نقوس المهدي
كاتب
(1)
ظهرت المقامة على يد بديع الزمان الهمذاني، الذي توفَّرت له موهبةٌ فذَّةٌ وإحاطةٌ بالتراث العربي؛ شعره ونثره، قصصه ونوادره، جدّه وهزله، فجاءت المقامة شكلاً- أو جنسًا أدبيًّا- عربيًّا خالصًا، استطاع أن يستوعب ما يمكن أن نطلق عليه (القصّ العربي).
وقد تعدَّدت الدراسات حول المقامات، والقضايا والموضوعات التي أثارتها تشير إلى اختلاف المقامة اختلافًا كبيرًا عن كلٍّ من "المُلَح والنوادر" و"الرسائل الفكاهية"؛ فإنها قد تجاوزت الحدث المفرد إلى البناء المحكم المترابط، والفكاهة المبنيَّة على الأحداث والأفعال والحوار بين الشخصيات، ورصد المجتمع بعينٍ ساخرة فكِهة.
إن مقامات "الهمذاني" تتَّسم كلها بروح الفكاهة، وقد ذاعت شهرة بعض المقامات خاصةً المقامة "البغدادية" والمقامة "المضيرية"، واللتان يقول عنهما الدكتور زكي مبارك: "هاتان المقامتان هما أبرع ما قصَّ بديع الزمان"(1).
هذه الشهرة الواسعة لبعض المقامات كانت سببًا في بعض الغبْن الذي أصاب المقامات كعملٍ أدبي له مقوِّمات تنحو منحى الوحدة والتكامل؛ على سبيل المثال يرى الدكتور زكي مبارك أن من مظاهر الضعف عند بديع الزمان ومن حاكاه وقوفه عند شخصية واحدة، ولا يجد مسوِّغًا لحديث عيسى بن هشام في كل مرة عن دهشته من كشف هذه الشخصية، مع أنه كان يكفي أن يشتبه عليه أمره مرةً أو مرتين فقط !!(2).
يبْدُو ظاهر هذا النقد كأنه يبحث عن وحدة المقامات كعمل يكمِّل بعضه بعضًا، غير أن باطنه- في اعتقادنا- لم يستوعب غاية الهمذاني، ولم يقف على قصده؛ إذْ كان مهتمًّا طوال عمله بالحفاظ على "المفاجأة"، واستخْدَم في ذلك طرقًا عديدة، كما ينبغي أنْ نتذكَّر أنَّ وحدة المقامات تأتي في سياق تفرُّد كلٍّ منها، وطواعيتها للشكل الذي اصْطُلِحَ عليه سمْتًا وشارةً لها.
يكشف الهمذاني عن غايته بوضوح وجلاء في شطر بيت أنطق به الإسكندري حين طلبوا منه أنْ يفسِّر أمرَهُ، ويكشف سرَّه، فقال: أنا ينبوعُ العجائب(3).
إننا لا نجد أنسب من هذا التعبير إحاطةً بالمقامة وما يمكن أن تسْفِرَ عنه قراءتها، وهو أشمل من قول الدكتور عبد الفتاح كيليطو: "فالمقامة هي الإطار الذي يستوعب أنواعًا عديدة، لا الأغراض الشعرية التقليدية فحسب، بل أيضًا اللغز والمأدبة، والمناظرة والموازنة.. إلخ، المقامة إطار للشعر وللنثر في الآن ذاته؛ قبل القرن الرابع كان الشعر والنثر منفصلَين تمامًا، كان الكتَّاب ينظِّمون أبياتًا على سبيل المصادفة، لكنَّ الشعراء يظلون عمومًا بمعزل عن النثر، والهمذاني- الذي خلَّف ديوان شعر وديوان رسائل- كان ابن عصره بامتياز؛ إن مقاماته تشكِّل مجموعًا هجينًا؛ تتعاقب فيه الأبياتُ وفِقَرُ النثر"(4).
إننا إذا نظرنا في كل مقامة نجد بها "أعجوبة" من هذه العجائب- التي كان الهمذاني يقصد إليها قصدًا تكمن في موضوع طريف أو حيلة لم يُلْتفت إليها من قبل، أو تصوير دقيق، أو تقنية عالية:
فهناك الألغاز الأدبية، وقضايا النقد المتصل بالشعر أو النثر في المقامات "القريضية"، و"الغيلانية"، و"الجاحظية"، و"العراقية" و"الشعرية"، مع اختلاف المشاهد في كل منها وتفردها؛ فنجد النائم الذي يعرض عمَّن يهجوه، ويواصل النوم احتقارًا له في المقامة "الغيلانية"، ونجد تصويرًا طريفًا ينطق بالحياة للنهم الشره في المقامة "الجاحظية".. إلخ.
* وجاءت الكُدية والاستجداء في شتَّى الصور والأساليب، حتى ما يبدو منها متشابهًا نجده يتميَّز عن غيره في أمرٍ ما؛ فالشحَّاذ يحمل أطفاله معه ليشحذ بهم في المقامة "الأزاذية"، ويستعطف الناس بحالهم وإن لم يحملهم معه في المقامة "البصرية"، ويصحب طفلاً في المقامة "البخارية" يأمره أن يتحدَّث عن نفسه، ويعرض أمره على الناس!!، ونجد من يطرق الأبواب ليلاً في "الكوفية"، وهناك من يستجدي بالدعاء للمسافر؛ مستغلاًّ حالته النفسية التي ترنو إلى التشبُّث بكل ما يدعو إلى التفاؤل كما في المقامة "البلخية"، ومن يدَّعي أنه عزيز قوم قد ذلَّ كما في "الجرجانية" أو يدَّعي العمى، بالإضافة إلى استخدام اللحن والإيقاع في المقامة "المكفوفية"، ويطالعنا صاحب القرد الذي يستجدي به في المقامة "القردية"، ونجد من يتبارزون في السّباب والتشاتم للحصول على درهم أو دينار كما في "الدينارية" أو من يسأل الناس بالألغاز كما في "الصُّفرية"، وتبلغ المفارقة أقصاها حين يستجدي من إبليس في "الإبليسية".
* ولم يكتفِ الهمذاني بما عدَّده وأحصاه من أساليب الاحتيال في المقامة "الرصافية"، بل عرض لأمثلةٍ كاملةٍ لما يمكن أن نطلق عليه عمليات النصب والتحايل؛ ففي المقامة "السجستانية" هناك من يحتال بدواء يدَّعي شفاءه الناجع، ويطالعنا المحتال الذي يصطاد سواديًّا ساذجًا في السوق ويوقع به في المقامة "البغدادية"، ومن يحتال بادِّعائه الإسلام بعد الكفر وهروبه من بلاد العدو الكافر ورغبته في التجهيز لغزوه ومحاربته لسابق معرفته به في المقامة "القزوينية"، وفي المقامة "الساسانية" يخرج المكدّون في كتيبة يردِّدون الشعر الطريف خلف قائدهم، وفي "الموصلية" يدَّعي المحتال قدرته على نشر الموتى وصدِّ السيل، ويستغل الكارثة في المقامة "الحرزية" ويؤذي الخباز وبائع اللبن ليحصل على الطعام في "الأرمينية"، ويدَّعي معرفته بأماكن الكنوز المطمورة في "المطلبية"، ويصحب زوجته ويحتالان على القاضي في المقامة "الشامية"، مستخدمًا الفحش والبذاءة.
* وتتطرَّق المقامات إلى المدح بطرق متعددة كما في المقامة "الناجمية" و"الملوكية".
* وفي المقامات وصفٌ وتصويرٌ لحياة القرن الرابع- كما في المقامة "المضيرية"- ولمفرداتها، مثل الأطعمة في "البغدادية" و"المجاعية" و"النهيدية".
* وقد أُفردت المقامة "الحمدانية" لوصف الفرس.
* ونجد للقصة والحكاية مساحةً كبرى في المقامات بصفةٍ عامةٍ، وفي بعض المقامات بصورةٍ أكبر وأتقن من غيرها، مثل المقامة "الأسدية" و"الأصفهانية"، و"البغدادية"، و"الموصلية"، و"المضيرية"، و"الحلوانية"، و"الصيمرية"، و"البشرية"، و"الشامية".
* ونراه يعرف الأسرار وخبايا النفوس كما في "المارستانية".
سيطول بنا المقام إذا أخذنا في حصر عجائب الموضوعات التي تناولتها المقامات، وما عرضنا له سابقًا، أردْنا منه الرهان على أن هذا التنوع كان هدفًا من أهداف بديع الزمان لا يحقق لمقاماته عدم الإملال فقط، أو كان هدفًا موضوعيًّا فحسب، بل كان وسيلةً فنيةً تبعث على البهجة والمتعة، وتثير المرح والضحك، كما حافظت على المفاجأة والإثارة داخل بنية المقامة؛ إذ نجد في كل مقامة مفاجأةً ما، ربما تمثَّلت في طرافة الموضوع، أو تناوُله بطريقة مبتكرة، أو في وصفٍ لم يسبق إليه أحد قبل الهمذاني.
كما تكمن المفاجأة أحيانًا في قدرة الهمذاني على الاستقصاء والحصر كما في المقامة "الرصافية" التي استقصى فيها حيل المكدّين وأساليبهم المختلفة.
استطاع الهمذاني أيضًا أن يوظف شخصية الإسكندري توظيفًا فنيًّا يخدم أهدافه، بجانب توظيفه من ناحية الشكل، فصار علمًا على المقامة، يبحث المتلقِّي عنه، وينتظر ظهوره بين رغبةٍ في الاطِّلاع على حيلته الجديدة، وبين خوفٍ من انتهاء المقامة بظهوره.
ما كان يعدُّهُ الدكتور زكي مبارك عيبًا في المقامات- من تكرار دهشة عيسى بن هشام وجهله المتتابع بأبي الفتح الإسكندري- نعتقد أنه ذو قيمة فنية عالية، كان للهمذاني فضلُ السبق إليها؛ إذْ أرسَى قواعد الشكل الفني الناجح لمقاماته، فتوفَّرت لها أسباب التميُّز وعدم الذوبان في غيرها من أجناس الأدب وأنواعه.
إن للهمذاني دوافعه ومبرراته الفنية التي تُحيل هذا الاستنكار إلى مدح وثناء، غير أنه لم يتعامل مع ظهور الإسكندري وتعرُّف عيسى عليه بهذه السذاجة الفنية- إن جاز هذا التعبير- فبجانب عدم ظهوره في بعض المقامات على عكس ما يتوقع القارئ، فقد نوَّع وتفنَّن في طُرُق إظهاره والكشف عنه؛ مما أضفى على عمله جوَّ الإثارة والتشويق:
- فقد ظهر في بداية بعض المقامات مثل "الموصلية"، و"المضيرية"، و"العراقية"، و"الوصية"، و"الدينارية"، وظهر في منتصف المقامة "النيسابورية" مع اختلاف أسلوب إظهاره في كلٍّ منها؛ فمرةً يسأل عنه عيسى بن هشام، ومرةً يسمع به ويُدلُّ عليه، وأخرى يكون صاحبًا له منذ البداية.. إلخ.
- والمقامات التي كان يظهر أو يكشف عن شخصه في آخرها- وهي الغالبية العظمى- لم تأتِ على نسقٍ واحد؛ فمرةً تكشفه ثناياه كما في "القريضية"، ومرةً يميط لثامه، فإذا به الإسكندري في "الأزاذية"، وأخرى يعرفه بعض من حضر في "البلخية"، وقد يتشبَّث به عيسى بن هشام حتى يعرِّفه بنفسه في "الفزارية"، وربما عرَّف نفسه شعرًا في "الجاحظية"، وقد يعرفه عيسى بن هشام أثناء انشغاله في الاحتيال، فيسهو عن خطأٍ يكشف أنه متعامٍٍ وليس أعمى، فيهدِّده بفضحه إن لم يكشف له عن نفسه كما في المقامة "المكفوفية"، وفي "الوعظية" يغيِّره الشيب، وفي "الشيرازية" ينكر على عيسى بن هشام جهله به، ويصاب بالجنون والهذيان في "الحلوانية"، ويظهر كعابر طريق في "الإبليسية"، وفي المقامة "الأسودية" يظهر بصورةٍ مفاجئةٍ للسياق والأحداث.
وقد يتكلم حينًا كما نتوقع، ويخيب ظننا حينًا آخر فلا يتكلم ويصمت، أو لا يأتي بما نتوقع من حيله ومهاراته.. كل ذلك دون مبررات موضوعية سوى تعمُّد الهمذاني توظيفه فنيًّا بما يحفظ قدرًا من المفاجأة والإثارة، أو كأن الهمذاني يجعل من أبي الفتح لغزًا يداعب به القارئ، يرضي غروره مرةً، ويحقِّق توقُّعه، ويخيِّب ظنه أخرى، فيحثُّه على مواصلة التحدي.
* الهوامش
1- النثر الفني في القرن الرابع- د. زكي مبارك- دار الكاتب العربي- القاهرة- ص 252.
2- المرجع السابق- ص 256.
3- مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني- شرح الشيخ محمد عبده- مؤسسة أخبار اليوم- القاهرة- 1988م- ص 124.
4- المقامات.. السرد والأنساق الثقافية- عبد الفتاح كيليطو- ترجمة عبد الكبير الشرقاوي- دار توبقال- المغرب الطبعة الأولى- 1993م- ص 73.
ظهرت المقامة على يد بديع الزمان الهمذاني، الذي توفَّرت له موهبةٌ فذَّةٌ وإحاطةٌ بالتراث العربي؛ شعره ونثره، قصصه ونوادره، جدّه وهزله، فجاءت المقامة شكلاً- أو جنسًا أدبيًّا- عربيًّا خالصًا، استطاع أن يستوعب ما يمكن أن نطلق عليه (القصّ العربي).
وقد تعدَّدت الدراسات حول المقامات، والقضايا والموضوعات التي أثارتها تشير إلى اختلاف المقامة اختلافًا كبيرًا عن كلٍّ من "المُلَح والنوادر" و"الرسائل الفكاهية"؛ فإنها قد تجاوزت الحدث المفرد إلى البناء المحكم المترابط، والفكاهة المبنيَّة على الأحداث والأفعال والحوار بين الشخصيات، ورصد المجتمع بعينٍ ساخرة فكِهة.
إن مقامات "الهمذاني" تتَّسم كلها بروح الفكاهة، وقد ذاعت شهرة بعض المقامات خاصةً المقامة "البغدادية" والمقامة "المضيرية"، واللتان يقول عنهما الدكتور زكي مبارك: "هاتان المقامتان هما أبرع ما قصَّ بديع الزمان"(1).
هذه الشهرة الواسعة لبعض المقامات كانت سببًا في بعض الغبْن الذي أصاب المقامات كعملٍ أدبي له مقوِّمات تنحو منحى الوحدة والتكامل؛ على سبيل المثال يرى الدكتور زكي مبارك أن من مظاهر الضعف عند بديع الزمان ومن حاكاه وقوفه عند شخصية واحدة، ولا يجد مسوِّغًا لحديث عيسى بن هشام في كل مرة عن دهشته من كشف هذه الشخصية، مع أنه كان يكفي أن يشتبه عليه أمره مرةً أو مرتين فقط !!(2).
يبْدُو ظاهر هذا النقد كأنه يبحث عن وحدة المقامات كعمل يكمِّل بعضه بعضًا، غير أن باطنه- في اعتقادنا- لم يستوعب غاية الهمذاني، ولم يقف على قصده؛ إذْ كان مهتمًّا طوال عمله بالحفاظ على "المفاجأة"، واستخْدَم في ذلك طرقًا عديدة، كما ينبغي أنْ نتذكَّر أنَّ وحدة المقامات تأتي في سياق تفرُّد كلٍّ منها، وطواعيتها للشكل الذي اصْطُلِحَ عليه سمْتًا وشارةً لها.
يكشف الهمذاني عن غايته بوضوح وجلاء في شطر بيت أنطق به الإسكندري حين طلبوا منه أنْ يفسِّر أمرَهُ، ويكشف سرَّه، فقال: أنا ينبوعُ العجائب(3).
إننا لا نجد أنسب من هذا التعبير إحاطةً بالمقامة وما يمكن أن تسْفِرَ عنه قراءتها، وهو أشمل من قول الدكتور عبد الفتاح كيليطو: "فالمقامة هي الإطار الذي يستوعب أنواعًا عديدة، لا الأغراض الشعرية التقليدية فحسب، بل أيضًا اللغز والمأدبة، والمناظرة والموازنة.. إلخ، المقامة إطار للشعر وللنثر في الآن ذاته؛ قبل القرن الرابع كان الشعر والنثر منفصلَين تمامًا، كان الكتَّاب ينظِّمون أبياتًا على سبيل المصادفة، لكنَّ الشعراء يظلون عمومًا بمعزل عن النثر، والهمذاني- الذي خلَّف ديوان شعر وديوان رسائل- كان ابن عصره بامتياز؛ إن مقاماته تشكِّل مجموعًا هجينًا؛ تتعاقب فيه الأبياتُ وفِقَرُ النثر"(4).
إننا إذا نظرنا في كل مقامة نجد بها "أعجوبة" من هذه العجائب- التي كان الهمذاني يقصد إليها قصدًا تكمن في موضوع طريف أو حيلة لم يُلْتفت إليها من قبل، أو تصوير دقيق، أو تقنية عالية:
فهناك الألغاز الأدبية، وقضايا النقد المتصل بالشعر أو النثر في المقامات "القريضية"، و"الغيلانية"، و"الجاحظية"، و"العراقية" و"الشعرية"، مع اختلاف المشاهد في كل منها وتفردها؛ فنجد النائم الذي يعرض عمَّن يهجوه، ويواصل النوم احتقارًا له في المقامة "الغيلانية"، ونجد تصويرًا طريفًا ينطق بالحياة للنهم الشره في المقامة "الجاحظية".. إلخ.
* وجاءت الكُدية والاستجداء في شتَّى الصور والأساليب، حتى ما يبدو منها متشابهًا نجده يتميَّز عن غيره في أمرٍ ما؛ فالشحَّاذ يحمل أطفاله معه ليشحذ بهم في المقامة "الأزاذية"، ويستعطف الناس بحالهم وإن لم يحملهم معه في المقامة "البصرية"، ويصحب طفلاً في المقامة "البخارية" يأمره أن يتحدَّث عن نفسه، ويعرض أمره على الناس!!، ونجد من يطرق الأبواب ليلاً في "الكوفية"، وهناك من يستجدي بالدعاء للمسافر؛ مستغلاًّ حالته النفسية التي ترنو إلى التشبُّث بكل ما يدعو إلى التفاؤل كما في المقامة "البلخية"، ومن يدَّعي أنه عزيز قوم قد ذلَّ كما في "الجرجانية" أو يدَّعي العمى، بالإضافة إلى استخدام اللحن والإيقاع في المقامة "المكفوفية"، ويطالعنا صاحب القرد الذي يستجدي به في المقامة "القردية"، ونجد من يتبارزون في السّباب والتشاتم للحصول على درهم أو دينار كما في "الدينارية" أو من يسأل الناس بالألغاز كما في "الصُّفرية"، وتبلغ المفارقة أقصاها حين يستجدي من إبليس في "الإبليسية".
* ولم يكتفِ الهمذاني بما عدَّده وأحصاه من أساليب الاحتيال في المقامة "الرصافية"، بل عرض لأمثلةٍ كاملةٍ لما يمكن أن نطلق عليه عمليات النصب والتحايل؛ ففي المقامة "السجستانية" هناك من يحتال بدواء يدَّعي شفاءه الناجع، ويطالعنا المحتال الذي يصطاد سواديًّا ساذجًا في السوق ويوقع به في المقامة "البغدادية"، ومن يحتال بادِّعائه الإسلام بعد الكفر وهروبه من بلاد العدو الكافر ورغبته في التجهيز لغزوه ومحاربته لسابق معرفته به في المقامة "القزوينية"، وفي المقامة "الساسانية" يخرج المكدّون في كتيبة يردِّدون الشعر الطريف خلف قائدهم، وفي "الموصلية" يدَّعي المحتال قدرته على نشر الموتى وصدِّ السيل، ويستغل الكارثة في المقامة "الحرزية" ويؤذي الخباز وبائع اللبن ليحصل على الطعام في "الأرمينية"، ويدَّعي معرفته بأماكن الكنوز المطمورة في "المطلبية"، ويصحب زوجته ويحتالان على القاضي في المقامة "الشامية"، مستخدمًا الفحش والبذاءة.
* وتتطرَّق المقامات إلى المدح بطرق متعددة كما في المقامة "الناجمية" و"الملوكية".
* وفي المقامات وصفٌ وتصويرٌ لحياة القرن الرابع- كما في المقامة "المضيرية"- ولمفرداتها، مثل الأطعمة في "البغدادية" و"المجاعية" و"النهيدية".
* وقد أُفردت المقامة "الحمدانية" لوصف الفرس.
* ونجد للقصة والحكاية مساحةً كبرى في المقامات بصفةٍ عامةٍ، وفي بعض المقامات بصورةٍ أكبر وأتقن من غيرها، مثل المقامة "الأسدية" و"الأصفهانية"، و"البغدادية"، و"الموصلية"، و"المضيرية"، و"الحلوانية"، و"الصيمرية"، و"البشرية"، و"الشامية".
* ونراه يعرف الأسرار وخبايا النفوس كما في "المارستانية".
سيطول بنا المقام إذا أخذنا في حصر عجائب الموضوعات التي تناولتها المقامات، وما عرضنا له سابقًا، أردْنا منه الرهان على أن هذا التنوع كان هدفًا من أهداف بديع الزمان لا يحقق لمقاماته عدم الإملال فقط، أو كان هدفًا موضوعيًّا فحسب، بل كان وسيلةً فنيةً تبعث على البهجة والمتعة، وتثير المرح والضحك، كما حافظت على المفاجأة والإثارة داخل بنية المقامة؛ إذ نجد في كل مقامة مفاجأةً ما، ربما تمثَّلت في طرافة الموضوع، أو تناوُله بطريقة مبتكرة، أو في وصفٍ لم يسبق إليه أحد قبل الهمذاني.
كما تكمن المفاجأة أحيانًا في قدرة الهمذاني على الاستقصاء والحصر كما في المقامة "الرصافية" التي استقصى فيها حيل المكدّين وأساليبهم المختلفة.
استطاع الهمذاني أيضًا أن يوظف شخصية الإسكندري توظيفًا فنيًّا يخدم أهدافه، بجانب توظيفه من ناحية الشكل، فصار علمًا على المقامة، يبحث المتلقِّي عنه، وينتظر ظهوره بين رغبةٍ في الاطِّلاع على حيلته الجديدة، وبين خوفٍ من انتهاء المقامة بظهوره.
ما كان يعدُّهُ الدكتور زكي مبارك عيبًا في المقامات- من تكرار دهشة عيسى بن هشام وجهله المتتابع بأبي الفتح الإسكندري- نعتقد أنه ذو قيمة فنية عالية، كان للهمذاني فضلُ السبق إليها؛ إذْ أرسَى قواعد الشكل الفني الناجح لمقاماته، فتوفَّرت لها أسباب التميُّز وعدم الذوبان في غيرها من أجناس الأدب وأنواعه.
إن للهمذاني دوافعه ومبرراته الفنية التي تُحيل هذا الاستنكار إلى مدح وثناء، غير أنه لم يتعامل مع ظهور الإسكندري وتعرُّف عيسى عليه بهذه السذاجة الفنية- إن جاز هذا التعبير- فبجانب عدم ظهوره في بعض المقامات على عكس ما يتوقع القارئ، فقد نوَّع وتفنَّن في طُرُق إظهاره والكشف عنه؛ مما أضفى على عمله جوَّ الإثارة والتشويق:
- فقد ظهر في بداية بعض المقامات مثل "الموصلية"، و"المضيرية"، و"العراقية"، و"الوصية"، و"الدينارية"، وظهر في منتصف المقامة "النيسابورية" مع اختلاف أسلوب إظهاره في كلٍّ منها؛ فمرةً يسأل عنه عيسى بن هشام، ومرةً يسمع به ويُدلُّ عليه، وأخرى يكون صاحبًا له منذ البداية.. إلخ.
- والمقامات التي كان يظهر أو يكشف عن شخصه في آخرها- وهي الغالبية العظمى- لم تأتِ على نسقٍ واحد؛ فمرةً تكشفه ثناياه كما في "القريضية"، ومرةً يميط لثامه، فإذا به الإسكندري في "الأزاذية"، وأخرى يعرفه بعض من حضر في "البلخية"، وقد يتشبَّث به عيسى بن هشام حتى يعرِّفه بنفسه في "الفزارية"، وربما عرَّف نفسه شعرًا في "الجاحظية"، وقد يعرفه عيسى بن هشام أثناء انشغاله في الاحتيال، فيسهو عن خطأٍ يكشف أنه متعامٍٍ وليس أعمى، فيهدِّده بفضحه إن لم يكشف له عن نفسه كما في المقامة "المكفوفية"، وفي "الوعظية" يغيِّره الشيب، وفي "الشيرازية" ينكر على عيسى بن هشام جهله به، ويصاب بالجنون والهذيان في "الحلوانية"، ويظهر كعابر طريق في "الإبليسية"، وفي المقامة "الأسودية" يظهر بصورةٍ مفاجئةٍ للسياق والأحداث.
وقد يتكلم حينًا كما نتوقع، ويخيب ظننا حينًا آخر فلا يتكلم ويصمت، أو لا يأتي بما نتوقع من حيله ومهاراته.. كل ذلك دون مبررات موضوعية سوى تعمُّد الهمذاني توظيفه فنيًّا بما يحفظ قدرًا من المفاجأة والإثارة، أو كأن الهمذاني يجعل من أبي الفتح لغزًا يداعب به القارئ، يرضي غروره مرةً، ويحقِّق توقُّعه، ويخيِّب ظنه أخرى، فيحثُّه على مواصلة التحدي.
* الهوامش
1- النثر الفني في القرن الرابع- د. زكي مبارك- دار الكاتب العربي- القاهرة- ص 252.
2- المرجع السابق- ص 256.
3- مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني- شرح الشيخ محمد عبده- مؤسسة أخبار اليوم- القاهرة- 1988م- ص 124.
4- المقامات.. السرد والأنساق الثقافية- عبد الفتاح كيليطو- ترجمة عبد الكبير الشرقاوي- دار توبقال- المغرب الطبعة الأولى- 1993م- ص 73.