سعيد موفقي
قاص وباحث أكاديمي
نلمس في مجموعة " كمثل ظله " للقاص الجزائري الأستاذ سعيد موفقي اشتغالا لافتا من خلال التركيز على ابراز نفسية شخوص المجموعة في مرايا نصوص عكست انشطارها وتشظي ذواتها ، مع ابراز لهواجسها واستهامها النفسي ، سواء اعتمادا على الحفر في نفسيتها أو انتقاد سلوكها .
فالمجموعة راهنت في الواقع على الكشف عن توظيف مفعم بالوصف لرصد ملامح الأبطال ، وتحديد العلاقة بالمكان . كما نزعت بمواقفها الساخرة والواخزة نحو انتقاد الابداع والسلطة والاعلام .
وسيلمس القارئ أن التركيز على الكتابة ، وإوالياتها رام ابرازها كواقع يومي لكاتب في مواجهة البياض ، اعتمادا على العديد من التوظيفات ، والتضمينات من قبيل الخاطرة ، والسيرة الذاتية ، والبورتري ، وفن التراسل ، والمشهد الروائي ، وتوظيف الشذرة واللوحة التشكيلية ارتكازا على التناص والميتاسرد .
وللإشارة فالمجموعة تضم أربعة وأربعين نصا قصصيا وهي مكونة من قصص قصيرة ، وقصص قصيرة جدا ، وصادرة عن دار الأوطان بالجزائر في طبعتها الأولى سنة 2011 ، ومن تصميم الأستاذين معوش نصيرة ، ومراد بوزارة، مع تقديم للمؤلف في الصفحة الخامسة .
فما هي أهم مكوناتها الجمالية ، وبأية خلفيىة ابداعية كتبت ؟
1- شخوص المجموعة بين التشظي والانشطار
تبرز شخوص المجموعة ، ككائنات انشطارية أو مرضية تعاني العديد من الهواجس ، بحيث يبرز تشظي الذات في مرايا النصوص بشكل جلي . ففي نص " كمثل ظله " يتم الاعلان منذ البداية عن طبيعة البطل ، انطلاقا من تناص تاريخي مع أبطال ألف ليلة وليلة يقول السارد " لآن مشكلة شهريار من الداخل ، وفتنة شهرزاد لا تنتهي " ص 6 . وهذا الطرح لا يفتأ يلقي بظلاله على الأحداث من خلال تعقب السارد ورصده لحركات وتصرفات البطل ، وبالتالي نفسيته المهزوزة يقول " كل مساء ، أسود على الرغم من مصابيح المدينة الكثيرة يبقى بداخله سر الأشياء الحزينة ، وغضب قديم ، وغيرة ملتبسة ، وفراغات عميقة ، غائرة في المختلف " ص 6
إنه بطل بقدر ما يملأ الحزن تجاعيد حياته يبرز كشخص فضولي في المقهى أو الشارع ، وهو يتعقب المارة بحركاته الغريبة ، وبشغف كبير . شخص بقدر ما تتجلى فيه تناقضات كثيرة تبرز بداخله " خرداوات مبعثرة في أجزاء متشابهة " ص 6 يبرز كبطل منسي يعيش حياة رتيبة ، رتابة ما يتسبب فيها طول المسرودات القديمة " كألف ليلة وليلة" . وهو ما يعمق الاحساس كذلك بالفراغ كما في نص " اللعب بالنار " ص 24 حيث نلمس مدى الصراع الذي يعيشه الكاتب مع نفسه ومحيطه ، وبالتالي المواقف المترتبة عنه ، وما تقترف يده من الكتابة . فالإحساس بالهزيمة ، التي تسكن النفس يبلغ أثرها جليا كلما حدق في المرآة ، وكأنه تحديق يجرفه . للارتكاس نحو الأعماق ليمارس عليها حسابا عسيرا منتقدا خوفه ، ومجازفاته وكأنه إلحاح على لعب محفوف بالمخاطر. وسيبرز المكتوب كعلبة كبريت تحملها يده دون أن يقدر على التخلص منها وهو يبحث عن وسيلة لنشرها بكيفية تثير انتباه الجهات الثقافية والقراء . لكنه كلما عاد إلى تأمل ما اقترفته يده لا يملك سوى التحسر على نفسه لغياب الصدق في ابداعه . وهو ما يولد الاحساس بالخيبة نظرا لطبيعة علاقاته المشبوهة .
إنها حالة من النرجسية التي تصيب ذات الكاتب كلما تعذر عليه التخلص مما اقترفته يده ، أو أحب نصوصا ما بشكل أعمى لاغم رداءتها " سأكتب مقالا ملفقا من دون استئذان ، وأنشره لعلي أحض بشيء أخير أمحق به عدوي الموهوم " ص 27 فالحقد لا يقتل سوى صاحبه وهو يحارب طواحين الهواء بغباء ، يخوض حربا خاسرة متناسيا أن عيون أعدائه متربصة به على الدوام ، ففي الوقت الذي يفكر فيه بتحطيمهم يتناسى أنه يحفر قبرا لنفسه يقول السارد " يخرج عود ثقاب ، وباب الغرفة مواربا بإحكام ..ينظر من النافذة ...يتنهد بعمق ، ثم ينام ..تراوده أحلام كثيرة لكنها مزعجة وعود الثقاب ينتظره وقدمه على فتيل لغم لا يراه " ص 29
في حين يقدم نص " تعانين من فقد في شهية السعادة " ص 62 أن الحفر سيتم عميقا على مستوى إبراز هواجس الشخصية المحورية ، وعن سلوكها الغريب ، وقدراتها الضعيفة في التعلم ، مع التكيف مع الواقع الجديد ، وتعاطيها العديد من العقاقير . لكن توهمها بعظمة زائفة ، وإحساسها بحقارة ذاتها سيدفعها إلى زيارة طبيب ، يقول السارد " ولما كشف عنها الطبيب نصحها بالابتعاد عن الكتابة وتعاطي المكر واستهلاك أصوات ضعيفة السند ( وبالتالي) بمطالعة كتاب الحمقى والمغفلين ، وفي الصباح كتاب الأذكياء " ص 63
إن ما نلمسه من سخرية في بناء هذا النص تجعل التناص مع العنوان مرتبط بشكل أساسي للكشف عن فداحة كبرى ، وتعاسة وهمية ناتجة عن " فقدان شهية السعادة " بمعناها الحقيقي والانساني . ويبرز نص " رذاذ سعالها القديم " ص 11 تشييدا للمقارنة بين محتويات الجرائد ووضع البطلة التي تهشمت مرآتها مقارنة بقدر ما تنحو بنا نحو إبراز التقاطعات الكثيرة للكشف خبايا الذات وانعكاس صورتها المتشظية . فاللعب على المقارنة بقدر ما عكس ضياع أبجديات الرؤية وفوضويتها الخارجية ، نحو تجليات أخرى على صفحة الجريدة .فالجريدة مرآة أخرى لقضايا المجتمع . يقول السارد " هذا الصباح اختفت كل الصفحات الثقافية والإعلانات السعيدة . هذا الصباح تزاحمت بدلا من ذلك مربعات التعازي والمواساة ، وصور الموتى والمفقودين والمنكوبين ، والمنتحرين والفاشلين " ص 11 . إن هذا الطرح سينجلي في المرآة المتشظية التي ضاعت فيها " أبجديات الرؤيا .ولم تستطع اقتفاء ثقوبها وشقوقها الفاضحة ..أصابتها قروح وجروح " ص 11 . وهو ما سوف ينتج عنه العديد من التجليات النفسية القاتمة ، يقول السارد " امتلأت نفسها من كل أنواع القذارة، وارتسم في وجهها كل أنواع القبح ..انكسرت داخلها كل لفائف مكرها ، ولم يعد يهمها غير مراقبة غروب الشمس " ص 12 . كما سنلمس ردود أفعال عفوية تبرز انشطارا في الشخصية " تآكل مشطها الأسود ، وتساقطت أسنانه ..هوت كل قوائمها الهشة ..تجلس أحيانا وسط القذارة لا تشعر بذلك حتى تهزها رائحة عفنها " ص 12
إن هذا الرصد اللصيق بالشخصية المحورية ، بقدر ما يسرع من إيقاع الحدث يدفعه نحو الأوج للكشف عن نهاية غريبة يقول السارد " ولأنها شديدة الفزع تشد بيدها إلى سريرها الصدئ حتى الصباح ..تنتظره لزيارة الطبيب ليكشف عن حملها الملوث " ص 13
وسيبرز انتقاد السلوك الانساني من خلال مجموعة من القصص القصيرة جدا " سرها وقصص أخرى " ص 17 بحيث يستهل الكاتب بتقديم دال " لو علمت زهرة النرجس بأن ماءها من بصل ، لتوقفت عن الفرحة " في إشارة إلى أصل النرجسية القميء والبذيء ، ودلالة على الأصل الذي تفوح منه رائحة القذارة , ففي قصة " سيرها " ص 17 نلمس مدى الغرور الذي يطبع سلوك بعض الأفراد وادعاءاتهم وهم يحاولون مراء ونفاقا أن يتحدث عنهم الأخرون ويبادرون على غير العادة بإفشاء أسرارهم ، وبالتالي الادعاء بأنها اسرار , يقول السارد " تحب كثيرا أن يتحدث عنها النساء ، فقالت لجارتها التي تعرف بأنها ثرثارة : غدا أسافر إلى المدينة ، واستكتمتها الأمر ..قالت الجارة لن يسمعها مني أحد " ص 17
إن حيثيات النص وسياقه بقدر ما يكشف طبيعة المرأتين يبرز بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الموقف الساخر فيه كثير من اللبس ، نظرا لتحكم الطبيعة النفسية المهزوزة فيهن معا ، وما يكتنفهن من غرور، وثرثرة .فالجمع بين تناقضين داخل نص واحد ، يبرز طبيعة المفارقة الساخرة في تناصها مع إشارات لتقديم حول زهرة النرجس وأصل مائها وغرورها .
في حين نلمس في النص الثاني " خاتم من وشم " ص 17 مدى بهتان ادعاءات المرأتين من خلال صراعهما حول خاتم وهمي من بقايا حب قديم من وشم لامرأة خرى ( ثالثة) يقول السارد :
قالت الأولى هو لي
قالت الثانية هو لي
قالت الثالثة بل لي
كان بقايا وشم لحبيبته القديمة "
إنه حفر في نفسية شخوص تعيش حالات من الوهم داخل فقاعات كبيرة من الكذب ، في إشارة إلى تردي الاخلاق وموت القيم .
ونكتشف أن لواعج الغيرة وأثرها البليغ على نفسية المرأة في نص " غاضبة " (3) من خلال قراءة البطلة لعبارة مثير ة على رسالة حيث يقول السارد " غضبت عندما قرأت أسفل الرسالة لصديقي لم يكتب اسمه قبلاتي الحارة بمناسبة العيد " ص 17
إن ما يخلفه اللبس من تداعيات الرسالة يبرز في الواقع طبيعة المرأة واستنفار غرائزها التي تظل متيقظة على الدوام . فالغيرة بقدر ما تنتج كرد فعل تعبر عن الحب لا تفتأ تعري عن حب الامتلاك والأنانية المترسبة في لا وعي المرأة بالقوة . فهل كان الغضب نتيجة للحب أم للغيرة ؟ أو لطبيعة حب التملك الذي تفرضه سلطة الحب ؟
وستبرز ملامح الشخصية المرضية في نصوص " بطاقات حديثة جدا " ص 18 ، من خلال ما تكشفه من استبداد ونرجسية وغرور كذلك . كما تعري نصوص " شهرة وقصص أخرى " ص 19 عن السخرية والنفاق الاجتماعي والاستيهام، الذي سيبلغ مداه المصاحب بنوع من التداعي في نص " موزع البريد " ص 19 أثناء التخمين بطرح فرضيات تتحول إلى قناعات في لحظات مشوبة بالصمت والانتظار . باللجوء إلى التأويل المقصود ، انطلاقا من الثقة الزائدة بالنفس . ومن خلال بناء تصور مبدئي عن الرسالة التي ستتخذ دلالة أخرى ( وردة ) وهو بانتظار أن يفتح له باب منزل طرقه أكثر من مرة . يقول السارد " طرق باب منزل أكثر من مرة ..إنها فتاة ..هذه الوردة لك ..عفوا الرسالة " ص 19
إنه استقراء للنوايا وللسلوك في علاقته بالأشياء التي تأخذ حمولاتها انطلاقا من انتظارات صاحبها الأكثر إلحاحا ، والأقرب إلى نفسه كاستجابة فورية ، لكنها تتعرض للإجهاض كحلم تحت وطأة كابوس .
وسيعري نص " بعض من هدوئها " ص 32 عن الهواجس الداخلية وعلاقتها بالمحيط الخارجي كعامل من الصراع مع الذات ، بحيث يكشف السارد نجوى البطل الداخلية في علاقة مع ما يرصده في المحيط الخارجي . وهو ما يعري عن فوضى الحواس التي تبرز تناقضا بين الواقع والخيال . وتكشف عن زاوية رؤية بقدر ما تتلاشى يستحيل استعادة بريقها في سديم الأشياء البعيدة .
إن هذا السفر الداخلي ، سرعان ما يصطدم بحركات البطل الواقعية واللاإرادية في تفاعل الآخرين معها إما بنوع من الحسرة ، أو الشفقة ، يقول السارد " كانت قفزاته تحمل كثيرا من الأشياء غير البريئة وقعت رجله ، صرخ ، لم سيتنجد أحدا ، كم سره ، واستدار بحروف من طلاسم وألوان ماكرة . العابرون ينظرون إليه في هدوء " ص 33
إن الصراع الذي يعيشه البطل مع ذاته هو صراع يظهر ويختفي ، لتبرز أحيانا داخل النص كنوع من الميتاسرد من خلال تفاعل المرئيات وحوارها المباشر معه ، يقول السارد " كل النتوءات الصغيرة ، والكبيرة ، لوحت في السماء : أنت كبير ، أنت نزلت من على ظهر الفرحة وقالت أضحكتهم قبل أن تضحك " ص 34
فمآل البطل بقدر ينفتح على مجهول يبرز نهاية موجعة جدا " لم يعد للزمن معنى إلى أن طرحك ..ضمن بياض المشهد ووضعوك في قبرك النهائي ، اختفى ترنحك ، وانعدام قفزك ..لأنك كنت ذات يوم هنا بلا معنى فأنت اليوم منسي هناك " ص 34
2 – العلاقة بالمكان
تتحول الدهشة والاصطدام مع المجال عاملا سلبيا وغير مساعد على نمو ملكات الفرد ، ما يعيق فهمه واستيعابه للأشياء من حوله . فبطلة نص "تفاصيل ثيابها " ص 8 ، في زيارتها الأولى للمدينة وتيهها بين دروبها ، ستكتشف نفسها ، ولم تحتفظ من رحلتها سوى بزهرة النرجس التي كانت حافظة لأسرارها وذكرياتها ، وصدمتها ، تستنشق عبقها إلى أن ذبلت أوراقها ، واتسخ بياضها كتفاصيل ثيابها . وهو ما أبرزته النتف التي ثبتتها بلوعة في مذكراتها " يرو في ايقاع الأشياء ...فصارت قصيدة حديثة " ص 8
إن سياق النص بقدر ما تغرقه في وصف التفاصيل الجانبية الكثيرة تعمل على إبراز العلاقة مع المكان ومؤثراته العديدة ، وإيقاع الحياة السريع كما تعكس نوعا من الاغتراب والعزلة ، وبالتالي الرفض لطابعها الهندسي . لم تتحمل شرفاتها المطلة على البحر والعابرات والعابرون باستمرار ..اكتشفت أنها خائبة " ...تاهت بين فروعها المستقيمة والملونة ومحلاتها المتناثرة يمينا وشمالا " ص 8 . فالعلاقة بالمكان تبرز نوعا من التنافر في العديد من النصوص الأخرى كذلك ، كما تبرز ارتباطا قويا في أخرى " قهوة ..وكاوكاو ,,"ص 46 حيث ستبتلع أزقة المدينة البطل وتمتص جدرانها الواسعة والعالية صوته .
ويتم استثمار فضاء الحلم في نص " لا يشبه إلا نفسه " ص 68 ليبرز التوظيف انفتاحا أعمق على حقائق الواقع من خلال الاشارة والتلميح الساخر ، باعتباره حلما مرعبا أو كابوسا مزعجا مناقضا لما تعودنا عليه من تحقيق للرغبات وتكسير للموانع والقيود . فالحلم في النص سيتحول إلى حلم بمدينة بقدر ما تعيش فظاعة الواقع يحاول السارد تغييبه بالكشف عن تطلعاته حولها باعتبارها مدينة تفتقد كل مقومات المدن الأخرى وبنياتها التحتية يقول السارد " أعلم أنك تبكين ابنك المهاجر ..غدا سيعود ، وفي يده شهادة ليبني مسارح وملاعب وميادين للتدريب ، ويعز علي أن أتركك للمياه المنهمرة ، فتتدفق كثيرا في شوارعك الجميلة المخيفة " ص 69
إن التلميح يحمل من الحسرة ما يجعل صورة المدينة في الواقع غارقة في البؤس ، والشقاء ، والتخلف ، والانتظار والاهمال المقصود الذي سيبرزها كمدينة مهمشة منذ القدم يقول السارد "فهمتك أخيرا فقد قالها رجلان صالحان في غابر الأزمان فعاشت مدينتهما في عز ونبات وثبات وهما يرقدان في اسرّة من بياض ..أنت يا حبيبتي أريد لك أن تشبهيني " ص 69
3 – بعض ملامح التوظيف الجمالي
يبرز التوظيف الجمالي في كتابة القاص سعيد موفقي من خلال مجموعة من النصوص ،بارتكازه على دقة الوصف ، ورصد الحركة ، والاثارة ، والانسياب ، والتداعي الدي يسحب القارئ نحو عوالمه السردية الفريدة . ففي نص " مصممة أزياء " ص 44 يتميز الاشتغال بنوع من التركيز على تحول في صورة عارضة الازياء اللحظة التي كان فيها سارد النص يصفها وهي تبدي مواقفها حول أنواع الفساتين ، إلى عارضة ازياء بالقوة في غرفتها المطلة واجهتها على شارع عمومي ، مع ما أثارته تصرفاتها من فضول العابرين إلى حين تعثرها وسقوطها . وهو ما أثار انتباه جاراتها اللواتي التففن حولها فنهرتهن .
إن هذا اللعب يكشف عن تطويع رهيب ، وعصف
بانتظارات المتلقي ، وبالتالي عن الهواجس النفسية للبطلة وتطلعاتها يقول السارد " تتمتم هذا الفستان ذو الألوان يناسبني ، ولعله تصميم جديد ..لا ترتديه امرأة إلا امرأة يملؤها وتملأ تجاويفه الخاوية ..تعطيه أسرارها ويعطيها شكلا مختلفا . تقوم من سريرها وهي مثقلة بالحلي ..تحز في نفسها رقصة .لم تسعفها الغرفة وهي تتنقل بين مساحات البهو ..تتعثر أحيانا طقطقة كعبها العالي تذوي في زوايا البيت ..كانت نافذتها المطلة على الساحة العمومية تكشف تفاصيلها الداخلية والعابرون يكسر فضولهم ظهورها واختفاؤها " ص 45
إن جمالية هذا الوصف سيضاهيه آخر في نص " قهوة ..وكاوكاو .." ص 46 حيث تبرز ملامح شخصية انفصامية مليئة بالتهيؤات عكستها أحداث النص وزوايا الالتقاط ، من خلال تيه البطل في الشارع العام ، أو من خلال رصد السارد لملامحه وسلوكه ، وهو يهرس حبات الكاوكاو ، وتلذذه بها وفركه لأخرى متساقطة بحذائه الخشن ، ناهيك عن التبئير الممارس للكشف عن دقة الحركة السريعة والعفوية أحيانا من خلال وصف طريقة الالتفات إلى الوراء والأمام لعكس تشتت زاوية الرؤية والتذبذب في السير أو في وضعية الركوب في السيارة وقد تطايرت كلمات بلهجة بدوية من فمه .
فالتبئير تتخلله إطارات أخرى كالالتقاط : كالجانبي لتوسيع المشهد من خلال الاشارة إلى انتباه المارة ، وتتبعهم للحدث . يقول السارد " العابرون في الجهة الأخرى من الرصيف يزعجهم صراخه ، اكتفوا بالصمت ..رسم جميعهم علامات استفهام على هامش رصيفه " ص 47
4 – السلطة والاعلام بين الانتقاد والسخرية
يبرز الملمح الساخر في مجموعة " كمثل ظله "من خلال النصوص القصيرة جدا ، بحيث نلمس في نص 01" القائم السادس " ص 21 .كيف أن العقلية المسيطرة تنزع دائما نحو القوة ، والعنف لممارسة تغيير ما ، عنف يكون مصدرا أساسا نحو الكائن الأضعف يقول السارد " كرسي بخمسة قوائم ، والسادس قصير . يجمع خمستهم : نريد اسقاط القائم السادس .
إن الطرح هنا يتجاوز حدود المنطق ونظريات الفزياء ، على اعتبار أن التوازن قد يتشكل في النهاية بقائم واحد ، وهو ما يؤشر على سلسلة من الانقلابات المتوالية مستقبلا .
في حين يبرز في نص 02 ' عدوى " ص 21 الدور الكبير الذي تقوم به وسائل الاعلام في اثارة الفتن والقلاقل من خلال إذاعتها لأخبار مثيرة للقلق ، محفزة بذلك على الفوضى . كما أن الاشارة في النص تنحو بنا نحو الدور الجديد الذي تقوم به مواقع الاتصال الاجتماعي ، وخطورتها على بعض الدول ، حيث يبدأ الصراع بالحرب الكلامية ، وينتهي بالمواجهات الميدانية والاعتصامات والتنديدات التي تعمل الدولة بشكل استباقي على مواجهتها في مهدها ميدانيا قبل اندلاع فتيلها بشكل خطير يصبح من الصعب التصدي له . فالخبر المثير في حد ذاته فيروس خطير قابل لتقويض دعامات الأنظمة عبر تسربه بشكل مباشر ومغرض لفئات من الشعب دون تأكيد مصداقيته ، وهو ما يكشف عن طبيعة عقلية شرائح واسعة من الشعب المتأثرة بسرعة بأخبار عديدة دون تمحيص أو تدقيق لملابساتها وصحتها .
ويبرز مكر الاعلام الورقي كذلك من خلال نص 03 " اللهم إني صائم " ص 22 بحيث نلمس نفس الامتداد - أو الاشارة التي يقدمها النص السابق – إلى الضجة والاثارة التي يشكلها الخبر للكشف عن مكامن الخلل احيانا مع ما يكتسيه الخبر ذاته من محاولة لتوحيه أنظار الشعب نحو منتوج جديد بإثارته للشكوك في مصداقيته رغم تداوله على نطاق واسع . فالإشارة في النص بقدر ما تروم محاولة توجيه الناس وتنبيههم لقداسة شهر رمضان مثلا وضرورة استقباله بالطاعات والعبادات ، تبرز في الوقت ذاته مفارقة كبيرة بين صناعة السينما الأمريكية المسيطرة والمنتشرة عالميا والمتحررة ، بالمقارنة مع نظيرتها الصومالية دون ارتكاز في الاساس على حدود المقارنة التي تغيب أصلا لتدل على سخرية مثيرة للضحك مستمدة من دائرة النكتة والمرويات الشفوية كالمستملحة والأثر والعبرة .
شخوص هذه النصوص ، لا يتورعون بشكل أو بآخر من النيل بشكل ساخر جدا من تصرفات بعض المدعين ، خصوصا الشعراء ، كما هو الأمر في نص " ميثاق شرف " ص 23 حيث نلمس تصويرا دقيقا لإنتاجاتهم " الشعرية" التي غالبا ما تكون خالية من كل مسحة جمالية ، أو تداعيات صور تساهم في بناء المعنى أو تشكل الدلالة ، ارتكازا على خصوصية الجنس الأدبي وأركانه ومقوماته . بحيث يبرز قبح المنتوج ورداءته ، وبالتالي يكشف عن ردود فعل صاحبه العفوية والمقصودة ، وهو يكتب خربشاته أو يمحوها كنوع من التنكيل بهم دون أن يدري أنه يسقط في زلة يكون وقعها أكبر من العذر نفسه . يقول السا رد " مللت الحروف ، أريد أشكالا ، فرسم كلبا ينبح وهو يقضي حاجته ، ووقع هذا ميثاق شرف بيني وبين الحداثة " ص 23
فالسخرية تبرز كمحاولة لإبراز عيب صاحبها ، وهو ينتقد محيطه دون الاحساس بفضاضة حاله ، أو ضعفه مثلا ، كما في نص " هاجس حذائها " ص 39 باعتبار البطلة أن كل الأحذية متشابهة ، وهي جد منزعجة ، لتدرك في النهاية أنها تشكل استثناء لكونها تعاني من تضخم في قدميها لتضطر إلى رسم حذاء يشبهها .
كما نلمس في نص " حروف فاتنة " ص 71 سخرية من أشباه الشعراء في محاولاتهم اليائسة في كتابة قصائد مديحية دون القدرة على التوفق فيها . سخرية تبرز جنونا واستخفافا ، وهزال لغوي . يقول السارد " يظنها نصرا يكتب سطرا ثم سطرين ..يرتبهما ويحذف حروفا وتسقط حروف ، يشوه كلمة جميلة .يظنها لؤلؤة من شدة سوادها " ص 71
فالسخرية في المجموعة بقدر ما تلجأ إلى الانتقاد تعمل على الكشف عن النقائص والعيوب ، في محاولة للتنبيه والتصحيح . وهو ما لمسناه في نهاية النص ، باللجوء إلى الاسلوب التقريري ، الآمر والساخط " أعد قراءة سجلك ففيه سهو ..أعد كتابة حروفك ففيها سطو ..أعد تركيب كلماتك ففيها فتنة ..أعد تفعيلاتك ففيها كسر ..فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن .." ص 72
5 – الكتابة بين التوظيف والتضمين في مواجهة البياض
تميز الاشتغال في هذه المجموعة بالتضمين والتنويع وسلاسة التوظيف المتعدد المنفتح على تجريب رهيب لمقومات أجناس عديدة .كالشذرة ، وفن التراسل ، والبورتري ، والخاطرة ، والمشهد الروائي ، واللوحة التشكيلية ، والسيرة الذاتية ...والمشهد المسرحي ..وهي توظيفات أبرزت فتح العديد من المسارات التجريبية لمواجهة البياض أثناء الكتابة .
ففي نص " تقتفي أثرا" نلمس مدى معاناة البطلة في مواجهة البياض تعبيرا عن امتناع الكتابة كلما حاولت مواجهتها تتقاطع أحداث ماضيها " ليفضح حشودا من عثراتها ، وأكواما من النتوءات المستعرة وبقايا عصبية متدافعة محترقة " ص 9 حروف قديمة ونذوب يستعصي على صاحبتها تخطيها بسهولة . لأنها كلما حاولت ذلك تجد نفسها " تقتفي دوما أثر القذارة لتشبع نهمها بعد حرمان طويل " ص 9
إن هذه الترسبات بقدر ما تتحول لحاجز نفسي مقيت لكل تحرر رغم مواظبتها على الاشتراك بانتظام في اقتناء جريدة يومية ، لا يبدد قتامة أيامها . وهو ما يدفعها للاستسلام دوما في النهاية " وتكتفي بالسكون ثم تعود " ص 9 وكأنه اقتفاء للسراب المبهم والعيش على حافة الحلم المجهض .
في حين نلمس توظيف الخاطرة ومحاولة تقديم مفهوم نظري للسيرة الذاتية في نص " مجاز مرسل وعلاقته الحالية " ص 14 . فبناء النص اعتمادا على ضمير المخاطب يقصر المسافة بين السارد والمتلقي ، لتتحول أحداث النص إلى نوع من البوح وإبداء النصح حول الكتابة . من كتابة عن الغير باعتماد التخفي والغياب والتواري من الحدث الواقعي نحو آخر متخيل يقول السارد " سيبقى نزيفك بلونه القاني ، يحمل زيفك وأشجانك ..وستكتب في بياضك الذي لم تكتب فيه إلا أحلامك الكثيرة " ص 14
إن هذا الطرح يسوق صاحبه نحو اعتقاد واهم " ما كنت تعتقده كان وهما ، وما أصابك ممن ساورك هاجسهم أنه أمر طبيعي " ص 15 وهو ما دفعه إلى تبني طرح بديل يقول السارد " إذن أعد كتابة مذكراتك كما تقتضيها البساطة وانس أنك على علاقة ..لتكون بطلا حقيقيا لا مجازيا " ص 15
في حين نلمس أن توظيف " البورتري " انطلاقا من عتبة المجموعة التي بقدر ما تحيل على تحديد بورتريه خاص لشخصية ما سيبرز في الواقع ترسبات وجوه أشخاص عديدين في مخيلة بطل النص، ما يجعل نص " بورتريه " ص 35 مرآة عاكسة لوجوه مذمومة وكريهة يمقتها بشدة كلما شعر بالضيق أو جاب أمكنة شده الحنين إليها . ليتحول النص إلى وصف لصيق لشخص غير عادي جدا استبدت به الأوهام والكوابيس بعدما طوحت به الصدفة فجأة في أحد أزقة المدينة لتعلو ذكرياته الموجعة ، وتعري عن فشله الذريع في حياة حارية يحاول تعقب سرابها دون الظفر ولو بلحظة جميلة من لحظاتها .
ويبرز توظيف التراسل كما في نص " ومن على شاكلتها " ص 50 من خلال ما تجلى من طبيعة الخطاب وسياقه بتوظيف ضمير المخاطب " أعرف أنك تكرهين الشوارع التي تؤدي إلى الألم ..لأنها كانت ذات مساء ممرا لمتاهتك " ص 50 فالخطاب بقدر ما يعري عن واقع مليء بالحسرة يكشف عن محاولة للنسيان وقرارا بالابتعاد والتخلي عن الآخر . فالنص يتحول إلى رسالة عتاب وندم تبرز نوعا من السخرية " تخشين ..تخشين أن تخذلك أيد لا تريد ملامسة يد ..كم رجلا مر من هنا ؟ وعابر سبيل يتخطاك ..إلى أن أدركك الصبح الذي ظننته ليلا " ص 52
ونلمس توظيف القالب الحكائي في النص " الذئب والزنبقة " ص 64 ، وهو تشييد يتم انطلاقا من تحولات وقائع على لوحة تشكيلية قيد الانجاز ، وهو أمر لا يتم الكشف عنه إلا في نهاية النص .يقول السارد " حينها شكل الرسام لوحته ، لم ينس رسم الشمس في أعلى الزاوية التي لاح عنها الصبح " .
إنه اشتغال يبرز محاولات فريدة للتجريب القصصي بالبحث عن ممكنات جديدة للكتابة بحثا عن قوالب كفيلة بجعله قابلا للتلقي ومحققا للذة بدون منازع مع اتحافه بتضمينات تحقق فرادته وخصوصيته . فانفتاح الكتابة القصصية عند القاص السعيد موفقي لا تقف عند حدود معينة من التجريب حيث لمسنا اختراقها لتخوم الرواية كما في نص " تعد خطواتها " ص 54 ليكشف النقاب عن صورة بطلة في أرذل العمر تبدد ما تبقى من زمن في تعقب ذكرياتها الماضية ، وأحداث واقعها المليء بالنبذ والقهر والعزلة ، ناهيك عن توظيف الشذرة كما في نص " بكاء " ص 64 وهو توظيف يتقاطع مع القصة الومضة يقول السارد " بكى بعضهم لموته لأن عوراتهم مكشوفة "
فالمثير في هذه المجموعة القصصية أن كل نص من نصوصها يبرز اشتغالا خاصا ، وكأنها كتالوغ سردي يعكس تجربة عميقة واشتغالا هادئا لقاص يمتلك ناصية اللغة والتحبيك ، ومدعما بفهم كبير لأدوات الاشتغال القصصي المتسلح بوعي نقدي كبير .ويمكن الاشارة في هذا الصد إلى التوظيف الميتاسردي الفريد في نص " من دفتره " ص 16 وتدور أحدات القصة بين السارد والبطل .اشتغال لا يشعر القارئ بمناورته وهو يسحبه بهدوء نحو تفاصيل معلنة عن انقلاب في حياة البطل ( حوار مقنع بين الكاتب والسارد) يدخل ضمن ذاكرة الرد على المتشككين في ابداعه ، يقول السارد " قال مقنع ..ستجني عليك حروفك ..لأنك لم تنتبه " وهو تحذير يحمل في طياته الكثير من القلق والخوف المقنع كذلك ، وكتعبير عن سخرية مضمرة يهدف بها بناء مفارقة تجعل النص يدور في حلقة ( البداية كالنهاية ) لتتحول مضمرات النص محط نقاش بهدف الكشف عن وقائع حياتية لمثقف لم ينل حظه من الشهرة والمكانة الاعتبارية من طرف محيطه . وهو ما سيبرز من خلال الاشارة إلى رداءة انتاجه ( جملتان في دفتره تشبه الشعر ..ومقهى الخيبة ..كلمتان لم تنضجا في طفولته " ص 16 . وسيكون انطلاق النص من خلال همس إحدى الكلمتين في أذنه وهو ما سيفجر ما كان مخبوءا في أعماقه من سخط وحنين قال " سئمت ربطة العنق ..وحركة اليدين إلى السماء ..والوقوف والانحناء ، وضجيج الكراسي والصراخ ...والزهور " ص 16 ما يكشف عن تدحرج رهيب نحو هاوية سحيقة وتعرية عن طبيعة الشخص المتناقض لمشاعر والمواقف كذلك . لنلمس تكرار تحذير البداية في نهاية النص " قال مقنع ستجني عليك حروفك لأنك لم تنتبه .."
كما لمسنا ارتكازا على تقنيتي البناء والهدم في نص " حديث الصباح والمساء " ص 49 من خلال اعتماد المتقابلات الضدية لا براز فظاعة نوع من التحالف المستحيل بين الغراب والحرباء وما يتسبب فيه الغضب من تدمير وتخريب ، اعتمادا على الأنسنة يقول السارد " هذا الصباح زقزق عصفور ، تفتحت وردة ، ازدهرت فراشة على ورقة توت..ابتسمت الشمس للمنظر .طلب غراب من حرباء تحالفا ، غضب مال الغصن وسقطت الورقة لكن الجدول انساب في هدوء وفي المساء أعدم الليل كل شيء " ص 41 . هذا إلى جانب التناص التاريخي من خلال نسج رفيع لتفاصيل واقعة التقطت ببراعة من خلال اللجوء إلى الأنسنة . فاستهلال النص " إلى صاحب كتاب الحيوان ..من غير قصد " ص 53 بقدر ما يعلن تناصه مع كتاب الحيوان للجاحظ ، نجد أن نص " برأس سافر " ص 53 بتحويره المقصود ودلالته البليغة ( المرأة / الحية ) يكشف عن سياق آخر من خلال التقاط تفاصيل من الواقع يقول السارد" أبدت جمالا منقطع النظير عندما جابت شوارع المدينة ، وكعب حذائها المزعج لا يختلف عن صرير شيء تافه " ص 53 في إشارة إلى امرأة هوى تبحث عن طريدة محتملة يقول السارد " تجردت من ثوبها في يوم حار ، انتصبت لتوها لتوهم طيرا أو جعلا يبحث عن مستقر أعياه التحليق لتلتهمه " ص 53
كما نلمس نوعا من الاشتغال الميتاسردي المندس في طيات النص بتحويل صاحب كتاب الحيوان إلى متفرج على الأحداث يقول السارد " ضحك الجاحظ كثيرا لهذا المشهد واشتد فضوله ..عزم على تتبعه .أدهشته تفاصيل هذه الحية ..فضحته رقصات ظمئها " ص 53
إن اليقظة التي ابرزتها الحية ( المرأة ) في النص سرعان ما تحولت إلى نوع من الغباء بتحولها إلى وجبة دسمة لطائر جارح . ولعل هذه النهاية الدرامية جعلت الجاحظ يصمت بعدم الكشف عن تفاصيل أخرى ، لكن السارد في المقابل سيكشف النقاب عن بعض تطوراتها الأخرى خارج مكان الواقعة يقول " في المساء تفقدت حيات بيضها ، وعزمت على الرحيل بحثا عن وكر يشبه عش العصفور " ص 53
إن هذه النهاية تجعل من التأويل مستمرا ، وبالتالي مفتوحا على بياض آخر كما وجدنا في نص " قرون استشعاره " ص 8 وإن كان قد جاء بشكل مخالف .
-على سبيل الختم
قبل الختم يمكن الاشارة إلى مجموعة من الملاحظات الخاصة بهذه المجموعة ، بحيث لمسنا أن جل عناوينها تنتهي بنقط الحذف ، وعلامتي التعجب والاستفهام .الترقيم يغيب في الجمل نقطا للتوقف تحديدا للجمل القصيرة . بل استعمالا للفواصل تعبيرا عن الاسترسال وعن ايقاع سريع وتجلى هذا الأمر سواء في القصص القصيرة أو القصص القصيرة جدا . بالاضافة إلى نقط الاسترسال والحذف التي تتخلل الجمل في جل النصوص .
تتضمن بعض النصوص إما تساؤلا أو حكمة أو إيماءة من قبيل " كم تقضين ساعة خارج البيت ؟ " ( نص ومن على شاكلتها " 5 أو إشارات منبهة أو مقطع دال على خصوصية بطل كما في نص " قهوة ,,وكاوكاو "ص 46 " وحبات الكاوكاو تتناثر في فوضى يهرس ما وقع منها بين أضراسه على عجل ، تحدث طقطقة ، يتلذذ بها ، تقع حبات ، يعركها بقدمه الذي يملأ حذاءه الخشن لسوء حظها " ص 46 أو محيلة على نوعية النص الموظف " مشهد من رواية ( نسق الحروف ) كما في نص " تعد خطواتها " ص 54 أو على شكل توضيح لما سيأتي " من الدروس التي سأل عنها التلاميذ كثيرا في بداية الموسم كما في نص " جزم حروف العلة / نص ملتبس ص 85 . في حين تندرج القصص القصيرة جدا تحت عنوان رئيسي ( وقفات " ص 36 وخمس قبلات وكل قصص قصيرة جدا ، كما لمسنا توظيف الحوار في نص " منذ بدء المسافة " ص 81 الذي عمل على اختزال مساحات كبيرةمن السرد للوصول بالحوار نحو نهاية آمنة ، وبشكل مختزل .
فالمجموعة باشتغالها اليقظ والماتع ، وتنوع أدواتها ، ومواضيعها وتقنيات كتابتها ، ومواقف شخوصها تقدم صورة بانورامية عن واقع الحياة بصفة عامة ، وعن نماذح بشرية بصورة فنية منتقدة التهميش ، والدونية ، والفقر ، والسلوك الانساني ، كما تبرز بسخرية وانتقاد لاذعين رداءة الابداع ، والصحافة ، والشطط في استعمال السلطة ارتكازا على التضمين والتجريب والانفتاح على ممكنات الكتابة القصصية الجديد في افق البحث عن انفتاح النص القصصي المتحرك ضد الرتابة والجمود ضمن حلقة رفيعة من التجريب الواعي والتضمين الحذر والتوظيف السلس.
ــــــــــ
سعيد موفقي " كمثل ظله " قصص دار الأوطان الجزائر 2011 ( عدد النصوص 44 نصا)
فالمجموعة راهنت في الواقع على الكشف عن توظيف مفعم بالوصف لرصد ملامح الأبطال ، وتحديد العلاقة بالمكان . كما نزعت بمواقفها الساخرة والواخزة نحو انتقاد الابداع والسلطة والاعلام .
وسيلمس القارئ أن التركيز على الكتابة ، وإوالياتها رام ابرازها كواقع يومي لكاتب في مواجهة البياض ، اعتمادا على العديد من التوظيفات ، والتضمينات من قبيل الخاطرة ، والسيرة الذاتية ، والبورتري ، وفن التراسل ، والمشهد الروائي ، وتوظيف الشذرة واللوحة التشكيلية ارتكازا على التناص والميتاسرد .
وللإشارة فالمجموعة تضم أربعة وأربعين نصا قصصيا وهي مكونة من قصص قصيرة ، وقصص قصيرة جدا ، وصادرة عن دار الأوطان بالجزائر في طبعتها الأولى سنة 2011 ، ومن تصميم الأستاذين معوش نصيرة ، ومراد بوزارة، مع تقديم للمؤلف في الصفحة الخامسة .
فما هي أهم مكوناتها الجمالية ، وبأية خلفيىة ابداعية كتبت ؟
1- شخوص المجموعة بين التشظي والانشطار
تبرز شخوص المجموعة ، ككائنات انشطارية أو مرضية تعاني العديد من الهواجس ، بحيث يبرز تشظي الذات في مرايا النصوص بشكل جلي . ففي نص " كمثل ظله " يتم الاعلان منذ البداية عن طبيعة البطل ، انطلاقا من تناص تاريخي مع أبطال ألف ليلة وليلة يقول السارد " لآن مشكلة شهريار من الداخل ، وفتنة شهرزاد لا تنتهي " ص 6 . وهذا الطرح لا يفتأ يلقي بظلاله على الأحداث من خلال تعقب السارد ورصده لحركات وتصرفات البطل ، وبالتالي نفسيته المهزوزة يقول " كل مساء ، أسود على الرغم من مصابيح المدينة الكثيرة يبقى بداخله سر الأشياء الحزينة ، وغضب قديم ، وغيرة ملتبسة ، وفراغات عميقة ، غائرة في المختلف " ص 6
إنه بطل بقدر ما يملأ الحزن تجاعيد حياته يبرز كشخص فضولي في المقهى أو الشارع ، وهو يتعقب المارة بحركاته الغريبة ، وبشغف كبير . شخص بقدر ما تتجلى فيه تناقضات كثيرة تبرز بداخله " خرداوات مبعثرة في أجزاء متشابهة " ص 6 يبرز كبطل منسي يعيش حياة رتيبة ، رتابة ما يتسبب فيها طول المسرودات القديمة " كألف ليلة وليلة" . وهو ما يعمق الاحساس كذلك بالفراغ كما في نص " اللعب بالنار " ص 24 حيث نلمس مدى الصراع الذي يعيشه الكاتب مع نفسه ومحيطه ، وبالتالي المواقف المترتبة عنه ، وما تقترف يده من الكتابة . فالإحساس بالهزيمة ، التي تسكن النفس يبلغ أثرها جليا كلما حدق في المرآة ، وكأنه تحديق يجرفه . للارتكاس نحو الأعماق ليمارس عليها حسابا عسيرا منتقدا خوفه ، ومجازفاته وكأنه إلحاح على لعب محفوف بالمخاطر. وسيبرز المكتوب كعلبة كبريت تحملها يده دون أن يقدر على التخلص منها وهو يبحث عن وسيلة لنشرها بكيفية تثير انتباه الجهات الثقافية والقراء . لكنه كلما عاد إلى تأمل ما اقترفته يده لا يملك سوى التحسر على نفسه لغياب الصدق في ابداعه . وهو ما يولد الاحساس بالخيبة نظرا لطبيعة علاقاته المشبوهة .
إنها حالة من النرجسية التي تصيب ذات الكاتب كلما تعذر عليه التخلص مما اقترفته يده ، أو أحب نصوصا ما بشكل أعمى لاغم رداءتها " سأكتب مقالا ملفقا من دون استئذان ، وأنشره لعلي أحض بشيء أخير أمحق به عدوي الموهوم " ص 27 فالحقد لا يقتل سوى صاحبه وهو يحارب طواحين الهواء بغباء ، يخوض حربا خاسرة متناسيا أن عيون أعدائه متربصة به على الدوام ، ففي الوقت الذي يفكر فيه بتحطيمهم يتناسى أنه يحفر قبرا لنفسه يقول السارد " يخرج عود ثقاب ، وباب الغرفة مواربا بإحكام ..ينظر من النافذة ...يتنهد بعمق ، ثم ينام ..تراوده أحلام كثيرة لكنها مزعجة وعود الثقاب ينتظره وقدمه على فتيل لغم لا يراه " ص 29
في حين يقدم نص " تعانين من فقد في شهية السعادة " ص 62 أن الحفر سيتم عميقا على مستوى إبراز هواجس الشخصية المحورية ، وعن سلوكها الغريب ، وقدراتها الضعيفة في التعلم ، مع التكيف مع الواقع الجديد ، وتعاطيها العديد من العقاقير . لكن توهمها بعظمة زائفة ، وإحساسها بحقارة ذاتها سيدفعها إلى زيارة طبيب ، يقول السارد " ولما كشف عنها الطبيب نصحها بالابتعاد عن الكتابة وتعاطي المكر واستهلاك أصوات ضعيفة السند ( وبالتالي) بمطالعة كتاب الحمقى والمغفلين ، وفي الصباح كتاب الأذكياء " ص 63
إن ما نلمسه من سخرية في بناء هذا النص تجعل التناص مع العنوان مرتبط بشكل أساسي للكشف عن فداحة كبرى ، وتعاسة وهمية ناتجة عن " فقدان شهية السعادة " بمعناها الحقيقي والانساني . ويبرز نص " رذاذ سعالها القديم " ص 11 تشييدا للمقارنة بين محتويات الجرائد ووضع البطلة التي تهشمت مرآتها مقارنة بقدر ما تنحو بنا نحو إبراز التقاطعات الكثيرة للكشف خبايا الذات وانعكاس صورتها المتشظية . فاللعب على المقارنة بقدر ما عكس ضياع أبجديات الرؤية وفوضويتها الخارجية ، نحو تجليات أخرى على صفحة الجريدة .فالجريدة مرآة أخرى لقضايا المجتمع . يقول السارد " هذا الصباح اختفت كل الصفحات الثقافية والإعلانات السعيدة . هذا الصباح تزاحمت بدلا من ذلك مربعات التعازي والمواساة ، وصور الموتى والمفقودين والمنكوبين ، والمنتحرين والفاشلين " ص 11 . إن هذا الطرح سينجلي في المرآة المتشظية التي ضاعت فيها " أبجديات الرؤيا .ولم تستطع اقتفاء ثقوبها وشقوقها الفاضحة ..أصابتها قروح وجروح " ص 11 . وهو ما سوف ينتج عنه العديد من التجليات النفسية القاتمة ، يقول السارد " امتلأت نفسها من كل أنواع القذارة، وارتسم في وجهها كل أنواع القبح ..انكسرت داخلها كل لفائف مكرها ، ولم يعد يهمها غير مراقبة غروب الشمس " ص 12 . كما سنلمس ردود أفعال عفوية تبرز انشطارا في الشخصية " تآكل مشطها الأسود ، وتساقطت أسنانه ..هوت كل قوائمها الهشة ..تجلس أحيانا وسط القذارة لا تشعر بذلك حتى تهزها رائحة عفنها " ص 12
إن هذا الرصد اللصيق بالشخصية المحورية ، بقدر ما يسرع من إيقاع الحدث يدفعه نحو الأوج للكشف عن نهاية غريبة يقول السارد " ولأنها شديدة الفزع تشد بيدها إلى سريرها الصدئ حتى الصباح ..تنتظره لزيارة الطبيب ليكشف عن حملها الملوث " ص 13
وسيبرز انتقاد السلوك الانساني من خلال مجموعة من القصص القصيرة جدا " سرها وقصص أخرى " ص 17 بحيث يستهل الكاتب بتقديم دال " لو علمت زهرة النرجس بأن ماءها من بصل ، لتوقفت عن الفرحة " في إشارة إلى أصل النرجسية القميء والبذيء ، ودلالة على الأصل الذي تفوح منه رائحة القذارة , ففي قصة " سيرها " ص 17 نلمس مدى الغرور الذي يطبع سلوك بعض الأفراد وادعاءاتهم وهم يحاولون مراء ونفاقا أن يتحدث عنهم الأخرون ويبادرون على غير العادة بإفشاء أسرارهم ، وبالتالي الادعاء بأنها اسرار , يقول السارد " تحب كثيرا أن يتحدث عنها النساء ، فقالت لجارتها التي تعرف بأنها ثرثارة : غدا أسافر إلى المدينة ، واستكتمتها الأمر ..قالت الجارة لن يسمعها مني أحد " ص 17
إن حيثيات النص وسياقه بقدر ما يكشف طبيعة المرأتين يبرز بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الموقف الساخر فيه كثير من اللبس ، نظرا لتحكم الطبيعة النفسية المهزوزة فيهن معا ، وما يكتنفهن من غرور، وثرثرة .فالجمع بين تناقضين داخل نص واحد ، يبرز طبيعة المفارقة الساخرة في تناصها مع إشارات لتقديم حول زهرة النرجس وأصل مائها وغرورها .
في حين نلمس في النص الثاني " خاتم من وشم " ص 17 مدى بهتان ادعاءات المرأتين من خلال صراعهما حول خاتم وهمي من بقايا حب قديم من وشم لامرأة خرى ( ثالثة) يقول السارد :
قالت الأولى هو لي
قالت الثانية هو لي
قالت الثالثة بل لي
كان بقايا وشم لحبيبته القديمة "
إنه حفر في نفسية شخوص تعيش حالات من الوهم داخل فقاعات كبيرة من الكذب ، في إشارة إلى تردي الاخلاق وموت القيم .
ونكتشف أن لواعج الغيرة وأثرها البليغ على نفسية المرأة في نص " غاضبة " (3) من خلال قراءة البطلة لعبارة مثير ة على رسالة حيث يقول السارد " غضبت عندما قرأت أسفل الرسالة لصديقي لم يكتب اسمه قبلاتي الحارة بمناسبة العيد " ص 17
إن ما يخلفه اللبس من تداعيات الرسالة يبرز في الواقع طبيعة المرأة واستنفار غرائزها التي تظل متيقظة على الدوام . فالغيرة بقدر ما تنتج كرد فعل تعبر عن الحب لا تفتأ تعري عن حب الامتلاك والأنانية المترسبة في لا وعي المرأة بالقوة . فهل كان الغضب نتيجة للحب أم للغيرة ؟ أو لطبيعة حب التملك الذي تفرضه سلطة الحب ؟
وستبرز ملامح الشخصية المرضية في نصوص " بطاقات حديثة جدا " ص 18 ، من خلال ما تكشفه من استبداد ونرجسية وغرور كذلك . كما تعري نصوص " شهرة وقصص أخرى " ص 19 عن السخرية والنفاق الاجتماعي والاستيهام، الذي سيبلغ مداه المصاحب بنوع من التداعي في نص " موزع البريد " ص 19 أثناء التخمين بطرح فرضيات تتحول إلى قناعات في لحظات مشوبة بالصمت والانتظار . باللجوء إلى التأويل المقصود ، انطلاقا من الثقة الزائدة بالنفس . ومن خلال بناء تصور مبدئي عن الرسالة التي ستتخذ دلالة أخرى ( وردة ) وهو بانتظار أن يفتح له باب منزل طرقه أكثر من مرة . يقول السارد " طرق باب منزل أكثر من مرة ..إنها فتاة ..هذه الوردة لك ..عفوا الرسالة " ص 19
إنه استقراء للنوايا وللسلوك في علاقته بالأشياء التي تأخذ حمولاتها انطلاقا من انتظارات صاحبها الأكثر إلحاحا ، والأقرب إلى نفسه كاستجابة فورية ، لكنها تتعرض للإجهاض كحلم تحت وطأة كابوس .
وسيعري نص " بعض من هدوئها " ص 32 عن الهواجس الداخلية وعلاقتها بالمحيط الخارجي كعامل من الصراع مع الذات ، بحيث يكشف السارد نجوى البطل الداخلية في علاقة مع ما يرصده في المحيط الخارجي . وهو ما يعري عن فوضى الحواس التي تبرز تناقضا بين الواقع والخيال . وتكشف عن زاوية رؤية بقدر ما تتلاشى يستحيل استعادة بريقها في سديم الأشياء البعيدة .
إن هذا السفر الداخلي ، سرعان ما يصطدم بحركات البطل الواقعية واللاإرادية في تفاعل الآخرين معها إما بنوع من الحسرة ، أو الشفقة ، يقول السارد " كانت قفزاته تحمل كثيرا من الأشياء غير البريئة وقعت رجله ، صرخ ، لم سيتنجد أحدا ، كم سره ، واستدار بحروف من طلاسم وألوان ماكرة . العابرون ينظرون إليه في هدوء " ص 33
إن الصراع الذي يعيشه البطل مع ذاته هو صراع يظهر ويختفي ، لتبرز أحيانا داخل النص كنوع من الميتاسرد من خلال تفاعل المرئيات وحوارها المباشر معه ، يقول السارد " كل النتوءات الصغيرة ، والكبيرة ، لوحت في السماء : أنت كبير ، أنت نزلت من على ظهر الفرحة وقالت أضحكتهم قبل أن تضحك " ص 34
فمآل البطل بقدر ينفتح على مجهول يبرز نهاية موجعة جدا " لم يعد للزمن معنى إلى أن طرحك ..ضمن بياض المشهد ووضعوك في قبرك النهائي ، اختفى ترنحك ، وانعدام قفزك ..لأنك كنت ذات يوم هنا بلا معنى فأنت اليوم منسي هناك " ص 34
2 – العلاقة بالمكان
تتحول الدهشة والاصطدام مع المجال عاملا سلبيا وغير مساعد على نمو ملكات الفرد ، ما يعيق فهمه واستيعابه للأشياء من حوله . فبطلة نص "تفاصيل ثيابها " ص 8 ، في زيارتها الأولى للمدينة وتيهها بين دروبها ، ستكتشف نفسها ، ولم تحتفظ من رحلتها سوى بزهرة النرجس التي كانت حافظة لأسرارها وذكرياتها ، وصدمتها ، تستنشق عبقها إلى أن ذبلت أوراقها ، واتسخ بياضها كتفاصيل ثيابها . وهو ما أبرزته النتف التي ثبتتها بلوعة في مذكراتها " يرو في ايقاع الأشياء ...فصارت قصيدة حديثة " ص 8
إن سياق النص بقدر ما تغرقه في وصف التفاصيل الجانبية الكثيرة تعمل على إبراز العلاقة مع المكان ومؤثراته العديدة ، وإيقاع الحياة السريع كما تعكس نوعا من الاغتراب والعزلة ، وبالتالي الرفض لطابعها الهندسي . لم تتحمل شرفاتها المطلة على البحر والعابرات والعابرون باستمرار ..اكتشفت أنها خائبة " ...تاهت بين فروعها المستقيمة والملونة ومحلاتها المتناثرة يمينا وشمالا " ص 8 . فالعلاقة بالمكان تبرز نوعا من التنافر في العديد من النصوص الأخرى كذلك ، كما تبرز ارتباطا قويا في أخرى " قهوة ..وكاوكاو ,,"ص 46 حيث ستبتلع أزقة المدينة البطل وتمتص جدرانها الواسعة والعالية صوته .
ويتم استثمار فضاء الحلم في نص " لا يشبه إلا نفسه " ص 68 ليبرز التوظيف انفتاحا أعمق على حقائق الواقع من خلال الاشارة والتلميح الساخر ، باعتباره حلما مرعبا أو كابوسا مزعجا مناقضا لما تعودنا عليه من تحقيق للرغبات وتكسير للموانع والقيود . فالحلم في النص سيتحول إلى حلم بمدينة بقدر ما تعيش فظاعة الواقع يحاول السارد تغييبه بالكشف عن تطلعاته حولها باعتبارها مدينة تفتقد كل مقومات المدن الأخرى وبنياتها التحتية يقول السارد " أعلم أنك تبكين ابنك المهاجر ..غدا سيعود ، وفي يده شهادة ليبني مسارح وملاعب وميادين للتدريب ، ويعز علي أن أتركك للمياه المنهمرة ، فتتدفق كثيرا في شوارعك الجميلة المخيفة " ص 69
إن التلميح يحمل من الحسرة ما يجعل صورة المدينة في الواقع غارقة في البؤس ، والشقاء ، والتخلف ، والانتظار والاهمال المقصود الذي سيبرزها كمدينة مهمشة منذ القدم يقول السارد "فهمتك أخيرا فقد قالها رجلان صالحان في غابر الأزمان فعاشت مدينتهما في عز ونبات وثبات وهما يرقدان في اسرّة من بياض ..أنت يا حبيبتي أريد لك أن تشبهيني " ص 69
3 – بعض ملامح التوظيف الجمالي
يبرز التوظيف الجمالي في كتابة القاص سعيد موفقي من خلال مجموعة من النصوص ،بارتكازه على دقة الوصف ، ورصد الحركة ، والاثارة ، والانسياب ، والتداعي الدي يسحب القارئ نحو عوالمه السردية الفريدة . ففي نص " مصممة أزياء " ص 44 يتميز الاشتغال بنوع من التركيز على تحول في صورة عارضة الازياء اللحظة التي كان فيها سارد النص يصفها وهي تبدي مواقفها حول أنواع الفساتين ، إلى عارضة ازياء بالقوة في غرفتها المطلة واجهتها على شارع عمومي ، مع ما أثارته تصرفاتها من فضول العابرين إلى حين تعثرها وسقوطها . وهو ما أثار انتباه جاراتها اللواتي التففن حولها فنهرتهن .
إن هذا اللعب يكشف عن تطويع رهيب ، وعصف
بانتظارات المتلقي ، وبالتالي عن الهواجس النفسية للبطلة وتطلعاتها يقول السارد " تتمتم هذا الفستان ذو الألوان يناسبني ، ولعله تصميم جديد ..لا ترتديه امرأة إلا امرأة يملؤها وتملأ تجاويفه الخاوية ..تعطيه أسرارها ويعطيها شكلا مختلفا . تقوم من سريرها وهي مثقلة بالحلي ..تحز في نفسها رقصة .لم تسعفها الغرفة وهي تتنقل بين مساحات البهو ..تتعثر أحيانا طقطقة كعبها العالي تذوي في زوايا البيت ..كانت نافذتها المطلة على الساحة العمومية تكشف تفاصيلها الداخلية والعابرون يكسر فضولهم ظهورها واختفاؤها " ص 45
إن جمالية هذا الوصف سيضاهيه آخر في نص " قهوة ..وكاوكاو .." ص 46 حيث تبرز ملامح شخصية انفصامية مليئة بالتهيؤات عكستها أحداث النص وزوايا الالتقاط ، من خلال تيه البطل في الشارع العام ، أو من خلال رصد السارد لملامحه وسلوكه ، وهو يهرس حبات الكاوكاو ، وتلذذه بها وفركه لأخرى متساقطة بحذائه الخشن ، ناهيك عن التبئير الممارس للكشف عن دقة الحركة السريعة والعفوية أحيانا من خلال وصف طريقة الالتفات إلى الوراء والأمام لعكس تشتت زاوية الرؤية والتذبذب في السير أو في وضعية الركوب في السيارة وقد تطايرت كلمات بلهجة بدوية من فمه .
فالتبئير تتخلله إطارات أخرى كالالتقاط : كالجانبي لتوسيع المشهد من خلال الاشارة إلى انتباه المارة ، وتتبعهم للحدث . يقول السارد " العابرون في الجهة الأخرى من الرصيف يزعجهم صراخه ، اكتفوا بالصمت ..رسم جميعهم علامات استفهام على هامش رصيفه " ص 47
4 – السلطة والاعلام بين الانتقاد والسخرية
يبرز الملمح الساخر في مجموعة " كمثل ظله "من خلال النصوص القصيرة جدا ، بحيث نلمس في نص 01" القائم السادس " ص 21 .كيف أن العقلية المسيطرة تنزع دائما نحو القوة ، والعنف لممارسة تغيير ما ، عنف يكون مصدرا أساسا نحو الكائن الأضعف يقول السارد " كرسي بخمسة قوائم ، والسادس قصير . يجمع خمستهم : نريد اسقاط القائم السادس .
إن الطرح هنا يتجاوز حدود المنطق ونظريات الفزياء ، على اعتبار أن التوازن قد يتشكل في النهاية بقائم واحد ، وهو ما يؤشر على سلسلة من الانقلابات المتوالية مستقبلا .
في حين يبرز في نص 02 ' عدوى " ص 21 الدور الكبير الذي تقوم به وسائل الاعلام في اثارة الفتن والقلاقل من خلال إذاعتها لأخبار مثيرة للقلق ، محفزة بذلك على الفوضى . كما أن الاشارة في النص تنحو بنا نحو الدور الجديد الذي تقوم به مواقع الاتصال الاجتماعي ، وخطورتها على بعض الدول ، حيث يبدأ الصراع بالحرب الكلامية ، وينتهي بالمواجهات الميدانية والاعتصامات والتنديدات التي تعمل الدولة بشكل استباقي على مواجهتها في مهدها ميدانيا قبل اندلاع فتيلها بشكل خطير يصبح من الصعب التصدي له . فالخبر المثير في حد ذاته فيروس خطير قابل لتقويض دعامات الأنظمة عبر تسربه بشكل مباشر ومغرض لفئات من الشعب دون تأكيد مصداقيته ، وهو ما يكشف عن طبيعة عقلية شرائح واسعة من الشعب المتأثرة بسرعة بأخبار عديدة دون تمحيص أو تدقيق لملابساتها وصحتها .
ويبرز مكر الاعلام الورقي كذلك من خلال نص 03 " اللهم إني صائم " ص 22 بحيث نلمس نفس الامتداد - أو الاشارة التي يقدمها النص السابق – إلى الضجة والاثارة التي يشكلها الخبر للكشف عن مكامن الخلل احيانا مع ما يكتسيه الخبر ذاته من محاولة لتوحيه أنظار الشعب نحو منتوج جديد بإثارته للشكوك في مصداقيته رغم تداوله على نطاق واسع . فالإشارة في النص بقدر ما تروم محاولة توجيه الناس وتنبيههم لقداسة شهر رمضان مثلا وضرورة استقباله بالطاعات والعبادات ، تبرز في الوقت ذاته مفارقة كبيرة بين صناعة السينما الأمريكية المسيطرة والمنتشرة عالميا والمتحررة ، بالمقارنة مع نظيرتها الصومالية دون ارتكاز في الاساس على حدود المقارنة التي تغيب أصلا لتدل على سخرية مثيرة للضحك مستمدة من دائرة النكتة والمرويات الشفوية كالمستملحة والأثر والعبرة .
شخوص هذه النصوص ، لا يتورعون بشكل أو بآخر من النيل بشكل ساخر جدا من تصرفات بعض المدعين ، خصوصا الشعراء ، كما هو الأمر في نص " ميثاق شرف " ص 23 حيث نلمس تصويرا دقيقا لإنتاجاتهم " الشعرية" التي غالبا ما تكون خالية من كل مسحة جمالية ، أو تداعيات صور تساهم في بناء المعنى أو تشكل الدلالة ، ارتكازا على خصوصية الجنس الأدبي وأركانه ومقوماته . بحيث يبرز قبح المنتوج ورداءته ، وبالتالي يكشف عن ردود فعل صاحبه العفوية والمقصودة ، وهو يكتب خربشاته أو يمحوها كنوع من التنكيل بهم دون أن يدري أنه يسقط في زلة يكون وقعها أكبر من العذر نفسه . يقول السا رد " مللت الحروف ، أريد أشكالا ، فرسم كلبا ينبح وهو يقضي حاجته ، ووقع هذا ميثاق شرف بيني وبين الحداثة " ص 23
فالسخرية تبرز كمحاولة لإبراز عيب صاحبها ، وهو ينتقد محيطه دون الاحساس بفضاضة حاله ، أو ضعفه مثلا ، كما في نص " هاجس حذائها " ص 39 باعتبار البطلة أن كل الأحذية متشابهة ، وهي جد منزعجة ، لتدرك في النهاية أنها تشكل استثناء لكونها تعاني من تضخم في قدميها لتضطر إلى رسم حذاء يشبهها .
كما نلمس في نص " حروف فاتنة " ص 71 سخرية من أشباه الشعراء في محاولاتهم اليائسة في كتابة قصائد مديحية دون القدرة على التوفق فيها . سخرية تبرز جنونا واستخفافا ، وهزال لغوي . يقول السارد " يظنها نصرا يكتب سطرا ثم سطرين ..يرتبهما ويحذف حروفا وتسقط حروف ، يشوه كلمة جميلة .يظنها لؤلؤة من شدة سوادها " ص 71
فالسخرية في المجموعة بقدر ما تلجأ إلى الانتقاد تعمل على الكشف عن النقائص والعيوب ، في محاولة للتنبيه والتصحيح . وهو ما لمسناه في نهاية النص ، باللجوء إلى الاسلوب التقريري ، الآمر والساخط " أعد قراءة سجلك ففيه سهو ..أعد كتابة حروفك ففيها سطو ..أعد تركيب كلماتك ففيها فتنة ..أعد تفعيلاتك ففيها كسر ..فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن .." ص 72
5 – الكتابة بين التوظيف والتضمين في مواجهة البياض
تميز الاشتغال في هذه المجموعة بالتضمين والتنويع وسلاسة التوظيف المتعدد المنفتح على تجريب رهيب لمقومات أجناس عديدة .كالشذرة ، وفن التراسل ، والبورتري ، والخاطرة ، والمشهد الروائي ، واللوحة التشكيلية ، والسيرة الذاتية ...والمشهد المسرحي ..وهي توظيفات أبرزت فتح العديد من المسارات التجريبية لمواجهة البياض أثناء الكتابة .
ففي نص " تقتفي أثرا" نلمس مدى معاناة البطلة في مواجهة البياض تعبيرا عن امتناع الكتابة كلما حاولت مواجهتها تتقاطع أحداث ماضيها " ليفضح حشودا من عثراتها ، وأكواما من النتوءات المستعرة وبقايا عصبية متدافعة محترقة " ص 9 حروف قديمة ونذوب يستعصي على صاحبتها تخطيها بسهولة . لأنها كلما حاولت ذلك تجد نفسها " تقتفي دوما أثر القذارة لتشبع نهمها بعد حرمان طويل " ص 9
إن هذه الترسبات بقدر ما تتحول لحاجز نفسي مقيت لكل تحرر رغم مواظبتها على الاشتراك بانتظام في اقتناء جريدة يومية ، لا يبدد قتامة أيامها . وهو ما يدفعها للاستسلام دوما في النهاية " وتكتفي بالسكون ثم تعود " ص 9 وكأنه اقتفاء للسراب المبهم والعيش على حافة الحلم المجهض .
في حين نلمس توظيف الخاطرة ومحاولة تقديم مفهوم نظري للسيرة الذاتية في نص " مجاز مرسل وعلاقته الحالية " ص 14 . فبناء النص اعتمادا على ضمير المخاطب يقصر المسافة بين السارد والمتلقي ، لتتحول أحداث النص إلى نوع من البوح وإبداء النصح حول الكتابة . من كتابة عن الغير باعتماد التخفي والغياب والتواري من الحدث الواقعي نحو آخر متخيل يقول السارد " سيبقى نزيفك بلونه القاني ، يحمل زيفك وأشجانك ..وستكتب في بياضك الذي لم تكتب فيه إلا أحلامك الكثيرة " ص 14
إن هذا الطرح يسوق صاحبه نحو اعتقاد واهم " ما كنت تعتقده كان وهما ، وما أصابك ممن ساورك هاجسهم أنه أمر طبيعي " ص 15 وهو ما دفعه إلى تبني طرح بديل يقول السارد " إذن أعد كتابة مذكراتك كما تقتضيها البساطة وانس أنك على علاقة ..لتكون بطلا حقيقيا لا مجازيا " ص 15
في حين نلمس أن توظيف " البورتري " انطلاقا من عتبة المجموعة التي بقدر ما تحيل على تحديد بورتريه خاص لشخصية ما سيبرز في الواقع ترسبات وجوه أشخاص عديدين في مخيلة بطل النص، ما يجعل نص " بورتريه " ص 35 مرآة عاكسة لوجوه مذمومة وكريهة يمقتها بشدة كلما شعر بالضيق أو جاب أمكنة شده الحنين إليها . ليتحول النص إلى وصف لصيق لشخص غير عادي جدا استبدت به الأوهام والكوابيس بعدما طوحت به الصدفة فجأة في أحد أزقة المدينة لتعلو ذكرياته الموجعة ، وتعري عن فشله الذريع في حياة حارية يحاول تعقب سرابها دون الظفر ولو بلحظة جميلة من لحظاتها .
ويبرز توظيف التراسل كما في نص " ومن على شاكلتها " ص 50 من خلال ما تجلى من طبيعة الخطاب وسياقه بتوظيف ضمير المخاطب " أعرف أنك تكرهين الشوارع التي تؤدي إلى الألم ..لأنها كانت ذات مساء ممرا لمتاهتك " ص 50 فالخطاب بقدر ما يعري عن واقع مليء بالحسرة يكشف عن محاولة للنسيان وقرارا بالابتعاد والتخلي عن الآخر . فالنص يتحول إلى رسالة عتاب وندم تبرز نوعا من السخرية " تخشين ..تخشين أن تخذلك أيد لا تريد ملامسة يد ..كم رجلا مر من هنا ؟ وعابر سبيل يتخطاك ..إلى أن أدركك الصبح الذي ظننته ليلا " ص 52
ونلمس توظيف القالب الحكائي في النص " الذئب والزنبقة " ص 64 ، وهو تشييد يتم انطلاقا من تحولات وقائع على لوحة تشكيلية قيد الانجاز ، وهو أمر لا يتم الكشف عنه إلا في نهاية النص .يقول السارد " حينها شكل الرسام لوحته ، لم ينس رسم الشمس في أعلى الزاوية التي لاح عنها الصبح " .
إنه اشتغال يبرز محاولات فريدة للتجريب القصصي بالبحث عن ممكنات جديدة للكتابة بحثا عن قوالب كفيلة بجعله قابلا للتلقي ومحققا للذة بدون منازع مع اتحافه بتضمينات تحقق فرادته وخصوصيته . فانفتاح الكتابة القصصية عند القاص السعيد موفقي لا تقف عند حدود معينة من التجريب حيث لمسنا اختراقها لتخوم الرواية كما في نص " تعد خطواتها " ص 54 ليكشف النقاب عن صورة بطلة في أرذل العمر تبدد ما تبقى من زمن في تعقب ذكرياتها الماضية ، وأحداث واقعها المليء بالنبذ والقهر والعزلة ، ناهيك عن توظيف الشذرة كما في نص " بكاء " ص 64 وهو توظيف يتقاطع مع القصة الومضة يقول السارد " بكى بعضهم لموته لأن عوراتهم مكشوفة "
فالمثير في هذه المجموعة القصصية أن كل نص من نصوصها يبرز اشتغالا خاصا ، وكأنها كتالوغ سردي يعكس تجربة عميقة واشتغالا هادئا لقاص يمتلك ناصية اللغة والتحبيك ، ومدعما بفهم كبير لأدوات الاشتغال القصصي المتسلح بوعي نقدي كبير .ويمكن الاشارة في هذا الصد إلى التوظيف الميتاسردي الفريد في نص " من دفتره " ص 16 وتدور أحدات القصة بين السارد والبطل .اشتغال لا يشعر القارئ بمناورته وهو يسحبه بهدوء نحو تفاصيل معلنة عن انقلاب في حياة البطل ( حوار مقنع بين الكاتب والسارد) يدخل ضمن ذاكرة الرد على المتشككين في ابداعه ، يقول السارد " قال مقنع ..ستجني عليك حروفك ..لأنك لم تنتبه " وهو تحذير يحمل في طياته الكثير من القلق والخوف المقنع كذلك ، وكتعبير عن سخرية مضمرة يهدف بها بناء مفارقة تجعل النص يدور في حلقة ( البداية كالنهاية ) لتتحول مضمرات النص محط نقاش بهدف الكشف عن وقائع حياتية لمثقف لم ينل حظه من الشهرة والمكانة الاعتبارية من طرف محيطه . وهو ما سيبرز من خلال الاشارة إلى رداءة انتاجه ( جملتان في دفتره تشبه الشعر ..ومقهى الخيبة ..كلمتان لم تنضجا في طفولته " ص 16 . وسيكون انطلاق النص من خلال همس إحدى الكلمتين في أذنه وهو ما سيفجر ما كان مخبوءا في أعماقه من سخط وحنين قال " سئمت ربطة العنق ..وحركة اليدين إلى السماء ..والوقوف والانحناء ، وضجيج الكراسي والصراخ ...والزهور " ص 16 ما يكشف عن تدحرج رهيب نحو هاوية سحيقة وتعرية عن طبيعة الشخص المتناقض لمشاعر والمواقف كذلك . لنلمس تكرار تحذير البداية في نهاية النص " قال مقنع ستجني عليك حروفك لأنك لم تنتبه .."
كما لمسنا ارتكازا على تقنيتي البناء والهدم في نص " حديث الصباح والمساء " ص 49 من خلال اعتماد المتقابلات الضدية لا براز فظاعة نوع من التحالف المستحيل بين الغراب والحرباء وما يتسبب فيه الغضب من تدمير وتخريب ، اعتمادا على الأنسنة يقول السارد " هذا الصباح زقزق عصفور ، تفتحت وردة ، ازدهرت فراشة على ورقة توت..ابتسمت الشمس للمنظر .طلب غراب من حرباء تحالفا ، غضب مال الغصن وسقطت الورقة لكن الجدول انساب في هدوء وفي المساء أعدم الليل كل شيء " ص 41 . هذا إلى جانب التناص التاريخي من خلال نسج رفيع لتفاصيل واقعة التقطت ببراعة من خلال اللجوء إلى الأنسنة . فاستهلال النص " إلى صاحب كتاب الحيوان ..من غير قصد " ص 53 بقدر ما يعلن تناصه مع كتاب الحيوان للجاحظ ، نجد أن نص " برأس سافر " ص 53 بتحويره المقصود ودلالته البليغة ( المرأة / الحية ) يكشف عن سياق آخر من خلال التقاط تفاصيل من الواقع يقول السارد" أبدت جمالا منقطع النظير عندما جابت شوارع المدينة ، وكعب حذائها المزعج لا يختلف عن صرير شيء تافه " ص 53 في إشارة إلى امرأة هوى تبحث عن طريدة محتملة يقول السارد " تجردت من ثوبها في يوم حار ، انتصبت لتوها لتوهم طيرا أو جعلا يبحث عن مستقر أعياه التحليق لتلتهمه " ص 53
كما نلمس نوعا من الاشتغال الميتاسردي المندس في طيات النص بتحويل صاحب كتاب الحيوان إلى متفرج على الأحداث يقول السارد " ضحك الجاحظ كثيرا لهذا المشهد واشتد فضوله ..عزم على تتبعه .أدهشته تفاصيل هذه الحية ..فضحته رقصات ظمئها " ص 53
إن اليقظة التي ابرزتها الحية ( المرأة ) في النص سرعان ما تحولت إلى نوع من الغباء بتحولها إلى وجبة دسمة لطائر جارح . ولعل هذه النهاية الدرامية جعلت الجاحظ يصمت بعدم الكشف عن تفاصيل أخرى ، لكن السارد في المقابل سيكشف النقاب عن بعض تطوراتها الأخرى خارج مكان الواقعة يقول " في المساء تفقدت حيات بيضها ، وعزمت على الرحيل بحثا عن وكر يشبه عش العصفور " ص 53
إن هذه النهاية تجعل من التأويل مستمرا ، وبالتالي مفتوحا على بياض آخر كما وجدنا في نص " قرون استشعاره " ص 8 وإن كان قد جاء بشكل مخالف .
-على سبيل الختم
قبل الختم يمكن الاشارة إلى مجموعة من الملاحظات الخاصة بهذه المجموعة ، بحيث لمسنا أن جل عناوينها تنتهي بنقط الحذف ، وعلامتي التعجب والاستفهام .الترقيم يغيب في الجمل نقطا للتوقف تحديدا للجمل القصيرة . بل استعمالا للفواصل تعبيرا عن الاسترسال وعن ايقاع سريع وتجلى هذا الأمر سواء في القصص القصيرة أو القصص القصيرة جدا . بالاضافة إلى نقط الاسترسال والحذف التي تتخلل الجمل في جل النصوص .
تتضمن بعض النصوص إما تساؤلا أو حكمة أو إيماءة من قبيل " كم تقضين ساعة خارج البيت ؟ " ( نص ومن على شاكلتها " 5 أو إشارات منبهة أو مقطع دال على خصوصية بطل كما في نص " قهوة ,,وكاوكاو "ص 46 " وحبات الكاوكاو تتناثر في فوضى يهرس ما وقع منها بين أضراسه على عجل ، تحدث طقطقة ، يتلذذ بها ، تقع حبات ، يعركها بقدمه الذي يملأ حذاءه الخشن لسوء حظها " ص 46 أو محيلة على نوعية النص الموظف " مشهد من رواية ( نسق الحروف ) كما في نص " تعد خطواتها " ص 54 أو على شكل توضيح لما سيأتي " من الدروس التي سأل عنها التلاميذ كثيرا في بداية الموسم كما في نص " جزم حروف العلة / نص ملتبس ص 85 . في حين تندرج القصص القصيرة جدا تحت عنوان رئيسي ( وقفات " ص 36 وخمس قبلات وكل قصص قصيرة جدا ، كما لمسنا توظيف الحوار في نص " منذ بدء المسافة " ص 81 الذي عمل على اختزال مساحات كبيرةمن السرد للوصول بالحوار نحو نهاية آمنة ، وبشكل مختزل .
فالمجموعة باشتغالها اليقظ والماتع ، وتنوع أدواتها ، ومواضيعها وتقنيات كتابتها ، ومواقف شخوصها تقدم صورة بانورامية عن واقع الحياة بصفة عامة ، وعن نماذح بشرية بصورة فنية منتقدة التهميش ، والدونية ، والفقر ، والسلوك الانساني ، كما تبرز بسخرية وانتقاد لاذعين رداءة الابداع ، والصحافة ، والشطط في استعمال السلطة ارتكازا على التضمين والتجريب والانفتاح على ممكنات الكتابة القصصية الجديد في افق البحث عن انفتاح النص القصصي المتحرك ضد الرتابة والجمود ضمن حلقة رفيعة من التجريب الواعي والتضمين الحذر والتوظيف السلس.
ــــــــــ
سعيد موفقي " كمثل ظله " قصص دار الأوطان الجزائر 2011 ( عدد النصوص 44 نصا)