نقوس المهدي
كاتب
-1-
تعاونت يد الاهمال و الظروف العصيبة التي عاشها كثير من الادباء و الشعراء المغاربة في ظل الحروب و الفتنة التي عرفتها عصورهم ، على تغطية اخبارهم فظلوا مغمورين ، اخبارهم مجهولة و انتاجاتهم مهملة .
و العصر المريني الاول ، له قصب السبق في الكثير من النماذج التي عاشت مغمورة و طورتها بانتاجاتها المبعثرة يد النسيان ، و ظروف نهاية الموحدين و قيبام المرينيين ومن نماذج هذا العصر التي ساتناولها في حلقات ، شخصية الاديب الكبير مالك بن المرحل ، و سنقتصر ، في حلقتنا هذه ، على تصوير عصر هذا الاديب و الاوضاع التي عاشتها الاقاليم التي درج بها النواحي السياسية و الاجتماعية و الفكرية ، لما لهذه الاوضاع من تاثير على اطوار حياته .
الوضعية السياسية :
عاش ابن المرحل في فترة زمنية صعبة غطت فيها الفتن و القلاقل على ما سواها من الجوانب الاخرى في الامة ، وهي فترة نهاية الموحدين و قيام دولة المرينيين وما سادها من ثورات وحروب و انقسامات في رقعة الإمبراطورية الموحدية بالاندلس و الجزائر و تونس و المغرب . و لسنا بصدد الكلام عن اسباب انهيار هذه الامة او بروز الاخرى بقدر ما بهمنا ما و صلت اليه الاوضاع القرطاس (1) في تصوير الحالة التي آلت اليها الأمور بعد النكبة التي بدا بها انهيار الدولة الموحدية وما تعاقب عليها من الانحلال حتى وصلت الى ما وصلت اليه سياسيا :
(( وكان من سلف و تقدم من ملوك الموحدين اولوا حزم وراي ودين ، الى ان كانت وقعة العقاب التي اذنت لدولتهم بالذهاب ، و ذلك سنة تسع و ست مائة ، فرجع المنصور مهزوما ذا مذلة و انكسار ، فدخل حضرة مراكش ، و لم يزل ملكه في نقص وامره في ادبار الى ان توفي بها ف الحادي عشر من شعبان سنة عشر و ستمائة مفجوعا ، وولى بعده يوسف المستنصر ، وكان صبيا هلوعا جزوعا ، لم يبلغ الحلم و لا جرب الامور فاعتكف في قصره على اللهو و اللعب و الخمور ، و اسلم الملك لأعمامه و قرابته ، وفوض الأمور الى وزرائه و أشياخ دولته فتحاسدوا فيما بينهم على الرئاسة .. فأضاعوا الأمور... وجاروا في الاحكام ، وولوا أمورهم السفلة...
فبدا الفساد في ملكهم ، و الوهن في دينهم ، وظهر الجور في احكامهم .. فولت ايامهم ))(2)
ولا جدال في ان مال الامر الى الوزراء ، و تحاسدهم على الرئاسة ، وقطع الصلة بين الملك المخمر و شعبه زو الجور في الاحكام ، و ابعاد العلماء ، نذير بافول نجم الدولة ونهضتها ، و بقيام الفتن و الثورات ، شعورا بانحلال الاوضاع و عجز المسؤولين ، الامر الذي ادى الى تقطيع اوصال الامبراطورية و استقلال الاقاليم بنفسها : الاندلس و تونس و الجزائر عن المغرب، و قيام منافس خطير ، هم المرينيون (( وكانوا طائفة يدخلون بلاد المغرب في زمان الصيف ليرعوا انعامهم ))(3).
و لكن استفحال الامور في المغرب ناتج عن استبداد الوزراء و تحكمهم وفق اهوائهم ادى الى نهاية خلفائهم بما انتهى به امر خلفاء بني العباس ودولتهم على يد الاتراك و المماليك (( فكان اشياخهم يولون سلطانا ثم يخلعونه و يبايعون غيره ، ثم ينكتون عليه فيقتلونه و ينهبون امواله ، فسرى الوهن و الضعف في ملكهم ، وصارت ملوكهم ليس لهم حكم في البوادي ، وطمع الطامعون ، و كثرت الفتن ، و نبذ اكثر القبائل الطاعة فدخلت طائفة منهم المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب خاليا من حماته، فاقاموا بمكانهم ، و بعثوا لاخوانهم للقدوم ))(4).
و كان ذاك سنة عشر و ستمائة ، ومن يومها و الحرب سجال بين الموحدين و المرينيين الى ان سقطت مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة كاخر معقل للموحدين ، ما عرفت فيها البلاد سوى الخراب و انعدام الاستقرار ، و تسلط الخوف على النفوس.
اما بالاندلس فقد استغل القشتاليون نصرهم بالعقاب فزادوا من ضغطهم على المسلمين هناك، ووجدوا ما يشجعهم من خلافات ولاة الاندلس على السلطة نتيجة ضغط السلطة المركزية، فتوسعوا ما امكنهم دون مقاومة تعترضهم ، و استولوا على القلع العديدة ، و احتلوا المدن مما اضطر معه العديد من سكانها الى الهجرة لغرناطة او الرحيل الى عدوة المغرب ، فرارا بدينهم و اغراضهم و اموالهم ، و تنافس الامراء في التنازل للفونش عن القلع و المراكز والمدن ، ليؤمنهم على ما بقي بايديهم ، وكثرت نداءات الاهالي ، استنجادا بعدوة المغرب ، و استضعف الاندلسيون بدورهم حكام المغرب الموحدين ، فعملوا على التخلص من حكمهم ، وظهر ذلك جلبا على يد محمد بن يوسف ين هود ، ومحمد بن الاحمر ، وقام والي الموحدين بتونس ، ابو زكرياء بتلمسان ، وقد اقلق الدولتين المتنافستين معا ، الموحدين و المرينيين ، وكان عاملا من عوامل القضاء على الاولى وزعزعة قوة الثانية في قدرتها علة الاحتفاظ بالمغرب موحدا كما كان في عهد الموحدين .
وباعتبار مدينة سبتة نقطة المرور الى الاندلس و الرجوع منها ، فقد عرفت هذه المدينة نشاطا سياسيا كبيرا ، مما كان يطمع فيها الغالب او المتسلط من حكام الاندلس او خضوعها للمغرب حسب ضعف الدولة او قوتها في العدوتين ، الامر الذي كان يدفع بولاتها للعمل على الاستقلال و الانفراد بالحكم و الخروج عن سلطات الوطن المغربي.
وهكذا عرفت سبتة عددا من المستبدين امثال سقوط البرغواطي ، و ابا عثمان بن الخلاص الذي اراد لنفسه بعد موت الرشيد ، الملك الموحدي الذي ولاه عليها ، الى ان قام عليه الفقيه ابو القاسم الغرقي و استولى عليه ، ثم قراه عليها يعقوب المريني مقابل ضريبة يؤديها للخزينة المغربية .
هذه باختصار الوضعية السياسية في عصر شاعرنا ابن المرحل مدة خمسين سنة من حياته الغامضة الساكنة ( الخاملة ) ، تمزيق رقعة الامبراطورية ، و تشتيت شمل المسلمين بالاندلس ، و الاستيلاء على بلادهم ، و انعدام الامن و سيطرة الخوف و كثرة الهجرات .
الوضعية الاجتماعية :
من الواضح ان الاستقرار الاجتماعي ، وتوفر العادات و التقاليد الموحدة ، و الذي يميز شعبا ما و بفرده بشخصيته المستقلة ، ياتي مع الاستقرار السياسي ، و ان انعدام هذا العنصر ادى الى انعدام العنصر الثاني بانفصام عرى الوحدة التي تجمع بين افراد الشعب الواحد نتيجة تعدد الانتماءات الدينية و الاختلافات التي سادت هذه المناطق .
ففي الاندلس ، كان للتهديد الدائم ، و التهيب المستمر من هجومات المسيحيين ، وخشية الاهالي على اموالهم ودينهم مما يهددهم ، من عوامل تشتيت شمائلهم بالهجرة و الاستشهاد في الحروب و الاسر ، و التفكير الفردي في وسائل النجاة من المصير المرعب ، مما ادى الى سقوط الاخلاق و انحطاطها بالعمل العدو اتقاء شره ، وخيانة الوطن نتيجة فقدان الثقة بالذات و انعدام الاحساس بالكفاءة الذاتية .
و بالمغرب كان الحذر و الحيطة شعار الفترة ، و استغلت المناسبة كما هي العادة في مثل هذه الاحوال من الخصوم وطغت المصلحة في ظل الصراع ، كما تميز سكان البلاد بتعدد العناصر و اختلاطها ، من بربرية و عربية و مهاجرين أندلسيون و يهود مسلمون و اختلاف مشاربهم هذا ادى الى تعدد العادات و انفصام وحدة الشخصية ، كما كان للمذاهب الفقهية و العقائدية اثره في هذا الصراع .
اما سبتة ، فقد عرفت عادات قارة تسربت اليها عن طريق الوافدين من الاندلس او المغرب و المستقرين بها ، و سنرى كيف ان المغرب اخذ الكثير فيما بعد من هذه العادات في الاحتفالات المختلفة الشعبية و الدينية و في اللباس و غيرها ، و على كل فقد كانت سبتة افضل حالا من غيرها ،لانها لم تكن ـ كما يقول المثل ـ لا في العير و لا في النفير فلا هي اندلس ولا هي مغرب ، بل كانت ملجا من كانوا يفضلون حياة الدعة و الراحة رغم انها لم تسلم كلية كما راينا في الحديث عن وضعها السياسي .
و هكذا كان الاضطراب سائدا في كل الأقاليم في الحياة الاجتماعية
الحياة الفكرية :
فهل في هذه الاوضاع السياسية منها و الاجتماعية ما يساعد و يشجع الادباء و المفكرين و العلماء على الظهور و الانتاج الفكري ؟ وهل تمة مجال للعناية باهله و شيوخه ؟
مؤكد ان الحركة العلمية و الثقافية تزدهر بتوفر الاستقرار و الامن على النفس و الاهتمام بالادباء و العلماء و العناية بهم حتى يقوموا بدورهم الحضاري في الامة ، وهذا ما يفسر لنا الصمت الذي صاحب هذه الفترة و قلة الاسماء المثقفة ، ثم الصخب المثمر الذي عرفته اثر عودة الاستقرار الى النفوس باستقرار اوضاع الدولة ، و الاسماء العديدة التي صحبته ، و لكن هذا لا يمنع من التذكير بما كانت تعيشه الاندلس من حركة ادبية و شعرية و علمية ، ان يقف بمجرد نهاية دولتهم او بدء ضعفها ، و لكن و لا بما كان بالمغرب حيث الاستمرار الموحدي لا يمكن الفوضى و الاظطراب ، و لن تزدهر الحياة الثقافية في هذا الجو .
هذه كانت الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية في عصر ابن المرحل قبل استقرار الاوضاع في المغرب نهائيا في ظل المرينيين ، وهذا ما حجبه عنا في هذه السنين كغيره من ادباء عصره ، دون ان يعرف عنه شيء ( خامل الذكر خفي المنزلة ) الى ان واتته الفرصة عن طريق ادبه و شعره حين استقرت الاوضاع ، وقد ساعد على ذلك شيء في ابن المرحل و اخلاقه ، هو بعده عن الشهرة ، ونفوره من مساقط النور ، ودخول غمار السياسة كما سنرى فيما بعد.
-*-
وما ان استقرت الاحوال بانتصار المرينيين ، حتى بدات الاوضاع تعرف طريقا مخالفا ، اذ تحددت على اثرها رقعة الوطن بشكله الجديد الذي يقارب مساحة المغرب الحديث ، و بدات العادات الاجتماعية تعرف طريقها الى الرسوخ نتيجة انصهار مختلف الاجناس وعودة الاستقرار ، كما عاد الامن للبلاد بفضل السلطة الجديدة الحازمة وعم الرخاء و الخير و كثرت النعم وعاد للنفوس طمانينتها ، و ازدهرت الصناعات و نشطت التجارة ، وعرفت الحركة الفكرية من جديد شكلها الذي كان لها قبل الفتن ، ونال الطلبة من عناية الدولة ما اعاد للعلم مكانته بتشجيعهم بالاعانات و بناء مدارس لسكناهم و تقريب العلماء و الفقهاء يقول الاستاذ محمد المنوني (5) (( فبعد استقرار الامن بالبلاد اخذوا (المرينيون ) في تنفيد برامجهم في الدفاع عن الاندلس ، وقد كان نجاحهم اكثر في تشجيع العلم و اقامة معالم العمران و بذلك حققوا كثيرا من الامال التي كان المغاربة يعلقونها على هذه الدولة الجديدة التي عبر عنها الشاعر المغربي الكبير مالك بن المرحل اثناء قصيدة قدمها ليعقوب بن عبد الحق في التهنئة بفتح مراكش
من سنة الله ان يحيى خليقته
على يديك و ان يكفيهم النقم
وان يقيم بك الاسلام من اود
و ان يديم بك الاحسان و النعما
و جاء في الذخيرة السنية وروض القرطاس عن يعقوب المنصور حين ارخا لسنة ثمان و خمسين وستمائة (( وفيها كان الرخاء العظيم بالمغرب مدة خمسة عشر سنة ، ستة دراهم للصفحة الواحدة من القمح ... الى ان يقول : و صنع المارستانات للغرباء و المجانين و امر الاطباء بتفقد احوالهم و اجرى للفقراء مالا معلوما ياخذونه في كل شهر ، وبنى المدارس بفاس و مراكش ، ورتب فيها الطلبة لقراءة القران و العلم و اجرى لهم مرتبات في كل شهر ، و اقام الدين ، وامر بتطهير الايتام و كسوتهم و الاحسان اليهم بالدراهم و الطعام في كل عاشوراء ، و اوقف الاوقاف لاطعام عابري السبيل و ذوي الحاجات و ترك امر سبتة في يد ولاتها العزقيين مقابل قدر مالي يؤدونه للخزينة المغربية ))(6).
و بذلك استطاع المغرب ان يتصرف للدفاع عن الاندلس ، (( ففي سنة اثنين و ستين و ستمائة جاز المجاهدون و قائدهم ابو معرف محمد ابن ادريس بن عبد الحق واخوه الفارس ابو ثابت و الحاج المجاهد التاهرتي في ثلاثة الاف رجل ، و كتب يعقوب الى الفقيه ابي القاسم العوفي صاحب سبتة في تجويزهم وودعهم ودعا لهم و انصرفوا ، وهو اول جيش جاز الى الاندلس من بني مرين )) (7).
و قد ساهم ابن المرحل في استنفار المجاهدين بقصيدة القاها عليهم في جامع القرويين كما سياتي .
و لعل هذه الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية الجديدة التي عمت البلاد و ارضت السكان هي التي شجعت و دفعت كثيرا من العلماء و الفقهاء و الادياء الى الظهور و الخروج من زواياهم و انعزاليتهم ، و اذهب بخوفهم ، فاعاد لهم كمفكرين مكانتهم ، حتى يلعبوا دورهم الحضاري البناء ، وهو يفسر لنا الخصب الفكري و انفجاره و تعدد الادباء في هذه الفترة كما راينا.
فاين كان ابن المرحل في الفترتين المضطربة و المستقرة بل ومن هو ابن المرحل ؟
ذاك هو موضوع حديثنا في الحلقة المقبلة بحول الله .
1 انظر بحثنا بدعوة الحق في العددين التاسع من السنة 14 الثالث من السنة 15 فيمن يكون صاحب الذخيرة السنية بعنوان : الذخيرة السنية قسم مطول من روض القرطاس.
2 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 22 وروض القرطاس ص 200
3 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 28
4 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 29
5 دعوة الحق عدد 3 السنة 8 ص 80
6 الذخيرة السنية ص 100 وروض القرطاس ص 216
7 الذخيرة و روض القرطاس ص 296
دعوة الحق
153 العدد
تعاونت يد الاهمال و الظروف العصيبة التي عاشها كثير من الادباء و الشعراء المغاربة في ظل الحروب و الفتنة التي عرفتها عصورهم ، على تغطية اخبارهم فظلوا مغمورين ، اخبارهم مجهولة و انتاجاتهم مهملة .
و العصر المريني الاول ، له قصب السبق في الكثير من النماذج التي عاشت مغمورة و طورتها بانتاجاتها المبعثرة يد النسيان ، و ظروف نهاية الموحدين و قيبام المرينيين ومن نماذج هذا العصر التي ساتناولها في حلقات ، شخصية الاديب الكبير مالك بن المرحل ، و سنقتصر ، في حلقتنا هذه ، على تصوير عصر هذا الاديب و الاوضاع التي عاشتها الاقاليم التي درج بها النواحي السياسية و الاجتماعية و الفكرية ، لما لهذه الاوضاع من تاثير على اطوار حياته .
الوضعية السياسية :
عاش ابن المرحل في فترة زمنية صعبة غطت فيها الفتن و القلاقل على ما سواها من الجوانب الاخرى في الامة ، وهي فترة نهاية الموحدين و قيام دولة المرينيين وما سادها من ثورات وحروب و انقسامات في رقعة الإمبراطورية الموحدية بالاندلس و الجزائر و تونس و المغرب . و لسنا بصدد الكلام عن اسباب انهيار هذه الامة او بروز الاخرى بقدر ما بهمنا ما و صلت اليه الاوضاع القرطاس (1) في تصوير الحالة التي آلت اليها الأمور بعد النكبة التي بدا بها انهيار الدولة الموحدية وما تعاقب عليها من الانحلال حتى وصلت الى ما وصلت اليه سياسيا :
(( وكان من سلف و تقدم من ملوك الموحدين اولوا حزم وراي ودين ، الى ان كانت وقعة العقاب التي اذنت لدولتهم بالذهاب ، و ذلك سنة تسع و ست مائة ، فرجع المنصور مهزوما ذا مذلة و انكسار ، فدخل حضرة مراكش ، و لم يزل ملكه في نقص وامره في ادبار الى ان توفي بها ف الحادي عشر من شعبان سنة عشر و ستمائة مفجوعا ، وولى بعده يوسف المستنصر ، وكان صبيا هلوعا جزوعا ، لم يبلغ الحلم و لا جرب الامور فاعتكف في قصره على اللهو و اللعب و الخمور ، و اسلم الملك لأعمامه و قرابته ، وفوض الأمور الى وزرائه و أشياخ دولته فتحاسدوا فيما بينهم على الرئاسة .. فأضاعوا الأمور... وجاروا في الاحكام ، وولوا أمورهم السفلة...
فبدا الفساد في ملكهم ، و الوهن في دينهم ، وظهر الجور في احكامهم .. فولت ايامهم ))(2)
ولا جدال في ان مال الامر الى الوزراء ، و تحاسدهم على الرئاسة ، وقطع الصلة بين الملك المخمر و شعبه زو الجور في الاحكام ، و ابعاد العلماء ، نذير بافول نجم الدولة ونهضتها ، و بقيام الفتن و الثورات ، شعورا بانحلال الاوضاع و عجز المسؤولين ، الامر الذي ادى الى تقطيع اوصال الامبراطورية و استقلال الاقاليم بنفسها : الاندلس و تونس و الجزائر عن المغرب، و قيام منافس خطير ، هم المرينيون (( وكانوا طائفة يدخلون بلاد المغرب في زمان الصيف ليرعوا انعامهم ))(3).
و لكن استفحال الامور في المغرب ناتج عن استبداد الوزراء و تحكمهم وفق اهوائهم ادى الى نهاية خلفائهم بما انتهى به امر خلفاء بني العباس ودولتهم على يد الاتراك و المماليك (( فكان اشياخهم يولون سلطانا ثم يخلعونه و يبايعون غيره ، ثم ينكتون عليه فيقتلونه و ينهبون امواله ، فسرى الوهن و الضعف في ملكهم ، وصارت ملوكهم ليس لهم حكم في البوادي ، وطمع الطامعون ، و كثرت الفتن ، و نبذ اكثر القبائل الطاعة فدخلت طائفة منهم المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب خاليا من حماته، فاقاموا بمكانهم ، و بعثوا لاخوانهم للقدوم ))(4).
و كان ذاك سنة عشر و ستمائة ، ومن يومها و الحرب سجال بين الموحدين و المرينيين الى ان سقطت مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة كاخر معقل للموحدين ، ما عرفت فيها البلاد سوى الخراب و انعدام الاستقرار ، و تسلط الخوف على النفوس.
اما بالاندلس فقد استغل القشتاليون نصرهم بالعقاب فزادوا من ضغطهم على المسلمين هناك، ووجدوا ما يشجعهم من خلافات ولاة الاندلس على السلطة نتيجة ضغط السلطة المركزية، فتوسعوا ما امكنهم دون مقاومة تعترضهم ، و استولوا على القلع العديدة ، و احتلوا المدن مما اضطر معه العديد من سكانها الى الهجرة لغرناطة او الرحيل الى عدوة المغرب ، فرارا بدينهم و اغراضهم و اموالهم ، و تنافس الامراء في التنازل للفونش عن القلع و المراكز والمدن ، ليؤمنهم على ما بقي بايديهم ، وكثرت نداءات الاهالي ، استنجادا بعدوة المغرب ، و استضعف الاندلسيون بدورهم حكام المغرب الموحدين ، فعملوا على التخلص من حكمهم ، وظهر ذلك جلبا على يد محمد بن يوسف ين هود ، ومحمد بن الاحمر ، وقام والي الموحدين بتونس ، ابو زكرياء بتلمسان ، وقد اقلق الدولتين المتنافستين معا ، الموحدين و المرينيين ، وكان عاملا من عوامل القضاء على الاولى وزعزعة قوة الثانية في قدرتها علة الاحتفاظ بالمغرب موحدا كما كان في عهد الموحدين .
وباعتبار مدينة سبتة نقطة المرور الى الاندلس و الرجوع منها ، فقد عرفت هذه المدينة نشاطا سياسيا كبيرا ، مما كان يطمع فيها الغالب او المتسلط من حكام الاندلس او خضوعها للمغرب حسب ضعف الدولة او قوتها في العدوتين ، الامر الذي كان يدفع بولاتها للعمل على الاستقلال و الانفراد بالحكم و الخروج عن سلطات الوطن المغربي.
وهكذا عرفت سبتة عددا من المستبدين امثال سقوط البرغواطي ، و ابا عثمان بن الخلاص الذي اراد لنفسه بعد موت الرشيد ، الملك الموحدي الذي ولاه عليها ، الى ان قام عليه الفقيه ابو القاسم الغرقي و استولى عليه ، ثم قراه عليها يعقوب المريني مقابل ضريبة يؤديها للخزينة المغربية .
هذه باختصار الوضعية السياسية في عصر شاعرنا ابن المرحل مدة خمسين سنة من حياته الغامضة الساكنة ( الخاملة ) ، تمزيق رقعة الامبراطورية ، و تشتيت شمل المسلمين بالاندلس ، و الاستيلاء على بلادهم ، و انعدام الامن و سيطرة الخوف و كثرة الهجرات .
الوضعية الاجتماعية :
من الواضح ان الاستقرار الاجتماعي ، وتوفر العادات و التقاليد الموحدة ، و الذي يميز شعبا ما و بفرده بشخصيته المستقلة ، ياتي مع الاستقرار السياسي ، و ان انعدام هذا العنصر ادى الى انعدام العنصر الثاني بانفصام عرى الوحدة التي تجمع بين افراد الشعب الواحد نتيجة تعدد الانتماءات الدينية و الاختلافات التي سادت هذه المناطق .
ففي الاندلس ، كان للتهديد الدائم ، و التهيب المستمر من هجومات المسيحيين ، وخشية الاهالي على اموالهم ودينهم مما يهددهم ، من عوامل تشتيت شمائلهم بالهجرة و الاستشهاد في الحروب و الاسر ، و التفكير الفردي في وسائل النجاة من المصير المرعب ، مما ادى الى سقوط الاخلاق و انحطاطها بالعمل العدو اتقاء شره ، وخيانة الوطن نتيجة فقدان الثقة بالذات و انعدام الاحساس بالكفاءة الذاتية .
و بالمغرب كان الحذر و الحيطة شعار الفترة ، و استغلت المناسبة كما هي العادة في مثل هذه الاحوال من الخصوم وطغت المصلحة في ظل الصراع ، كما تميز سكان البلاد بتعدد العناصر و اختلاطها ، من بربرية و عربية و مهاجرين أندلسيون و يهود مسلمون و اختلاف مشاربهم هذا ادى الى تعدد العادات و انفصام وحدة الشخصية ، كما كان للمذاهب الفقهية و العقائدية اثره في هذا الصراع .
اما سبتة ، فقد عرفت عادات قارة تسربت اليها عن طريق الوافدين من الاندلس او المغرب و المستقرين بها ، و سنرى كيف ان المغرب اخذ الكثير فيما بعد من هذه العادات في الاحتفالات المختلفة الشعبية و الدينية و في اللباس و غيرها ، و على كل فقد كانت سبتة افضل حالا من غيرها ،لانها لم تكن ـ كما يقول المثل ـ لا في العير و لا في النفير فلا هي اندلس ولا هي مغرب ، بل كانت ملجا من كانوا يفضلون حياة الدعة و الراحة رغم انها لم تسلم كلية كما راينا في الحديث عن وضعها السياسي .
و هكذا كان الاضطراب سائدا في كل الأقاليم في الحياة الاجتماعية
الحياة الفكرية :
فهل في هذه الاوضاع السياسية منها و الاجتماعية ما يساعد و يشجع الادباء و المفكرين و العلماء على الظهور و الانتاج الفكري ؟ وهل تمة مجال للعناية باهله و شيوخه ؟
مؤكد ان الحركة العلمية و الثقافية تزدهر بتوفر الاستقرار و الامن على النفس و الاهتمام بالادباء و العلماء و العناية بهم حتى يقوموا بدورهم الحضاري في الامة ، وهذا ما يفسر لنا الصمت الذي صاحب هذه الفترة و قلة الاسماء المثقفة ، ثم الصخب المثمر الذي عرفته اثر عودة الاستقرار الى النفوس باستقرار اوضاع الدولة ، و الاسماء العديدة التي صحبته ، و لكن هذا لا يمنع من التذكير بما كانت تعيشه الاندلس من حركة ادبية و شعرية و علمية ، ان يقف بمجرد نهاية دولتهم او بدء ضعفها ، و لكن و لا بما كان بالمغرب حيث الاستمرار الموحدي لا يمكن الفوضى و الاظطراب ، و لن تزدهر الحياة الثقافية في هذا الجو .
هذه كانت الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية في عصر ابن المرحل قبل استقرار الاوضاع في المغرب نهائيا في ظل المرينيين ، وهذا ما حجبه عنا في هذه السنين كغيره من ادباء عصره ، دون ان يعرف عنه شيء ( خامل الذكر خفي المنزلة ) الى ان واتته الفرصة عن طريق ادبه و شعره حين استقرت الاوضاع ، وقد ساعد على ذلك شيء في ابن المرحل و اخلاقه ، هو بعده عن الشهرة ، ونفوره من مساقط النور ، ودخول غمار السياسة كما سنرى فيما بعد.
-*-
وما ان استقرت الاحوال بانتصار المرينيين ، حتى بدات الاوضاع تعرف طريقا مخالفا ، اذ تحددت على اثرها رقعة الوطن بشكله الجديد الذي يقارب مساحة المغرب الحديث ، و بدات العادات الاجتماعية تعرف طريقها الى الرسوخ نتيجة انصهار مختلف الاجناس وعودة الاستقرار ، كما عاد الامن للبلاد بفضل السلطة الجديدة الحازمة وعم الرخاء و الخير و كثرت النعم وعاد للنفوس طمانينتها ، و ازدهرت الصناعات و نشطت التجارة ، وعرفت الحركة الفكرية من جديد شكلها الذي كان لها قبل الفتن ، ونال الطلبة من عناية الدولة ما اعاد للعلم مكانته بتشجيعهم بالاعانات و بناء مدارس لسكناهم و تقريب العلماء و الفقهاء يقول الاستاذ محمد المنوني (5) (( فبعد استقرار الامن بالبلاد اخذوا (المرينيون ) في تنفيد برامجهم في الدفاع عن الاندلس ، وقد كان نجاحهم اكثر في تشجيع العلم و اقامة معالم العمران و بذلك حققوا كثيرا من الامال التي كان المغاربة يعلقونها على هذه الدولة الجديدة التي عبر عنها الشاعر المغربي الكبير مالك بن المرحل اثناء قصيدة قدمها ليعقوب بن عبد الحق في التهنئة بفتح مراكش
من سنة الله ان يحيى خليقته
على يديك و ان يكفيهم النقم
وان يقيم بك الاسلام من اود
و ان يديم بك الاحسان و النعما
و جاء في الذخيرة السنية وروض القرطاس عن يعقوب المنصور حين ارخا لسنة ثمان و خمسين وستمائة (( وفيها كان الرخاء العظيم بالمغرب مدة خمسة عشر سنة ، ستة دراهم للصفحة الواحدة من القمح ... الى ان يقول : و صنع المارستانات للغرباء و المجانين و امر الاطباء بتفقد احوالهم و اجرى للفقراء مالا معلوما ياخذونه في كل شهر ، وبنى المدارس بفاس و مراكش ، ورتب فيها الطلبة لقراءة القران و العلم و اجرى لهم مرتبات في كل شهر ، و اقام الدين ، وامر بتطهير الايتام و كسوتهم و الاحسان اليهم بالدراهم و الطعام في كل عاشوراء ، و اوقف الاوقاف لاطعام عابري السبيل و ذوي الحاجات و ترك امر سبتة في يد ولاتها العزقيين مقابل قدر مالي يؤدونه للخزينة المغربية ))(6).
و بذلك استطاع المغرب ان يتصرف للدفاع عن الاندلس ، (( ففي سنة اثنين و ستين و ستمائة جاز المجاهدون و قائدهم ابو معرف محمد ابن ادريس بن عبد الحق واخوه الفارس ابو ثابت و الحاج المجاهد التاهرتي في ثلاثة الاف رجل ، و كتب يعقوب الى الفقيه ابي القاسم العوفي صاحب سبتة في تجويزهم وودعهم ودعا لهم و انصرفوا ، وهو اول جيش جاز الى الاندلس من بني مرين )) (7).
و قد ساهم ابن المرحل في استنفار المجاهدين بقصيدة القاها عليهم في جامع القرويين كما سياتي .
و لعل هذه الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية الجديدة التي عمت البلاد و ارضت السكان هي التي شجعت و دفعت كثيرا من العلماء و الفقهاء و الادياء الى الظهور و الخروج من زواياهم و انعزاليتهم ، و اذهب بخوفهم ، فاعاد لهم كمفكرين مكانتهم ، حتى يلعبوا دورهم الحضاري البناء ، وهو يفسر لنا الخصب الفكري و انفجاره و تعدد الادباء في هذه الفترة كما راينا.
فاين كان ابن المرحل في الفترتين المضطربة و المستقرة بل ومن هو ابن المرحل ؟
ذاك هو موضوع حديثنا في الحلقة المقبلة بحول الله .
1 انظر بحثنا بدعوة الحق في العددين التاسع من السنة 14 الثالث من السنة 15 فيمن يكون صاحب الذخيرة السنية بعنوان : الذخيرة السنية قسم مطول من روض القرطاس.
2 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 22 وروض القرطاس ص 200
3 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 28
4 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 29
5 دعوة الحق عدد 3 السنة 8 ص 80
6 الذخيرة السنية ص 100 وروض القرطاس ص 216
7 الذخيرة و روض القرطاس ص 296
دعوة الحق
153 العدد