نقوس المهدي
كاتب
يقف وراء الميتاسرد الروائي قصدية المبدع التخييلية التي تكبر في بؤرة وعيه؛ لتتشظى في عالم لا وعي المتلقي من خلال توظيف بعض الأدوات السردية التي تكشف خدع النص الكامنة بين بنياته الدقيقة، وذلك يكون بالحديث عن الكتابة وهمومها وتحدياتها داخل فضاء الرواية، ويمتاز النص الميتاسردي بمعجمه الذي يشير دائماً لوجود الأقلام، والأوراق، ومسودات لبعض العبارات والنصوص، إضافة لشخصيات بعض الأعمال الأدبية، وغيرها فيما يخص الهم الإبداعي.
والميتاسرد تقنية ما بعد حداثية جاءت لكسر تقليدية الكتابة الإبداعية ونسقيتها الشائعة، وإن الخطاب الميتاسردي (كتابة نرجسية كما يطلق عليها أحياناً، قائمة على المركزية الذاتية وسبر أغوارها، حيث نلحظ فيها أن الكاتب يعمد لفضح لعبته السردية من خلال التعليق عليها واللعب بأحداثها وتحريك شخوصها)، إضافة إلى أن تقنية الميتاسرد أكثر مصداقية؛ فمن خلالها يُبرم عقد الثقة بين المؤلف والقارئ علماً أن كلاهما على يقين بأن هذا النص ما هو إلا مجرد لعبة يبتكرها المؤلف في حيز لا وعي القارئ؛ لتمرير رؤيته الخاصة لنفسه وللعالم أيضاً. ذلك ما فعله يحيى القيسي في روايته الأخيرة (الفردوس المحرّم) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2016م، (يا يحيى خذ الكتاب بقوة!) (الرواية:191).
وأول من استخدم مصطلح الميتاسرد هو الناقد وليام جاس(William Gass) سنة 1970م، عندما تحدث عن الرواية ذات النزعة الانعكاسية الذاتية، وتُرجم المصطلح فيما بعد للعربية بــ(ما وراء القص) أي تلك الكتابة السردية ذاتية الانعكاس، حين يعلّق النص على نفسه وطريقة سرده وهويته، كأن النص يمتلك وعياً ذاتياً بماهيته وكينونته. وهنالك اجماع نقدي على أن الناقدة ليندا هتشيون (Linda Hutcheon) أول من قدّم نظرية متكاملة للقص الماورائي في كتابها (السرد النرجسي: مفارقة ما وراء القص)(Narcissistic Narrative: The Metafictional Paradox) ، الصادر في عام 1980م، بعد ذلك توالت الدراسات والأبحاث في هذا الحقل غربياً وعربياً.
والمتتبع للكتابة الإبداعية الأردنية يلحظ أنها ليست بمعزل عن التطور العربي والعالمي في استخدام التقنيات السردية الحديثة؛ بل إنها تسعى دائماً لتجاوز الرواية التقليدية والواقعية نحو التجريب والحداثة وما بعد الحداثة، ورواية (الفردوس المحرم) إحدى النماذج التي يمكن الاشادة بها؛ ليس لتوظيفها هذه التقنية المابعد حداثية وحسب؛ بل لأن الرواية بأكملها بُنيت عليها، وهنالك نماذج أخرى من الرواية الأردنية وظفت هذه التقنية مثل رواية (بيروت حب وحرب) لأكرم خلف عراق، ورواية (نارة) لسميحة خريس، ورواية (أفاعي النار) لجلال برجس، وغيرها.
أول مظاهر الميتاسرد برزت في الصفحة الثانية عشرة حين قال الراوي/ الكاتب: (أحوالي لم تنقلب إلا في السنة العاشرة بعد الألفية الثالثة من هذا العصر المحيّر، حين كتبت رواية أسميتها –أبناء السماء…) وقوله في موضع آخر: (يا للورطة التي أوقعت نفسي فيها بكتابة تلك الرواية التي أصبحت تطاردني ليلاً ونهاراً..) (الرواية:18)، فيحيى القيسي لم يكن مجرد مؤلفاً لنصه؛ بل شخصية مشاركة في الحدث السردي والبناء المعماري للفضاء الروائي ككل، (فالبناء الميتاسردي يخرق الميثاق السردي للرواية ليوهم بمبدأ التطابق بين المؤلف والشخصيات الروائية)، وذلك ما يطلق عليه تقنية ميتاسرد الشخصيات، فالراوي الميتاسردي يأخذ دائماً زمام العملية السردية؛ لأنه يرى العالم الحقيقي وهو يتداعى أمامه كاشفاً همه الإبداعي ووعي سردي خاص به، واهتمامه بتقديم رؤيته الذاتية (الهم السردي)، وكل ذلك يعد خروجاً عن الكتابة التقليدية لذلك نجد من أطلق عليها مصطلح الميتارواية أو (الرواية المضادة).
ولتحقيق تراتبية الزمن لجأ الروائي إلى تقسيم رواياته لتكون قائمة على مبدأ تعاقبي، ضمن خطة سردية مقنعة للمتلقي، فلاحقته روايته (أبناء السماء) الصادرة في عام 2010م، حين انصدم بخروج شخصياتها منها إلى حياته اليومية، وانتشار الشائعات حوله (قيل إني مشعوذ، استقيت كتابتي في صغري من ساحر جوّال كان يزور قريتنا…) (الرواية:13)، لتكون إفرازات تلك الأحداث رواية جديدة قدّمت للمتلقي عام 2016م، وهي رواية (الفردوس المحرم).
في الرواية يمكن لمس البعد الأوتوبيوغرافي – السيري الذاتي- حين سرد الراوي سيرته الكتابية وبدأت شخصيات روايته (أبناء السماء) بالخروج من سلطته ككاتب حين وصلته رسالة على بريده الإلكتروني من (أحمد الحسيني) بطل الرواية السابقة مخاطباً له بوصفه يحيى المبدع قائلاً: (سأتركك الآن ولكن أودّ منك أن تتأكد من شيء، وهو أن كل ما قلته لقرائك في روايتك… قد يكون حقائق صافية لا تشوبها شائبة وليس مجرد أحداث وشخصيات من نسج خيالك…) (الرواية: ص20-21) وكذلك خروج فواز بيك، والشيخ نور الدين الحلبي، والشيخ المحب، ويوسف المجذوب، والأب حنا، أبطال رواية (أبناء السماء)، كل ذلك كان عبر تقنية التضمين الميتاسردي التي (تصور صراع الشخصية السردية مع الشخصية الميتاسردية التي تتعالق في متن النص السردي للمؤلف السارد تعاليا وسيطرة، فتفرض وجودها الميتاورائي على مخيال الكاتب الضمني)، فقال الراوي: (عجبت كيف أن شخصيات روايتي قد تحولت إلى لحم ودم، وأصبحت تطاردني من مكان إلى آخر، والأعجب من هذا أن الكلّ يدعي وصلاً بها، وأنا آخر من يعلم) (الرواية: 56)، ومن ثم، انتقل بنا إلى الميتاسردية اللفظية بقوله: (كتابي يعتمد على الخيال… ولا أساس له من الصحة!) (الرواية:15) ليقدم بذلك هوامش وتصويبات وحفريات لغوية وتاريخية ضمن خطة حجاجية حاول من خلالها أن يبرأ نفسه من كل الأقاويل التي تحاك حوله (عبثاً حاولت أكثر من مرة أن أتنصل مما كتبت من قبل في روايتي، وأنه محض خيال) (الرواية:181).
ويحيى (الميتاسردي) قد غيّر العلاقة بين الواقعي والمتخيل، وأدخل المتلقي في حالة جدل، ليثير شكوكاً في طبيعة تصورنا للحقيقة التي تحوّلت إلى مفهوم مشبوه ليثّبت فيما بعد أنه ليس هناك حقائق خالصة أو معاني ثابتة ، لكنه لم ينجح بذلك ووصل لنتيجة مفادها أن: (كل ما كتبته في –أبناء السماء- يبدو قد تحول إلى الواقع، وحرت في أمري، هل إنّي كتبت تلك الرواية من خيالي المحلق فحسب… أم أن كل ما جرى توهمات ولم تحصل قط…!) (الرواية: 185)، ليترك المجال خصباً في لا وعي المتلقي، وفضاء تأويلاته يبقى مفتوحاً لا يمكن حدّه أو حصره بمدى محدد، ليصول ويجول عبر أحداث تبدو واقعية سحرية بحياكتها وعوالمها.
وإن الهدف من اللعبة الميتاسردية الحديث عن المسكوت عنه المتعلق بالمقدس الديني وبعض الأعراف الاجتماعية غالباً، وعند تتبع مقصدية (الفردوس المحرم) يمكن أن تكون قد كُتبت بهدف الثورة على جميع السموم التي انتشرت داخل المجتمع نتيجة جهله، وبغية مراجعة بعض المعتقدات الدينية تحديداً تلك المدسوسة من قبل بعض المتنفعين بتحريفها لمصالحهم الشخصية (كنت أسمع وأضحك، وأكاد أحياناً أبكي على ما وصل إليه الناس من الهوان، والحيرة، والبحث عن المعجزات) (الرواية: 12)، فشخصية (يحيى) أرادت أن تضحك ضحكة مفارقة، تُبكي قارئها لحال الأمة هذه الأيام.
* منقول عن موقع ثقافات
والميتاسرد تقنية ما بعد حداثية جاءت لكسر تقليدية الكتابة الإبداعية ونسقيتها الشائعة، وإن الخطاب الميتاسردي (كتابة نرجسية كما يطلق عليها أحياناً، قائمة على المركزية الذاتية وسبر أغوارها، حيث نلحظ فيها أن الكاتب يعمد لفضح لعبته السردية من خلال التعليق عليها واللعب بأحداثها وتحريك شخوصها)، إضافة إلى أن تقنية الميتاسرد أكثر مصداقية؛ فمن خلالها يُبرم عقد الثقة بين المؤلف والقارئ علماً أن كلاهما على يقين بأن هذا النص ما هو إلا مجرد لعبة يبتكرها المؤلف في حيز لا وعي القارئ؛ لتمرير رؤيته الخاصة لنفسه وللعالم أيضاً. ذلك ما فعله يحيى القيسي في روايته الأخيرة (الفردوس المحرّم) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2016م، (يا يحيى خذ الكتاب بقوة!) (الرواية:191).
وأول من استخدم مصطلح الميتاسرد هو الناقد وليام جاس(William Gass) سنة 1970م، عندما تحدث عن الرواية ذات النزعة الانعكاسية الذاتية، وتُرجم المصطلح فيما بعد للعربية بــ(ما وراء القص) أي تلك الكتابة السردية ذاتية الانعكاس، حين يعلّق النص على نفسه وطريقة سرده وهويته، كأن النص يمتلك وعياً ذاتياً بماهيته وكينونته. وهنالك اجماع نقدي على أن الناقدة ليندا هتشيون (Linda Hutcheon) أول من قدّم نظرية متكاملة للقص الماورائي في كتابها (السرد النرجسي: مفارقة ما وراء القص)(Narcissistic Narrative: The Metafictional Paradox) ، الصادر في عام 1980م، بعد ذلك توالت الدراسات والأبحاث في هذا الحقل غربياً وعربياً.
والمتتبع للكتابة الإبداعية الأردنية يلحظ أنها ليست بمعزل عن التطور العربي والعالمي في استخدام التقنيات السردية الحديثة؛ بل إنها تسعى دائماً لتجاوز الرواية التقليدية والواقعية نحو التجريب والحداثة وما بعد الحداثة، ورواية (الفردوس المحرم) إحدى النماذج التي يمكن الاشادة بها؛ ليس لتوظيفها هذه التقنية المابعد حداثية وحسب؛ بل لأن الرواية بأكملها بُنيت عليها، وهنالك نماذج أخرى من الرواية الأردنية وظفت هذه التقنية مثل رواية (بيروت حب وحرب) لأكرم خلف عراق، ورواية (نارة) لسميحة خريس، ورواية (أفاعي النار) لجلال برجس، وغيرها.
أول مظاهر الميتاسرد برزت في الصفحة الثانية عشرة حين قال الراوي/ الكاتب: (أحوالي لم تنقلب إلا في السنة العاشرة بعد الألفية الثالثة من هذا العصر المحيّر، حين كتبت رواية أسميتها –أبناء السماء…) وقوله في موضع آخر: (يا للورطة التي أوقعت نفسي فيها بكتابة تلك الرواية التي أصبحت تطاردني ليلاً ونهاراً..) (الرواية:18)، فيحيى القيسي لم يكن مجرد مؤلفاً لنصه؛ بل شخصية مشاركة في الحدث السردي والبناء المعماري للفضاء الروائي ككل، (فالبناء الميتاسردي يخرق الميثاق السردي للرواية ليوهم بمبدأ التطابق بين المؤلف والشخصيات الروائية)، وذلك ما يطلق عليه تقنية ميتاسرد الشخصيات، فالراوي الميتاسردي يأخذ دائماً زمام العملية السردية؛ لأنه يرى العالم الحقيقي وهو يتداعى أمامه كاشفاً همه الإبداعي ووعي سردي خاص به، واهتمامه بتقديم رؤيته الذاتية (الهم السردي)، وكل ذلك يعد خروجاً عن الكتابة التقليدية لذلك نجد من أطلق عليها مصطلح الميتارواية أو (الرواية المضادة).
ولتحقيق تراتبية الزمن لجأ الروائي إلى تقسيم رواياته لتكون قائمة على مبدأ تعاقبي، ضمن خطة سردية مقنعة للمتلقي، فلاحقته روايته (أبناء السماء) الصادرة في عام 2010م، حين انصدم بخروج شخصياتها منها إلى حياته اليومية، وانتشار الشائعات حوله (قيل إني مشعوذ، استقيت كتابتي في صغري من ساحر جوّال كان يزور قريتنا…) (الرواية:13)، لتكون إفرازات تلك الأحداث رواية جديدة قدّمت للمتلقي عام 2016م، وهي رواية (الفردوس المحرم).
في الرواية يمكن لمس البعد الأوتوبيوغرافي – السيري الذاتي- حين سرد الراوي سيرته الكتابية وبدأت شخصيات روايته (أبناء السماء) بالخروج من سلطته ككاتب حين وصلته رسالة على بريده الإلكتروني من (أحمد الحسيني) بطل الرواية السابقة مخاطباً له بوصفه يحيى المبدع قائلاً: (سأتركك الآن ولكن أودّ منك أن تتأكد من شيء، وهو أن كل ما قلته لقرائك في روايتك… قد يكون حقائق صافية لا تشوبها شائبة وليس مجرد أحداث وشخصيات من نسج خيالك…) (الرواية: ص20-21) وكذلك خروج فواز بيك، والشيخ نور الدين الحلبي، والشيخ المحب، ويوسف المجذوب، والأب حنا، أبطال رواية (أبناء السماء)، كل ذلك كان عبر تقنية التضمين الميتاسردي التي (تصور صراع الشخصية السردية مع الشخصية الميتاسردية التي تتعالق في متن النص السردي للمؤلف السارد تعاليا وسيطرة، فتفرض وجودها الميتاورائي على مخيال الكاتب الضمني)، فقال الراوي: (عجبت كيف أن شخصيات روايتي قد تحولت إلى لحم ودم، وأصبحت تطاردني من مكان إلى آخر، والأعجب من هذا أن الكلّ يدعي وصلاً بها، وأنا آخر من يعلم) (الرواية: 56)، ومن ثم، انتقل بنا إلى الميتاسردية اللفظية بقوله: (كتابي يعتمد على الخيال… ولا أساس له من الصحة!) (الرواية:15) ليقدم بذلك هوامش وتصويبات وحفريات لغوية وتاريخية ضمن خطة حجاجية حاول من خلالها أن يبرأ نفسه من كل الأقاويل التي تحاك حوله (عبثاً حاولت أكثر من مرة أن أتنصل مما كتبت من قبل في روايتي، وأنه محض خيال) (الرواية:181).
ويحيى (الميتاسردي) قد غيّر العلاقة بين الواقعي والمتخيل، وأدخل المتلقي في حالة جدل، ليثير شكوكاً في طبيعة تصورنا للحقيقة التي تحوّلت إلى مفهوم مشبوه ليثّبت فيما بعد أنه ليس هناك حقائق خالصة أو معاني ثابتة ، لكنه لم ينجح بذلك ووصل لنتيجة مفادها أن: (كل ما كتبته في –أبناء السماء- يبدو قد تحول إلى الواقع، وحرت في أمري، هل إنّي كتبت تلك الرواية من خيالي المحلق فحسب… أم أن كل ما جرى توهمات ولم تحصل قط…!) (الرواية: 185)، ليترك المجال خصباً في لا وعي المتلقي، وفضاء تأويلاته يبقى مفتوحاً لا يمكن حدّه أو حصره بمدى محدد، ليصول ويجول عبر أحداث تبدو واقعية سحرية بحياكتها وعوالمها.
وإن الهدف من اللعبة الميتاسردية الحديث عن المسكوت عنه المتعلق بالمقدس الديني وبعض الأعراف الاجتماعية غالباً، وعند تتبع مقصدية (الفردوس المحرم) يمكن أن تكون قد كُتبت بهدف الثورة على جميع السموم التي انتشرت داخل المجتمع نتيجة جهله، وبغية مراجعة بعض المعتقدات الدينية تحديداً تلك المدسوسة من قبل بعض المتنفعين بتحريفها لمصالحهم الشخصية (كنت أسمع وأضحك، وأكاد أحياناً أبكي على ما وصل إليه الناس من الهوان، والحيرة، والبحث عن المعجزات) (الرواية: 12)، فشخصية (يحيى) أرادت أن تضحك ضحكة مفارقة، تُبكي قارئها لحال الأمة هذه الأيام.
* منقول عن موقع ثقافات