نقوس المهدي
كاتب
الدكتور عبد الحميد بورايو، أستاذ مادة الأدب الشعبي بمعهد اللغة والآداب العربية، التابع لجامعة تيزي وزّو بالجزائر، عضو اتحاد الكتاب الجزائريين، من أعماله : عيون الجازية (مجموعة قصصية) 1984 ـ القصص الشعبي في منطقة بسكرة (دراسة ميدانية) 1986 ـ الحكايات الخرافية للمغرب العربي (دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات) 1992 ـ التحليل السيميائي للخطاب السردي (دراسة لحكايات من ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة : الملك شهريار، الصياد والعفريت، الحمامة المطوقة، الحمامة والثعلب وملك الحزين) 2003. كما له مجموعة من المقالات في الأدب الشعبي وفي الرواية الجزائرية.
وكتاب (الحكاية الخرافية للمغرب العربي) صدر عن دار الطليعة، بيروت، 1992. وهو عبارة عن دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات حسبما يؤشر العنوان الفرعي، تحاول أن «تستكشف دلالة خمس حكايات خرافية مغاربية عن طريق تحليل شكلها وبيان مسار انبثاق معناها، وقد عملت على أن تلتزم بمنهجية مستمدة من منجزات الدراسات السردية الحديثة المرتكزة على البحوث الشكلانية والبنيوية الأناسية، مراعية خصوصية المادة موضوع الدراسة، وكاشفة عن علاقتها بالمحيط الثقافي الذي أنتجها» [1].
والكتاب يتألف من تقديم مركز مهم، ومدخل نظري عميق لتحليل المتن، ثم التحليل التطبيقي المتماسك لخمسة نماذج من الحكاية العجيبة بالمغرب العربي، فخاتمة موجزة كاشفة للخلاصات والنتائج العامة المستحصلة من البحث.
ففي التقديم، طرح المؤلف مجموعة من القضايا المفاهيمية المرتبطة بالحكاية العجيبة، التي يفضل تسميتها مثل كثير من الباحثين العرب (الحكاية الخرافية)، مع الالتفات إلي المصطلحات الشعبية التي تنعت بها من طرف المجتمع المغاربي التقليدي (حجاية ـ خرافة ـ خريفية ـ أما شهوس)، وكذا إلى طقوس حكيها وتلقيها داخل هذا المجتمع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح (الحكاية الخرافية ) هو مصطلح غير دقيق، لكونه يحيل على نوع سردي شعبي آخر هو (الخرافة) التي تتخذ من مظاهر الطبيعة وكائناتها وفي مقدمتها الحيوانات خاصة، فضاءات ومكونات لعوالمها التخييلية، وأفضل منه مصطلح (الحكاية العجيبة)، لأسباب أخرى ليس هنا مجال مناقشتها.
كما ذكّر المؤلف في هذا التقديم، بمجموعة من المعلومات الخاصة بخصائص الحكاية العجيبة، وبتصنيفها، واهتمام الباحثين بها، وتدهور روايتها والاستماع إليها نتيجة تحولات أنماط العيش التي لحقت بالمجتمع المغاربي عموما.
ثم تحدث ببعض التفصيل عن صيغ بدايات الحكاية العجيبة في المغرب العربي، التي تؤدي وظيفة الانتقال من الواقع إلى الخيال، وكذلك عن نهاياتها التي تضطلع بوظيفة عكسية، حيث تعود بالمتلقي من عالم الخيال إلى عالم الواقع، مستشهدا بمجموعة من الأمثلة المعروفة في حكايات المنطقة.
ويختار المؤلف في تقديمه هذا، استعارة تعريف محدد للحكاية العجيبة وفق شريط تطورها السردي، من فلاديمير بروب، يقول فيه إنها : «خطاب قصصي يكشف في مستهله عن ضرر ما أو إساءة لحقت بأحد الأفراد أو عن رغبة في الحصول على شيء ما. يخرج البطل من المنزل فيلتقي بالمانح الذي يقدم له الأداة أو المساعدة السحرية التي تسمح له بالحصول على الشيء المرغوب. وتأتي بعد ذلك مرحلة العودة حيث يظهر الصراع الثنائي بين البطل وخصومه الذين يتابعونه ويضعون في طريقه العقبات، ويتمكن من اجتيازها ويؤدي المهمات التي تعرض عليه، وينجح في جميع الاختبارات، ويصل إلى منزله ويتم التعرف عليه فيتجلى في أحسن صورة وفي الأخير يكافأ ويتزوج ويعتلي العرش» [2]
على أنه لم ينس تبرير اختيار عنوان دراسته، فانتقل إليه مباشرة بعد ذلك التحديد، حيت احتج له بوحدة الثقافة المغاربية، وعدم تبعيتها للحدود السياسية الفاصلة بين أقطار المغرب العربي، مع إدخاله في الاعتبار الاختلاف التام الواقع بين الخريطة الثقافية والخريطة السياسية في المغرب العربي.
وبالنسبة للمتن المدروس، فقد حدده عبد الحميد بورايو في خمس حكايات، هي : حكاية (ولد المتروكة) ـ حكاية (نصيف عبيد) ـ حكاية (لونجة) ـ حكاية (محذوق ومحروش مع الغولة) ـ حكاية (آعمر الأتان). علما بأنه متن متنوع من حيث مصدره، بين الكتابة والتسجيل والسماع والترجمة من الأمازيغية. وقد أشار بورايو في التقديم وفي بعض الهوامش داخل البحث، إلى مصادر هذه الحكايات. وبذلك أمكننا أن نعرف أن الحكايتين الأولى والثانية، قد سجلهما المؤلف نفسه في المنطقة الصحراوية المحاذية للحدود الجنوبية التونسية / الجزائرية، سنة 1976. وفعل نفس الأمر مع الحكاية الثالثة، لكن مع اختلاف المكان، إذ يذكر أنه جمعها هذه المرة من منطقة الحدود الشمالية الجزائرية / التونسية، وإن كان قد أشار إلى أنه قد حصل على رواية أخرى لها بعنوان مختلف هو (بقرة اليتيم)، بمنطقة القبايل شمال/ وسط الجزائر، كما استمع إلى رواية مغربية لهذه الحكاية، جمعتها باحثة مغربية بمدينة وجدة، وقدمتها بالدارجة في إطار حلقات كلود بريموند الدراسية، خلال الموسم الجامعي 1985ـ 1986، بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. أما الحكايتان المتبقيتان، فقد روتهما السيدة حشلاف من منطقة بجاية بالأمازيغية ، وترجمهما إلى العربية عثمان حشلاف. وبالمناسبة، فإننا بمراجعتنا للهوامش التي ذيلت بها الحكايات المدروسة، انبرى أمامنا عدد من الأسئلة التي تهم الدارس المتخصص، من مثل : من روى هذه الحكايات ( باستثناء النصين الأخيرين طبعا )؟. ومتى رويت ( نعني اليوم والشهر والسنة )؟. وما هو جنس الراوي وعمره وأصله ومكان إقامته الحالية؟. وهل هو أو هي، من مهرة المؤدين الممتازين للحكاية، أم أنه (ها) مجرد واحد أو واحدة من الحفظة الحاملين للموروث السردي العاديين؟. وما إلى ذلك من الأسئلة التوثيقية الضرورية للجمع العلمي للمتون الشعبية.
وأخيرا ينهي د. بورايو تقديمه للكتاب، بتصريحه بهدف هذه الدراسة، الذي يتغيى تقديم نماذج دالة من الحكاية العجيبة المغاربية، بواسطة منهجية تراعي « التجانس والتدرج بين مختلف مستويات خطاب الحكاية الخرافية واستخراج المعنى الذي لا يبين عن نفسه دفعة واحدة، وإنما يتم استكشافه شيئا فشيئا من خلال تحليل يتميز بشيء من الصرامة ومراعاة الخصائص الذاتية للخطابات، وربطها بالمحيط الثقافي الذي أنتجها وتداولها.» [3]
وعند ما ينتقل في الصفحة الموالية إلى ( مدخل لتحليل الحكايات الخرافية في المغرب العربي )، يستأنف تفصيله للمنهج المعتمد، فيفتتح حديثه بعنوان هامشي مباشر، وإن دون أية فقرة تقديمية، عن المنهج المتبع في الدراسة، يعرض تحته اختياره المنهجي من أجل الكشف عن دلالات حكايات المتن المدروس، مخبرا إيانا بأنه اعتمد في تحليله للحكايات على قراءة مزدوجة «الأولى ذات منحى خطي، تضع في اعتبارها التسلسل السردي، تراعي وضع العلاقات الحاضرة في السياق. أما الثانية فتعمل على استخراج علاقات التضاد الكامنة، المستنتجة من العلاقات الغائبة عن السياق. تسمح لنا هذه الخطوة المنهجية بالانتقال من تحليل الأشكال السردية إلى معالجة المضامين. أي من الدراسة الشكلية إلى الدراسة الدلالية. سيكون المنطلق هنا نظرتنا للمادة الحكائية باعتبارها تتابعا للأحداث على مستوى مظهر الخطاب القصصي. وهو ما يفتح السبيل لمستوى آخر، وهو مستوى الرسالة (المبثوثة) أو المعنى العميق، والذي يؤدي بنا بدوره إلى استخراج العلاقات المفترضة فيما بين الحكايات نفسها، وكذلك ما بينها والمجتمع الذي تدولت فيه.
تأخذ دراستنا في حسبانها البحث الشكلاني والبنائي الذي أنجز في هذا المجال، والذي تعود ريادته لفلاديمير بروب Prop وكلود ليفي ستروس، وتمت متابعته وتطويره من طرف من جاء بعدهما من الباحثين من أمثال كلود بروموند Bremond و أ. ج. جريماس Greimas و ج. كورتيس Courtès وآخرين.» [4].
وانطلاقا من هذا الاحتضان المنهجي المتعدد المصادر والتوجهات، يخبرنا المؤلف أنه سيعمد في تحليله للنصوص، إلى تقطيعها إلى متواليات، وهذه إلى وظائف، ويتوقف عند عنوان ثان في هذا المدخل هو 2 ـ المتواليات والوظائف، من أجل شرح المقصود بهما، ووظيفتيهما البنيوية. وفي علاقة بهما، يثير بعض الملاحظات حول (الوساطة) و(تصنيف الوظائف) و (نظام الشخوص) و(دلالة الحكايات)، مع التأكيد على أن تتم دراسة الشخوص في علاقتهم فيما بينهم، وذلك بمقصدية تتوخى الاستخراج التدريجي للترتيب المنبثقة على أساسه الأدوار الغرضية والفاعلية، مستعينا في النهاية بالتحليل المقارن بين النصوص المدروسة، تأسيسا على فرضية تقول: ((لا يمكن أن يعطي أي خطاب معزول معناه الكلي. وبالتالي تصبح المواجهة المنهجية بين الخطابات المتوفرة وحدها القادرة على مدنا بجميع الدلالات التي تحملها كل حكاية)) [5].
وواضح أن المؤلف يجمع بين أطراف منهجية متفرقة (مورفولوجية بروب ـ بنيوية ستراوس الأنتروبولوجية ـ سيميائيات جريماس ـ مقارنتية المدرسة الأمريكية، وغيرها). وإن كنا نرى بأن الاقتصار على منهج واحد محدد من مناهج هؤلاء المنظرين، كان أصلح لهدف هذه الدراسة، خاصة وأنه كما يبدو من هذه الفقرة ومن التحليل النصي للمتن، أن الأمر لم يعد آليتي التحليل المعروفتين في البنيوية التكوينية لدى لوسيان غولدمان، نقصد (الفهم والتفسير)، أو ما سماهما المؤلف هنا (الأشكال السردية ومعالجة المضامين) أو (الدراسة الشكلية والدراسة الدلالية)، مع الإشارة إلى أننا أحسسنا في بعض مراحل التحليل أن المؤلف كاد ينتقل من حقل الأدب إلى حقل الأنتروبولوجية.
وبالفعل ، عندما انتقل د. بوريو إلى مواجهة نصوص المتن، اتبع في دراسته لكل حكاية، الخطوات التي وعد بها منهجيا في المدخل النظري، مستعينا بالجداول والخطاطات الموضحة، بل إنه التزم في بداية تحليله لكل حكاية على حدة، بتصديرها بالخطة المتبعة في التعامل معها، وفق ما نبينه في الجدول الموالي :
حكاية
ولد المتروكة
حكاية
نصيف عبيد
حكاية
لونجة
حكاية
محذوق ومحروش
مع الغولة
حكاية
آ- عمر الأتان
1 تقسيم النص
2 وظائف المتوالية الأولى
3انبثاق القصة/ المدخل.
4 وظائف المتوالية الثانية.
5 انبثاق القصة الرئيسية ونظامها.
6 النظام العام للحكاية.
7 معنى الحكاية: الزوجة المتروكة تنجب ولدا شجاعا
- تقديم الحكاية.
- النظام العام للحكاية.
- القصة/المدخل.
4 القصة الرئيسية
5 الوساطة الرئيسية
6 التحليل المقارن
7 البنية والرسالة المبلغة
- تقديم الحكاية
- النظام العام للحكاية.
- معنى الحكاية
(( البطريركية والأموسية
أو الأمومة الباذلة والأمومة المحرمة))
4 زواج المحارم والشعر الحرام للفتاة الجميلة ((لونجة))
5 التنظيم المكاني وبنية القرابة.
6 القبر مصدر الغذاء والكيس المحتوي على اللحم البشري المقطع إربا
7 العلاقة: محتوى / محتوي
المعبرة عن التجرد
1 نص الحكاية.
2 تحديدات منهجية.
3 المسار السردي
4 العالم الدلالي للحكاية
5 دلالة الصور في الحكاية.
6 نظام الشخوص:
1 نص الحكاية.
2 الوحدات المكونة للحكاية
أ الوحدات الكبرى
ب الوظائف.
3 القائمون بالفعل (الشخوص)
4 الأدوار الفاعلية
5 العلاقة المكانية.
6 العلاقات الزمنية
7 الدلالة الاجتماعية للحكاية: البطل حامل الحضارة.
لقد فضل المؤلف تقديم ملخصات لنصوص المتن، تحت عنوان (تقديم الحكاية) أو (نص الحكاية)، باستثناء حكاية (آعمر الأتان)، التي يبدو من تماسك تفاصيلها وأسلوبها المسجوع، أن نصها تام وليس ملخصا. وقد تسبب أسلوب التلخيص هذا في ارتباك متابعة القارئ أحيانا لبعض تفاصيل التحليل، حيث أشير إلى بعض المعطيات في الحكاية غير موجودة في الملخص. وربما كان هذا من تأثير دة. نبيلة إبراهيم. فقد سبق لها أن تصرفت نفس التصرف في إيراد الحكايات المدروسة في كتابها (قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية). وكان أحرى أن تثبت نصوص الحكايات بحذافيرها كما سمعت أو سجلت أو قرئت، ولو اقتضى الأمر تخصيص ملحق بها في آخر الكتاب.
هناك أمر آخر في تحليل النماذج المختارة، ويتعلق بالدلالة المنبثقة من تلك النماذج. إذ أن الدلالة في التحليل المتبع خلال مواجهة الحكايات، تأتي غالبا في الأخير، وبشكل جد مركز، كنتيجة من نتائج التحليل، وليس بحجم ما وعد به التقديم والمدخل، من حيث الجمع بين الدراسة الشكلية والدراسة الدلالية في التعامل مع النصوص الحكائية.
كما أن تساؤلا مشروعا يطرح نفسه بالنسبة للإجراء المقارناتي في تشريح الحكايات المدروسة. فإذا كانت حرية الباحث في الاسترشاد بالمنهج المقارن، بمثابة مبدإ يجب أن يحترم، فإن الالتزام بهذا المبدإ لا يملك سلطة منعنا من التذكير بأن هذا المنهج المتبع في بعض مراحل تحليل الحكايات المغاربية هنا، يقتضي أن تتم المقارنة بين نصوص كتبت بلغات مختلفة وليس لغة واحدة معينة، وإلا تحول الأمر إلى مجرد موازنة بينها، وليس مقارنة علمية يجب أن تخضع لشروط إجرائية محددة.
ومما يحمد منهجيا للدكتور عبد الحميد بورايو، مؤلف كتاب (الحكايات الخرافية للمغرب العربي: دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات)، كونه لم يتوقف في تطبيقه الإجرائي للمنهج المورفولوجي، عند تعيين الوظائف في الحكايات لا غير، كما فعلت مثلا دة. نبيلة إبراهيم في كتابها (قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية)، وأيضا داود سلمان الشويلي في بحثه (القصص الشعبي العراقي في ضوء المنهج المورفولوجي) [6]، المقدم إلى الندوة العربية للفولكلور (بغداد 1ـ 10 مارس 1977)؛ بل تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة متقدمة، تفتح النص من خلال رصد الوظائف، على التاريخ والمجتمع والحياة، من أجل استكشاف الدلالات العميقة والبعيدة.
وبعد، فهذا كتاب جاد جدير بالقراءة. فهو رائد في بابه، من حيث موضوعه وإشكاله، وتطبيقه المنهجي، وخلاصاته ونتائجه المتحققة، ينم عن حسن فهم واستيعاب لمادته، ودقة تمثل ووضوح للمطلوب منهجيا. فهو بذلك إضافة نوعية أصيلة إلى مكتبة الدراسات الأدبية الشعبية العربية اليتيمة.
حواشي
[1] المؤلف : هذا الكتاب، على ظهر الغلاف الأخير.
[2] الحكايات الخرافية للمغرب العربي... دار الطليعة، بيروت، ط.1، 1992، ص. 11 ـ 12..
[3] نفسه، ص.13..
[4] نفسه، ص.15.
[5] نفسه، ص.20.
[6] مجلة ( التراث الشعبي ) العراقية ، ع. 2، س. 8، بغداد، 1977، صص.147 ـ 190.
وكتاب (الحكاية الخرافية للمغرب العربي) صدر عن دار الطليعة، بيروت، 1992. وهو عبارة عن دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات حسبما يؤشر العنوان الفرعي، تحاول أن «تستكشف دلالة خمس حكايات خرافية مغاربية عن طريق تحليل شكلها وبيان مسار انبثاق معناها، وقد عملت على أن تلتزم بمنهجية مستمدة من منجزات الدراسات السردية الحديثة المرتكزة على البحوث الشكلانية والبنيوية الأناسية، مراعية خصوصية المادة موضوع الدراسة، وكاشفة عن علاقتها بالمحيط الثقافي الذي أنتجها» [1].
والكتاب يتألف من تقديم مركز مهم، ومدخل نظري عميق لتحليل المتن، ثم التحليل التطبيقي المتماسك لخمسة نماذج من الحكاية العجيبة بالمغرب العربي، فخاتمة موجزة كاشفة للخلاصات والنتائج العامة المستحصلة من البحث.
ففي التقديم، طرح المؤلف مجموعة من القضايا المفاهيمية المرتبطة بالحكاية العجيبة، التي يفضل تسميتها مثل كثير من الباحثين العرب (الحكاية الخرافية)، مع الالتفات إلي المصطلحات الشعبية التي تنعت بها من طرف المجتمع المغاربي التقليدي (حجاية ـ خرافة ـ خريفية ـ أما شهوس)، وكذا إلى طقوس حكيها وتلقيها داخل هذا المجتمع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح (الحكاية الخرافية ) هو مصطلح غير دقيق، لكونه يحيل على نوع سردي شعبي آخر هو (الخرافة) التي تتخذ من مظاهر الطبيعة وكائناتها وفي مقدمتها الحيوانات خاصة، فضاءات ومكونات لعوالمها التخييلية، وأفضل منه مصطلح (الحكاية العجيبة)، لأسباب أخرى ليس هنا مجال مناقشتها.
كما ذكّر المؤلف في هذا التقديم، بمجموعة من المعلومات الخاصة بخصائص الحكاية العجيبة، وبتصنيفها، واهتمام الباحثين بها، وتدهور روايتها والاستماع إليها نتيجة تحولات أنماط العيش التي لحقت بالمجتمع المغاربي عموما.
ثم تحدث ببعض التفصيل عن صيغ بدايات الحكاية العجيبة في المغرب العربي، التي تؤدي وظيفة الانتقال من الواقع إلى الخيال، وكذلك عن نهاياتها التي تضطلع بوظيفة عكسية، حيث تعود بالمتلقي من عالم الخيال إلى عالم الواقع، مستشهدا بمجموعة من الأمثلة المعروفة في حكايات المنطقة.
ويختار المؤلف في تقديمه هذا، استعارة تعريف محدد للحكاية العجيبة وفق شريط تطورها السردي، من فلاديمير بروب، يقول فيه إنها : «خطاب قصصي يكشف في مستهله عن ضرر ما أو إساءة لحقت بأحد الأفراد أو عن رغبة في الحصول على شيء ما. يخرج البطل من المنزل فيلتقي بالمانح الذي يقدم له الأداة أو المساعدة السحرية التي تسمح له بالحصول على الشيء المرغوب. وتأتي بعد ذلك مرحلة العودة حيث يظهر الصراع الثنائي بين البطل وخصومه الذين يتابعونه ويضعون في طريقه العقبات، ويتمكن من اجتيازها ويؤدي المهمات التي تعرض عليه، وينجح في جميع الاختبارات، ويصل إلى منزله ويتم التعرف عليه فيتجلى في أحسن صورة وفي الأخير يكافأ ويتزوج ويعتلي العرش» [2]
على أنه لم ينس تبرير اختيار عنوان دراسته، فانتقل إليه مباشرة بعد ذلك التحديد، حيت احتج له بوحدة الثقافة المغاربية، وعدم تبعيتها للحدود السياسية الفاصلة بين أقطار المغرب العربي، مع إدخاله في الاعتبار الاختلاف التام الواقع بين الخريطة الثقافية والخريطة السياسية في المغرب العربي.
وبالنسبة للمتن المدروس، فقد حدده عبد الحميد بورايو في خمس حكايات، هي : حكاية (ولد المتروكة) ـ حكاية (نصيف عبيد) ـ حكاية (لونجة) ـ حكاية (محذوق ومحروش مع الغولة) ـ حكاية (آعمر الأتان). علما بأنه متن متنوع من حيث مصدره، بين الكتابة والتسجيل والسماع والترجمة من الأمازيغية. وقد أشار بورايو في التقديم وفي بعض الهوامش داخل البحث، إلى مصادر هذه الحكايات. وبذلك أمكننا أن نعرف أن الحكايتين الأولى والثانية، قد سجلهما المؤلف نفسه في المنطقة الصحراوية المحاذية للحدود الجنوبية التونسية / الجزائرية، سنة 1976. وفعل نفس الأمر مع الحكاية الثالثة، لكن مع اختلاف المكان، إذ يذكر أنه جمعها هذه المرة من منطقة الحدود الشمالية الجزائرية / التونسية، وإن كان قد أشار إلى أنه قد حصل على رواية أخرى لها بعنوان مختلف هو (بقرة اليتيم)، بمنطقة القبايل شمال/ وسط الجزائر، كما استمع إلى رواية مغربية لهذه الحكاية، جمعتها باحثة مغربية بمدينة وجدة، وقدمتها بالدارجة في إطار حلقات كلود بريموند الدراسية، خلال الموسم الجامعي 1985ـ 1986، بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. أما الحكايتان المتبقيتان، فقد روتهما السيدة حشلاف من منطقة بجاية بالأمازيغية ، وترجمهما إلى العربية عثمان حشلاف. وبالمناسبة، فإننا بمراجعتنا للهوامش التي ذيلت بها الحكايات المدروسة، انبرى أمامنا عدد من الأسئلة التي تهم الدارس المتخصص، من مثل : من روى هذه الحكايات ( باستثناء النصين الأخيرين طبعا )؟. ومتى رويت ( نعني اليوم والشهر والسنة )؟. وما هو جنس الراوي وعمره وأصله ومكان إقامته الحالية؟. وهل هو أو هي، من مهرة المؤدين الممتازين للحكاية، أم أنه (ها) مجرد واحد أو واحدة من الحفظة الحاملين للموروث السردي العاديين؟. وما إلى ذلك من الأسئلة التوثيقية الضرورية للجمع العلمي للمتون الشعبية.
وأخيرا ينهي د. بورايو تقديمه للكتاب، بتصريحه بهدف هذه الدراسة، الذي يتغيى تقديم نماذج دالة من الحكاية العجيبة المغاربية، بواسطة منهجية تراعي « التجانس والتدرج بين مختلف مستويات خطاب الحكاية الخرافية واستخراج المعنى الذي لا يبين عن نفسه دفعة واحدة، وإنما يتم استكشافه شيئا فشيئا من خلال تحليل يتميز بشيء من الصرامة ومراعاة الخصائص الذاتية للخطابات، وربطها بالمحيط الثقافي الذي أنتجها وتداولها.» [3]
وعند ما ينتقل في الصفحة الموالية إلى ( مدخل لتحليل الحكايات الخرافية في المغرب العربي )، يستأنف تفصيله للمنهج المعتمد، فيفتتح حديثه بعنوان هامشي مباشر، وإن دون أية فقرة تقديمية، عن المنهج المتبع في الدراسة، يعرض تحته اختياره المنهجي من أجل الكشف عن دلالات حكايات المتن المدروس، مخبرا إيانا بأنه اعتمد في تحليله للحكايات على قراءة مزدوجة «الأولى ذات منحى خطي، تضع في اعتبارها التسلسل السردي، تراعي وضع العلاقات الحاضرة في السياق. أما الثانية فتعمل على استخراج علاقات التضاد الكامنة، المستنتجة من العلاقات الغائبة عن السياق. تسمح لنا هذه الخطوة المنهجية بالانتقال من تحليل الأشكال السردية إلى معالجة المضامين. أي من الدراسة الشكلية إلى الدراسة الدلالية. سيكون المنطلق هنا نظرتنا للمادة الحكائية باعتبارها تتابعا للأحداث على مستوى مظهر الخطاب القصصي. وهو ما يفتح السبيل لمستوى آخر، وهو مستوى الرسالة (المبثوثة) أو المعنى العميق، والذي يؤدي بنا بدوره إلى استخراج العلاقات المفترضة فيما بين الحكايات نفسها، وكذلك ما بينها والمجتمع الذي تدولت فيه.
تأخذ دراستنا في حسبانها البحث الشكلاني والبنائي الذي أنجز في هذا المجال، والذي تعود ريادته لفلاديمير بروب Prop وكلود ليفي ستروس، وتمت متابعته وتطويره من طرف من جاء بعدهما من الباحثين من أمثال كلود بروموند Bremond و أ. ج. جريماس Greimas و ج. كورتيس Courtès وآخرين.» [4].
وانطلاقا من هذا الاحتضان المنهجي المتعدد المصادر والتوجهات، يخبرنا المؤلف أنه سيعمد في تحليله للنصوص، إلى تقطيعها إلى متواليات، وهذه إلى وظائف، ويتوقف عند عنوان ثان في هذا المدخل هو 2 ـ المتواليات والوظائف، من أجل شرح المقصود بهما، ووظيفتيهما البنيوية. وفي علاقة بهما، يثير بعض الملاحظات حول (الوساطة) و(تصنيف الوظائف) و (نظام الشخوص) و(دلالة الحكايات)، مع التأكيد على أن تتم دراسة الشخوص في علاقتهم فيما بينهم، وذلك بمقصدية تتوخى الاستخراج التدريجي للترتيب المنبثقة على أساسه الأدوار الغرضية والفاعلية، مستعينا في النهاية بالتحليل المقارن بين النصوص المدروسة، تأسيسا على فرضية تقول: ((لا يمكن أن يعطي أي خطاب معزول معناه الكلي. وبالتالي تصبح المواجهة المنهجية بين الخطابات المتوفرة وحدها القادرة على مدنا بجميع الدلالات التي تحملها كل حكاية)) [5].
وواضح أن المؤلف يجمع بين أطراف منهجية متفرقة (مورفولوجية بروب ـ بنيوية ستراوس الأنتروبولوجية ـ سيميائيات جريماس ـ مقارنتية المدرسة الأمريكية، وغيرها). وإن كنا نرى بأن الاقتصار على منهج واحد محدد من مناهج هؤلاء المنظرين، كان أصلح لهدف هذه الدراسة، خاصة وأنه كما يبدو من هذه الفقرة ومن التحليل النصي للمتن، أن الأمر لم يعد آليتي التحليل المعروفتين في البنيوية التكوينية لدى لوسيان غولدمان، نقصد (الفهم والتفسير)، أو ما سماهما المؤلف هنا (الأشكال السردية ومعالجة المضامين) أو (الدراسة الشكلية والدراسة الدلالية)، مع الإشارة إلى أننا أحسسنا في بعض مراحل التحليل أن المؤلف كاد ينتقل من حقل الأدب إلى حقل الأنتروبولوجية.
وبالفعل ، عندما انتقل د. بوريو إلى مواجهة نصوص المتن، اتبع في دراسته لكل حكاية، الخطوات التي وعد بها منهجيا في المدخل النظري، مستعينا بالجداول والخطاطات الموضحة، بل إنه التزم في بداية تحليله لكل حكاية على حدة، بتصديرها بالخطة المتبعة في التعامل معها، وفق ما نبينه في الجدول الموالي :
حكاية
ولد المتروكة
حكاية
نصيف عبيد
حكاية
لونجة
حكاية
محذوق ومحروش
مع الغولة
حكاية
آ- عمر الأتان
1 تقسيم النص
2 وظائف المتوالية الأولى
3انبثاق القصة/ المدخل.
4 وظائف المتوالية الثانية.
5 انبثاق القصة الرئيسية ونظامها.
6 النظام العام للحكاية.
7 معنى الحكاية: الزوجة المتروكة تنجب ولدا شجاعا
- تقديم الحكاية.
- النظام العام للحكاية.
- القصة/المدخل.
4 القصة الرئيسية
5 الوساطة الرئيسية
6 التحليل المقارن
7 البنية والرسالة المبلغة
- تقديم الحكاية
- النظام العام للحكاية.
- معنى الحكاية
(( البطريركية والأموسية
أو الأمومة الباذلة والأمومة المحرمة))
4 زواج المحارم والشعر الحرام للفتاة الجميلة ((لونجة))
5 التنظيم المكاني وبنية القرابة.
6 القبر مصدر الغذاء والكيس المحتوي على اللحم البشري المقطع إربا
7 العلاقة: محتوى / محتوي
المعبرة عن التجرد
1 نص الحكاية.
2 تحديدات منهجية.
3 المسار السردي
4 العالم الدلالي للحكاية
5 دلالة الصور في الحكاية.
6 نظام الشخوص:
1 نص الحكاية.
2 الوحدات المكونة للحكاية
أ الوحدات الكبرى
ب الوظائف.
3 القائمون بالفعل (الشخوص)
4 الأدوار الفاعلية
5 العلاقة المكانية.
6 العلاقات الزمنية
7 الدلالة الاجتماعية للحكاية: البطل حامل الحضارة.
لقد فضل المؤلف تقديم ملخصات لنصوص المتن، تحت عنوان (تقديم الحكاية) أو (نص الحكاية)، باستثناء حكاية (آعمر الأتان)، التي يبدو من تماسك تفاصيلها وأسلوبها المسجوع، أن نصها تام وليس ملخصا. وقد تسبب أسلوب التلخيص هذا في ارتباك متابعة القارئ أحيانا لبعض تفاصيل التحليل، حيث أشير إلى بعض المعطيات في الحكاية غير موجودة في الملخص. وربما كان هذا من تأثير دة. نبيلة إبراهيم. فقد سبق لها أن تصرفت نفس التصرف في إيراد الحكايات المدروسة في كتابها (قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية). وكان أحرى أن تثبت نصوص الحكايات بحذافيرها كما سمعت أو سجلت أو قرئت، ولو اقتضى الأمر تخصيص ملحق بها في آخر الكتاب.
هناك أمر آخر في تحليل النماذج المختارة، ويتعلق بالدلالة المنبثقة من تلك النماذج. إذ أن الدلالة في التحليل المتبع خلال مواجهة الحكايات، تأتي غالبا في الأخير، وبشكل جد مركز، كنتيجة من نتائج التحليل، وليس بحجم ما وعد به التقديم والمدخل، من حيث الجمع بين الدراسة الشكلية والدراسة الدلالية في التعامل مع النصوص الحكائية.
كما أن تساؤلا مشروعا يطرح نفسه بالنسبة للإجراء المقارناتي في تشريح الحكايات المدروسة. فإذا كانت حرية الباحث في الاسترشاد بالمنهج المقارن، بمثابة مبدإ يجب أن يحترم، فإن الالتزام بهذا المبدإ لا يملك سلطة منعنا من التذكير بأن هذا المنهج المتبع في بعض مراحل تحليل الحكايات المغاربية هنا، يقتضي أن تتم المقارنة بين نصوص كتبت بلغات مختلفة وليس لغة واحدة معينة، وإلا تحول الأمر إلى مجرد موازنة بينها، وليس مقارنة علمية يجب أن تخضع لشروط إجرائية محددة.
ومما يحمد منهجيا للدكتور عبد الحميد بورايو، مؤلف كتاب (الحكايات الخرافية للمغرب العربي: دراسة تحليلية في معنى المعنى لمجموعة من الحكايات)، كونه لم يتوقف في تطبيقه الإجرائي للمنهج المورفولوجي، عند تعيين الوظائف في الحكايات لا غير، كما فعلت مثلا دة. نبيلة إبراهيم في كتابها (قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية)، وأيضا داود سلمان الشويلي في بحثه (القصص الشعبي العراقي في ضوء المنهج المورفولوجي) [6]، المقدم إلى الندوة العربية للفولكلور (بغداد 1ـ 10 مارس 1977)؛ بل تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة متقدمة، تفتح النص من خلال رصد الوظائف، على التاريخ والمجتمع والحياة، من أجل استكشاف الدلالات العميقة والبعيدة.
وبعد، فهذا كتاب جاد جدير بالقراءة. فهو رائد في بابه، من حيث موضوعه وإشكاله، وتطبيقه المنهجي، وخلاصاته ونتائجه المتحققة، ينم عن حسن فهم واستيعاب لمادته، ودقة تمثل ووضوح للمطلوب منهجيا. فهو بذلك إضافة نوعية أصيلة إلى مكتبة الدراسات الأدبية الشعبية العربية اليتيمة.
حواشي
[1] المؤلف : هذا الكتاب، على ظهر الغلاف الأخير.
[2] الحكايات الخرافية للمغرب العربي... دار الطليعة، بيروت، ط.1، 1992، ص. 11 ـ 12..
[3] نفسه، ص.13..
[4] نفسه، ص.15.
[5] نفسه، ص.20.
[6] مجلة ( التراث الشعبي ) العراقية ، ع. 2، س. 8، بغداد، 1977، صص.147 ـ 190.