نقوس المهدي
كاتب
كان لسلفنا – في مختلف العصور- شغف بالعلم وتعلق بالأدب وحب للمعرفة، وعناية جلى بالتأليف فيها ومحاولة الابتكار في حلباتها، وصون ذلك كله من عبث الضياع بكتابته على ما في عملية الكتابة اليدوية من عناء وجهد شديدين، يدلنا على ذلك هذه الأكداس المكدسة من المخطوطات في مختلف العلوم وشتى أنواع المعرفة، موزعة بين مكتبات عامة ومكتبات خاصة ومكتبات المساجد والزوايا، أحسنها حظا من العناية ما أحصي عدده وسجلت أسماؤه وأسماء مؤلفيه في فهرسة علمية بمكتباتنا العامة.
تلك حقيقة، يعرفها مثقفونا، وفي طليعتهم السادة المشرفون على قسم المخطوطات والوثائق بالمكتبات العامة، وهواة جمع المخطوطات ومن يشتغل بالتنقيب فيها ويتخصص في دراستها.
وإذا كانت الأمم المتحضرة الراقية تسعى باستمرار لتصل حاضرها بماضيها، وتتزود من تجرباتها في كليهما بما ينير الطريق لها ويعبده، تسلك نحو مستقبل أفضل وحياة أجمل.. إذا كانت تلك الأمم تفعل ذلك، وكنا نتطلع إلى يوم، نصبح في مصافها، فإنه لجدير بنا –وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا التي يجب أن نعي فيها أصولنا ونعرف دواتنا ونستكمل مقومات شخصيتنا- أن نبحث، أن نفتش عن آثار علمية وكنوز فكرية وذخائر أدبية أصابها البلى وعاثت فيها الأرضة المقيتة، وهي ليست تمثل في الحقيقة سوى آثار خطوات أجدادنا في معارج العلوم والثقافة ومعالم مراحل سيرهم في سبلهما.
إنها مخطوطات قيمة – شكلا ومضمونا- بعثها يعني بعث صور لماضينا العلمي والأدبي ولا شك أنها مجيدة ومشرقة وتثير الفخر بالشخصية المستقلة الكيان، والاعتزاز بالوجود المتميز الذات، وإغفالها وطمسها يعني إغفال وطمس ماضينا وأصولنا.
ولست أشك في أن مخطوط «زهر الأكم في الأمثال والحكم»، لمؤلفه أبي علي الحسن اليوسي الذي وددت أن أحدثك عنه اليوم يأتي في طليعة ذخائرنا الأدبية التي يجب أن نخلصها من (ظلمة) الغبار و(ظلم) الأرضة، ونخرجها لعالم النور.. ولكن، قبل أن أحدثك عن هذا الأثر الأدبي الرائع أحب أن أحدثك عن صاحبه... فمن هو أبو علي الحسن اليوسي ؟ ؟
محاولة الحديث عن شخصية العالم النابغة والأديب البارع أبي علي الحسن اليوسي تستدعي قبل كل شيء الحديث عن الزاوية الدلائية، أو هي نفسها حديث عن وجه مشرق القسمات، بارز المعالم من وجوه هذا المركز العظيم للإشعاع الفكري خلال فترة من فترات تاريخ بلادنا.
استطاعت زاوية الدلائيين(1) أن تحفظ تراثا مجيدا من العلوم والآداب بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي، وأن تقوم عليه خير قيام(2) كما استطاعت أن تنعش روح الأدب والشعر بعد خمودها بأثر سقوط الدولة السعدية(3)، وبتوالي الأيام أصبحت هذه الزاوية مركزا لنشر الثقافة في ربوع المغرب وكعبة
يؤمها طلاب العلوم الإسلامية، وقد تخرج منها عدد لا يكاد يحصى من العلماء والأدباء أشهرهم على الإطلاق مفخرة المغرب العلمية والأدبية في القرن الحادي عشر الهجري : أبو علي الحسن اليوسي.
وقد لبث الأدب المغربي –كما يقول أستاذنا عبد الله كنون- يحمل طابع الزاوية الدلائية زمنا غير قصير ممثلا في أسلوب اليوسي القوي الرصين، ومتأدبا إلى ابن زاكور الشاعر الفحل بطريق شيخه اليوسي(4).
وقد كان صاحبنا اليوسي ذا باع طويل وكعب عال في العلوم العقلية والنقلية تخرج من زاوية أهل الدلاء ثم عكف بها ينشر العلم والمعرفة حتى أوقع بها مولاي رشيد فانتقل اليوسي إلى فاس حيث تصدر للتدريس بجامعة القرويين.
ولعلنا إذ نقرأ ما قاله فيه عصريه العالم الفاضل أبو سالم العياشي :
من فاتـــه الحسن البصـــــري يــــــــدركــــــه = فليصحـــب الحســــن اليوسي يكفيه
ندرك إلى مدى كان الرجل معروفا بالعلم، والصلاح، والورع، والتقوى، وحسن الهدى، وإقامة شعائر الدين.
ولعلنا، أيضا، إذا قرأنا قولته : (لو شئت أن أتكلم إلا بالشعر لفعلت)، أدركنا غزارة شاعريته وتيقنا من أن الشعر كان عنده أسهل من النفس، يؤكد لدينا ذلك ما ذكره الذين ترجموا له مثل القادري(5) وغيره من أنه كان يحفظ عن ظهر قلب ديوان المتنبي وأبي تمام والمعري، وقصائد كثيرة لشعراء آخرين، كما يؤكد لدينا هذا الديوان الضخم من الشعر الذي خلفه اليوسي ضمن ما خلف من مؤلفات، وهو يدل على غزارة شاعريته وسلامة طبعه، ونحن نعتقد على ضوء ما تقدم ذكره أن لليوسي شعرا آخر غير ما ضمه ديوانه لم يصل إلينا لأن أصوله المكتوبة ربما تكون قد ضاعت أو أن اليوسي نفسه لم يعن بتدوينه وبقي محفوظا في ذاكرته، وضاع بموته.
وقد طبع هذا الديوان طبعة فاسية، وعمل الأستاذ العلامة عبد الله كنون منتخبا منه، وقدم قصائد ومقتطعات منه وحللها تحليلا أدبيا ممتازا الأستاذ محمد المنتصر الريسوني في حديثه المسلسل الذي نشرته جريدة «الحسنى» عن اليوسي «العالم الشاعر»(6).
ولليوسي غير ديوان شعره، مؤلفات نفيسة، نذكر منها : "المحاضرات"(7) و"القانون في ابتداء العلوم"(8) و"منهاج الخلاص من كلمة الإخلاص"(9) و"زهر الأكم في الأمثال والحكم" وهو موضوع حديثنا في هذه العجالة.
هذا الكتاب الشيق، الممتع، الرائع، هو نظير لما ألف وجمع في ميدان الأمثال والحكم، مثل "كتاب الأمثال" للفضل الضبي، وكتاب "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري، وكتاب "مجمع الأمثال" لأبي الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني، وكتاب حمزة الأصفهاني في الأمثال، وهو لا يزال مخطوطا بمكتبة مونيخ، وبعد من المصادر الرئيسية لكل من اشتغل بعد الأصفهاني في هذا الموضوع، وكتاب "الوصايا والأمثال والموجز من محكم الأقوال"(10) لأبي الوفاء المبشر.
توجد من "زهر الأكم في الأمثال والحكم" نسخ أربع بقسم الوثائق التابع للخزانة العامة بالرباط، الأولى مسجلة تحت رقم (1001) والثانية تحت رقم (1159) وهذه مكتوبة بخط مغربي لا بأس به، وفي آخرها بتر.
أما النسخة الثالثة فهي مسجلة تحت رقم (71) وهي مبتورة الأول، وليس بها مقدمة، وإنما هي مبدوءة بباب الجيم ومختومة بباب الصاد، وفي آخر صفحة منها نقرأ هذا التعليق لناسخها (أشهى ما وجد من "زهر الأكم في الأمثال والحكم" للشيخ الإمام، علامة الأنام، آخر المحققين، وخاتمة الأدباء المعبرين، العارف أبي علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله ورضي عنه، وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب يوم الأربعاء ثالث شوال الأبرك عام 1334 هـ).
على أن النسخة الرابعة نسخة غير مبتورة، وهي مكتوبة بخط مغربي جميل، تطالعنا في أولها فاتحة الكتاب، نقرأها فنعجب بأسلوبها المشرق البارع الذي يذكرنا بعهود للنثر العربي زاهرة ولا عصار له كانت مزدهرة.
قال اليوسي في مستهلها : (سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والآثال، والله أكبر أن يتطاول إلى سمى جلاله خيال أو مثال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نحمد على ما أسدى من جزيل الرغائب وأجرى من جميل المواهب، ومنى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم، ونشكره على أفئدة بنور الإيمان هداها، والسنة طال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقف غيث الفكر وجداها، حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلو بلوامع التبيان كل ليل بهيم).
وبعد أن يصلي على النبي (محمد المختار، المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برد الإجلال والإكبار... إلخ) يمهد للحديث عن موضوع كتابه بالكلام عن العلم بصفة عامة فيقول : (العلم أنفس علق يقتنى، وأجل ثمر يجتنى، وأعدل محجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة –بضم الجيم-) ويمضي مبينا فضل العلم وكيف أنه (غذاء العقل وبه يعرف الحكم العدل، وأن الخصيصة التي بها تشرف الإنسان إنما هي العلم واللسان فإن المرء لو بلغ في كمال الجسم والجمال أطوريه لا يكون إنسانا إلا بأصغريه)(11).
ثم يبين مكانة علم الأدب بين بقية العلوم فيقول : (فلا جرم كان من أجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء وأجدرها علم الأدب والتضلع من كلام العرب إذ به تنحل عقلة اللسان، وتزاح روعة الجنان، وهو لسان نبينا نخبة العالم وصفوة ولد آدم وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان من بلغاء عدنان.
ومن ثم ينتقل اليوسي إلى الحديث عن موضوع كتابه، وهو الأمثال والحكم، ويبدي أهميتها فيقول بأنها (زمام كل معنى، ومنار كل مرمى، ومصباح كل ظلما، وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا، بل المعدوم موجودا) ثم أشار إلى الجهود التي بذلها الأقدمون في هذا المضمار. وكيف أنهم كانوا يعنون بهذا الفن، يدونون نوادره، ويردون موارده ويقتنصون شوارده ويقتطفون أزاهره.
ولقد كانت لليوسي – كما يقول في فاتحة كتابه – نفس تشوقه إلى هذا الفن – فن الأمثال والحكم – ومآثره تنازعه إلى تتبع دائره، فكان يتطلع أن يجد في ذلك موضوعا أو يصادف كتابا مجموعا مما عنى به الأقدمون واقتفى أثرهم فيه المتأخرون، فلم يظفر بشيء من ذلك(12)، وكان هذا حافزا له على القيام بجولات في عرصات كتب الأدب والشعر وأخبار العرب، ولم يزل كذلك حتى امتلأ وطابه بالأمثال وفاض أناؤه بالحكم فراوده خاطر جمعه (ما علق في هذا الوقت بخاطري مما ترقى إليه نظري وناظري في كن يؤويه ومجموع يحويه حذرا من النسيان عند تطاول الزمان، فألفت هذا المجموع في الأمثال وأودعته كل دمية وتمثال، ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما اشتهيت إليه ووقفت عند طوفاني عليه).
إلى أن يقول : (فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا :
جمعــــــت به والجفن مغض على القــــــذا = وبالخلــــد البلبال أصبـــح ذا خلــــــد
محاســـن تـــزري بالنسيــــــم إذا ســـــرى = فحي محيا السوسن الغض والــــورد
وتــزري بهــــــاء بالمطيــــر من الربـــــى = وبالعذب للصادي وبالكاعب الــــــراد
لآلئ مـــــــا غواصــــها بمــــصـــــــــادف = لها صدفا في ملتقى أبــــحر الهنـــــد
ولا حليت يومــــــا بهـــــا جيـــــد غــــــادة = ولا فصلت بالمسجد الصرد في عقــد
فرائـــــــد(13) مـــــا منهـــن إلا خريــــدة = أعز على المرتاد من الأبلق الفـــــرد
(ومع هذا فإني أعتذر لذوي النفوس الوقادة والصارفة النقادة من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه).
والكتاب مقسم إلى قسمين : القسم الأول في الأمثال وما يلتحق بها، وهو يضم مقدمة شيقة – مبنى ومعنى- من أربعة فصول، الأول في معنى المثل والحكمة والثاني في فائدة المثل والحكمة، والثالث في فضل الشعر، والرابع في الأمثال الشعرية، كما يضم خاتمة وأربعة وثلاثين بابا، تسعة وعشرون منها في الأمثال التركيبية العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، والباب الموفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثون في الأعيان، الثاني والثلاثون في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في الأمثال الشعرية.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو خاص بالحكم وما يلتحق بها، وقد ضم بين دفتيه اثنين وثلاثين بابا، تسعة وعشرون منها في الحكم على حروف المعجم، الباب الثلاثون في حكم مجموعة، الحادي والثلاثون في النوادر، الثاني والثلاثون في الأوليات، فكان مجموع الكتاب إذن بذلك ستة وستين بابا.
ويحدثنا اليوسي عن اصطلاح الكتاب فيقول (أعلم بأني ما ذكرته من الأمثال على حروف المعجم، جاعلا الباب الأول حروف الكلمة فإن اشتمل المثل على كلمات اعتبرت أولها كلمة، ثم أول هذه الكلمة حرفا، ثم عند سرد أمثال كل باب أعتبر هذا الترتيب أيضا في جمعها وتقديم بعضها على بعض، والمعتبر من جميعه ذلك أول الحروف الأصلية دون الزائدة إلا أن يكون لها ممنوع يخرطها في سلك الأصلية، فإن كان الحرف مما ينبني عليه التركيب "لا وما" النافيتين، و"في والباء" الجارتين اعتبر أيضا).
وصاحبنا اليوسي لا يقصر كتابه على الأمثال العربية الفصيحة، بل يورد أحيانا (شيئا من أمثال المولدين ومن بعدهم أو شيئا مما يتمثل به في (وقته) من ألفاظ الحديث)، وهذا ليس من شأنه الغض من قيمة الكتاب فهو – على حد تعبير مؤلفه – ليس موضوعا للغزو الصرف والحكايات المجردة، بل موضوع لينتفع به الأديب ويستعين به المنصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما.
ومنهج اليوسي في إيراد الأمثال منهج مفيد وطريف، فهو يسوق المثل ويشرح ألفاظه من ناحية اللغة شرحا دقيقا، ويشير إلى الموقف الذي يضرب فيه المثل، ثم يحكى الحادثة التي تمخض عنها، وقد يورد في بعض الأحيان شبيهه عند العامة.
فلنستمع إليه وهو يحدثنا عن هذا المثل : (أن لا حظية فلا آلية) (الحظوة : المكانة – يقال : حظيت المرأة عند زوجها بالكسر، تحظى حظوة وحظة فهي حظية وهن حظايا ضد صلفت – الألو : التقصير، يقال : إلا في هذا الأمر يألو ألوا ولوا، وائتلى إذا قصر فيه وأبطأ فهو آل ومؤتلي، يضرب هذا المثل في مداراة الناس والتودد إليهم، والمعنى : أنك إذا أخطأتك الحظوة فيما تريد فلا تأل جهدا ولا تزال مجتهدا متوددا للناس حتى تستدرك ما فاتك مما تطلب، وأصله في المرأة أنها إن لم تحظ عند زوجها فلا ينبغي لها أن تقصر في طلب الحظوة حتى تنالها، وأصله أن رجلا كان لا تحظى عنده امرأة فتزوج امرأة فلم تأل جهدا في أن تحظى عنده فلم يفته ذلك وطلقها فقالت ذلك، إني إن لم اأظ عنده فإني لم أقصر، فصار مثلا في كل من اجتهد في أمر ليناله وتعذر عليه وهو لم يقصر في طلبه والسعي فيه. واعلم أن في المثل بالنصب والرفع يجب تقدير المحذوف،
فمن نصب فمعناه باعتبار الأصل : أن لا أكن عندك أيها البعل حظية فلا أكون إليه في الحظوة بتحسين خلقي – بتسكين اللام- وخلقي- بضم اللام- حتى أدركها، ومن رفع فله وجهان : أحدهما أن تكون الحظية مصدرا وصفا، والمعنى : أن أخطأتني الحظوة عندك فلا أكون إليه في طلبها أو فلا يقع مني ألو وتقصير، الثاني أن تكون الحظية وصفا أو على بابها إلا أنها راجعة إلى غير القائلة، والمعنى : أن لا تكن لك في الناس حظية تحظى عندك فأنا لا أكون ألية في طلبها حتى أنالها منك أو نحو هذا من التقادير وما هو الأرجح منها، وهو معروف).
وبعد :
فإن للأمثال والحكم – كما هو معروف- قيمة بلاغية وأدبية(14)، وقيمة تاريخية واجتماعية وأخلاقية(15) فهي مرآة عاكسة لتفكير الشعوب وثقافتها وعوائدها وأخلاقها، وهي ذات أهمية قصوى ليس يدركها إلا من تعمق في دراسة نفسية الأمم والشعوب، وتطورها المعرفي والمجتمعي(16).
وكتاب "زهر الأكم في الأمثال والحكم" لمؤلفه العلامة النابغة والأديب المتضلع أبي علي الحسن اليوسي، ذخيرة عظيمة القيمة والنفع، ما أجدر المسؤولين عن الثقافة في بلادنا أن ينقذوه – مع ذخائر أدبية أخرى- ويخرجوه إلى قراء الأدب، ليستفيدوا منه.
(1) أسسها الشيخ أبو بكر الدلائي، وكانت مأوى للطلبة ومركزا لنشر العلم والثقافة الإسلامية وظلت كذلك حتى أوقع بها مولاي رشيد وشرد أصحابها وذلك في سنة 1079هـ.
(2) النبوغ المغربي في الأدب العربي للأستاذ عبد الله كنون. ط دار الكتاب اللبناني ص 274 ج 1.
(3) نفس المصدر ص 312 ج 1.
(4) نفس المصدر ص 312 ج 1.
(5) نشر المثاني للقادري ج 2 ص 142.
(6) راجع جريدة الحسنى من عددها الأربعين إلى عددها الثامن والأربعين – السنة الأولى.
(7) طبع بفاس عام 1317 هـ.
(8) طبع بفاس عام 1310 هـ.
(9) طبع بفاس عام 1327 هـ.
(10) طبع بالآستانة 1300 هـ.
لأبي الوفاء المبشر بن فاتك كتاب آخر اسمه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. ط المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد 1958.
(11) في المعنى الكلمة المأثورة : المرء بأصغريه : لسانه وقلبه، وقول الشاعر الجاهلي :
لسـان الفتـى نصـف ونصـف فـؤاده فلـم تبـق إلا صـورة اللحـم والـدم
(12) يستفاد من هذا أن "زهر الأكم في الأمثال والحكم" ليس مضمونه نسخة أخرى من مضمون كتاب الضبي أو الميداني أو غيرهما في الأمثال (لأن دهر اليوسي العقيم وجده السقيم) لم يسمح له بللإطلاع على كتاب من تلك الكتب ومن هنا جاءت أهمية كتابه.
(13) في نسخة أخرى : فوائد.
(14) انظر كتاب "الأمثال والحكم" تأليف : حنا الفاخوري ط. دار المعارف بمصر.
(15) يقول ابراهيم النظام : (يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة).
(16) انظر كتاب "تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي" لأنيس المقدسي ط دار العلم للملايين ببيروت.
* دعوة الحق - ع/65
تلك حقيقة، يعرفها مثقفونا، وفي طليعتهم السادة المشرفون على قسم المخطوطات والوثائق بالمكتبات العامة، وهواة جمع المخطوطات ومن يشتغل بالتنقيب فيها ويتخصص في دراستها.
وإذا كانت الأمم المتحضرة الراقية تسعى باستمرار لتصل حاضرها بماضيها، وتتزود من تجرباتها في كليهما بما ينير الطريق لها ويعبده، تسلك نحو مستقبل أفضل وحياة أجمل.. إذا كانت تلك الأمم تفعل ذلك، وكنا نتطلع إلى يوم، نصبح في مصافها، فإنه لجدير بنا –وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا التي يجب أن نعي فيها أصولنا ونعرف دواتنا ونستكمل مقومات شخصيتنا- أن نبحث، أن نفتش عن آثار علمية وكنوز فكرية وذخائر أدبية أصابها البلى وعاثت فيها الأرضة المقيتة، وهي ليست تمثل في الحقيقة سوى آثار خطوات أجدادنا في معارج العلوم والثقافة ومعالم مراحل سيرهم في سبلهما.
إنها مخطوطات قيمة – شكلا ومضمونا- بعثها يعني بعث صور لماضينا العلمي والأدبي ولا شك أنها مجيدة ومشرقة وتثير الفخر بالشخصية المستقلة الكيان، والاعتزاز بالوجود المتميز الذات، وإغفالها وطمسها يعني إغفال وطمس ماضينا وأصولنا.
ولست أشك في أن مخطوط «زهر الأكم في الأمثال والحكم»، لمؤلفه أبي علي الحسن اليوسي الذي وددت أن أحدثك عنه اليوم يأتي في طليعة ذخائرنا الأدبية التي يجب أن نخلصها من (ظلمة) الغبار و(ظلم) الأرضة، ونخرجها لعالم النور.. ولكن، قبل أن أحدثك عن هذا الأثر الأدبي الرائع أحب أن أحدثك عن صاحبه... فمن هو أبو علي الحسن اليوسي ؟ ؟
محاولة الحديث عن شخصية العالم النابغة والأديب البارع أبي علي الحسن اليوسي تستدعي قبل كل شيء الحديث عن الزاوية الدلائية، أو هي نفسها حديث عن وجه مشرق القسمات، بارز المعالم من وجوه هذا المركز العظيم للإشعاع الفكري خلال فترة من فترات تاريخ بلادنا.
استطاعت زاوية الدلائيين(1) أن تحفظ تراثا مجيدا من العلوم والآداب بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي، وأن تقوم عليه خير قيام(2) كما استطاعت أن تنعش روح الأدب والشعر بعد خمودها بأثر سقوط الدولة السعدية(3)، وبتوالي الأيام أصبحت هذه الزاوية مركزا لنشر الثقافة في ربوع المغرب وكعبة
يؤمها طلاب العلوم الإسلامية، وقد تخرج منها عدد لا يكاد يحصى من العلماء والأدباء أشهرهم على الإطلاق مفخرة المغرب العلمية والأدبية في القرن الحادي عشر الهجري : أبو علي الحسن اليوسي.
وقد لبث الأدب المغربي –كما يقول أستاذنا عبد الله كنون- يحمل طابع الزاوية الدلائية زمنا غير قصير ممثلا في أسلوب اليوسي القوي الرصين، ومتأدبا إلى ابن زاكور الشاعر الفحل بطريق شيخه اليوسي(4).
وقد كان صاحبنا اليوسي ذا باع طويل وكعب عال في العلوم العقلية والنقلية تخرج من زاوية أهل الدلاء ثم عكف بها ينشر العلم والمعرفة حتى أوقع بها مولاي رشيد فانتقل اليوسي إلى فاس حيث تصدر للتدريس بجامعة القرويين.
ولعلنا إذ نقرأ ما قاله فيه عصريه العالم الفاضل أبو سالم العياشي :
من فاتـــه الحسن البصـــــري يــــــــدركــــــه = فليصحـــب الحســــن اليوسي يكفيه
ندرك إلى مدى كان الرجل معروفا بالعلم، والصلاح، والورع، والتقوى، وحسن الهدى، وإقامة شعائر الدين.
ولعلنا، أيضا، إذا قرأنا قولته : (لو شئت أن أتكلم إلا بالشعر لفعلت)، أدركنا غزارة شاعريته وتيقنا من أن الشعر كان عنده أسهل من النفس، يؤكد لدينا ذلك ما ذكره الذين ترجموا له مثل القادري(5) وغيره من أنه كان يحفظ عن ظهر قلب ديوان المتنبي وأبي تمام والمعري، وقصائد كثيرة لشعراء آخرين، كما يؤكد لدينا هذا الديوان الضخم من الشعر الذي خلفه اليوسي ضمن ما خلف من مؤلفات، وهو يدل على غزارة شاعريته وسلامة طبعه، ونحن نعتقد على ضوء ما تقدم ذكره أن لليوسي شعرا آخر غير ما ضمه ديوانه لم يصل إلينا لأن أصوله المكتوبة ربما تكون قد ضاعت أو أن اليوسي نفسه لم يعن بتدوينه وبقي محفوظا في ذاكرته، وضاع بموته.
وقد طبع هذا الديوان طبعة فاسية، وعمل الأستاذ العلامة عبد الله كنون منتخبا منه، وقدم قصائد ومقتطعات منه وحللها تحليلا أدبيا ممتازا الأستاذ محمد المنتصر الريسوني في حديثه المسلسل الذي نشرته جريدة «الحسنى» عن اليوسي «العالم الشاعر»(6).
ولليوسي غير ديوان شعره، مؤلفات نفيسة، نذكر منها : "المحاضرات"(7) و"القانون في ابتداء العلوم"(8) و"منهاج الخلاص من كلمة الإخلاص"(9) و"زهر الأكم في الأمثال والحكم" وهو موضوع حديثنا في هذه العجالة.
هذا الكتاب الشيق، الممتع، الرائع، هو نظير لما ألف وجمع في ميدان الأمثال والحكم، مثل "كتاب الأمثال" للفضل الضبي، وكتاب "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري، وكتاب "مجمع الأمثال" لأبي الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني، وكتاب حمزة الأصفهاني في الأمثال، وهو لا يزال مخطوطا بمكتبة مونيخ، وبعد من المصادر الرئيسية لكل من اشتغل بعد الأصفهاني في هذا الموضوع، وكتاب "الوصايا والأمثال والموجز من محكم الأقوال"(10) لأبي الوفاء المبشر.
توجد من "زهر الأكم في الأمثال والحكم" نسخ أربع بقسم الوثائق التابع للخزانة العامة بالرباط، الأولى مسجلة تحت رقم (1001) والثانية تحت رقم (1159) وهذه مكتوبة بخط مغربي لا بأس به، وفي آخرها بتر.
أما النسخة الثالثة فهي مسجلة تحت رقم (71) وهي مبتورة الأول، وليس بها مقدمة، وإنما هي مبدوءة بباب الجيم ومختومة بباب الصاد، وفي آخر صفحة منها نقرأ هذا التعليق لناسخها (أشهى ما وجد من "زهر الأكم في الأمثال والحكم" للشيخ الإمام، علامة الأنام، آخر المحققين، وخاتمة الأدباء المعبرين، العارف أبي علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله ورضي عنه، وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب يوم الأربعاء ثالث شوال الأبرك عام 1334 هـ).
على أن النسخة الرابعة نسخة غير مبتورة، وهي مكتوبة بخط مغربي جميل، تطالعنا في أولها فاتحة الكتاب، نقرأها فنعجب بأسلوبها المشرق البارع الذي يذكرنا بعهود للنثر العربي زاهرة ولا عصار له كانت مزدهرة.
قال اليوسي في مستهلها : (سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والآثال، والله أكبر أن يتطاول إلى سمى جلاله خيال أو مثال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نحمد على ما أسدى من جزيل الرغائب وأجرى من جميل المواهب، ومنى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم، ونشكره على أفئدة بنور الإيمان هداها، والسنة طال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقف غيث الفكر وجداها، حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلو بلوامع التبيان كل ليل بهيم).
وبعد أن يصلي على النبي (محمد المختار، المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برد الإجلال والإكبار... إلخ) يمهد للحديث عن موضوع كتابه بالكلام عن العلم بصفة عامة فيقول : (العلم أنفس علق يقتنى، وأجل ثمر يجتنى، وأعدل محجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة –بضم الجيم-) ويمضي مبينا فضل العلم وكيف أنه (غذاء العقل وبه يعرف الحكم العدل، وأن الخصيصة التي بها تشرف الإنسان إنما هي العلم واللسان فإن المرء لو بلغ في كمال الجسم والجمال أطوريه لا يكون إنسانا إلا بأصغريه)(11).
ثم يبين مكانة علم الأدب بين بقية العلوم فيقول : (فلا جرم كان من أجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء وأجدرها علم الأدب والتضلع من كلام العرب إذ به تنحل عقلة اللسان، وتزاح روعة الجنان، وهو لسان نبينا نخبة العالم وصفوة ولد آدم وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان من بلغاء عدنان.
ومن ثم ينتقل اليوسي إلى الحديث عن موضوع كتابه، وهو الأمثال والحكم، ويبدي أهميتها فيقول بأنها (زمام كل معنى، ومنار كل مرمى، ومصباح كل ظلما، وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا، بل المعدوم موجودا) ثم أشار إلى الجهود التي بذلها الأقدمون في هذا المضمار. وكيف أنهم كانوا يعنون بهذا الفن، يدونون نوادره، ويردون موارده ويقتنصون شوارده ويقتطفون أزاهره.
ولقد كانت لليوسي – كما يقول في فاتحة كتابه – نفس تشوقه إلى هذا الفن – فن الأمثال والحكم – ومآثره تنازعه إلى تتبع دائره، فكان يتطلع أن يجد في ذلك موضوعا أو يصادف كتابا مجموعا مما عنى به الأقدمون واقتفى أثرهم فيه المتأخرون، فلم يظفر بشيء من ذلك(12)، وكان هذا حافزا له على القيام بجولات في عرصات كتب الأدب والشعر وأخبار العرب، ولم يزل كذلك حتى امتلأ وطابه بالأمثال وفاض أناؤه بالحكم فراوده خاطر جمعه (ما علق في هذا الوقت بخاطري مما ترقى إليه نظري وناظري في كن يؤويه ومجموع يحويه حذرا من النسيان عند تطاول الزمان، فألفت هذا المجموع في الأمثال وأودعته كل دمية وتمثال، ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما اشتهيت إليه ووقفت عند طوفاني عليه).
إلى أن يقول : (فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا :
جمعــــــت به والجفن مغض على القــــــذا = وبالخلــــد البلبال أصبـــح ذا خلــــــد
محاســـن تـــزري بالنسيــــــم إذا ســـــرى = فحي محيا السوسن الغض والــــورد
وتــزري بهــــــاء بالمطيــــر من الربـــــى = وبالعذب للصادي وبالكاعب الــــــراد
لآلئ مـــــــا غواصــــها بمــــصـــــــــادف = لها صدفا في ملتقى أبــــحر الهنـــــد
ولا حليت يومــــــا بهـــــا جيـــــد غــــــادة = ولا فصلت بالمسجد الصرد في عقــد
فرائـــــــد(13) مـــــا منهـــن إلا خريــــدة = أعز على المرتاد من الأبلق الفـــــرد
(ومع هذا فإني أعتذر لذوي النفوس الوقادة والصارفة النقادة من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه).
والكتاب مقسم إلى قسمين : القسم الأول في الأمثال وما يلتحق بها، وهو يضم مقدمة شيقة – مبنى ومعنى- من أربعة فصول، الأول في معنى المثل والحكمة والثاني في فائدة المثل والحكمة، والثالث في فضل الشعر، والرابع في الأمثال الشعرية، كما يضم خاتمة وأربعة وثلاثين بابا، تسعة وعشرون منها في الأمثال التركيبية العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، والباب الموفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثون في الأعيان، الثاني والثلاثون في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في الأمثال الشعرية.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو خاص بالحكم وما يلتحق بها، وقد ضم بين دفتيه اثنين وثلاثين بابا، تسعة وعشرون منها في الحكم على حروف المعجم، الباب الثلاثون في حكم مجموعة، الحادي والثلاثون في النوادر، الثاني والثلاثون في الأوليات، فكان مجموع الكتاب إذن بذلك ستة وستين بابا.
ويحدثنا اليوسي عن اصطلاح الكتاب فيقول (أعلم بأني ما ذكرته من الأمثال على حروف المعجم، جاعلا الباب الأول حروف الكلمة فإن اشتمل المثل على كلمات اعتبرت أولها كلمة، ثم أول هذه الكلمة حرفا، ثم عند سرد أمثال كل باب أعتبر هذا الترتيب أيضا في جمعها وتقديم بعضها على بعض، والمعتبر من جميعه ذلك أول الحروف الأصلية دون الزائدة إلا أن يكون لها ممنوع يخرطها في سلك الأصلية، فإن كان الحرف مما ينبني عليه التركيب "لا وما" النافيتين، و"في والباء" الجارتين اعتبر أيضا).
وصاحبنا اليوسي لا يقصر كتابه على الأمثال العربية الفصيحة، بل يورد أحيانا (شيئا من أمثال المولدين ومن بعدهم أو شيئا مما يتمثل به في (وقته) من ألفاظ الحديث)، وهذا ليس من شأنه الغض من قيمة الكتاب فهو – على حد تعبير مؤلفه – ليس موضوعا للغزو الصرف والحكايات المجردة، بل موضوع لينتفع به الأديب ويستعين به المنصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما.
ومنهج اليوسي في إيراد الأمثال منهج مفيد وطريف، فهو يسوق المثل ويشرح ألفاظه من ناحية اللغة شرحا دقيقا، ويشير إلى الموقف الذي يضرب فيه المثل، ثم يحكى الحادثة التي تمخض عنها، وقد يورد في بعض الأحيان شبيهه عند العامة.
فلنستمع إليه وهو يحدثنا عن هذا المثل : (أن لا حظية فلا آلية) (الحظوة : المكانة – يقال : حظيت المرأة عند زوجها بالكسر، تحظى حظوة وحظة فهي حظية وهن حظايا ضد صلفت – الألو : التقصير، يقال : إلا في هذا الأمر يألو ألوا ولوا، وائتلى إذا قصر فيه وأبطأ فهو آل ومؤتلي، يضرب هذا المثل في مداراة الناس والتودد إليهم، والمعنى : أنك إذا أخطأتك الحظوة فيما تريد فلا تأل جهدا ولا تزال مجتهدا متوددا للناس حتى تستدرك ما فاتك مما تطلب، وأصله في المرأة أنها إن لم تحظ عند زوجها فلا ينبغي لها أن تقصر في طلب الحظوة حتى تنالها، وأصله أن رجلا كان لا تحظى عنده امرأة فتزوج امرأة فلم تأل جهدا في أن تحظى عنده فلم يفته ذلك وطلقها فقالت ذلك، إني إن لم اأظ عنده فإني لم أقصر، فصار مثلا في كل من اجتهد في أمر ليناله وتعذر عليه وهو لم يقصر في طلبه والسعي فيه. واعلم أن في المثل بالنصب والرفع يجب تقدير المحذوف،
فمن نصب فمعناه باعتبار الأصل : أن لا أكن عندك أيها البعل حظية فلا أكون إليه في الحظوة بتحسين خلقي – بتسكين اللام- وخلقي- بضم اللام- حتى أدركها، ومن رفع فله وجهان : أحدهما أن تكون الحظية مصدرا وصفا، والمعنى : أن أخطأتني الحظوة عندك فلا أكون إليه في طلبها أو فلا يقع مني ألو وتقصير، الثاني أن تكون الحظية وصفا أو على بابها إلا أنها راجعة إلى غير القائلة، والمعنى : أن لا تكن لك في الناس حظية تحظى عندك فأنا لا أكون ألية في طلبها حتى أنالها منك أو نحو هذا من التقادير وما هو الأرجح منها، وهو معروف).
وبعد :
فإن للأمثال والحكم – كما هو معروف- قيمة بلاغية وأدبية(14)، وقيمة تاريخية واجتماعية وأخلاقية(15) فهي مرآة عاكسة لتفكير الشعوب وثقافتها وعوائدها وأخلاقها، وهي ذات أهمية قصوى ليس يدركها إلا من تعمق في دراسة نفسية الأمم والشعوب، وتطورها المعرفي والمجتمعي(16).
وكتاب "زهر الأكم في الأمثال والحكم" لمؤلفه العلامة النابغة والأديب المتضلع أبي علي الحسن اليوسي، ذخيرة عظيمة القيمة والنفع، ما أجدر المسؤولين عن الثقافة في بلادنا أن ينقذوه – مع ذخائر أدبية أخرى- ويخرجوه إلى قراء الأدب، ليستفيدوا منه.
(1) أسسها الشيخ أبو بكر الدلائي، وكانت مأوى للطلبة ومركزا لنشر العلم والثقافة الإسلامية وظلت كذلك حتى أوقع بها مولاي رشيد وشرد أصحابها وذلك في سنة 1079هـ.
(2) النبوغ المغربي في الأدب العربي للأستاذ عبد الله كنون. ط دار الكتاب اللبناني ص 274 ج 1.
(3) نفس المصدر ص 312 ج 1.
(4) نفس المصدر ص 312 ج 1.
(5) نشر المثاني للقادري ج 2 ص 142.
(6) راجع جريدة الحسنى من عددها الأربعين إلى عددها الثامن والأربعين – السنة الأولى.
(7) طبع بفاس عام 1317 هـ.
(8) طبع بفاس عام 1310 هـ.
(9) طبع بفاس عام 1327 هـ.
(10) طبع بالآستانة 1300 هـ.
لأبي الوفاء المبشر بن فاتك كتاب آخر اسمه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. ط المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد 1958.
(11) في المعنى الكلمة المأثورة : المرء بأصغريه : لسانه وقلبه، وقول الشاعر الجاهلي :
لسـان الفتـى نصـف ونصـف فـؤاده فلـم تبـق إلا صـورة اللحـم والـدم
(12) يستفاد من هذا أن "زهر الأكم في الأمثال والحكم" ليس مضمونه نسخة أخرى من مضمون كتاب الضبي أو الميداني أو غيرهما في الأمثال (لأن دهر اليوسي العقيم وجده السقيم) لم يسمح له بللإطلاع على كتاب من تلك الكتب ومن هنا جاءت أهمية كتابه.
(13) في نسخة أخرى : فوائد.
(14) انظر كتاب "الأمثال والحكم" تأليف : حنا الفاخوري ط. دار المعارف بمصر.
(15) يقول ابراهيم النظام : (يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة).
(16) انظر كتاب "تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي" لأنيس المقدسي ط دار العلم للملايين ببيروت.
* دعوة الحق - ع/65