نقوس المهدي
كاتب
تطور الحركة الصوفية:
اكتست الحياة الدينية في عهد بني مرين مظاهر جديدة بسبب نشاط الحركة الصوفية من جهة ودخول العناصر اليهودية في الميدان السياسي إلى جانب الاحتكاك بالمسيحيين المتوافدين على المغرب كغزاة أو تجار.
وقد لوحظ أن الحركة الصوفية فد اتسع نطاقها على الخصوص شمالا حيث كان لزعمائها في التوجيه الروحي لسكان هذه الناحية التي تسلط عليها التدخل الأجنبي.
لم تكن الحركة الصوفية في عهد بني مرين تكتسي صبغة التمرد المسلح على الدولة أو التكتل ضدها، بل كانت في الواقع ثورة سلبية على الوضع الديني والاجتماعي والسياسي الذي صار إليه الشعب والدولة. وظلت هذه الثورة مكبوتة لتنطلق في صراع مسلح ضد التدخل الأجنبي منذ أواخر أيام الدولة ثم تشتد ابتداء من عهد الوطاسيين.
ونستطيع أن نقسم رجال الحركة الصوفية في هذا العهد إلى قسمين رئيسيين، قسم انقطع لعبادة الله وتجرد عن الخوض في شؤون الدنيا، ومن بين رجال هذه الطائفة أفراد زهدوا لمجرد الزهد ولم يؤسسوا طريقة معينة، وأشهرهم الإمام ابن عاشر، والباقون فيهم من تزعم حركة صوفية معينة وكون لنفسه طريقة كالإمام الجز ولي. ثم هناك طبعا مريدون وأصحاب لكل من الطائفتين. أما القسم الثاني فهو الذي كون نواة لحركة الجهاد التي سيتسع مداها في عهد الوطاسيين.
أما تعظيم الشرفاء فلئن تحددت معالمه في عهد المرينيين فسيتسع أيضا في عهد الوطاسيين ثم يمتد أكثر فأكثر أيام السعديين والعلويين. ولقد كان تنصيب الشرفاء الجوطيين بفاس محاولة لإرجاع دولة الادراسة إلى الملك بعد غيبة دامت عدة قرون. بيد أن قلب دولة وتأسيس أخرى لم يكن أمرا هينا، فقد كان على الادارسة الجدد أن يمهدوا لدولتهم بدعاية واسعة النطاق داخل المغرب ويعدوا الأموال اللازمة لضمان نجاح دولتهم. وفقدانهم لهذه الوسائل إلى جانب السند العسكري اللازم جعل دولتهم تموت في عهدها.
ولقد أصبح المذهب المالكي في عهد المرينيين يسيطر وحده في ميدان التشريع والعبادات مثلما كان الأمر في عهد المرابطين. ولم يفقد الفقهاء نفوذهم السياسي بالمرة في بلاط المرنيين ، بل كان القليل منهم تأثير بالغ في توجيه السياسة الملكية، مثلما كان الأمر بالنسبة لابن مرزوق، وقضية قتل ابن الخطيب.
نشأة الزوايا:
لم يعرف المغرب الزوايا قبل عهد أبي يوسف، ثم لم يكن دور هذه الزوايا في عهد المرينيين بوجه عام مثلما صار عليه في عهد الوطاسيين المتأخرين. فقد كان قصد أبي يوسف من بنائها أن تكون بمثابة دور لاستقبال الغرباء والوافدين من الخارج من كبار رجال الدول وأعيانها (1) والغرض الأول من بنائها كان كما نرى ابعد ما يكون عن الهدف الوصفي الذي اتجهت إليه فيما بعد والظاهر أنها أصبحت مع الأيام المكان المفضل لرجال التصوف الذين كانوا ينقطعون فيها للعبادة ثم تحولت لاستقبال المريدين والأتباع الذين ينقادون لحركة طرقية معينة وصارت لا تبنى لا لهذا الغرض. وكان أبو عنان قد خصص للمساكين الوافدين على الزوايا طعاما يوميا، فهيا بذلك الجو عن غير قصد لجعل الزوايا تستقبل المرديين وخصوصا الفقراء فيما بعد.
وكان بالمغرب منذ عهد المرابطين بل قبلهم ربط كانت عبارة عن محتشدات لجهاد ونشر الإسلام بين ربوع المغرب، بيد أن هذه الربط قد ضعف شأنها أيام المرينيين وبدأت تترك مكانها لزوايا التي انقطع اغلبها للجهاد الروحي. على أن أهم الزوايا التي ترجع إلى العهد المريني هي زاوية النساك بسلا، وهي من بناء أبي عنان سنة 757، وقد بقي من بنائها بابان موقعهما قرب ضريح (سيدي بلعباس)، وترجع معظم الطرق الصوفية بالمغرب إلى أصول محلية حيث انتشرت بواسطة الإمام الشاذلي الذي استقى أهم أصول طريقته عن الإمام عبد السلام بن مشيش.
حياة بعض كبار المتصوفة
1- أبو الحسن الشاذلي
علي تقي الذين أبو الحسن الشاذلي من قبيلة غمارة التي ولد فيها سنة 593. ومع أن نشأته ووفاته أيضا كانت في عهد الموحدين(قبل سقوط دولتهم ببعض سنوات) فان طريقته لم تنتشر بالمغرب إلا في عهد متأخر من حكم بني مرين.
وكان أبو الحسن الشاذلي نحيف خفيف العارضين طويل أصابع اليدين، فصيح اللسان والمنطق، وكان يلبس الفاخر من الثياب ويستنكف من لبس المرقعات ولو انه قد البسه الشيخ حرازم مرقعة ليعتنق بذلك مذهب المتصوفة، وكان يركب الدواب ويتخذ الخيل الجياد ويقول لو اتخذ أصحاب المهن لباسا يتميزون به والعلماء لباسا خاصا يفرض على الناس احترامهم، واتخذ الحكام مثل ذلك إظهارا لهيبتهم، فلا يجوز للصوفي وهو السهل السلس، أن يتخذ لباسا لأنه ذلك العابد الزاهد الذي إذا تميز بالزي افتضح حاله وسره، والواقع أن هذه كانت نظرية عدد آخرين من متصوفة المغرب كابن عباد وغيره.
وقد تلقى الشاذلي دراسته ومعارفه في ظل دولة الموحدين بالمغرب وتونس، ومن اشهر شيوخه بالمغرب أبو الحسن بن حرازم الذي تلقى عنه الشاذلي طريق القوم كما لبس خرقة التصوف، كما اخذ عن عبد السلام بن مشيش الذي أوصاه بالدعاية لحركته في تونس بعدان يستزيد من معارفه بها، وفي تونس تلقى الشاذلي علوم الحديث والكلام والفقه وغيرها على عدة علماء كأبي سعيد الباجي وأبي محمد المهدوي شيخ صوفية تونس الذي تلقى هو نفسه عن أبي مدين وعيد السلام بن مشيش.
وقد هاجر الشاذلي إلى تونس وهو بعد حدث، ثم هاجرها إلى مصر سنة 642. وكان توجهه إلى إفريقيا بأمر من عبد السلام بم مشيش الذي أوصاه أن يبدأ دعوته بشاذلة من أعمال تونس. لذلك اشتهر بالشاذلي مع انه من غمارة. وفي تونس اقبل عليه المريدون واتخذ له دارا بمسجد البلاط، وتردد بينها وبين زاويته بجبل زغوان للخطة التي رسمها له أستاذه ابن مشيش وتألب عليه بتونس جماعة من الفقهاء الذين حسدوه على ما ناله من صيت بافريقية وتزعم معارضته والكيد له ابن البراء قاضي الجماعة بتونس، مما اضطره إلى الهجرة إلى مصر سنة 642 حيث مكث بقية أيامه تحت ظل الأيوبيين إلى أن لحق بربه سنة 656هـ. وذلك بعد إن كف بصره، وصادفته المنية وهو في الطريق إلى الحج فدفن بقرية حميثرا بصحراء عيذاب بصعيد مصر بين قناء والقصيرة وتولى تجهيزه ودفنه أبو العباس المرسي الذي كان على رأس أصحابه، وضمنهم الشيخ بدر الدين بن جماعة الذي تولى منصب قاضي قضاة مصر، وكان يفتخر بحضور جنازة الشاذلي ويقول:إن بركة الشيخ قد حلت بالديار المصرية منذ أقام فيها.
ومن وصايا ابن مشيش للشاذلي:
1)الله الله والناس تنزه لسانك عن ذكرهم، وتنزه قلبك عن التماثيل من قلبهم، وعليك بحفظ الجوارح على الله وأداء الفرائض لله، وقد تمت ولاية الله عليك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد ثم ورعك، وقل اللهم ارحمني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم وأغنيني عن خيرهم، وتولني بالخصوصية انك على كل شيء قدير.
2)أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة: المحبة لله، والرضى بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله. وأما القيام بالأربعة الأخرى فالقيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارم الله، والصبر على ما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي.
3)ألزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب، وأخضع لسيد واحد تخضع لك الارقاب، قال الله وان من شيء إلا عندنا خزائنه، فأين تذهبون.
وقد عرف الشاذلي التصوف بأنه تدريب النفس على العبودية وردها لأحكام الربوبية. قال: للصوفي أربع صفات: التخلق بأخلاق الله، وحسن المجاورة لأوامر الله، وترك الانتصار للنفس حياء من الله، وملازمة البساط بصدق الفناء مع الله.
وتنبني طريقة الشاذلي بعد تبلورها، على عدم التجرد كلية من الدنيا والمزاوجة بين العمل لها ولدين، وفي ذلك قال الشاذلي: ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، ولا بقبقبة الصناعة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية.
وقال:من أراد عز الدارين، فليدخل في مذهبنا يومين. فقال له القائل: كيف لي بذلك؟ فقال: فرق الأصنام عن قلبك، وأرح من الدنيا بدنك، ثم كن كيف شئت فان الله تعالى لا يعذب العبد على مد رجليه في استصحاب التواضع للاستراحة من التعب، وإنما يعذبه على تعب يصحبه التكبر.
2-أبو عبد الله الجزولي:
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الجزولي نسبة إلى قبيلة جزولة الشهيرة التي ينتمي إليها عدة علماء وشخصيات دينية، وعلى رأسهم عبد الله بن ياسين، ونسب الجزولي إلى سلالة النبي عليه السلام شأن كثير من الصوفية غيره وسواء اثبت هذا النسب أم لم يثبت فقد كان الغرض منه استمالة الشعب المغربي الذي يعترف بفضل الأشراف الادارسة في نشر الإسلام ببلاده، ولم يكن الجزولي ولا الشاذلي ولا كثير من الصوفية الأولين يهتمون بادعاء الشرف وإنما كان العامة يرون من البركة في شرفاء الصوفية ما لا يرونه في غيرهم.
وتلقى الإمام الجزولي دراسته بفاس والمشرق، وأخذ طريقة الشاذلي عن شيوخها بمصر. وقيل انه توفى بجزولة ونقله أبو العباس احمد الأعرج من مدفنه فوجده بحاله لم يتغير من جسمه شيء مع بعد العهد على أن الإمام الجزولي قد أتيح له أن يأخذ مبادئ الطريقة الشاذلية بالمغرب قبل أن يستكملها بمصر. وهكذا درس على شيوخ الصوفية بتيط قرب الجديدة وقد دفن الإمام الجزولي بمراكش بعد أن نقل جثمانه في عهد الملك السعدي المذكور، من افوغال وقد وضع هذا الصوفي الشهير دلائل الخيرات الذي ردد أوراده وأدعيته ملايين المريدين منذ وضع. وقيل أن مريديه بلغوا في عهده أثنى ألفا(2) وكانت وفاته سنة 869هـ أي في نفس السنة التي سقطت فيها الدولة المرينية.
3-أبو العباس احمد بن عاشر:
أبو العباس بن محمد بن عمرو بن عاشر الأندلسي الدزيري، أصله من شنية، وبها ولد ونشأ إلى أن حفظ القرآن وقرأ العلم واجتهد في العبادات، ثم انقطع إلى الجزيرة الخضراء يقيم ببيت في إحدى صوامعها ويقوم بتحفيظ القرآن الكريم. وفي الجزيرة اتصل بأولياء عديدين من بينهم مسعود بن سرحان الذي وصف بأنه كان(مأخوذا عن نفسه، مصروفا لحبه تعالى إلى ما يجده بعد الحلول في رمسه(3).
ثم قدم ابن عاشر إلى المغرب فنزل بفاس، ثم رحل إلى مكناس وكانت تعيش بها أخت له وعندما اشتهر أمره أصبحت تعيش تحت كفالة أبي عنان حيث هي. ثم انتقل إلى سلا برباط الفتح حيث نزل على الولي الحاج عبد الله اليبوري الذي كان يسميه بالشاب الصالح، وبدأ يشتغل بتعليم الصبيان القرآن ثم تحول إلى سلا حيث نزل بزاوية أبي زكرياء قرب الجامع الأعظم، وحينئذ بدأ يتكسب من نسخ(العمدة) في الحديث، وكان يدرسه لطلبته وينسخ منه ثلاث نسخ سنويا ويبيع كلا منها بدينار ذهبي بعد تفسيرها، وبذلك تمكن من جمع مال لشراء دار بإزاء باب معلقة، حيث توافد عليه المريدون واعتزل الناس بعد ذلك فلا يظهر إلا نادرا.
وكان يطالع كتاب الإحياء للغزالي، والنصائح للمحاسبي ويوصي بقراءتهما. وكان يهتم إلى ذلك بكتب الفقه التي كثيرا ما يأمر باستنساخها وقراءتها حتى انتشرت بين الطلبة وتعيشت جماعة بنسخها وتصحيحها، وكان مع ذلك(من اعلم الناس بالحلال والحرام، وبه نجح الفقه في هذا الباب بالمغرب(4).
وكان يلبس اللباس الخشن إلا في صلاة الجمعة حيث يلبس جبة صوف خضراء، وحزام صوف وكان كثير التواضع لأصحابه إذ كان يخاطبهم: إنما أنا واحد منكم ولست بشيخكم ولا معلمكم فعليكم بكتب العلماء، ولا يقتدين احد بي فيما لا يجد له أصلا في كتب العلماء، ولست بقدوة ولا إمام متبع.
وقد لخص العلامة احمد بابا طريقة ابن عاشر في عبارة موجزة شقية إذ قال(جعل إحياء علوم الدين بين عينيه واتبع فيه بجد واجتهاد وصدق وانقياد وكان الحجة في ذلك الطريق(5).
وقد أتيح لابن الخطيب أن يلتقي بابن عاشر فوجده كم قال، قاعدا بين القبور في الخلاء، رث الهيئة مطرق الحظ كثير الصمت، مفرط الانقباض والعزلة، قد ضرسه أهل الدنيا وتطارحهم فهو شديد الاشمئزاز من قاصده(6).
ومن كراماته ما حدث به بعض أصحابه حيث قال: لما كان الشيخ برباط الفتح في زيارة الشيخ اليبوري رحمه الله، كنا نتردد لزيارته والتبرك بهن فكلفني يوما أن أسوق له«رعاية المحاسبي» فلما كان بعد ذلك جئته فطلبته في خلوته فلم أجده وطلبته في سائر الزاوية فلم أجده. وكان وقت الصلاة، وأردت الوضوء فتحيرت أن أباشر الوضوء والكتاب عندي أو اتركه وانصرف لشأني فأخاف عليه الضياع، ولا في الزاوية إذ ذاك احد غيري، فاذا بي اسمع حسا من خلفي، فالتفت فإذا أنا بالشيخ رضي اله عنه مبادرا يقول:هات، هات! فتعجبت من اين اقبل بسرعة ولم أره ومن أين عرف ما عندي فلما رأى تعجبني وما أصابني من ارمهن وأشار لي بيده إلى ناحية الساحل من وراء الزاوية(7).
وسأله بعض أصحابه عن الفرق بين مكاشفة المسلم ومكاشفة النصراني لوجود ذلك من بعضهم، فقال: المسلم الذي له هذه الدرجة، يبرئ من العاهة، والنصراني لا يبرئ. ثم سأله نصراني في زي مسلم عن نفس المسالة، فقال له: الفرق بينهما سقوط الزنار من وسطك. قال: فسقط، واسلم بسبب ذلك(8) .
وفي سنة 757 حاول أبو عنان أن يتصل بابن عاشر فوقف ببابه مرارا فلم يسمح بمقابلته ثم وجه إليه احد أولاده مصحوبا بكتاب يطلب فيه زيارته فلم يقبلن وأجابه برسالة تتضمن حوالي أربع صفحات منها قوله:
«الحمد لله. من العبد الفقير إلى الله تعالى احمد بن عمرو بن محمد بن عاشر وفقه الله تعالى بمنه وكرمه، إلى أمير المؤمنين أبي عنان أيده الله تعالى بتقواه..
أما بعد، فقد ورد على كتابكم المشرف بذكر اله تعالى، وولدكم المكرم جهله اله تعالى من المتقين، وأنبته نباتا حسنا، وعلمه علما نافعا، ولا يجعله من المبعدين من رحمة رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم، ولتعلم أني ما شكتت فيكمن وقد أيقنت إنكم ما أرسلتموه إلا من اجل الله عز وجل وطلب مرضاته..
وبعد، فاني لماكن للزيارة أهلا ولا للغربة محلا، وإنما سترني الكريم بفضله ولطف بي بحمله، ولله الحمد على نعمته الظاهرة والباطنة.
ثم يورد بعد هذا نصائح لأبي عنان ويتمثل بآيات وأحاديث. ومن نصائحه:
«وليعلم أمير المؤمنين انه لا يخلصه احد من خدامه ولا من حشمهن بل يفرون منه يوم القيامة ويفر منهم، ولا عيك في هذا الأمر إلا أن تراقب الله تعالى وأنت مقبل على الله عز وجل.»
وقد عبر أبو عنان عن أسفه لعدم قبول ابن عاشر لزيارته حيث قال: هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا.
وقد رد عليه أبو عنان بخطاب ثان كان مما جاء فيه قوله:
«وصلني كتابكم الذي ذكرتني بموعظته، وعرفتني مصالح نفسي بنصيحته. أعرب بلسان الصدق، ودعا إلى سبيل الحق وأيقظ من النومة، ونبه من الغفلة، فجزاك الله خيرا يا أيها القاصد وجه الله تعالى العظيم في سره وجهره، الواقف عند حدود الله عز وجل في نهيه وأمره. لقد نصحتني وما غششتني وندبتني لساعدتي وما كذبتني فالله اسأل أن ينور بصيرتي ويأخذ للخير بناصيتي، ويسلك بي فيما قلدني سبيل أوليائه المتقين، ويعينني على القيام بأمور عباده المسلمين الخ..»
ويقول أبو عنان بعد كلام طويل:
«وأنا قد انتفعت بكتابك، وانتفع إن شاء الله تعالى بنصيحتك واجد بركة موعظتك التي أردت بها وجه الله العظيم علام الغيب، فلا تخلني بعد من إشارتك، ولا من صالح دعواتك ولا توحشنا نمن انس جوارك ولا تفقدنا من صالح إيثارك، وان كنت قد استغيث عنا، فاني لا استغني عن مشاورتك الصالحة، وكتابتك الرابحة إنشاء الله تعالى..»
وقد توفي ابن عاشر سنة 765 هـ ودفن بسلا شاطئها وقد بنى السلطان مولاي عبد الرحمن العلوي قبة على ضريحه وتوالى الاعتناء به بعده.
4- أبو عبد الله محمد بن عباد:
أبو عبد الله محمد بن عباد ولد ونشأ برندة حيث درس القرآن عن والده، والعربية عن خاله عبد الله الفريسي، وقراءة نافع عن أبي الحسن الرندي، كما تابع دراسته بكل من فاس وتلمسان على عدة علماء كالفشتالي قاضي الجماعة.
وكان ابن عباد حسن السمت، شديد الحياء والوقار، ملازما للصمت، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم تشاغل بالنحو والأدب والأصول حتى برز فيها. ولقي بسلا احمد بن عاشر وأقام معه سنين عديدة، وكان ممن يحضر السماع عند السلطان ليلة عيد المولد، وكان يكره ذلك.
ويحكي ابن عباد في بعض رسائله انه خرج في يوم ذكرى مولد الرسول(ص) صائما إلى سواحل البحر فوجد هناك الحاج احمد بن عاشر، وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه. قال ابن عباد:فأرادوا مني الآكل فقلت أين صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله في مثله الصوم كالعيد، فتأملت قوله فوجدته حقا، وكأنه أيقظني من النوم. وقد اشتغل ابن عباد مدة بتدريس عدة كتب كمختصر ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك،ومقامات الحريري وفصيح ثعلب، كما أقام خطيبا بالقرويين مدة 15 سنة، وله شرح على حكم ابن عطاء اله. وقال عنه الشيخ القسطنطيني: هو عند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر.
وكان ابن عباد يلبس الثياب الرفيعة ويستعمل الطيب، ووصفه صاحب إفادة المرتاد بأنه كان آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة، وقد شهد له بالولاية والتقدم عدد من الصوفية كسليمان اليوزغي ومحمد المصمودي.
وقد دفن ابن عابد بفاس سنة 792 هـ وبها قبره.
اليهود والنصارى
هاجرت عناصر كثيرة من يهود الأندلس إلى المغرب في عهد المرينيين فقدروا فيهم نشاطهم ومقدرتهم في شؤون التجارة والاقتصاد، وخلوهم من لامتيازات ما لم يسبق لليهود أن نالوا مثله بالمغرب من قبل. وبرهن المرينيون عن تسامح ديني عظيم نحوهم فسمحوا لهم بفتح المتاجر والمصانع ومعايشة المسلمين، كما سمحوا لهم بمباشرة طقوسهم الدينية فسمحوا لهم بفتح المتاجر والمصانع ومعايشة المسلمين، كما سمحوا لهم بمباشرة طقوسهم الدينية وأظلوهم بحمايتهم وكان لكبار موظفيهم مقام سام لدى ملوك الدولة حتى قبل أن أبي خزر بن إبراهيم بن وقاصة « بلغ في الحضرة عند أبي الربيع المنزلة التي لم يبلغها عنده احد»(9)
أما النصارى الذين استفاد المرينيون من خبرتهم الحربية رغم تدخلهم المتوالي في شؤون الدولة، فقد سمح لهم الموحدون من قبل ببناء كنيسة بمراكش، وكانت الكنيسة تحمل اسم NOTRE-DAME (نوتردام)، ولما كان عهد الباب انوصان الرابع INNOCENT أرسل إلى ملك المغرب سنتي 1246م و 1251 م رسالتين يطلب منه فيهما أن يمنح المسيحيين أماكن يحتمون بها عند الخطر الذي يتهددهم من الأهالي«إذا ساءوا استعمال الحقوق المخولة لهم»ومن الملاحظ أن الملوك الموحدين بعد المامون قد تركوا المسيحيين في خدمتهم حتى أن الباب جرجير التاسع شكر الرشيد سنة 1233 على العناية التي يبديها نحو النصارى.
وفي مطلع سنة 1308م علم أبو ثابت المريني قائد حامية مراكش أن يوسف بن محمد بن أبي عباد قد أتى قتلا على نصارى مراكش واستولى على أموالهم وفر إلى أغمات، وقد تمكن أبو ثابت من قتله مئات من أتباعه الذين علقت رؤوسهم على أبواب مراكش، انتقاما من قتلهم النصارى(10) .
وكلما تفاقم خطر النصارى على المسلمين بسبب تدخلهم السافر في الشؤون السياسية عمد هؤلاء إلى الانتقام منهم فيضطر القادة الملوك المرينيون إلى حمايتهم.
وإذا كان المرينيون قد صحبوا معهم معظم القوة النصرانية من مراكش الموحدية إلى فاس فقد تركوا عددا منها بمراكش حتى إذا كانت سنة 1390 م طلبت الحامية النصرانية المؤلفة من 50 فراسا الدخول إلى اسبانيا.
وكانت الكنيسة المسحية بمراكش توجد جنوب مسجد المنصور بالقصبة التي كان بها أيضا السجن المخصص للمسحيين.
وكان عددهم في عهد المنصور المريني يبلغ بمراكش حوالي خمسمائة، وقد ظلوا يؤدون طقوسهم إلى جاب أولادهم ونسائهم حتى استقدمهم جان الأول ملك قشتالة.
(1) المسند (منتخبات ص 36 والالتحاف الوجيز ورقة 26 والذخيرة ص 100.
(2) المصدر المذكور ص 73.
(3) تحفة الزائر ورقة 2.
(4) تحفة الزائر ورقة (3)
(5) نيل الابتهاج ص 43 ونفح الطيب 9 ص 197 والعبارة في الأصل لابن قنفذ.
(6) نفح الطيب 9 ص 196.
(7) تحفة الزائر ورقة (6)
(8) نفح الطيب 9 ص 197 ونيل الابتهاج ص (43).
(9) مشاهير أعيان فاس قديما ورقة 30.
(10) PIER DE CENIVAL في هسبريس 1- 1927 ص 81.
* دعوة الحق - ع/64
اكتست الحياة الدينية في عهد بني مرين مظاهر جديدة بسبب نشاط الحركة الصوفية من جهة ودخول العناصر اليهودية في الميدان السياسي إلى جانب الاحتكاك بالمسيحيين المتوافدين على المغرب كغزاة أو تجار.
وقد لوحظ أن الحركة الصوفية فد اتسع نطاقها على الخصوص شمالا حيث كان لزعمائها في التوجيه الروحي لسكان هذه الناحية التي تسلط عليها التدخل الأجنبي.
لم تكن الحركة الصوفية في عهد بني مرين تكتسي صبغة التمرد المسلح على الدولة أو التكتل ضدها، بل كانت في الواقع ثورة سلبية على الوضع الديني والاجتماعي والسياسي الذي صار إليه الشعب والدولة. وظلت هذه الثورة مكبوتة لتنطلق في صراع مسلح ضد التدخل الأجنبي منذ أواخر أيام الدولة ثم تشتد ابتداء من عهد الوطاسيين.
ونستطيع أن نقسم رجال الحركة الصوفية في هذا العهد إلى قسمين رئيسيين، قسم انقطع لعبادة الله وتجرد عن الخوض في شؤون الدنيا، ومن بين رجال هذه الطائفة أفراد زهدوا لمجرد الزهد ولم يؤسسوا طريقة معينة، وأشهرهم الإمام ابن عاشر، والباقون فيهم من تزعم حركة صوفية معينة وكون لنفسه طريقة كالإمام الجز ولي. ثم هناك طبعا مريدون وأصحاب لكل من الطائفتين. أما القسم الثاني فهو الذي كون نواة لحركة الجهاد التي سيتسع مداها في عهد الوطاسيين.
أما تعظيم الشرفاء فلئن تحددت معالمه في عهد المرينيين فسيتسع أيضا في عهد الوطاسيين ثم يمتد أكثر فأكثر أيام السعديين والعلويين. ولقد كان تنصيب الشرفاء الجوطيين بفاس محاولة لإرجاع دولة الادراسة إلى الملك بعد غيبة دامت عدة قرون. بيد أن قلب دولة وتأسيس أخرى لم يكن أمرا هينا، فقد كان على الادارسة الجدد أن يمهدوا لدولتهم بدعاية واسعة النطاق داخل المغرب ويعدوا الأموال اللازمة لضمان نجاح دولتهم. وفقدانهم لهذه الوسائل إلى جانب السند العسكري اللازم جعل دولتهم تموت في عهدها.
ولقد أصبح المذهب المالكي في عهد المرينيين يسيطر وحده في ميدان التشريع والعبادات مثلما كان الأمر في عهد المرابطين. ولم يفقد الفقهاء نفوذهم السياسي بالمرة في بلاط المرنيين ، بل كان القليل منهم تأثير بالغ في توجيه السياسة الملكية، مثلما كان الأمر بالنسبة لابن مرزوق، وقضية قتل ابن الخطيب.
نشأة الزوايا:
لم يعرف المغرب الزوايا قبل عهد أبي يوسف، ثم لم يكن دور هذه الزوايا في عهد المرينيين بوجه عام مثلما صار عليه في عهد الوطاسيين المتأخرين. فقد كان قصد أبي يوسف من بنائها أن تكون بمثابة دور لاستقبال الغرباء والوافدين من الخارج من كبار رجال الدول وأعيانها (1) والغرض الأول من بنائها كان كما نرى ابعد ما يكون عن الهدف الوصفي الذي اتجهت إليه فيما بعد والظاهر أنها أصبحت مع الأيام المكان المفضل لرجال التصوف الذين كانوا ينقطعون فيها للعبادة ثم تحولت لاستقبال المريدين والأتباع الذين ينقادون لحركة طرقية معينة وصارت لا تبنى لا لهذا الغرض. وكان أبو عنان قد خصص للمساكين الوافدين على الزوايا طعاما يوميا، فهيا بذلك الجو عن غير قصد لجعل الزوايا تستقبل المرديين وخصوصا الفقراء فيما بعد.
وكان بالمغرب منذ عهد المرابطين بل قبلهم ربط كانت عبارة عن محتشدات لجهاد ونشر الإسلام بين ربوع المغرب، بيد أن هذه الربط قد ضعف شأنها أيام المرينيين وبدأت تترك مكانها لزوايا التي انقطع اغلبها للجهاد الروحي. على أن أهم الزوايا التي ترجع إلى العهد المريني هي زاوية النساك بسلا، وهي من بناء أبي عنان سنة 757، وقد بقي من بنائها بابان موقعهما قرب ضريح (سيدي بلعباس)، وترجع معظم الطرق الصوفية بالمغرب إلى أصول محلية حيث انتشرت بواسطة الإمام الشاذلي الذي استقى أهم أصول طريقته عن الإمام عبد السلام بن مشيش.
حياة بعض كبار المتصوفة
1- أبو الحسن الشاذلي
علي تقي الذين أبو الحسن الشاذلي من قبيلة غمارة التي ولد فيها سنة 593. ومع أن نشأته ووفاته أيضا كانت في عهد الموحدين(قبل سقوط دولتهم ببعض سنوات) فان طريقته لم تنتشر بالمغرب إلا في عهد متأخر من حكم بني مرين.
وكان أبو الحسن الشاذلي نحيف خفيف العارضين طويل أصابع اليدين، فصيح اللسان والمنطق، وكان يلبس الفاخر من الثياب ويستنكف من لبس المرقعات ولو انه قد البسه الشيخ حرازم مرقعة ليعتنق بذلك مذهب المتصوفة، وكان يركب الدواب ويتخذ الخيل الجياد ويقول لو اتخذ أصحاب المهن لباسا يتميزون به والعلماء لباسا خاصا يفرض على الناس احترامهم، واتخذ الحكام مثل ذلك إظهارا لهيبتهم، فلا يجوز للصوفي وهو السهل السلس، أن يتخذ لباسا لأنه ذلك العابد الزاهد الذي إذا تميز بالزي افتضح حاله وسره، والواقع أن هذه كانت نظرية عدد آخرين من متصوفة المغرب كابن عباد وغيره.
وقد تلقى الشاذلي دراسته ومعارفه في ظل دولة الموحدين بالمغرب وتونس، ومن اشهر شيوخه بالمغرب أبو الحسن بن حرازم الذي تلقى عنه الشاذلي طريق القوم كما لبس خرقة التصوف، كما اخذ عن عبد السلام بن مشيش الذي أوصاه بالدعاية لحركته في تونس بعدان يستزيد من معارفه بها، وفي تونس تلقى الشاذلي علوم الحديث والكلام والفقه وغيرها على عدة علماء كأبي سعيد الباجي وأبي محمد المهدوي شيخ صوفية تونس الذي تلقى هو نفسه عن أبي مدين وعيد السلام بن مشيش.
وقد هاجر الشاذلي إلى تونس وهو بعد حدث، ثم هاجرها إلى مصر سنة 642. وكان توجهه إلى إفريقيا بأمر من عبد السلام بم مشيش الذي أوصاه أن يبدأ دعوته بشاذلة من أعمال تونس. لذلك اشتهر بالشاذلي مع انه من غمارة. وفي تونس اقبل عليه المريدون واتخذ له دارا بمسجد البلاط، وتردد بينها وبين زاويته بجبل زغوان للخطة التي رسمها له أستاذه ابن مشيش وتألب عليه بتونس جماعة من الفقهاء الذين حسدوه على ما ناله من صيت بافريقية وتزعم معارضته والكيد له ابن البراء قاضي الجماعة بتونس، مما اضطره إلى الهجرة إلى مصر سنة 642 حيث مكث بقية أيامه تحت ظل الأيوبيين إلى أن لحق بربه سنة 656هـ. وذلك بعد إن كف بصره، وصادفته المنية وهو في الطريق إلى الحج فدفن بقرية حميثرا بصحراء عيذاب بصعيد مصر بين قناء والقصيرة وتولى تجهيزه ودفنه أبو العباس المرسي الذي كان على رأس أصحابه، وضمنهم الشيخ بدر الدين بن جماعة الذي تولى منصب قاضي قضاة مصر، وكان يفتخر بحضور جنازة الشاذلي ويقول:إن بركة الشيخ قد حلت بالديار المصرية منذ أقام فيها.
ومن وصايا ابن مشيش للشاذلي:
1)الله الله والناس تنزه لسانك عن ذكرهم، وتنزه قلبك عن التماثيل من قلبهم، وعليك بحفظ الجوارح على الله وأداء الفرائض لله، وقد تمت ولاية الله عليك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد ثم ورعك، وقل اللهم ارحمني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم وأغنيني عن خيرهم، وتولني بالخصوصية انك على كل شيء قدير.
2)أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة: المحبة لله، والرضى بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله. وأما القيام بالأربعة الأخرى فالقيام بفرائض الله، والاجتناب لمحارم الله، والصبر على ما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي.
3)ألزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب، وأخضع لسيد واحد تخضع لك الارقاب، قال الله وان من شيء إلا عندنا خزائنه، فأين تذهبون.
وقد عرف الشاذلي التصوف بأنه تدريب النفس على العبودية وردها لأحكام الربوبية. قال: للصوفي أربع صفات: التخلق بأخلاق الله، وحسن المجاورة لأوامر الله، وترك الانتصار للنفس حياء من الله، وملازمة البساط بصدق الفناء مع الله.
وتنبني طريقة الشاذلي بعد تبلورها، على عدم التجرد كلية من الدنيا والمزاوجة بين العمل لها ولدين، وفي ذلك قال الشاذلي: ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، ولا بقبقبة الصناعة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية.
وقال:من أراد عز الدارين، فليدخل في مذهبنا يومين. فقال له القائل: كيف لي بذلك؟ فقال: فرق الأصنام عن قلبك، وأرح من الدنيا بدنك، ثم كن كيف شئت فان الله تعالى لا يعذب العبد على مد رجليه في استصحاب التواضع للاستراحة من التعب، وإنما يعذبه على تعب يصحبه التكبر.
2-أبو عبد الله الجزولي:
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الجزولي نسبة إلى قبيلة جزولة الشهيرة التي ينتمي إليها عدة علماء وشخصيات دينية، وعلى رأسهم عبد الله بن ياسين، ونسب الجزولي إلى سلالة النبي عليه السلام شأن كثير من الصوفية غيره وسواء اثبت هذا النسب أم لم يثبت فقد كان الغرض منه استمالة الشعب المغربي الذي يعترف بفضل الأشراف الادارسة في نشر الإسلام ببلاده، ولم يكن الجزولي ولا الشاذلي ولا كثير من الصوفية الأولين يهتمون بادعاء الشرف وإنما كان العامة يرون من البركة في شرفاء الصوفية ما لا يرونه في غيرهم.
وتلقى الإمام الجزولي دراسته بفاس والمشرق، وأخذ طريقة الشاذلي عن شيوخها بمصر. وقيل انه توفى بجزولة ونقله أبو العباس احمد الأعرج من مدفنه فوجده بحاله لم يتغير من جسمه شيء مع بعد العهد على أن الإمام الجزولي قد أتيح له أن يأخذ مبادئ الطريقة الشاذلية بالمغرب قبل أن يستكملها بمصر. وهكذا درس على شيوخ الصوفية بتيط قرب الجديدة وقد دفن الإمام الجزولي بمراكش بعد أن نقل جثمانه في عهد الملك السعدي المذكور، من افوغال وقد وضع هذا الصوفي الشهير دلائل الخيرات الذي ردد أوراده وأدعيته ملايين المريدين منذ وضع. وقيل أن مريديه بلغوا في عهده أثنى ألفا(2) وكانت وفاته سنة 869هـ أي في نفس السنة التي سقطت فيها الدولة المرينية.
3-أبو العباس احمد بن عاشر:
أبو العباس بن محمد بن عمرو بن عاشر الأندلسي الدزيري، أصله من شنية، وبها ولد ونشأ إلى أن حفظ القرآن وقرأ العلم واجتهد في العبادات، ثم انقطع إلى الجزيرة الخضراء يقيم ببيت في إحدى صوامعها ويقوم بتحفيظ القرآن الكريم. وفي الجزيرة اتصل بأولياء عديدين من بينهم مسعود بن سرحان الذي وصف بأنه كان(مأخوذا عن نفسه، مصروفا لحبه تعالى إلى ما يجده بعد الحلول في رمسه(3).
ثم قدم ابن عاشر إلى المغرب فنزل بفاس، ثم رحل إلى مكناس وكانت تعيش بها أخت له وعندما اشتهر أمره أصبحت تعيش تحت كفالة أبي عنان حيث هي. ثم انتقل إلى سلا برباط الفتح حيث نزل على الولي الحاج عبد الله اليبوري الذي كان يسميه بالشاب الصالح، وبدأ يشتغل بتعليم الصبيان القرآن ثم تحول إلى سلا حيث نزل بزاوية أبي زكرياء قرب الجامع الأعظم، وحينئذ بدأ يتكسب من نسخ(العمدة) في الحديث، وكان يدرسه لطلبته وينسخ منه ثلاث نسخ سنويا ويبيع كلا منها بدينار ذهبي بعد تفسيرها، وبذلك تمكن من جمع مال لشراء دار بإزاء باب معلقة، حيث توافد عليه المريدون واعتزل الناس بعد ذلك فلا يظهر إلا نادرا.
وكان يطالع كتاب الإحياء للغزالي، والنصائح للمحاسبي ويوصي بقراءتهما. وكان يهتم إلى ذلك بكتب الفقه التي كثيرا ما يأمر باستنساخها وقراءتها حتى انتشرت بين الطلبة وتعيشت جماعة بنسخها وتصحيحها، وكان مع ذلك(من اعلم الناس بالحلال والحرام، وبه نجح الفقه في هذا الباب بالمغرب(4).
وكان يلبس اللباس الخشن إلا في صلاة الجمعة حيث يلبس جبة صوف خضراء، وحزام صوف وكان كثير التواضع لأصحابه إذ كان يخاطبهم: إنما أنا واحد منكم ولست بشيخكم ولا معلمكم فعليكم بكتب العلماء، ولا يقتدين احد بي فيما لا يجد له أصلا في كتب العلماء، ولست بقدوة ولا إمام متبع.
وقد لخص العلامة احمد بابا طريقة ابن عاشر في عبارة موجزة شقية إذ قال(جعل إحياء علوم الدين بين عينيه واتبع فيه بجد واجتهاد وصدق وانقياد وكان الحجة في ذلك الطريق(5).
وقد أتيح لابن الخطيب أن يلتقي بابن عاشر فوجده كم قال، قاعدا بين القبور في الخلاء، رث الهيئة مطرق الحظ كثير الصمت، مفرط الانقباض والعزلة، قد ضرسه أهل الدنيا وتطارحهم فهو شديد الاشمئزاز من قاصده(6).
ومن كراماته ما حدث به بعض أصحابه حيث قال: لما كان الشيخ برباط الفتح في زيارة الشيخ اليبوري رحمه الله، كنا نتردد لزيارته والتبرك بهن فكلفني يوما أن أسوق له«رعاية المحاسبي» فلما كان بعد ذلك جئته فطلبته في خلوته فلم أجده وطلبته في سائر الزاوية فلم أجده. وكان وقت الصلاة، وأردت الوضوء فتحيرت أن أباشر الوضوء والكتاب عندي أو اتركه وانصرف لشأني فأخاف عليه الضياع، ولا في الزاوية إذ ذاك احد غيري، فاذا بي اسمع حسا من خلفي، فالتفت فإذا أنا بالشيخ رضي اله عنه مبادرا يقول:هات، هات! فتعجبت من اين اقبل بسرعة ولم أره ومن أين عرف ما عندي فلما رأى تعجبني وما أصابني من ارمهن وأشار لي بيده إلى ناحية الساحل من وراء الزاوية(7).
وسأله بعض أصحابه عن الفرق بين مكاشفة المسلم ومكاشفة النصراني لوجود ذلك من بعضهم، فقال: المسلم الذي له هذه الدرجة، يبرئ من العاهة، والنصراني لا يبرئ. ثم سأله نصراني في زي مسلم عن نفس المسالة، فقال له: الفرق بينهما سقوط الزنار من وسطك. قال: فسقط، واسلم بسبب ذلك(8) .
وفي سنة 757 حاول أبو عنان أن يتصل بابن عاشر فوقف ببابه مرارا فلم يسمح بمقابلته ثم وجه إليه احد أولاده مصحوبا بكتاب يطلب فيه زيارته فلم يقبلن وأجابه برسالة تتضمن حوالي أربع صفحات منها قوله:
«الحمد لله. من العبد الفقير إلى الله تعالى احمد بن عمرو بن محمد بن عاشر وفقه الله تعالى بمنه وكرمه، إلى أمير المؤمنين أبي عنان أيده الله تعالى بتقواه..
أما بعد، فقد ورد على كتابكم المشرف بذكر اله تعالى، وولدكم المكرم جهله اله تعالى من المتقين، وأنبته نباتا حسنا، وعلمه علما نافعا، ولا يجعله من المبعدين من رحمة رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم، ولتعلم أني ما شكتت فيكمن وقد أيقنت إنكم ما أرسلتموه إلا من اجل الله عز وجل وطلب مرضاته..
وبعد، فاني لماكن للزيارة أهلا ولا للغربة محلا، وإنما سترني الكريم بفضله ولطف بي بحمله، ولله الحمد على نعمته الظاهرة والباطنة.
ثم يورد بعد هذا نصائح لأبي عنان ويتمثل بآيات وأحاديث. ومن نصائحه:
«وليعلم أمير المؤمنين انه لا يخلصه احد من خدامه ولا من حشمهن بل يفرون منه يوم القيامة ويفر منهم، ولا عيك في هذا الأمر إلا أن تراقب الله تعالى وأنت مقبل على الله عز وجل.»
وقد عبر أبو عنان عن أسفه لعدم قبول ابن عاشر لزيارته حيث قال: هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا.
وقد رد عليه أبو عنان بخطاب ثان كان مما جاء فيه قوله:
«وصلني كتابكم الذي ذكرتني بموعظته، وعرفتني مصالح نفسي بنصيحته. أعرب بلسان الصدق، ودعا إلى سبيل الحق وأيقظ من النومة، ونبه من الغفلة، فجزاك الله خيرا يا أيها القاصد وجه الله تعالى العظيم في سره وجهره، الواقف عند حدود الله عز وجل في نهيه وأمره. لقد نصحتني وما غششتني وندبتني لساعدتي وما كذبتني فالله اسأل أن ينور بصيرتي ويأخذ للخير بناصيتي، ويسلك بي فيما قلدني سبيل أوليائه المتقين، ويعينني على القيام بأمور عباده المسلمين الخ..»
ويقول أبو عنان بعد كلام طويل:
«وأنا قد انتفعت بكتابك، وانتفع إن شاء الله تعالى بنصيحتك واجد بركة موعظتك التي أردت بها وجه الله العظيم علام الغيب، فلا تخلني بعد من إشارتك، ولا من صالح دعواتك ولا توحشنا نمن انس جوارك ولا تفقدنا من صالح إيثارك، وان كنت قد استغيث عنا، فاني لا استغني عن مشاورتك الصالحة، وكتابتك الرابحة إنشاء الله تعالى..»
وقد توفي ابن عاشر سنة 765 هـ ودفن بسلا شاطئها وقد بنى السلطان مولاي عبد الرحمن العلوي قبة على ضريحه وتوالى الاعتناء به بعده.
4- أبو عبد الله محمد بن عباد:
أبو عبد الله محمد بن عباد ولد ونشأ برندة حيث درس القرآن عن والده، والعربية عن خاله عبد الله الفريسي، وقراءة نافع عن أبي الحسن الرندي، كما تابع دراسته بكل من فاس وتلمسان على عدة علماء كالفشتالي قاضي الجماعة.
وكان ابن عباد حسن السمت، شديد الحياء والوقار، ملازما للصمت، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم تشاغل بالنحو والأدب والأصول حتى برز فيها. ولقي بسلا احمد بن عاشر وأقام معه سنين عديدة، وكان ممن يحضر السماع عند السلطان ليلة عيد المولد، وكان يكره ذلك.
ويحكي ابن عباد في بعض رسائله انه خرج في يوم ذكرى مولد الرسول(ص) صائما إلى سواحل البحر فوجد هناك الحاج احمد بن عاشر، وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه. قال ابن عباد:فأرادوا مني الآكل فقلت أين صائم، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله في مثله الصوم كالعيد، فتأملت قوله فوجدته حقا، وكأنه أيقظني من النوم. وقد اشتغل ابن عباد مدة بتدريس عدة كتب كمختصر ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك،ومقامات الحريري وفصيح ثعلب، كما أقام خطيبا بالقرويين مدة 15 سنة، وله شرح على حكم ابن عطاء اله. وقال عنه الشيخ القسطنطيني: هو عند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر.
وكان ابن عباد يلبس الثياب الرفيعة ويستعمل الطيب، ووصفه صاحب إفادة المرتاد بأنه كان آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة، وقد شهد له بالولاية والتقدم عدد من الصوفية كسليمان اليوزغي ومحمد المصمودي.
وقد دفن ابن عابد بفاس سنة 792 هـ وبها قبره.
اليهود والنصارى
هاجرت عناصر كثيرة من يهود الأندلس إلى المغرب في عهد المرينيين فقدروا فيهم نشاطهم ومقدرتهم في شؤون التجارة والاقتصاد، وخلوهم من لامتيازات ما لم يسبق لليهود أن نالوا مثله بالمغرب من قبل. وبرهن المرينيون عن تسامح ديني عظيم نحوهم فسمحوا لهم بفتح المتاجر والمصانع ومعايشة المسلمين، كما سمحوا لهم بمباشرة طقوسهم الدينية فسمحوا لهم بفتح المتاجر والمصانع ومعايشة المسلمين، كما سمحوا لهم بمباشرة طقوسهم الدينية وأظلوهم بحمايتهم وكان لكبار موظفيهم مقام سام لدى ملوك الدولة حتى قبل أن أبي خزر بن إبراهيم بن وقاصة « بلغ في الحضرة عند أبي الربيع المنزلة التي لم يبلغها عنده احد»(9)
أما النصارى الذين استفاد المرينيون من خبرتهم الحربية رغم تدخلهم المتوالي في شؤون الدولة، فقد سمح لهم الموحدون من قبل ببناء كنيسة بمراكش، وكانت الكنيسة تحمل اسم NOTRE-DAME (نوتردام)، ولما كان عهد الباب انوصان الرابع INNOCENT أرسل إلى ملك المغرب سنتي 1246م و 1251 م رسالتين يطلب منه فيهما أن يمنح المسيحيين أماكن يحتمون بها عند الخطر الذي يتهددهم من الأهالي«إذا ساءوا استعمال الحقوق المخولة لهم»ومن الملاحظ أن الملوك الموحدين بعد المامون قد تركوا المسيحيين في خدمتهم حتى أن الباب جرجير التاسع شكر الرشيد سنة 1233 على العناية التي يبديها نحو النصارى.
وفي مطلع سنة 1308م علم أبو ثابت المريني قائد حامية مراكش أن يوسف بن محمد بن أبي عباد قد أتى قتلا على نصارى مراكش واستولى على أموالهم وفر إلى أغمات، وقد تمكن أبو ثابت من قتله مئات من أتباعه الذين علقت رؤوسهم على أبواب مراكش، انتقاما من قتلهم النصارى(10) .
وكلما تفاقم خطر النصارى على المسلمين بسبب تدخلهم السافر في الشؤون السياسية عمد هؤلاء إلى الانتقام منهم فيضطر القادة الملوك المرينيون إلى حمايتهم.
وإذا كان المرينيون قد صحبوا معهم معظم القوة النصرانية من مراكش الموحدية إلى فاس فقد تركوا عددا منها بمراكش حتى إذا كانت سنة 1390 م طلبت الحامية النصرانية المؤلفة من 50 فراسا الدخول إلى اسبانيا.
وكانت الكنيسة المسحية بمراكش توجد جنوب مسجد المنصور بالقصبة التي كان بها أيضا السجن المخصص للمسحيين.
وكان عددهم في عهد المنصور المريني يبلغ بمراكش حوالي خمسمائة، وقد ظلوا يؤدون طقوسهم إلى جاب أولادهم ونسائهم حتى استقدمهم جان الأول ملك قشتالة.
(1) المسند (منتخبات ص 36 والالتحاف الوجيز ورقة 26 والذخيرة ص 100.
(2) المصدر المذكور ص 73.
(3) تحفة الزائر ورقة 2.
(4) تحفة الزائر ورقة (3)
(5) نيل الابتهاج ص 43 ونفح الطيب 9 ص 197 والعبارة في الأصل لابن قنفذ.
(6) نفح الطيب 9 ص 196.
(7) تحفة الزائر ورقة (6)
(8) نفح الطيب 9 ص 197 ونيل الابتهاج ص (43).
(9) مشاهير أعيان فاس قديما ورقة 30.
(10) PIER DE CENIVAL في هسبريس 1- 1927 ص 81.
* دعوة الحق - ع/64