نقوس المهدي
كاتب
-1-
يوجد عدد كبير من رجالات العلم والحديث والفقه والتاريخ والأدب ممن يحملون اسم الأزرق أو ابن الأزرق أو الأزرقي في المشرق والمغرب . . والأزرق جد قديم من أجداد العرب في الجاهلية يتصل نسبه بالعمالقة وكانت منازل بيته بالحجاز . . وإليه ينسب في – بعض الروايات – المؤرخ اليماني محمد بن عبد الله ابن أحمد بن الأزرق من أهل مكة وصاحب كتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) والمتوفى سنة 250، وقبل مؤرخ مكة نعرف عن أبي راشد نافع بن الأزرق البصري الحنفي رأس الأزارقة وإليه نسبتهم، الذي صحب عبد الله بن عباس وكان هو وأصحابه من أنصار الثورة على سيدنا عثمان وموالاة الإمام علي رضي عنهما إلى أن كانت ضية التحكيم بين علي ومعاوية، قتل على مقربة من الأهواز عام 65 في أعقاب مقاتلة المهلب ابن أبي صفرة له . . كما نعرف عن الحافظ حماد بن زيد الأزرق شيخ العراق في عصره الذي ولد وتوفي بالبصرة عام 179 وعن أبي بكر محمد بن محمد بن الأزرق الذي ورد من مصر على الأندلس وتوفى بقرطبة سنة 385، والمؤرخ عبد الله بن محمد ابن الأزرق المتوفى عام 590 . . هذا إلى الكاتب المعروف محمد بن هذيل الشهير بابن الأزرق الذي خاطب الملكة ضونيا Dona يخبرها بوصول السفراء المغاربة من حصن القلاعة أوائل ذي الحجة عام 647 وغير هؤلاء من الزرق الذين تناهت إلينا أخبارهم وفي صدرهم مترجمنا اليوم قاضي غرناطة ووزيرها وسفيرها أبو عبد الله ابن الأزرق . .
ويظهر أنه لا صلة بين أسرة الأزرق هذا وبين الأسر التي تحمل لقب الأزرق ببعض المدن المغربية، وبفاس على الخصوص، فإن هذه الأسر، أو بعضها على الأقل، وردت للمدينة من الجبال وقد كان جدي للأم السيد عبد الرحمن بن عبد السلام الأزرق يذكر أنهم من صنهاجة السراير بإقليم الحسيمة من بطن هناك يعرف ببني زرقت لقبوا بذلك لأن عيون أغلبيتهم زرقاء.
وكما أنه ليس ببعيد إطلاقا أن يكون أصل بعض أسر الأزرق منحدرا من الديار الأندلسية عبر الجبل فإن التلقيب بالألوان معروف بالمغرب كما بغيره من سائر الجهات كالأخضر والأحمر والأبيض والأشقر والأكحل فعلى نحو ما عهد من التلقيب بمختلف المهن والحروف كالقاضي والمفتي والفقيه والمؤذن والخطيب والإمام والنجار والحداد والصباغ والعطار.
ويعتبر القاضي ابن الأزر من عيون رجال الفقه والأدب والعلم الذين عرفهم القرن التاسع الهجري، وقد أفاد السخاوي أن ابن الأزرق كان من الملازمين للأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق
كما كان من الذين يحضرون مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي عمدة غرناطة في العلوم الفقهية، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، ومجالس قاضي الجماعة بها أبي العباس أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني . . كما أنه من أقرب الناس إلى بلاط بني نصر فهو لذلك من أقطاب السياسة على ذلك العهد، وإذا ما تتبعنا آثاره فقط رجل وظيف شرعي ولكنه رجل دولة وكاتب ملك، وإن سلطان بني نصر يؤثره بأسرار لا يبثها إلى قاضي الجماعة، الأمر الذي يدل عليه قوله يخاطب شيخه الحافظ القاضي أبا القاسم ابن سراج وقد طلب إليه هذا الأخير أن يجتمع به في ظروف اضطراب مؤملا أن يحصل منه على سر من أسرار السلطان .. لقد باعده الوزير ابن الأزرق معتذرا بهذه الأبيات البديعة الرائعة لفظا ومعنى :
فديتك لا تسأل عن السر كاتبا
فتلقاه في رحال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن
أمانته أو خائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب
وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل !
وقد كان من أبرز الذين سجلوا لهم مواقف حاسمة عندما اضطربت الأحوال في غرناطة واختلط الأمر على الناس فنكثوا بيعة السلطان أبي الحسن النصري وبايعوا عوضه ابنه محمدا، فقد كان من رأي القاضي ابن الأزرق والمفتي أبي عبد الله المواق وكذا سائر فقهاء غرناطة إن مثل هذه المبادرة في مثل تلك الظروف إنما تخدم مصلحة العدو ولا تنقذ الموقف في شيء، وإنها شبيهة بتبديل الفرس أثناء عبور النهر الهائج المائج . . وهكذا وقع فتوى شجب فيها فعل الناكثين أواسط شهر رمضان من عام 889 بالرغم من المخاطر التي كانت تحتف به وهو يقدم على هذا الموقف الجريء.
وقد اقتضت منه غيرته على تداعي الديار الأندلسية وتوالي انكسارها أن يفكر – أثر هذه الفتوى – في السفارة لدى ملوك المغرب والمشرق آملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترقبا في الحصول على نجدة من شأنها أن تردع لأعداء المتربصين وتبقى على الوجود الإسلامي ببعض تلك الديار.
ولما كانت ظروف المغرب الأقصى آنذاك قد بلغت من الاضطراب والقلق درجة لا تمكنه من الإلتفات لما يجري في العدوة الأخرى فقد قصد القاضي إلى تلمسان بعيد التسعين وثمانمائة وكان يحكمها آنذاك العاهل أبو ثابت الثالث، ولكن السفير ابن الأزرق، وقد شعر بانشغال الناس عنه بالتصدي للمناورات والمضايقات التي كانت تحاك ضد الجزائر من طرف الأجنبي، اتجه نحو مصر لدى الملك الأشرق قايتباي محمد بن علي . .
يوجد عدد كبير من رجالات العلم والحديث والفقه والتاريخ والأدب ممن يحملون اسم الأزرق أو ابن الأزرق أو الأزرقي في المشرق والمغرب . . والأزرق جد قديم من أجداد العرب في الجاهلية يتصل نسبه بالعمالقة وكانت منازل بيته بالحجاز . . وإليه ينسب في – بعض الروايات – المؤرخ اليماني محمد بن عبد الله ابن أحمد بن الأزرق من أهل مكة وصاحب كتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) والمتوفى سنة 250، وقبل مؤرخ مكة نعرف عن أبي راشد نافع بن الأزرق البصري الحنفي رأس الأزارقة وإليه نسبتهم، الذي صحب عبد الله بن عباس وكان هو وأصحابه من أنصار الثورة على سيدنا عثمان وموالاة الإمام علي رضي عنهما إلى أن كانت ضية التحكيم بين علي ومعاوية، قتل على مقربة من الأهواز عام 65 في أعقاب مقاتلة المهلب ابن أبي صفرة له . . كما نعرف عن الحافظ حماد بن زيد الأزرق شيخ العراق في عصره الذي ولد وتوفي بالبصرة عام 179 وعن أبي بكر محمد بن محمد بن الأزرق الذي ورد من مصر على الأندلس وتوفى بقرطبة سنة 385، والمؤرخ عبد الله بن محمد ابن الأزرق المتوفى عام 590 . . هذا إلى الكاتب المعروف محمد بن هذيل الشهير بابن الأزرق الذي خاطب الملكة ضونيا Dona يخبرها بوصول السفراء المغاربة من حصن القلاعة أوائل ذي الحجة عام 647 وغير هؤلاء من الزرق الذين تناهت إلينا أخبارهم وفي صدرهم مترجمنا اليوم قاضي غرناطة ووزيرها وسفيرها أبو عبد الله ابن الأزرق . .
ويظهر أنه لا صلة بين أسرة الأزرق هذا وبين الأسر التي تحمل لقب الأزرق ببعض المدن المغربية، وبفاس على الخصوص، فإن هذه الأسر، أو بعضها على الأقل، وردت للمدينة من الجبال وقد كان جدي للأم السيد عبد الرحمن بن عبد السلام الأزرق يذكر أنهم من صنهاجة السراير بإقليم الحسيمة من بطن هناك يعرف ببني زرقت لقبوا بذلك لأن عيون أغلبيتهم زرقاء.
وكما أنه ليس ببعيد إطلاقا أن يكون أصل بعض أسر الأزرق منحدرا من الديار الأندلسية عبر الجبل فإن التلقيب بالألوان معروف بالمغرب كما بغيره من سائر الجهات كالأخضر والأحمر والأبيض والأشقر والأكحل فعلى نحو ما عهد من التلقيب بمختلف المهن والحروف كالقاضي والمفتي والفقيه والمؤذن والخطيب والإمام والنجار والحداد والصباغ والعطار.
ويعتبر القاضي ابن الأزر من عيون رجال الفقه والأدب والعلم الذين عرفهم القرن التاسع الهجري، وقد أفاد السخاوي أن ابن الأزرق كان من الملازمين للأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق1
كما كان من الذين يحضرون مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي عمدة غرناطة في العلوم الفقهية، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، ومجالس قاضي الجماعة بها أبي العباس أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني . . كما أنه من أقرب الناس إلى بلاط بني نصر فهو لذلك من أقطاب السياسة على ذلك العهد، وإذا ما تتبعنا آثاره فقط رجل وظيف شرعي ولكنه رجل دولة وكاتب ملك، وإن سلطان بني نصر يؤثره بأسرار لا يبثها إلى قاضي الجماعة، الأمر الذي يدل عليه قوله يخاطب شيخه الحافظ القاضي أبا القاسم ابن سراج وقد طلب إليه هذا الأخير أن يجتمع به في ظروف اضطراب مؤملا أن يحصل منه على سر من أسرار السلطان . . لقد باعده الوزير ابن الأزرق معتذرا بهذه الأبيات البديعة الرائعة لفظا ومعنى :
فديتك لا تسأل عن السر كاتبا
فتلقاه في رحال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن
أمانته أو خائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب
وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل !
وقد كان من أبرز الذين سجلوا لهم مواقف حاسمة عندما اضطربت الأحوال في غرناطة واختلط الأمر على الناس فنكثوا بيعة السلطان أبي الحسن النصري وبايعوا عوضه ابنه محمدا، فقد كان من رأي القاضي ابن الأزرق والمفتي أبي عبد الله المواق وكذا سائر فقهاء غرناطة إن مثل هذه المبادرة في مثل تلك الظروف إنما تخدم مصلحة العدو ولا تنقذ الموقف في شيء، وإنها شبيهة بتبديل الفرس أثناء عبور النهر الهائج المائج . . وهكذا وقع فتوى شجب فيها فعل الناكثين أواسط شهر رمضان من عام 889 بالرغم من المخاطر التي كانت تحتف به وهو يقدم على هذا الموقف الجريء.
وقد اقتضت منه غيرته على تداعي الديار الأندلسية وتوالي انكسارها أن يفكر – أثر هذه الفتوى – في السفارة لدى ملوك المغرب والمشرق آملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترقبا في الحصول على نجدة من شأنها أن تردع لأعداء المتربصين وتبقى على الوجود الإسلامي ببعض تلك الديار.
ولما كانت ظروف المغرب الأقصى آنذاك قد بلغت من الاضطراب والقلق درجة لا تمكنه من الإلتفات لما يجري في العدوة الأخرى فقد قصد القاضي إلى تلمسان بعيد التسعين وثمانمائة2 وكان يحكمها آنذاك العاهل أبو ثابت الثالث، ولكن السفير ابن الأزرق، وقد شعر بانشغال الناس عنه بالتصدي للمناورات والمضايقات التي كانت تحاك ضد الجزائر من طرف الأجنبي، اتجه نحو مصر لدى الملك الأشرق قايتباي محمد بن علي . .
وهناك لقي كل ترحيب وتكريم لكنه فهم من المسؤولين هناك أنهم يدركون أن أمر الأندلس قد انتهى وأنه لا فائدة ترجى من تدارك المحتضر الذي يسلم نفسه الأخير "فكان كمن يطلب الأنوق أو الأبيض العقوق"3 وهكذا فقد اقترحوا عليه أن يغدو أولا للقيام بمناسك الحج قبل أن يعطوه الجواب النهائي وكانوا في واقع الأمر يتوقعون وصول المزيد من الأخبار عن الأندلس، هذا أيضا إلى انشغال الملك بمنازلة السلطان العثماني بايزيد الثاني4 .
وقد قصد القاضي ابن الأزرق الحرمين الشريفين حيث قام بأدائه الفريضة وعاد أول سنة 896 القاهرة لمتابعة القيام بمساعيه التي من أجلها رحل ولكنه وجد أن الأخبار التي يتوفر عليها السلطان فإيتباي كانت تنذر بأن كل شيء بالديار الأندلسية في طريقه نحو النهاية.
لقد بلغت الأخبار الحزينة فعلا عن سقوط العاصمة غرناطة وأخذها من يد الأمير محمد بن أبي الحسن منذ ربيع الأول من عام 895.
وكانت للسلطان مع السفير جلسات مهمة أفهمه السلطان فيها أن قضاء الله قد نفذ، وعرض عليه بهذه المناسبة خطة قضاء في بيت المقدس تسلية له وتلهية، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد بن مازن الغزى. ووصل الإمام ابن الأزرق إلى القدس يوم الاثنين 16 شوال 896 حيث قضى هناك ردحا من الزمن محاطا برعاية تلاميذه من مريدي الفقه المالكي واحترام معارفه ممن كان (حي المغاربة) بالقدس5 يزخر بهم سيما وقد كان يضيف إلى علمه جمال الشكل وإنارة الشيبة وسيمة الأبهة والوقار والنزاهة والصيانة والطهارة.
لكنه كان يغص من هول الأنباء المتلاحقة من الأندلس . . قتناوشته الهموم ولم يقو على تحمل الصدمة والغربة في آن واحد، لم يبق عنده بستان ولا مركب ولا مسكن على ما يقوم في نونيته المعروفة، وهكذا توعك ولم تلبث أنفاسه أن فاضت بعد نحو من شهرين من توليه القضاء حيث توفى يوم الجمعة 17 من ذي الحجة الحرام 896 بعد الفراغ من الصلاة، وصلى عليه في يومه بعد صلاة العصر بالمسجد الأقصى وحشر إلى جانب حوش البسطافي من جهة الغرب.
ولقد خلف القاضي ابن الأزرق تراثا أدبيا فاخرا تجلى في هذه المقطعات الشعرية الجيدة التي نقلتها عنه الموسوعات الأندلسية الأدبية، فمن تلك القطع هذه الأبيات التي نظمها عند نزول طاغية النصارى بمروج غرناطة والتي تعبر عما كان يحس من آلام وهو يعيش الأيام الأخيرة بالأندلس6 .
مشوق بخيمات الأحبة مولع
تذكره نجد وثغرية لعلع
مواضعكم يا لائمين على الهوى
فلم يبق للسلوان في القلب موضع
ومن لي بقلب تلنظي فيه زفرة
ومن لي بجفن تنهمي فيه أدمع
رويدك فارقب للطائف موضعا
وخل الذي من شره يتوقع
وصبرا فإن الصبر خير غنيمة
ويا فوز من قد كان للصبر يرجع
وبث واثقا باللطف من خير راحم
فألطافه من لمحة العين أسرع
وإن جاء خطب فانتظر فرجا له
فسوف تراه في غد عنك يرفع
وكن راجعا لله في كل حالة
فليس لنا إلا إلى الله مرجع
ومن نونية خفيفة تنسب إليه بلغت زهاء المائة ببت، هذه الأبيات التي تعكس مشاعره وروحه المرحة وهي على ما يظهر من نظمه في المهجر :
لا أم لي لا أم لي
إن لم أبرد شجني !
واخلعن في المجو
ن، والتصابي رسني
يا عاذلي في مذهبي
أرداك شرب اللبن !
أعطيت في البطن سنا
نا أن تخالف سنني
وإن تسقه نظري
ومذهبي وتنهني،
فالصفع تستوجبه
نعم، ونتف الذقن
والنفي تستوجبه
لواسط أو عدن !
- * -
أفدي صديقا كان لي
بنفسه يعدني
فتارة أنصحه
وتارة ينصحني
وتارة ألعنه
وتارة يلعنني
وربما أصفعه
وربما يصفعني
- * -
دهر تولى وانقضى
عني كطيف الوسن
يا ليتني لم أره
وليته لم يرني
دنست فيه جانبي
ومليسي بالدرن
وبعت فيه عيشتي
لكن ببخس الثمن !
كأنني ولست أدري
الآن ما كأنني !!
- * -
لو انصف الدهر لما
أخرجني من وطني !
وليس لي من جنة
وليس لي من مسكن
اسرح الطرف وما
لي دمنة في الدمن
وليس لي من فرس
وليس لي من سكن !
يا ليت شعري وعسى
يا ليت أن تنفعني
- * -
هل للثريد عودة
إلي ؟ قد شوقني
ولي إلى الإسفنج شوق
دائم يطربني
وللأرز الفضل إذ
تطبخه باللبن
وهات ذكر الكسكسو
فهو شريف وسني
لاسيما إن كان مصنوعا
بفتل حسن
ارفع منه كوارا
يهن تدوي أذني
وإن ذكرت غير ذا
أطعمة في الوطن
فابدا من المثومات
بالجبن الممكن
من فوقها الفروج قد
أنهى في التسمن
وثن بالعصيدة التي
بها تطربني
والزبزبن في الصحاف
حسب أهل البطن7
ومن شعره في مدينة بسطة :
في بسطة حيث الأباطح مشرقه
أضحت جفوني بالمحاسن مغلقة
وله أيضا فيها :
قل لمن رام النوى عن وطن
قولة ليس بها من حرج
فرج الهم بسكنى بسطة
إن في بسطة باب الفرج8
ومن نظمه سينية بديعة من نحو أربعين بيتا في مدح شيخه العلامة أبي يحيى ابن عاصم هذا مطلعها :
خضعت لمعطفه الغصون الميس
ورنا فهام بمقلتيه النرجس
بك مجلس الأنس اطمأن وبابن عا
صم اطمأن من الرياسة مجلس
بدر بأنوار الهدى متطلع
غيث بأشتات الندى متبجس9
ومن نظمه قوله في المجبنات :
ورب محبوبة تبدت
كأنها الشمس في حلاها
فأعجب لحال الأنام من قد
أحبها منهم قلاها !
ومن شعره في جمال الربيع قوله :
تأملت من حسن الربيع نضارة
ودغردت فوق الغصون البلابل
حكت في غصون الدوح قسا قصاحة
لتعلم أن النبت في الروض بأقل
ومن شعره في الرثاء وله في والدته :
تقول لي ودموع العين واكفة
ما أفظع البين والترحال يا ولدي
فقلت أين السرى ؟ قالت : لحمة من
قد عز في الملك لو يولد ولم يلد
غير أن ما تركه الإمام ابن الأزرق من مؤلفات قيمة طغى على سائر مناحي نشاطه الفكري، فقد تجلى فيما دبجته براعته في مختلف العلوم والفنون ما جعله مثار إعجاب الذين كتبوا عنه أو قرأوا أو سمعوا . . وقد كان فيها كتاب (الإبريز المسبوك في آداب الملوك) و (روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام) وشفاء الغليل في شرح مختصر خليل)10 هذا إلى ما أثر عنه من فتاوي نقلها عنه صاحب المعيار في جامعه11 وقد رأيت أن أقدم بين يدي الباحثين اليوم عرضا عن مخطوطته الفريدة "بدائع السلك في طبائع الملك" التي لخص فيها كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخية وكلام غيره ولكن مع زوائد كثيرة12 . .
وبخاصة أريد سوق كلامه عن (الرسالة والوفود) وما أثار انتباهه مما قيل عن الموضوعين في المؤلفات التي سبقته، وذلك تنويها بالكتاب وإشادة، وتدليلا عليه تكميلا للفائدة التي قدمها إلينا، لحد الآن، سائر الذين عنوا بابن الأزرق.
1 اشتهر الشيخ ابن فتوح هذا بسلوك منهاج تربوي خاص مع طلبته حيث يفسح لهم المجال كاملا للبحث والنقعيب والتعليق بل أنه لا يرضى منهم بالتسليم المطلق والمتابعة العمياء . . ويأتي هذا المنهج وسطا بين مذهب العبدوسي (ت 847) ومذهب المشدالي (ت 864) المقري : الرياض تحقيقا السقار، الأبياري، شلبي، طبع المعهد الخليفي تطوان 1939 – 3ر304 – 317 – نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، طبع دار صادر، بيروت 1968 – 2ر700 – التازي : جامع الرويين فاس، طبعة دار الكتاب اللبناني بيروت 2ر428.
2 أزهار الرياض 3ر318.
3 نفح الطيب 2ر702.
4 السلطان بايزيد الثاني من أعظم سلاطين آل عثمان عددا من القلاع والحصون وبني طائفة من المدارس والجوامع والمستشفيات وما يزال حي بكامله يحمل باسطامبول اليوم اسم بايزيد، كان يحاول احتلال بعض الجهات التابعة لقايتباي، فكان هذا منصرفا بكليته لصد الهجوم وقد أنفق أموالا طائلة في هذا القتال الذي حال دون تلبية عدد من نداءات ملك غرناطة، ولكنه مع ذلك كان يحاول بالطرق الدبلوماسية أن يبلغ قلقه للإسبان وربما تهديداته كذلك بواسطة القسيس والرهبان المتواجدين في الدس الشريف.
فجر الدين الحنبلي : الأنس الجليل بتاريخ الدس والخليل، الطبعة الوهبية مصر 1283م 2ر591 الزركلي : الإعلام، مادة قايتباي.
5 عبد الهادي التازي : (حي المغاربة بالقدس) نشر في مجموعة موسوعة العنبات المقدسة للأستاذ جعفر الخليلي دار التعاون بغداد، المجلد الأول 95 – كما نشر بمجلة مركز الدراسات الفلسطينية المجلد الأول، العدد الثالث، غشت 1972 / 7 وبملحق العلم الأسبوعي الثقافي 1 يناير 1972.
6 النفح 2ر704.
7 النفح 3ر298
8 النفح 6ر447.
9 أزهار الرياض 3ر322، وقد تشكك في النفح في نسبة هذه السينية لابن الأزرق، هذا كما نسب الأبيات الثلاثة الماضية (فديتك لا تسأل عن السر) لابن عاصم النفح 6ر152.
10 وقف الإمام المقري على جملة من هذا الشرح بتلمسان تتألف من ثلاث مجلدات ويقدر صاحب النفح أن يصل الكتاب إلى عشرين مجلدا حيث أن المجلد الأول لم يكمل مسائل الصلاة قال المقريء : "لم أر في شروح خليل – مع كثرتها – مثله".
11 كان منها فتواه باستنكار نكثت بيعة أبي أبي الحسن النصري.
12 وقفت في المكتبة العامة بالرباط على أربع نسخ من المخطوط المتحدث عنه : علاوة على ما يوجد منه في خزانة جامعة القرويين والخزانة الملكية الأولى رقم ج / 64 كمل نسخها في أوائل صفر عام 998، عدد صفحاتها 529 تحتوي الورقة على واحد وعشرين سطرا من قياس 50،25 س على 50،18- بينما النسخة الثانية رقم ج / 93 عدد صفحاتها 397 تحتوي الصفحة على خمسة وعشرين سطرا قياس 22،50 / 17،50 والثالثة رقم د 582 عدد صفحاتها 512 قياس الصفحة 30 / 21،50 وقد نسخت في جمادى الأولى عام 1263 – أما النسخة الرابعة فتحمل رقم د / 1340 عدد صفحاتها 648 تحتوي كل صفحة على واحد وعشرين سطرا قياس الصفحة 50، 22 / 17،50.
ويبتدئ الكتاب هكذا : "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال الشيخ الفقيه الخطيب البليغ البارع العالم المتفنن المتبحر الصدر الإمام الأوحد فخر علماء الأندلس في عصره في العلوم وسيد وقته في العلوم قاضي الجماعة السيد أبو عبد الله محمد بن علي ابن الأزرق الأصبحي وصل الله عزته وحفظ في الإعلام رتبته : الحمد لله مالك الملك إيجادا وتدبيرا ومبدعه من فيض جوده عليما بأسرار وجوده خبيرا . .
وينتهي بالصلاة على النبي الكريم وعلى آله الأبرار والصحابة الناصحين في الإعلان والأسرار ما تعاقب الزمان يوما وغدا، وراح إليه مشتاق الوصول غدا . .
* دعوة الحق ع/159
يوجد عدد كبير من رجالات العلم والحديث والفقه والتاريخ والأدب ممن يحملون اسم الأزرق أو ابن الأزرق أو الأزرقي في المشرق والمغرب . . والأزرق جد قديم من أجداد العرب في الجاهلية يتصل نسبه بالعمالقة وكانت منازل بيته بالحجاز . . وإليه ينسب في – بعض الروايات – المؤرخ اليماني محمد بن عبد الله ابن أحمد بن الأزرق من أهل مكة وصاحب كتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) والمتوفى سنة 250، وقبل مؤرخ مكة نعرف عن أبي راشد نافع بن الأزرق البصري الحنفي رأس الأزارقة وإليه نسبتهم، الذي صحب عبد الله بن عباس وكان هو وأصحابه من أنصار الثورة على سيدنا عثمان وموالاة الإمام علي رضي عنهما إلى أن كانت ضية التحكيم بين علي ومعاوية، قتل على مقربة من الأهواز عام 65 في أعقاب مقاتلة المهلب ابن أبي صفرة له . . كما نعرف عن الحافظ حماد بن زيد الأزرق شيخ العراق في عصره الذي ولد وتوفي بالبصرة عام 179 وعن أبي بكر محمد بن محمد بن الأزرق الذي ورد من مصر على الأندلس وتوفى بقرطبة سنة 385، والمؤرخ عبد الله بن محمد ابن الأزرق المتوفى عام 590 . . هذا إلى الكاتب المعروف محمد بن هذيل الشهير بابن الأزرق الذي خاطب الملكة ضونيا Dona يخبرها بوصول السفراء المغاربة من حصن القلاعة أوائل ذي الحجة عام 647 وغير هؤلاء من الزرق الذين تناهت إلينا أخبارهم وفي صدرهم مترجمنا اليوم قاضي غرناطة ووزيرها وسفيرها أبو عبد الله ابن الأزرق . .
ويظهر أنه لا صلة بين أسرة الأزرق هذا وبين الأسر التي تحمل لقب الأزرق ببعض المدن المغربية، وبفاس على الخصوص، فإن هذه الأسر، أو بعضها على الأقل، وردت للمدينة من الجبال وقد كان جدي للأم السيد عبد الرحمن بن عبد السلام الأزرق يذكر أنهم من صنهاجة السراير بإقليم الحسيمة من بطن هناك يعرف ببني زرقت لقبوا بذلك لأن عيون أغلبيتهم زرقاء.
وكما أنه ليس ببعيد إطلاقا أن يكون أصل بعض أسر الأزرق منحدرا من الديار الأندلسية عبر الجبل فإن التلقيب بالألوان معروف بالمغرب كما بغيره من سائر الجهات كالأخضر والأحمر والأبيض والأشقر والأكحل فعلى نحو ما عهد من التلقيب بمختلف المهن والحروف كالقاضي والمفتي والفقيه والمؤذن والخطيب والإمام والنجار والحداد والصباغ والعطار.
ويعتبر القاضي ابن الأزر من عيون رجال الفقه والأدب والعلم الذين عرفهم القرن التاسع الهجري، وقد أفاد السخاوي أن ابن الأزرق كان من الملازمين للأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق
كما كان من الذين يحضرون مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي عمدة غرناطة في العلوم الفقهية، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، ومجالس قاضي الجماعة بها أبي العباس أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني . . كما أنه من أقرب الناس إلى بلاط بني نصر فهو لذلك من أقطاب السياسة على ذلك العهد، وإذا ما تتبعنا آثاره فقط رجل وظيف شرعي ولكنه رجل دولة وكاتب ملك، وإن سلطان بني نصر يؤثره بأسرار لا يبثها إلى قاضي الجماعة، الأمر الذي يدل عليه قوله يخاطب شيخه الحافظ القاضي أبا القاسم ابن سراج وقد طلب إليه هذا الأخير أن يجتمع به في ظروف اضطراب مؤملا أن يحصل منه على سر من أسرار السلطان .. لقد باعده الوزير ابن الأزرق معتذرا بهذه الأبيات البديعة الرائعة لفظا ومعنى :
فديتك لا تسأل عن السر كاتبا
فتلقاه في رحال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن
أمانته أو خائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب
وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل !
وقد كان من أبرز الذين سجلوا لهم مواقف حاسمة عندما اضطربت الأحوال في غرناطة واختلط الأمر على الناس فنكثوا بيعة السلطان أبي الحسن النصري وبايعوا عوضه ابنه محمدا، فقد كان من رأي القاضي ابن الأزرق والمفتي أبي عبد الله المواق وكذا سائر فقهاء غرناطة إن مثل هذه المبادرة في مثل تلك الظروف إنما تخدم مصلحة العدو ولا تنقذ الموقف في شيء، وإنها شبيهة بتبديل الفرس أثناء عبور النهر الهائج المائج . . وهكذا وقع فتوى شجب فيها فعل الناكثين أواسط شهر رمضان من عام 889 بالرغم من المخاطر التي كانت تحتف به وهو يقدم على هذا الموقف الجريء.
وقد اقتضت منه غيرته على تداعي الديار الأندلسية وتوالي انكسارها أن يفكر – أثر هذه الفتوى – في السفارة لدى ملوك المغرب والمشرق آملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترقبا في الحصول على نجدة من شأنها أن تردع لأعداء المتربصين وتبقى على الوجود الإسلامي ببعض تلك الديار.
ولما كانت ظروف المغرب الأقصى آنذاك قد بلغت من الاضطراب والقلق درجة لا تمكنه من الإلتفات لما يجري في العدوة الأخرى فقد قصد القاضي إلى تلمسان بعيد التسعين وثمانمائة وكان يحكمها آنذاك العاهل أبو ثابت الثالث، ولكن السفير ابن الأزرق، وقد شعر بانشغال الناس عنه بالتصدي للمناورات والمضايقات التي كانت تحاك ضد الجزائر من طرف الأجنبي، اتجه نحو مصر لدى الملك الأشرق قايتباي محمد بن علي . .
يوجد عدد كبير من رجالات العلم والحديث والفقه والتاريخ والأدب ممن يحملون اسم الأزرق أو ابن الأزرق أو الأزرقي في المشرق والمغرب . . والأزرق جد قديم من أجداد العرب في الجاهلية يتصل نسبه بالعمالقة وكانت منازل بيته بالحجاز . . وإليه ينسب في – بعض الروايات – المؤرخ اليماني محمد بن عبد الله ابن أحمد بن الأزرق من أهل مكة وصاحب كتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) والمتوفى سنة 250، وقبل مؤرخ مكة نعرف عن أبي راشد نافع بن الأزرق البصري الحنفي رأس الأزارقة وإليه نسبتهم، الذي صحب عبد الله بن عباس وكان هو وأصحابه من أنصار الثورة على سيدنا عثمان وموالاة الإمام علي رضي عنهما إلى أن كانت ضية التحكيم بين علي ومعاوية، قتل على مقربة من الأهواز عام 65 في أعقاب مقاتلة المهلب ابن أبي صفرة له . . كما نعرف عن الحافظ حماد بن زيد الأزرق شيخ العراق في عصره الذي ولد وتوفي بالبصرة عام 179 وعن أبي بكر محمد بن محمد بن الأزرق الذي ورد من مصر على الأندلس وتوفى بقرطبة سنة 385، والمؤرخ عبد الله بن محمد ابن الأزرق المتوفى عام 590 . . هذا إلى الكاتب المعروف محمد بن هذيل الشهير بابن الأزرق الذي خاطب الملكة ضونيا Dona يخبرها بوصول السفراء المغاربة من حصن القلاعة أوائل ذي الحجة عام 647 وغير هؤلاء من الزرق الذين تناهت إلينا أخبارهم وفي صدرهم مترجمنا اليوم قاضي غرناطة ووزيرها وسفيرها أبو عبد الله ابن الأزرق . .
ويظهر أنه لا صلة بين أسرة الأزرق هذا وبين الأسر التي تحمل لقب الأزرق ببعض المدن المغربية، وبفاس على الخصوص، فإن هذه الأسر، أو بعضها على الأقل، وردت للمدينة من الجبال وقد كان جدي للأم السيد عبد الرحمن بن عبد السلام الأزرق يذكر أنهم من صنهاجة السراير بإقليم الحسيمة من بطن هناك يعرف ببني زرقت لقبوا بذلك لأن عيون أغلبيتهم زرقاء.
وكما أنه ليس ببعيد إطلاقا أن يكون أصل بعض أسر الأزرق منحدرا من الديار الأندلسية عبر الجبل فإن التلقيب بالألوان معروف بالمغرب كما بغيره من سائر الجهات كالأخضر والأحمر والأبيض والأشقر والأكحل فعلى نحو ما عهد من التلقيب بمختلف المهن والحروف كالقاضي والمفتي والفقيه والمؤذن والخطيب والإمام والنجار والحداد والصباغ والعطار.
ويعتبر القاضي ابن الأزر من عيون رجال الفقه والأدب والعلم الذين عرفهم القرن التاسع الهجري، وقد أفاد السخاوي أن ابن الأزرق كان من الملازمين للأستاذ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق1
كما كان من الذين يحضرون مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي عمدة غرناطة في العلوم الفقهية، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، ومجالس قاضي الجماعة بها أبي العباس أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني . . كما أنه من أقرب الناس إلى بلاط بني نصر فهو لذلك من أقطاب السياسة على ذلك العهد، وإذا ما تتبعنا آثاره فقط رجل وظيف شرعي ولكنه رجل دولة وكاتب ملك، وإن سلطان بني نصر يؤثره بأسرار لا يبثها إلى قاضي الجماعة، الأمر الذي يدل عليه قوله يخاطب شيخه الحافظ القاضي أبا القاسم ابن سراج وقد طلب إليه هذا الأخير أن يجتمع به في ظروف اضطراب مؤملا أن يحصل منه على سر من أسرار السلطان . . لقد باعده الوزير ابن الأزرق معتذرا بهذه الأبيات البديعة الرائعة لفظا ومعنى :
فديتك لا تسأل عن السر كاتبا
فتلقاه في رحال من الرشد عاطل
وتضطره إما لحالة خائن
أمانته أو خائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتب
وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل !
وقد كان من أبرز الذين سجلوا لهم مواقف حاسمة عندما اضطربت الأحوال في غرناطة واختلط الأمر على الناس فنكثوا بيعة السلطان أبي الحسن النصري وبايعوا عوضه ابنه محمدا، فقد كان من رأي القاضي ابن الأزرق والمفتي أبي عبد الله المواق وكذا سائر فقهاء غرناطة إن مثل هذه المبادرة في مثل تلك الظروف إنما تخدم مصلحة العدو ولا تنقذ الموقف في شيء، وإنها شبيهة بتبديل الفرس أثناء عبور النهر الهائج المائج . . وهكذا وقع فتوى شجب فيها فعل الناكثين أواسط شهر رمضان من عام 889 بالرغم من المخاطر التي كانت تحتف به وهو يقدم على هذا الموقف الجريء.
وقد اقتضت منه غيرته على تداعي الديار الأندلسية وتوالي انكسارها أن يفكر – أثر هذه الفتوى – في السفارة لدى ملوك المغرب والمشرق آملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترقبا في الحصول على نجدة من شأنها أن تردع لأعداء المتربصين وتبقى على الوجود الإسلامي ببعض تلك الديار.
ولما كانت ظروف المغرب الأقصى آنذاك قد بلغت من الاضطراب والقلق درجة لا تمكنه من الإلتفات لما يجري في العدوة الأخرى فقد قصد القاضي إلى تلمسان بعيد التسعين وثمانمائة2 وكان يحكمها آنذاك العاهل أبو ثابت الثالث، ولكن السفير ابن الأزرق، وقد شعر بانشغال الناس عنه بالتصدي للمناورات والمضايقات التي كانت تحاك ضد الجزائر من طرف الأجنبي، اتجه نحو مصر لدى الملك الأشرق قايتباي محمد بن علي . .
وهناك لقي كل ترحيب وتكريم لكنه فهم من المسؤولين هناك أنهم يدركون أن أمر الأندلس قد انتهى وأنه لا فائدة ترجى من تدارك المحتضر الذي يسلم نفسه الأخير "فكان كمن يطلب الأنوق أو الأبيض العقوق"3 وهكذا فقد اقترحوا عليه أن يغدو أولا للقيام بمناسك الحج قبل أن يعطوه الجواب النهائي وكانوا في واقع الأمر يتوقعون وصول المزيد من الأخبار عن الأندلس، هذا أيضا إلى انشغال الملك بمنازلة السلطان العثماني بايزيد الثاني4 .
وقد قصد القاضي ابن الأزرق الحرمين الشريفين حيث قام بأدائه الفريضة وعاد أول سنة 896 القاهرة لمتابعة القيام بمساعيه التي من أجلها رحل ولكنه وجد أن الأخبار التي يتوفر عليها السلطان فإيتباي كانت تنذر بأن كل شيء بالديار الأندلسية في طريقه نحو النهاية.
لقد بلغت الأخبار الحزينة فعلا عن سقوط العاصمة غرناطة وأخذها من يد الأمير محمد بن أبي الحسن منذ ربيع الأول من عام 895.
وكانت للسلطان مع السفير جلسات مهمة أفهمه السلطان فيها أن قضاء الله قد نفذ، وعرض عليه بهذه المناسبة خطة قضاء في بيت المقدس تسلية له وتلهية، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد بن مازن الغزى. ووصل الإمام ابن الأزرق إلى القدس يوم الاثنين 16 شوال 896 حيث قضى هناك ردحا من الزمن محاطا برعاية تلاميذه من مريدي الفقه المالكي واحترام معارفه ممن كان (حي المغاربة) بالقدس5 يزخر بهم سيما وقد كان يضيف إلى علمه جمال الشكل وإنارة الشيبة وسيمة الأبهة والوقار والنزاهة والصيانة والطهارة.
لكنه كان يغص من هول الأنباء المتلاحقة من الأندلس . . قتناوشته الهموم ولم يقو على تحمل الصدمة والغربة في آن واحد، لم يبق عنده بستان ولا مركب ولا مسكن على ما يقوم في نونيته المعروفة، وهكذا توعك ولم تلبث أنفاسه أن فاضت بعد نحو من شهرين من توليه القضاء حيث توفى يوم الجمعة 17 من ذي الحجة الحرام 896 بعد الفراغ من الصلاة، وصلى عليه في يومه بعد صلاة العصر بالمسجد الأقصى وحشر إلى جانب حوش البسطافي من جهة الغرب.
ولقد خلف القاضي ابن الأزرق تراثا أدبيا فاخرا تجلى في هذه المقطعات الشعرية الجيدة التي نقلتها عنه الموسوعات الأندلسية الأدبية، فمن تلك القطع هذه الأبيات التي نظمها عند نزول طاغية النصارى بمروج غرناطة والتي تعبر عما كان يحس من آلام وهو يعيش الأيام الأخيرة بالأندلس6 .
مشوق بخيمات الأحبة مولع
تذكره نجد وثغرية لعلع
مواضعكم يا لائمين على الهوى
فلم يبق للسلوان في القلب موضع
ومن لي بقلب تلنظي فيه زفرة
ومن لي بجفن تنهمي فيه أدمع
رويدك فارقب للطائف موضعا
وخل الذي من شره يتوقع
وصبرا فإن الصبر خير غنيمة
ويا فوز من قد كان للصبر يرجع
وبث واثقا باللطف من خير راحم
فألطافه من لمحة العين أسرع
وإن جاء خطب فانتظر فرجا له
فسوف تراه في غد عنك يرفع
وكن راجعا لله في كل حالة
فليس لنا إلا إلى الله مرجع
ومن نونية خفيفة تنسب إليه بلغت زهاء المائة ببت، هذه الأبيات التي تعكس مشاعره وروحه المرحة وهي على ما يظهر من نظمه في المهجر :
لا أم لي لا أم لي
إن لم أبرد شجني !
واخلعن في المجو
ن، والتصابي رسني
يا عاذلي في مذهبي
أرداك شرب اللبن !
أعطيت في البطن سنا
نا أن تخالف سنني
وإن تسقه نظري
ومذهبي وتنهني،
فالصفع تستوجبه
نعم، ونتف الذقن
والنفي تستوجبه
لواسط أو عدن !
- * -
أفدي صديقا كان لي
بنفسه يعدني
فتارة أنصحه
وتارة ينصحني
وتارة ألعنه
وتارة يلعنني
وربما أصفعه
وربما يصفعني
- * -
دهر تولى وانقضى
عني كطيف الوسن
يا ليتني لم أره
وليته لم يرني
دنست فيه جانبي
ومليسي بالدرن
وبعت فيه عيشتي
لكن ببخس الثمن !
كأنني ولست أدري
الآن ما كأنني !!
- * -
لو انصف الدهر لما
أخرجني من وطني !
وليس لي من جنة
وليس لي من مسكن
اسرح الطرف وما
لي دمنة في الدمن
وليس لي من فرس
وليس لي من سكن !
يا ليت شعري وعسى
يا ليت أن تنفعني
- * -
هل للثريد عودة
إلي ؟ قد شوقني
ولي إلى الإسفنج شوق
دائم يطربني
وللأرز الفضل إذ
تطبخه باللبن
وهات ذكر الكسكسو
فهو شريف وسني
لاسيما إن كان مصنوعا
بفتل حسن
ارفع منه كوارا
يهن تدوي أذني
وإن ذكرت غير ذا
أطعمة في الوطن
فابدا من المثومات
بالجبن الممكن
من فوقها الفروج قد
أنهى في التسمن
وثن بالعصيدة التي
بها تطربني
والزبزبن في الصحاف
حسب أهل البطن7
ومن شعره في مدينة بسطة :
في بسطة حيث الأباطح مشرقه
أضحت جفوني بالمحاسن مغلقة
وله أيضا فيها :
قل لمن رام النوى عن وطن
قولة ليس بها من حرج
فرج الهم بسكنى بسطة
إن في بسطة باب الفرج8
ومن نظمه سينية بديعة من نحو أربعين بيتا في مدح شيخه العلامة أبي يحيى ابن عاصم هذا مطلعها :
خضعت لمعطفه الغصون الميس
ورنا فهام بمقلتيه النرجس
بك مجلس الأنس اطمأن وبابن عا
صم اطمأن من الرياسة مجلس
بدر بأنوار الهدى متطلع
غيث بأشتات الندى متبجس9
ومن نظمه قوله في المجبنات :
ورب محبوبة تبدت
كأنها الشمس في حلاها
فأعجب لحال الأنام من قد
أحبها منهم قلاها !
ومن شعره في جمال الربيع قوله :
تأملت من حسن الربيع نضارة
ودغردت فوق الغصون البلابل
حكت في غصون الدوح قسا قصاحة
لتعلم أن النبت في الروض بأقل
ومن شعره في الرثاء وله في والدته :
تقول لي ودموع العين واكفة
ما أفظع البين والترحال يا ولدي
فقلت أين السرى ؟ قالت : لحمة من
قد عز في الملك لو يولد ولم يلد
غير أن ما تركه الإمام ابن الأزرق من مؤلفات قيمة طغى على سائر مناحي نشاطه الفكري، فقد تجلى فيما دبجته براعته في مختلف العلوم والفنون ما جعله مثار إعجاب الذين كتبوا عنه أو قرأوا أو سمعوا . . وقد كان فيها كتاب (الإبريز المسبوك في آداب الملوك) و (روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام) وشفاء الغليل في شرح مختصر خليل)10 هذا إلى ما أثر عنه من فتاوي نقلها عنه صاحب المعيار في جامعه11 وقد رأيت أن أقدم بين يدي الباحثين اليوم عرضا عن مخطوطته الفريدة "بدائع السلك في طبائع الملك" التي لخص فيها كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخية وكلام غيره ولكن مع زوائد كثيرة12 . .
وبخاصة أريد سوق كلامه عن (الرسالة والوفود) وما أثار انتباهه مما قيل عن الموضوعين في المؤلفات التي سبقته، وذلك تنويها بالكتاب وإشادة، وتدليلا عليه تكميلا للفائدة التي قدمها إلينا، لحد الآن، سائر الذين عنوا بابن الأزرق.
1 اشتهر الشيخ ابن فتوح هذا بسلوك منهاج تربوي خاص مع طلبته حيث يفسح لهم المجال كاملا للبحث والنقعيب والتعليق بل أنه لا يرضى منهم بالتسليم المطلق والمتابعة العمياء . . ويأتي هذا المنهج وسطا بين مذهب العبدوسي (ت 847) ومذهب المشدالي (ت 864) المقري : الرياض تحقيقا السقار، الأبياري، شلبي، طبع المعهد الخليفي تطوان 1939 – 3ر304 – 317 – نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، طبع دار صادر، بيروت 1968 – 2ر700 – التازي : جامع الرويين فاس، طبعة دار الكتاب اللبناني بيروت 2ر428.
2 أزهار الرياض 3ر318.
3 نفح الطيب 2ر702.
4 السلطان بايزيد الثاني من أعظم سلاطين آل عثمان عددا من القلاع والحصون وبني طائفة من المدارس والجوامع والمستشفيات وما يزال حي بكامله يحمل باسطامبول اليوم اسم بايزيد، كان يحاول احتلال بعض الجهات التابعة لقايتباي، فكان هذا منصرفا بكليته لصد الهجوم وقد أنفق أموالا طائلة في هذا القتال الذي حال دون تلبية عدد من نداءات ملك غرناطة، ولكنه مع ذلك كان يحاول بالطرق الدبلوماسية أن يبلغ قلقه للإسبان وربما تهديداته كذلك بواسطة القسيس والرهبان المتواجدين في الدس الشريف.
فجر الدين الحنبلي : الأنس الجليل بتاريخ الدس والخليل، الطبعة الوهبية مصر 1283م 2ر591 الزركلي : الإعلام، مادة قايتباي.
5 عبد الهادي التازي : (حي المغاربة بالقدس) نشر في مجموعة موسوعة العنبات المقدسة للأستاذ جعفر الخليلي دار التعاون بغداد، المجلد الأول 95 – كما نشر بمجلة مركز الدراسات الفلسطينية المجلد الأول، العدد الثالث، غشت 1972 / 7 وبملحق العلم الأسبوعي الثقافي 1 يناير 1972.
6 النفح 2ر704.
7 النفح 3ر298
8 النفح 6ر447.
9 أزهار الرياض 3ر322، وقد تشكك في النفح في نسبة هذه السينية لابن الأزرق، هذا كما نسب الأبيات الثلاثة الماضية (فديتك لا تسأل عن السر) لابن عاصم النفح 6ر152.
10 وقف الإمام المقري على جملة من هذا الشرح بتلمسان تتألف من ثلاث مجلدات ويقدر صاحب النفح أن يصل الكتاب إلى عشرين مجلدا حيث أن المجلد الأول لم يكمل مسائل الصلاة قال المقريء : "لم أر في شروح خليل – مع كثرتها – مثله".
11 كان منها فتواه باستنكار نكثت بيعة أبي أبي الحسن النصري.
12 وقفت في المكتبة العامة بالرباط على أربع نسخ من المخطوط المتحدث عنه : علاوة على ما يوجد منه في خزانة جامعة القرويين والخزانة الملكية الأولى رقم ج / 64 كمل نسخها في أوائل صفر عام 998، عدد صفحاتها 529 تحتوي الورقة على واحد وعشرين سطرا من قياس 50،25 س على 50،18- بينما النسخة الثانية رقم ج / 93 عدد صفحاتها 397 تحتوي الصفحة على خمسة وعشرين سطرا قياس 22،50 / 17،50 والثالثة رقم د 582 عدد صفحاتها 512 قياس الصفحة 30 / 21،50 وقد نسخت في جمادى الأولى عام 1263 – أما النسخة الرابعة فتحمل رقم د / 1340 عدد صفحاتها 648 تحتوي كل صفحة على واحد وعشرين سطرا قياس الصفحة 50، 22 / 17،50.
ويبتدئ الكتاب هكذا : "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال الشيخ الفقيه الخطيب البليغ البارع العالم المتفنن المتبحر الصدر الإمام الأوحد فخر علماء الأندلس في عصره في العلوم وسيد وقته في العلوم قاضي الجماعة السيد أبو عبد الله محمد بن علي ابن الأزرق الأصبحي وصل الله عزته وحفظ في الإعلام رتبته : الحمد لله مالك الملك إيجادا وتدبيرا ومبدعه من فيض جوده عليما بأسرار وجوده خبيرا . .
وينتهي بالصلاة على النبي الكريم وعلى آله الأبرار والصحابة الناصحين في الإعلان والأسرار ما تعاقب الزمان يوما وغدا، وراح إليه مشتاق الوصول غدا . .
* دعوة الحق ع/159