساحات "إسوياس" في قرية توزونين ك "أملال" و "إمي لحواش" ثم "تنبورت" حيث كان يقارع نظاره من الشعراء.
كان محمد أوحماو كغيره من أبناء توزونين (جماعة قروية على بعد 80 كلم غرب مدينة طاطا) و شعرائها السابقين وحتى اللاحقين بعده، يمتهن العمل المنجمي و تجارة المعادن، و يحكى أن وفاته سنة 1972 كانت نتيجة تأثره بمرض صدري سببه تراكم رواسب معدن الرصاص برئتيه، وتلك مأساة جل رجال و شباب توزونين الذين كرسوا حياتهم بالاشتغال في هذه المناجم، ولقوا حتفهم و هلكوا لهذا السبب.
فقد كان أوحماو من المداومين على التنقيب عن معدني الفضة و الرصاص بجبال العدانة، وهي سلسلة منجمية كان يستغلها سكان توزونين من فترات قديمة إلى بداية التسعينات، و معروف عنه أنفته و تحاشيه اختيار مساعدين لما كان يزاول عمل التنقيب بمنطقة تالعدانت حيث كان يملك مناجم، و لم يكن يرافقه في رحلته من القرية إلى تلك المنطقة سوى إحدى بناته التي كانت تتكفل بطهي طعامه وما يحتاجه من خدمات بسيطة، و عادة ما كان إبن توزونين يستغل خلوته لإنشاد الأشعار و صقل موهبته في ترتيب الأبيات تزامنا مع انهماكه في أشغال التنقيب، و كذلك كان ديدنه حينما يزاول أعمال الفلاحة و هو يعتني بري أشجار نخيل كانت من ملك أبيه بواحة "واطزوا"، وهي واحة صغيرة بين مدشري إكضي وأيت وابلي القريبيين من توزونين غربا، وكان أوحماو يمضي بها بعضا من وقته أثناء العودة من منجم "تالعدانت" للغرض المذكور.
وعلمنا من أحد أقربائه الناجم العباسي، ومن شاعر توزونين الحالي المحجوب العباسي، أن أوحماو لم ينخرط في المحاورات الشعرية "أنعبار" بفن "الدرست" إلا لاحقا، و ليس ذلك لقصور منه أو لتواضع أدائه، لكن احتراما و تقديرا لخاله وأستاذه في النظم إن جاز القول و هو الناظم "أحمد أوباكي" سيد الميادين و إسوياس آنذاك إلى جانب شاعر الحكمة جامع بن إغيل، وكان أوحماو في البداية يكتفي بإنشاد أبيات شعرية أمازيغية سوسية على إيقاع "أهنقار"، و بعد وفاة أوباكي إقتحم دون مركب نقص ميدان المحاورات بإيقاع الدرست، وغالبا ما كان يقارع الشاعر محمد بن إغيل الذي ورث فن النظم عن أبيه جامع المتقدم. و تسجل الرواية الشفاهية التي تحتفظ بها ذاكرة المحجوب و الناجم العباسيين أول لحظة لاقتحام أوحماو ميدان المحاورات، و كانت بمناسبة زفاف عبد الله بن القائد الحسن من آل بلعيد بتوزونين، خلالها دار حوار شعري بينه و بين الشاعر أحمد أوبراهيم الشاوف من أكادير أوزرو وهو من سلالة الشيخ محمد إبن مبارك الأقاوي.
ومن الصفات التي يذكرها أهل توزونين الشعراء منهم و من بقي من المولعين بمتابعة السجالات الشعرية لأحماو و محاوراته، الموهبة الجياشة والذكاء والفطنة والخيال الحسي المرهف ثم القدرة على الاستطلاع التي كان يتمتع بها هذا الشاعر، ومن مزاياه التي تذكر كذلك طول نفسه في المحاورات الشعرية و قوة شخصيته حينما ينتصب وسط الجمهور، فقد كان قويا في دفاعه المستميت عن نفسه دون اكتراث من الآخرين ، هكذا كانت كلماته و أشعاره صريحة خالية من التردد و الخجل، و لهذا ربما اعتبر كثير الاندفاع في نظر البعض وميالا للهجو عند الآخرين، كما كان شعره انتصارا لقضايا إنسانية و دفاعا عن بلدته و رموزها وشخصياتها حينما يجابه غيره من الشعراء.
لم يكن للشاعر أوحماو أدني ذكر في مؤلف المعسول في الفصل الذي خصصه العلامة المختار السوسي لشعراء توزونين، و لا في كتاب من أفواه الرجال، فكان تركيزه على أسرة بن إغيل التي اعتبرها أسرة شعراء متسلسلين منهم أحمد الجد و جامع الأب ثم محمد الإبن، إضافة إلى ذكره للشاعر أحمد أوباكي معاصر جامع بن إغيل . كما لم يدرج أوحماو ضمن لائحة مشاهير الشعراء الأمازيغ الذين خصص لهم الأستاذ أحمد عصيد إصداره الجديد "إماريرن". لكن ألسنة الرواة من أبناء بلدة توزونين و ذاكرة شعرائها المعاصرين و الذين عايشوا تجربة أوحماو لا تمل إلى اليوم من ذكر شهامته و عبقريته الشعرية و خصائص نظمه الفريدة، و حفظ ما أمكن من أشعاره و محاوراته، و نورد في المقال جزء من أول حوار شعري دار بينه و بين الشاعر المتقدم ذكره أحمد أوبراهيم الشاوف ب"تبويحات" قصبة قائد قبيلة ايت أمريبط يتوزونين جاء فيه:
أحمد أوبراهيم:
لَمانْتْ أداكْ إكا سْلاَمينو صُّوصْلْتْ
أوحماوْ مُحْمَّد أسْ تْنِّتْ إناياك
حْيّْداتْ إموياسْ خْ تاكانْتْ لِّي خاتِّيليخْ
كِّيسْ لْعْشور إتازولْتْ أراسْنْت تاكَّاتْ
محمد أوحماو:
نْغْرا تابْرات زّْنْبيل أخْ تِّين أوفيخْ
أوالْ هانْ أُور إيكي خْكْنَّأ لِّي سي تْنِّيتْ
نْصْرصا نيتْ خْ تاكانْت أُولى طْرْفنسْنتْ
أحمد أوبراهيم:
هَانْ أجّْميلينو دارْكْ نْرا أيِّي ويرِّين
نْكِّينْ أدّْ ياكَّان لْكَاوْم نْكِّي أكّْ إصّْرْصانْ
إكِّي لْعينْ سْ تْفرْضينْ سْ لْحوشْ ءُومْلالْ
أخْ نْكِّيتْ أكْدورْ نْ خُوزُّو نْسو فْلاَّسْ أمانْ
محمد أوحماو:
مْيَّاتْ رامي كِيكُون يانْ أسينّْ أكَّاخْ
أكّْنينْ نْزّْري خْ إزْرْزاتْنْ أخْكنْ أورْأوينْ
كان الشاعر المحاور لأوحماو يحدثه عن صديقه و إبن بلدته توزونين و رفيقه في المناسبات و الحفلات الشاعر محمد بن إغيل، الذي اعتاد حسب الروايات جمع الزكوات و الأعشار أزمنة الحصاد عند أهل أقا و مداشرها، فكان رد أوحماو بتلك الطريقة دفاعا عن توزونين ، حرصا منه على دفع الإهانة عنها و قد كانت هي مركز قبيلة أيت مريبط، لكن رغم ذلك ففي العديد من المناسبات كان يهاجم بن إغيل هاجيا إياه ببعض العبارات، خصوصا فيما يتعلق بموضوع عزوف هذا الأخير عن الزواج، ننشر إحداها التي رويت على لسان حافظ أشعاره إبن أخته العباسي الناجم.
أوحماو في جواب موجه إلى بن إغيل:
نْكِّي فْلانْ إكانْ شْبابْ أفاكْ نْساولْ
إمَّا بْنْ جامْعْ أوراكّْ إزْدارْ إتْمْغارْتْ إميلْ لْميناتْ
أُوفيخاكْ ياتْ شَّابَّ أقرينْسْ أُورْ لِّينْ
ها لَعْمونْ نايْتْ توزونين راكْ سْمونْ خْمسا لافْ
ها شِّيخْ بارا راداك سْمونْ خْمْسا لافْ
خْمْسا لافْ إزِّواجْنْكْ خْمْسا راسْ لْمالْ
من مميزات الخطاب الشعري لمحمد أوحماو حسب ما استقيناه و تيسر لنا سماعه من شهادات، استعماله للغة تطغى عليها الألغاز و الانحياز للرمزية، تتطلب من المتابع و المنصت مضاعفة جهده لكشف معانيها الخفية، و ننشر منها للقارئ و المهتم أبيات أنشدها حول إحدى الظواهر الاجتماعية التي ميزت عصره.
سِي وُّشَّانْ نْعبارْنْ أتيلي فْلاَّمْ
إشَّا وُّوشْنْ إشَّا باباسْ إشَّا وَرَّاوْنْسْ
إشَّا بومْحمْدْ لِّي جُّو أُورْ إشِّينْ لْمَيِّتْ
إخْ إكَّا أوشْنْ أغوديدْ إكّْ ورَّاوْنْسْ أسيفْ
كما نجد الشاعر أوحماو في مواقف أخرى منفتحا على القضايا القومية، دليلا على تتبعه لتطور الأحداث في العالم خلال فترة الحرب الباردة، و بدايات الحروب الاسرائلية على الفلسطين، حارصا دائما على التنبيه بالدور المركزي للمغرب في هذه القضية و غيرها من القضايا الإقليمية، و يقول في القصيدة التي أنشدها بعد حرب 1967:
قناةْ سَّويس أفْداكْ إنْكْرْ غايادْ
لِّيخْتْنْ إزْرا ماريكانْ دْ إنْكْليزْ
كينْ أودايْنْ سونْتَّالْ إفْغْ لْبارودْ
لْحاصيلْ رْباتاعشْ(14) دولة هاتِّينْ تْنْجَماعْ
أجْموعْ إميلْ رّْباط أخْنيتْ إبيدّْ
إرْيْساسْنْ سِيدْ لْحَسَنْ شَايْلاَّه
نْضالْبْ إرْبِّي ياوْرِيرِينْ أكْلِّيدْ
أكيسْنْ إسْكْرْ زْعْضوضْ
إكاسْ أوهْيَّاض تِسرْسلْتْ خومكْرْضْ
أرْ سْرْس إقَّايْ لْفْلوسْ أرْتْ إسْلعابْ
هذه شذرات من شخصية كانت مشهورة في ميادين أحواش، لكن كانت غائبة في كتابات و مؤلفات الباحثين، لم يتسع المقام لكشف اللثام عن الإنتاج الشعري الوافر لأحد كبار شعراء توزونين محمد أوحماو، و أشعاره و قصائده التي قمنا بجمعها بعد جهد جهيد، و يظل ما تقدم مجرد بداية نرمي من خلالها إتاحة الفرصة للمتتبع و القارئ لمعرفة القليل عن شخصيات منطقة أو إقليم لم يكتشف بعد.