نقوس المهدي
كاتب
تمهيد تاريخي :
يتصل كتاب سيبويه بالدراسات اللغوية والنحوية في المغرب والأندلس اتصالا وثيقا عبر العصور، ويرجع احتكاك هذه البلاد باللغة العربية إلى عهد الفاتحين المسلمين في القرن الهجري الأول. وكانت عجمة لسان سكان هذه المناطق مدعاة إلى إقبالهم على تعلم لغة القرآن منذ أن أخذ الإسلام ينتشر بينهم، والعرب يقيمون بين ظهرانيهم. وقد بدأ تعلم اللغة العربية في الغرب الإسلامي بطريق المحاكاة والتعبير الشفوي البسيط، وحفظ آيات وسور من القرآن الكريم لأداء الشعائر الدينية، قبل أن يميل إلى استكناه أسرار اللغة والتعرف على قواعدها، حينما رسخت قدم الإسلام في هذه البلاد، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الدولة الإسلامية الكبرى، لاسيما عندما أخذت تنتشر للحركة الفكرية، الدينية واللغوية، القائمة في المشرق آنذاك، وتتردد أصداؤها في أرجاء المغرب والأندلس.
كان من الطبيعي أن يحدث مثل هذا في الجناح الشرقي من الإمبراطورية الإسلامية، غير أن قيام مدينتي البصرة والكوفة في العراق. وإقبال علمائهما من عرب وفرس على جمع اللغة العربية وفلسفتها بتعقيد القواعد واستنباط الأحكام والضوابط، أسرع الخطى بتلك الأقطار في ميدان العلوم اللسانية، وخولها قصب السبق في هذا المضمار، حتى أنجبت من الأعلام أمثال الخليل ابن أحمد، ويونس بن حبيب، وسيبويه، الذين أصبحوا أئمة العربية في كل زمان ومكان.
لقد دخل النحو إلى المغرب والأندلس مع تلاميذ هؤلاء الأئمة الذين هاجروا المشرق فحطوا رحالهم بالقيروان وفاس وقرطبة، وأملوا على المتعلمين في هذه البلاد ما حوته صدورهم وقراطيسهم من علم عزير. ولئن عرفت الأوضاع السياسية بهذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي تقلبات كثيرة خلال القرون الهجرية الأولى، فإن الحركة الثقافية، ومن ضمنها العلوم اللسانية، لم ثنثن عن طريقها أو تقف عند الحدود المصطنعة التي كانت تنتصب حاجزا هنا وهناك، تتقدم تارة وتتراجع أخرى، فتابع العلماء نشاطهم الفكري في هذه البلاد، سواء في العهد الذي كانت فيه سلطة خلفاء دمشق أو بغداد تصل إلى المحيط الأطلنطيكي وجبال البرانس، أو عندما انفصلت المنطقة عن أنظارهم بزعامة الأمويين في الأندلس، والأدارسة في المغرب، والأغالبة ثم الفاطميين بإفريية.
وابتداء من القرن الهجري الرابع، دخل المغرب الإسلامي مرحلة النضج والتفتح الفكري، حيث أخذت مساجد قرطبة بصفة خاصة، تعج بأعلام العلماء، ومكتباتها تزخر بمختلف المؤلفات اللغوية والنحوية والأدبية، أيام عبد الرحمن الناصر، وابنه الحكم المستنصر. وتأكدت شخصية هذه المنطقة في القرون التالية مع المرابطين والموحدين الذين تمكنوا طوال فرنين ونيف من إقامة إمبراطورية انتظمت في سلكها أقطار شمال إفريقيا والأندلس، فكان العلماء ينتقلون في أرجائها الفسيحة، يملون ويؤلفون، وينالون من ضروب الإكرام والتشجيع ألوانا. وفي هذه الفترة بالذات نالت الدراسات اللغوية والنحوية والأدبية أوفي نصيب، وراج كتاب سيبويه أعظم رواج.
ثم كانت زوابع ومحن في الغرب الإسلامي خلال القرن الهجري السابع كادت تعصف بثقافته، لولا جهود المرينيين الضخمة فيما بعد، والمتمثلة في تشييد المساجد والمدارس الفخمة وتشجيع المعلمين والمتعلمين في كل جهات المغرب، وفي تقديم العون المادي والمعنوي لمملكة غرناطة، فكان لذلك الأثر المحمود في إحياء ذماء العلم بالعدوتين، وأعطي الدراسات اللغوية والنحوية فيهما، وبخاصة كتاب سيبويه نفسا جديدا.
ولما حم القضاء ، وحلت النكبة الكبرى بالمسلمين في الأندلس في نهاية القرن التاسع آوت العدوة الجنوبية مختلف المقومات الحضارية مع آخر المهاجرين الأندلسيين، وأصبحت مدينة فاس دار مقام لعدد عديد من الأسر النبيلة، وفي مقدمتها أسرة أبي عبد الله النصري آخر ملوك بني الأحمر، وعمر أندلسيون آخرون مدن تطوان والرباط والقصبة، واستوطن غيرهم حتى قمم الجبال وحدور الأودية، وبلغوا بسائط السوس الأقصى. وذلك امتزجت الحضارة الأندلسية بالحضارة المغربية امتزاجا نهائيا، ولم تنطفئ ذبالة تلك الثقافة الأصلية، ومعها الدراسات النحوية وكتاب سيبويه، لم تنطفئ في المغرب إلى أيام الناس هذه.
الدراسات النحوية في العدوتين :
بدأت الدراسات النحوية بالمشرق، كما هو معلوم، في زمن مبكر أيام الخلفاء الراشدين، وتوالت بعد ذلك إلى أن ظهر في البصرة الخليل بن أحمد الفراهيدي في منتصف القرن الهجري الثاني (فوضع الأسس ونهج الطريق، تاركا أمر تدوين القوانين النحوية إلى تلميذه أبي عمرو بن عثمان سيبويه واضع "الكتاب" المشهور، وقد يكون هذا الكتاب من بين الأسباب التي أدت إلى احتدام الخصام بين المدينتين المتنافستين : البصرة والكوفة، ذلك الخصام الذي انجلى عن قيام مدرستين نحويتين، إحداهما، وهي مدرسة البصرة، تساندها الأصالة والمنطق، إذ وضعت قوانين عامة حسب مقاييس معقولة وأهملت الشواذ وما خالف الاستعمال المشهور عند جمهور العرب، فحصرت بذلك اللغة العربية في قوالب محكمة وصيغ مضبوطة يسهل – نسبيا – إدراكها والإحاطة بها. والثانية، وهي مدرسة الكوفة، ساندها البلاط العباسي وسد أزرها لأغراض لا علاقة لها بموضوع اللغة وقواعدها. هذه المدرسة الثانية ولو أنها اصطبغت في البداية بصيغة علمية محضة، فإنها تحولت إلى ما يشبه مسجد الضرار، خارمة القوانين اعتمادا على سماعات شاذة أو منحولة، وشعبت إلى حد كبير سبل تحصيل النحو، أو أفسدته على حد تعبير السيوطي.
ثم تدارس علماء بغداد بعد ذلك آراء المدرستين التمنافستين، فوازنوا واستظهروا، وخطئوا ورجحوا. ونتج عن ذلك ظهور مدرسة بغدادية جديدة، هي مزيج من مذهبي البصريين والكوفيين.
وقد تلقى الغرب الإسلامي قواعد اللغة العربية بمذاهبها الشرقية الثلاثة، عن طريق النحاة المهاجرين ومعظمهم جاءوا من بغداد، فاتخذوا من كتاب سيبويه أساسا للتعليم، لأنهم بدورهم أخذوه عن شيوخ بصريين أو مشايعين لمذهبهم. ولانتشار المدرسة البصرية في المغرب والأندلس، وسيادتها في العهود الأولى على ما عداها من المدارس النحوية أسباب يمكن إجمالها فيما يلي :
أولا – أن المذهب البصري أكثر أصالة ومنطقية وأقل تشعبا وتمحلا.
ثانيا – وجود كتاب سيبويه بين أيدي الناس، لا يزاحمه كتاب آخر للرؤاسي أو المسائي أو غيرهما من الكوفيين. والكل يعلم أن هؤلاء لم يؤلفوا ما يمكن أن يضاهي أو يقارب كتاب سيبويه، وإنما هي رسائل وكراريس لا تذكر أمام الكتاب.
ثالثا – مناصرة العباسيين لعلماء الكوفة، وإيثارهم بتعليم ولاة العهد وأبناء كبار رجال البلاط، جعل الناس في الغرب ينفرون من هذا المذهب بعد أن خاصموا خلافة بغداد وخلعوا طاعتها.
على أن ذلك كله لم يصرف علماء المغرب والأندلس نهائيا عن النظر في مسائل الخلافة، فتعرفوا على آراء مختلف الفرق، ونظروا بخاصة في القضايا التي أخذت على البصريين، فأثبتوا منها وأبطلوا، وانتقدوا بدورهم بعض آراء البصريين، ومسائل من كتاب سيبويه نفسه، وخرجوا هم أيضا بمدرسة نحوية جديدة، هي المدرسة المغربية الأندلسية التي تحدث عنها ابن خلدون في غير ما موضع من المقدمة.
وفيما يتعلق بالإقبال على دراسة اللغة العربية وقواعدها في الغرب الإسلامي، نلاحظ وجود نفس الظاهرة الشرقية المتجلية في وفرة العناصر الأعجمية الأصل من بين الدارسين. فكما كان سيبويه ودرستويه الفرسيان مثلا من إعلام النحو العربي في الشرق، كان الجزولي وابن آجروم من برابرة السوس الأقصى من أئمة هذا الفن في الغرب. وظلت كتبهم جميعا تقرأ وتشرح على تعاقب الحقب والأجيال. غير أن من المفارقات التي لا ينبغي إغفالها في هذا الباب، أنه إذا كانت العناصر الغير العربية في الشرق، وبخاصة الفارسية قد أخذت تعود إلى لغتها الأصلية منذ زمن غير بعيد عن عصر سيبويه، فإن السوسيين في المغرب ظلوا يتعلمون لغة القرآن ويعلمونها ويؤلفونها فيها مآت الكتب إلى اليوم. وقد نشر المرحوم المختار السوسي منذ بضع سنوات تراجم علماء هذا الإقليم المغربي وآثارهم الضخمة في اللغة العربية وغيرها، في كتابين هامين، سوس العالمة، والمعسول، ويقع هذا الأخير في عشرين مجلدا.
مركز كتاب سيبويه :
لعل أصدق تعبير عن المكانة المكينة لكتاب سيبويه في نفوس المغاربة والأندلسيين أنه ظل معتمدهم الأساسي في الدراسات العليا، لم يستبدلوه بغيره طوال القرون. ولا يفهم من وجود كتب دراسية نحوية في هذه المنطقة أنها حلت محل الكتاب، وإنما هي مقدمات وأراجيز وضعت للمبتدين والقاصرين عن إدراك مسائل الكتاب وذلك كمقدمتي الجزولي وابن آجروم، والفيتي ابن معطي وابن مالك وما إليها من شروح وحواش. ومع ذلك بقي الكتاب مجال براعة المبرزين من شيوخ النحاة، وملتقى النجباء (الشادين) من الطلاب. هذا بالإضافة إلى وفرة عدد الكتاب والمشتغلين بالكتابة عليه شرحا وتعليقا واستدراكا. ومن نماذج حفاظ الكتاب المغاربة أبو عمران الهسكوري، موسى بن يمويمن صاحب كرسي كتاب سيبويه في القرويين. فقد ذكروا في ترجمته أنه فتح بين يديه يوما كتاب سيبويه بالقرويين في ثلاثة مواضيع، فقرأ في كل موضع مدار ثلاثة أحزاب عرضا عن ظهر لب. وكان ذلك بتدبير من منافسيه الذين راموا إعجازه على رؤوس الملأ لما كان في طبعه من حدة وفي لسانه من سلاطة. كما يعتبر الأعلم الشنتمري يوسف بن سليمان الإشبيلي من أبرز نماذج الأندلسيين الذين شرحوا الكتاب وعلقوا عليه. فهو قد ألف كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب المطبوع مع كتاب سبيويه في طبعة بولاق شرح فيه شواهد الكتاب الشعرية التي تنيف عن ألف بيت ونسبها إلى أصحابها. وألف أيضا كتابا جمع فيه النكت في كتاب سيبويه، ورسالة مطولة في المسألة الزنبورية الشهيرة، أوردها المقري بتمامها في نفح الطيب، الجزء الرابع من طبعة بيروت الأخيرة.
أشهر الدارسين لكتاب سيبويه :
تكاثر عدد الدارسين لكتاب سيبويه في المغرب والأندلس عبر العصور تكاثرا يجعل من العبث محاولة تعدادهم بل الإحاطة بهم، ولو اتسع مجال القول، غير أنه لن يكون دون فائدة في ختام هذا العرض الوجيز الإشارة إلى بعض الإعلام البارزين منهم تمثيلا لما سبق وتوثيقا.
نذكر في البداية ثلاثة من النحاة المشارقة الذين دخلوا المغرب والأندلس في القرون الإسلامية الأولى وكان لهم فضل السبق في نشر النحو واللغة والأدب وكتاب سيبويه في هذه الديار، وهم :
أبو اليسر الشيباني، إبراهيم بن أحمد البغدادي تلميذ عالمي البصرة المبرد والجاحظ، وصاحب الشاعرين أبي تمام والبحتري. حمل معه إلى المغرب علما غزيرا، وانصرف جل اهتمامه إلى كتاب سيبويه، حتى أنه كتب منه نسخة في أخريات حياته بقلم واحد ما زال يبريه حتى صر فأدخله في قلم آخر وكتب به حتى فني بتمام الكتاب. وكانت خاتمة مطاف أبي اليسر مدينة القيروان حيث توفي عام 298.
وأبو علي القالي، إسماعيل بن القاسم البغدادي، صاحب النوادر والأمالي، والمقصور والممدود والبارع وغيرها من كتب اللغة والنحو والأدب. وفد علي عبد الرحمن الناصر الأموي عام 330 وعاش بقرطبة يدرس في جملة ما يدرس ويملي كتاب سيبويه، وكان قد أخذه في بغداد عن أبن درستويه عبد الله بن جعفر الفارسي. وعرف القالي بتدقيق النظر في الكتاب والانتصار للبصريين إلى أن توفى عام 356.
وصاعد البغدادي، أبو العلا بن الحسين. دخل الأندلس أيام المنصور بن أبي عامر، فاهتبل بمقدمه وأراد أن يعفي به على آثار أبي علي القالي الوافد من قبل على بني أمية. لكن قلة خبرة صاعد بكتاب سيبويه عرضته إلى السخرية والإهمال، ولم يشفع له لدى الأندلسيين ما أملاه عليهم من كتاب الفصوص. فقد ذكروا ن صاعدا أدخل يوما على المنصور في مجلس ضم نحاة الأندلس وأدباءها، فسأله عن أبي سعيد السيرافي ثم أبا علي الفارسي. ولما انتقل هذا الأخير إلى فارس سار معه أبو محمد الزبيدي إليها فدعاه الفرس أبا عبد الله الأندلسي. وتضايق أبو علي الفارسي من هذا الإلحاح في الطلب والرغبة في الاستفادة، فكان يول للزبيدي على رؤوس الملأ : (إن والله على وجه الأرض أنحى منك) وأدركت الوفاة أبا محمد الزبيدي ببغداد عام 372.
أما أبو بكر الزبيدي فلم يغادر بلاد الأندلس، وظل يدرس كتاب سيبويه في إشبيلية إلى أن دعاه الحكم المستنصر إلى قرطبة ليؤدب فيها ولي عهده هشام، وكانت له في عاصمة الأمويين مجالس نحوية عالية عل غرار مجالس أبي علي القالي السابقة. وألف أبو بكر الزبيدي في جملة ما ألف استدراكا على كتاب سيبويه، ومات وهو قاض بإشبيلية عام 379.
ونجد في العدوة الأخرى أبا محمد الزقاق، قاسم بن محمد ابن الحاج، شيخ النحاة في المغرب، يدرس كتاب سيبويه في كل من فاس وسبتة وسلا، مكونا حلقة أولى في سلسلة نحوية ستطول أجيالا عديدة. وكانت وفاته بمدينة سلا عام 559.
ومحمد بن أحمد ابن طاهر الأنصاري الإشبيلي قرأ بالأندلس والمغرب، واستوطن مدينة فاس ائما على تدريس كتاب سيبويه، وله تعليق على كتاب.
وأقسم أن يقرأه في البصرة حيث وضعه سبيويه، وبر ابن طاهر بقسمه فحج ودرس الكتاب بمصر والبصرة مدة، ومرض في طريق رجوعه، فمات في بجاية بالمغرب الأوسط عام 580.
ومن أبرز تلاميذ الإمامين الزقاق وابن طاهر :
أبو الحسن بن خروف، علي بن محمد الحضرمي، وهو أندلسي الأصل قرأ كتاب سيبويه فاس وإشبيلية ومراكش وغيرها، ووضع عليه شرحا عجيبا سماه تناليح الألباب في شرح غوامض الكتاب، وله رسائل عديدة في مناظرة كبار نحاة عصره.
وعمر بن عبد الله السلمي الأغماتي (أغمات، قريبة من مدينة مراكش) لم يصرفه منصب القضاء الذي أسنده إليه في تلمسان وفاس وإشبيلية عن تدريس كتاب سيبويه في هذه المدن كلها، إلى أن أدركته الوفاة فجأة بإشبيلية وهو بها قاض عام 603.
وأبو القاسم بن الملجوم، عبد الرحمن بن عيسى الأزدي. وأسرة ابن الملجوم من أنبل أسر فاس، تسلسل فيها العلم والجاه والثروة نحو عشرة قرون، وكانت لهم مكتبة من أعظم المكتبات الخاصة في الغرب الإسلامي. درس أبو الاسم على كبار نحاة عصره في المغرب والأندلس وناظر شيخه ابن طاهر في نحو الثلث من كتاب سيبويه. وأقرأ الكتاب مدة غير قصيرة في جامع القرويين إلى أن توفى بفاس عام 604.
والإمام الشلوبين، عمر بن محمد، شيخ نحاة إشبيلية قبل أن ينتزعها المسيحيون من يد المسلمين، كان يدرس بها كتاب سيبويه، وكتب عليه تعليقا مهما طارت شهرته شرقا وغربا.
ومن أبرز المتخرجين على يد الإمام الشلويين :
أبو محمد الأنصاري، عبد الله بن علي، وانتقل بعد سوط إشبيلية في يد النصارى إلى مدينة سبتة بالعدوة المغربية، فاستوطنها ودرس بها كتاب سيبويه إلى أن توفى عام 647.
عاصر أبا محمد الأنصاري في سبتة نحوي آخر شهير، هو :
أبو الحسن الشاري، علي بن محمد الغافقي، كان الكتاب معتمدة قرب مرحلتي التعلم والتعليم، وتوفي بعد الأنصاري بعامين.
ومن أبرز الشخصيات النحوية في القرنين الهجريين السابع والثامن :
الإمام الصدفي، محمد بن يحيى العبدري، أشهر المتخرجين علي ابن خروف والقائم مقامه في تدريس كتاب سيبويه في القرويين بفاس، توفي رحمه الله شهيدا في إحدى المعارك ضد المسيحيين مجيل الفتح المعروف اليوم بجبل طارق عام 651.
وأبو حيان الجياني، أمير المومنين في النحو، كان ملتزما إلا يقرئ غير كتاب سيبويه، أو تسهيل مالك للذين لم يتأهلوا بعد لخوض غمار الكتاب. وكان أبو حيان سلفيا معجبا بآراء ابن تيمية، فشد الرحلة إليه من الأندلس، وأقام معه مدة في دمشق، إلى أن خطا ابن تيمية سيبويه وكذبه، فكان ذلك سبب إعراض أبي حيان عنه وذهابه مغاضبا إلى القاهرة. حيث أدركته الوفاة عام 745.
ومن أشهر السيبويهيين المغاربة في القرون المتأخرة :
أبو زيد المكودي، عبد الرحمن بن صالح، إمام النحاة في عصره، ومؤلف الشرح الشهير على ألفية ابن مالك، كان صاحب كرسي كتاب سيبويه في القرويين إلى أن توفي بفاس عام 807.
وأبو عبد الله البعقيلي، محمد بن إبراهيم، من قرية آيت الطالب في السوس الأقصى بجنوب المغرب، كان يستظهر كتاب سيبويهويدرسه لنجباء طلبة البادية عقودا عديدة من السنين. وكانت فاته عام 976.
وأبو العباس الدلائي، أحمد الحارشي بن محمد ابن أبي بكر، تخصص من بين قومه العلماء في تدريس كتاب سيبويه بزاويتهم الدلائية في جبال الأطلس المتوسط بالمغرب، إلى أن توفي عام 1051.
وأبو عبد الله الدرعي، محمد ابن ناصر، عاش في قرية تامكيروت بصحراء المغرب يدرس كتاب سيبويه وتسهيل ابن مالك، إلى أن ألقي ربه عام 1085.
وبعد فإن كتاب سيبويه ظل محط عناية النحاة المغاربة والأندلسيين منذ حمله إليهم تلاميذ سيبويه فدرسوه وشرحوه واستدركوا عليه وانتقدوا بعض مسائله، ودافعوا من ينتقضه بغير حق، وما زالت كلية اللغة العربية بمراكش التابعة لجامعة القرويين حتى اليوم تضع كتاب سيبويه في طليعة المواد التي يدرسها طلبة الدراسات العليا بها.
* من محاضرة ألقيت بالمؤتمر العالمي الذي أقامته جامعة بهلوي بشيراز لتكريم أمام النحاة سيبويه بمناسبة مرور اثني عشر قرنا على وفاته، من 27 أبريل إلى 2 ماي 1974.
دعوة الحق - ع/ 159
يتصل كتاب سيبويه بالدراسات اللغوية والنحوية في المغرب والأندلس اتصالا وثيقا عبر العصور، ويرجع احتكاك هذه البلاد باللغة العربية إلى عهد الفاتحين المسلمين في القرن الهجري الأول. وكانت عجمة لسان سكان هذه المناطق مدعاة إلى إقبالهم على تعلم لغة القرآن منذ أن أخذ الإسلام ينتشر بينهم، والعرب يقيمون بين ظهرانيهم. وقد بدأ تعلم اللغة العربية في الغرب الإسلامي بطريق المحاكاة والتعبير الشفوي البسيط، وحفظ آيات وسور من القرآن الكريم لأداء الشعائر الدينية، قبل أن يميل إلى استكناه أسرار اللغة والتعرف على قواعدها، حينما رسخت قدم الإسلام في هذه البلاد، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الدولة الإسلامية الكبرى، لاسيما عندما أخذت تنتشر للحركة الفكرية، الدينية واللغوية، القائمة في المشرق آنذاك، وتتردد أصداؤها في أرجاء المغرب والأندلس.
كان من الطبيعي أن يحدث مثل هذا في الجناح الشرقي من الإمبراطورية الإسلامية، غير أن قيام مدينتي البصرة والكوفة في العراق. وإقبال علمائهما من عرب وفرس على جمع اللغة العربية وفلسفتها بتعقيد القواعد واستنباط الأحكام والضوابط، أسرع الخطى بتلك الأقطار في ميدان العلوم اللسانية، وخولها قصب السبق في هذا المضمار، حتى أنجبت من الأعلام أمثال الخليل ابن أحمد، ويونس بن حبيب، وسيبويه، الذين أصبحوا أئمة العربية في كل زمان ومكان.
لقد دخل النحو إلى المغرب والأندلس مع تلاميذ هؤلاء الأئمة الذين هاجروا المشرق فحطوا رحالهم بالقيروان وفاس وقرطبة، وأملوا على المتعلمين في هذه البلاد ما حوته صدورهم وقراطيسهم من علم عزير. ولئن عرفت الأوضاع السياسية بهذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي تقلبات كثيرة خلال القرون الهجرية الأولى، فإن الحركة الثقافية، ومن ضمنها العلوم اللسانية، لم ثنثن عن طريقها أو تقف عند الحدود المصطنعة التي كانت تنتصب حاجزا هنا وهناك، تتقدم تارة وتتراجع أخرى، فتابع العلماء نشاطهم الفكري في هذه البلاد، سواء في العهد الذي كانت فيه سلطة خلفاء دمشق أو بغداد تصل إلى المحيط الأطلنطيكي وجبال البرانس، أو عندما انفصلت المنطقة عن أنظارهم بزعامة الأمويين في الأندلس، والأدارسة في المغرب، والأغالبة ثم الفاطميين بإفريية.
وابتداء من القرن الهجري الرابع، دخل المغرب الإسلامي مرحلة النضج والتفتح الفكري، حيث أخذت مساجد قرطبة بصفة خاصة، تعج بأعلام العلماء، ومكتباتها تزخر بمختلف المؤلفات اللغوية والنحوية والأدبية، أيام عبد الرحمن الناصر، وابنه الحكم المستنصر. وتأكدت شخصية هذه المنطقة في القرون التالية مع المرابطين والموحدين الذين تمكنوا طوال فرنين ونيف من إقامة إمبراطورية انتظمت في سلكها أقطار شمال إفريقيا والأندلس، فكان العلماء ينتقلون في أرجائها الفسيحة، يملون ويؤلفون، وينالون من ضروب الإكرام والتشجيع ألوانا. وفي هذه الفترة بالذات نالت الدراسات اللغوية والنحوية والأدبية أوفي نصيب، وراج كتاب سيبويه أعظم رواج.
ثم كانت زوابع ومحن في الغرب الإسلامي خلال القرن الهجري السابع كادت تعصف بثقافته، لولا جهود المرينيين الضخمة فيما بعد، والمتمثلة في تشييد المساجد والمدارس الفخمة وتشجيع المعلمين والمتعلمين في كل جهات المغرب، وفي تقديم العون المادي والمعنوي لمملكة غرناطة، فكان لذلك الأثر المحمود في إحياء ذماء العلم بالعدوتين، وأعطي الدراسات اللغوية والنحوية فيهما، وبخاصة كتاب سيبويه نفسا جديدا.
ولما حم القضاء ، وحلت النكبة الكبرى بالمسلمين في الأندلس في نهاية القرن التاسع آوت العدوة الجنوبية مختلف المقومات الحضارية مع آخر المهاجرين الأندلسيين، وأصبحت مدينة فاس دار مقام لعدد عديد من الأسر النبيلة، وفي مقدمتها أسرة أبي عبد الله النصري آخر ملوك بني الأحمر، وعمر أندلسيون آخرون مدن تطوان والرباط والقصبة، واستوطن غيرهم حتى قمم الجبال وحدور الأودية، وبلغوا بسائط السوس الأقصى. وذلك امتزجت الحضارة الأندلسية بالحضارة المغربية امتزاجا نهائيا، ولم تنطفئ ذبالة تلك الثقافة الأصلية، ومعها الدراسات النحوية وكتاب سيبويه، لم تنطفئ في المغرب إلى أيام الناس هذه.
الدراسات النحوية في العدوتين :
بدأت الدراسات النحوية بالمشرق، كما هو معلوم، في زمن مبكر أيام الخلفاء الراشدين، وتوالت بعد ذلك إلى أن ظهر في البصرة الخليل بن أحمد الفراهيدي في منتصف القرن الهجري الثاني (فوضع الأسس ونهج الطريق، تاركا أمر تدوين القوانين النحوية إلى تلميذه أبي عمرو بن عثمان سيبويه واضع "الكتاب" المشهور، وقد يكون هذا الكتاب من بين الأسباب التي أدت إلى احتدام الخصام بين المدينتين المتنافستين : البصرة والكوفة، ذلك الخصام الذي انجلى عن قيام مدرستين نحويتين، إحداهما، وهي مدرسة البصرة، تساندها الأصالة والمنطق، إذ وضعت قوانين عامة حسب مقاييس معقولة وأهملت الشواذ وما خالف الاستعمال المشهور عند جمهور العرب، فحصرت بذلك اللغة العربية في قوالب محكمة وصيغ مضبوطة يسهل – نسبيا – إدراكها والإحاطة بها. والثانية، وهي مدرسة الكوفة، ساندها البلاط العباسي وسد أزرها لأغراض لا علاقة لها بموضوع اللغة وقواعدها. هذه المدرسة الثانية ولو أنها اصطبغت في البداية بصيغة علمية محضة، فإنها تحولت إلى ما يشبه مسجد الضرار، خارمة القوانين اعتمادا على سماعات شاذة أو منحولة، وشعبت إلى حد كبير سبل تحصيل النحو، أو أفسدته على حد تعبير السيوطي.
ثم تدارس علماء بغداد بعد ذلك آراء المدرستين التمنافستين، فوازنوا واستظهروا، وخطئوا ورجحوا. ونتج عن ذلك ظهور مدرسة بغدادية جديدة، هي مزيج من مذهبي البصريين والكوفيين.
وقد تلقى الغرب الإسلامي قواعد اللغة العربية بمذاهبها الشرقية الثلاثة، عن طريق النحاة المهاجرين ومعظمهم جاءوا من بغداد، فاتخذوا من كتاب سيبويه أساسا للتعليم، لأنهم بدورهم أخذوه عن شيوخ بصريين أو مشايعين لمذهبهم. ولانتشار المدرسة البصرية في المغرب والأندلس، وسيادتها في العهود الأولى على ما عداها من المدارس النحوية أسباب يمكن إجمالها فيما يلي :
أولا – أن المذهب البصري أكثر أصالة ومنطقية وأقل تشعبا وتمحلا.
ثانيا – وجود كتاب سيبويه بين أيدي الناس، لا يزاحمه كتاب آخر للرؤاسي أو المسائي أو غيرهما من الكوفيين. والكل يعلم أن هؤلاء لم يؤلفوا ما يمكن أن يضاهي أو يقارب كتاب سيبويه، وإنما هي رسائل وكراريس لا تذكر أمام الكتاب.
ثالثا – مناصرة العباسيين لعلماء الكوفة، وإيثارهم بتعليم ولاة العهد وأبناء كبار رجال البلاط، جعل الناس في الغرب ينفرون من هذا المذهب بعد أن خاصموا خلافة بغداد وخلعوا طاعتها.
على أن ذلك كله لم يصرف علماء المغرب والأندلس نهائيا عن النظر في مسائل الخلافة، فتعرفوا على آراء مختلف الفرق، ونظروا بخاصة في القضايا التي أخذت على البصريين، فأثبتوا منها وأبطلوا، وانتقدوا بدورهم بعض آراء البصريين، ومسائل من كتاب سيبويه نفسه، وخرجوا هم أيضا بمدرسة نحوية جديدة، هي المدرسة المغربية الأندلسية التي تحدث عنها ابن خلدون في غير ما موضع من المقدمة.
وفيما يتعلق بالإقبال على دراسة اللغة العربية وقواعدها في الغرب الإسلامي، نلاحظ وجود نفس الظاهرة الشرقية المتجلية في وفرة العناصر الأعجمية الأصل من بين الدارسين. فكما كان سيبويه ودرستويه الفرسيان مثلا من إعلام النحو العربي في الشرق، كان الجزولي وابن آجروم من برابرة السوس الأقصى من أئمة هذا الفن في الغرب. وظلت كتبهم جميعا تقرأ وتشرح على تعاقب الحقب والأجيال. غير أن من المفارقات التي لا ينبغي إغفالها في هذا الباب، أنه إذا كانت العناصر الغير العربية في الشرق، وبخاصة الفارسية قد أخذت تعود إلى لغتها الأصلية منذ زمن غير بعيد عن عصر سيبويه، فإن السوسيين في المغرب ظلوا يتعلمون لغة القرآن ويعلمونها ويؤلفونها فيها مآت الكتب إلى اليوم. وقد نشر المرحوم المختار السوسي منذ بضع سنوات تراجم علماء هذا الإقليم المغربي وآثارهم الضخمة في اللغة العربية وغيرها، في كتابين هامين، سوس العالمة، والمعسول، ويقع هذا الأخير في عشرين مجلدا.
مركز كتاب سيبويه :
لعل أصدق تعبير عن المكانة المكينة لكتاب سيبويه في نفوس المغاربة والأندلسيين أنه ظل معتمدهم الأساسي في الدراسات العليا، لم يستبدلوه بغيره طوال القرون. ولا يفهم من وجود كتب دراسية نحوية في هذه المنطقة أنها حلت محل الكتاب، وإنما هي مقدمات وأراجيز وضعت للمبتدين والقاصرين عن إدراك مسائل الكتاب وذلك كمقدمتي الجزولي وابن آجروم، والفيتي ابن معطي وابن مالك وما إليها من شروح وحواش. ومع ذلك بقي الكتاب مجال براعة المبرزين من شيوخ النحاة، وملتقى النجباء (الشادين) من الطلاب. هذا بالإضافة إلى وفرة عدد الكتاب والمشتغلين بالكتابة عليه شرحا وتعليقا واستدراكا. ومن نماذج حفاظ الكتاب المغاربة أبو عمران الهسكوري، موسى بن يمويمن صاحب كرسي كتاب سيبويه في القرويين. فقد ذكروا في ترجمته أنه فتح بين يديه يوما كتاب سيبويه بالقرويين في ثلاثة مواضيع، فقرأ في كل موضع مدار ثلاثة أحزاب عرضا عن ظهر لب. وكان ذلك بتدبير من منافسيه الذين راموا إعجازه على رؤوس الملأ لما كان في طبعه من حدة وفي لسانه من سلاطة. كما يعتبر الأعلم الشنتمري يوسف بن سليمان الإشبيلي من أبرز نماذج الأندلسيين الذين شرحوا الكتاب وعلقوا عليه. فهو قد ألف كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب المطبوع مع كتاب سبيويه في طبعة بولاق شرح فيه شواهد الكتاب الشعرية التي تنيف عن ألف بيت ونسبها إلى أصحابها. وألف أيضا كتابا جمع فيه النكت في كتاب سيبويه، ورسالة مطولة في المسألة الزنبورية الشهيرة، أوردها المقري بتمامها في نفح الطيب، الجزء الرابع من طبعة بيروت الأخيرة.
أشهر الدارسين لكتاب سيبويه :
تكاثر عدد الدارسين لكتاب سيبويه في المغرب والأندلس عبر العصور تكاثرا يجعل من العبث محاولة تعدادهم بل الإحاطة بهم، ولو اتسع مجال القول، غير أنه لن يكون دون فائدة في ختام هذا العرض الوجيز الإشارة إلى بعض الإعلام البارزين منهم تمثيلا لما سبق وتوثيقا.
نذكر في البداية ثلاثة من النحاة المشارقة الذين دخلوا المغرب والأندلس في القرون الإسلامية الأولى وكان لهم فضل السبق في نشر النحو واللغة والأدب وكتاب سيبويه في هذه الديار، وهم :
أبو اليسر الشيباني، إبراهيم بن أحمد البغدادي تلميذ عالمي البصرة المبرد والجاحظ، وصاحب الشاعرين أبي تمام والبحتري. حمل معه إلى المغرب علما غزيرا، وانصرف جل اهتمامه إلى كتاب سيبويه، حتى أنه كتب منه نسخة في أخريات حياته بقلم واحد ما زال يبريه حتى صر فأدخله في قلم آخر وكتب به حتى فني بتمام الكتاب. وكانت خاتمة مطاف أبي اليسر مدينة القيروان حيث توفي عام 298.
وأبو علي القالي، إسماعيل بن القاسم البغدادي، صاحب النوادر والأمالي، والمقصور والممدود والبارع وغيرها من كتب اللغة والنحو والأدب. وفد علي عبد الرحمن الناصر الأموي عام 330 وعاش بقرطبة يدرس في جملة ما يدرس ويملي كتاب سيبويه، وكان قد أخذه في بغداد عن أبن درستويه عبد الله بن جعفر الفارسي. وعرف القالي بتدقيق النظر في الكتاب والانتصار للبصريين إلى أن توفى عام 356.
وصاعد البغدادي، أبو العلا بن الحسين. دخل الأندلس أيام المنصور بن أبي عامر، فاهتبل بمقدمه وأراد أن يعفي به على آثار أبي علي القالي الوافد من قبل على بني أمية. لكن قلة خبرة صاعد بكتاب سيبويه عرضته إلى السخرية والإهمال، ولم يشفع له لدى الأندلسيين ما أملاه عليهم من كتاب الفصوص. فقد ذكروا ن صاعدا أدخل يوما على المنصور في مجلس ضم نحاة الأندلس وأدباءها، فسأله عن أبي سعيد السيرافي ثم أبا علي الفارسي. ولما انتقل هذا الأخير إلى فارس سار معه أبو محمد الزبيدي إليها فدعاه الفرس أبا عبد الله الأندلسي. وتضايق أبو علي الفارسي من هذا الإلحاح في الطلب والرغبة في الاستفادة، فكان يول للزبيدي على رؤوس الملأ : (إن والله على وجه الأرض أنحى منك) وأدركت الوفاة أبا محمد الزبيدي ببغداد عام 372.
أما أبو بكر الزبيدي فلم يغادر بلاد الأندلس، وظل يدرس كتاب سيبويه في إشبيلية إلى أن دعاه الحكم المستنصر إلى قرطبة ليؤدب فيها ولي عهده هشام، وكانت له في عاصمة الأمويين مجالس نحوية عالية عل غرار مجالس أبي علي القالي السابقة. وألف أبو بكر الزبيدي في جملة ما ألف استدراكا على كتاب سيبويه، ومات وهو قاض بإشبيلية عام 379.
ونجد في العدوة الأخرى أبا محمد الزقاق، قاسم بن محمد ابن الحاج، شيخ النحاة في المغرب، يدرس كتاب سيبويه في كل من فاس وسبتة وسلا، مكونا حلقة أولى في سلسلة نحوية ستطول أجيالا عديدة. وكانت وفاته بمدينة سلا عام 559.
ومحمد بن أحمد ابن طاهر الأنصاري الإشبيلي قرأ بالأندلس والمغرب، واستوطن مدينة فاس ائما على تدريس كتاب سيبويه، وله تعليق على كتاب.
وأقسم أن يقرأه في البصرة حيث وضعه سبيويه، وبر ابن طاهر بقسمه فحج ودرس الكتاب بمصر والبصرة مدة، ومرض في طريق رجوعه، فمات في بجاية بالمغرب الأوسط عام 580.
ومن أبرز تلاميذ الإمامين الزقاق وابن طاهر :
أبو الحسن بن خروف، علي بن محمد الحضرمي، وهو أندلسي الأصل قرأ كتاب سيبويه فاس وإشبيلية ومراكش وغيرها، ووضع عليه شرحا عجيبا سماه تناليح الألباب في شرح غوامض الكتاب، وله رسائل عديدة في مناظرة كبار نحاة عصره.
وعمر بن عبد الله السلمي الأغماتي (أغمات، قريبة من مدينة مراكش) لم يصرفه منصب القضاء الذي أسنده إليه في تلمسان وفاس وإشبيلية عن تدريس كتاب سيبويه في هذه المدن كلها، إلى أن أدركته الوفاة فجأة بإشبيلية وهو بها قاض عام 603.
وأبو القاسم بن الملجوم، عبد الرحمن بن عيسى الأزدي. وأسرة ابن الملجوم من أنبل أسر فاس، تسلسل فيها العلم والجاه والثروة نحو عشرة قرون، وكانت لهم مكتبة من أعظم المكتبات الخاصة في الغرب الإسلامي. درس أبو الاسم على كبار نحاة عصره في المغرب والأندلس وناظر شيخه ابن طاهر في نحو الثلث من كتاب سيبويه. وأقرأ الكتاب مدة غير قصيرة في جامع القرويين إلى أن توفى بفاس عام 604.
والإمام الشلوبين، عمر بن محمد، شيخ نحاة إشبيلية قبل أن ينتزعها المسيحيون من يد المسلمين، كان يدرس بها كتاب سيبويه، وكتب عليه تعليقا مهما طارت شهرته شرقا وغربا.
ومن أبرز المتخرجين على يد الإمام الشلويين :
أبو محمد الأنصاري، عبد الله بن علي، وانتقل بعد سوط إشبيلية في يد النصارى إلى مدينة سبتة بالعدوة المغربية، فاستوطنها ودرس بها كتاب سيبويه إلى أن توفى عام 647.
عاصر أبا محمد الأنصاري في سبتة نحوي آخر شهير، هو :
أبو الحسن الشاري، علي بن محمد الغافقي، كان الكتاب معتمدة قرب مرحلتي التعلم والتعليم، وتوفي بعد الأنصاري بعامين.
ومن أبرز الشخصيات النحوية في القرنين الهجريين السابع والثامن :
الإمام الصدفي، محمد بن يحيى العبدري، أشهر المتخرجين علي ابن خروف والقائم مقامه في تدريس كتاب سيبويه في القرويين بفاس، توفي رحمه الله شهيدا في إحدى المعارك ضد المسيحيين مجيل الفتح المعروف اليوم بجبل طارق عام 651.
وأبو حيان الجياني، أمير المومنين في النحو، كان ملتزما إلا يقرئ غير كتاب سيبويه، أو تسهيل مالك للذين لم يتأهلوا بعد لخوض غمار الكتاب. وكان أبو حيان سلفيا معجبا بآراء ابن تيمية، فشد الرحلة إليه من الأندلس، وأقام معه مدة في دمشق، إلى أن خطا ابن تيمية سيبويه وكذبه، فكان ذلك سبب إعراض أبي حيان عنه وذهابه مغاضبا إلى القاهرة. حيث أدركته الوفاة عام 745.
ومن أشهر السيبويهيين المغاربة في القرون المتأخرة :
أبو زيد المكودي، عبد الرحمن بن صالح، إمام النحاة في عصره، ومؤلف الشرح الشهير على ألفية ابن مالك، كان صاحب كرسي كتاب سيبويه في القرويين إلى أن توفي بفاس عام 807.
وأبو عبد الله البعقيلي، محمد بن إبراهيم، من قرية آيت الطالب في السوس الأقصى بجنوب المغرب، كان يستظهر كتاب سيبويهويدرسه لنجباء طلبة البادية عقودا عديدة من السنين. وكانت فاته عام 976.
وأبو العباس الدلائي، أحمد الحارشي بن محمد ابن أبي بكر، تخصص من بين قومه العلماء في تدريس كتاب سيبويه بزاويتهم الدلائية في جبال الأطلس المتوسط بالمغرب، إلى أن توفي عام 1051.
وأبو عبد الله الدرعي، محمد ابن ناصر، عاش في قرية تامكيروت بصحراء المغرب يدرس كتاب سيبويه وتسهيل ابن مالك، إلى أن ألقي ربه عام 1085.
وبعد فإن كتاب سيبويه ظل محط عناية النحاة المغاربة والأندلسيين منذ حمله إليهم تلاميذ سيبويه فدرسوه وشرحوه واستدركوا عليه وانتقدوا بعض مسائله، ودافعوا من ينتقضه بغير حق، وما زالت كلية اللغة العربية بمراكش التابعة لجامعة القرويين حتى اليوم تضع كتاب سيبويه في طليعة المواد التي يدرسها طلبة الدراسات العليا بها.
* من محاضرة ألقيت بالمؤتمر العالمي الذي أقامته جامعة بهلوي بشيراز لتكريم أمام النحاة سيبويه بمناسبة مرور اثني عشر قرنا على وفاته، من 27 أبريل إلى 2 ماي 1974.
دعوة الحق - ع/ 159