نقوس المهدي
كاتب
تحديد مفهوم الحضارة:
كلمة الحضارة مشتقة من الحضر أي الحياة في المدن حيث الإقامة والاستقرار، وارتباطها بهذا المعنى يلقي الضوء على سر نشوءها وازدهارها. ففي المدينة حيث تتلاقح العقول وتلتقي الثروات، ويقوم تبادل اقتصادي منظم، وتنشأ علائق إنسانية تتحول إلى تقاليد وقوانين وأعراف محترمة، في هذا الجو يتاح للإنسان قدر من الأمن والفراغ يمارس به مختلف ألوان المتعة والابتكار وتنمية الثقافة، وتلك أهم مظاهر الحضارة.
وإذا نظرنا إلى منشأ الحضارة فإننا نستطيع أن نتبين من خلال التاريخ أنها لم تكن وقفا على شعب دون شعب أو جنس دون جنس، بل كانت ترتبط بعدة عوامل لا دخل فيها للعامل السلالي. إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نتبين من خلال التاريخ أيضا أن منشأ الحضارات لم يكن متمثلا، وأن المستويات التي بلغتها تلك الحضارات لم تكن متساوية كما أن الطابع الذي اتسمت به كل منها لم يكن دائما طابعا أصيلا. وعلى ضوء هذه الظاهرة يمكن تقسيم الحضارات الإنسانية إلى ثلاثة أنواع:
1) حضارة أصلية، وهي التي تنشأ مباشرة من مجال حيوي واجتماعي انبثقت منه أساليب وأشكال ساهمت تدريجيا ـ وبحكم عوامل محلية ـ في إنشاء تلك الحضارة. وطابع هذه الحضارة أنها تمثل مع أهلها وحدة متلائمة، لأنها أي الحضارة تنبثق من نفوسهم تلقائيا في مظاهر وأشكال تستجيب لشروط حياتهم وذلك كالحضارة اليونانية والحضارة العربية.
2) حضارة امتدادية، وهي الحضارة التي تمتد بفعل الهجرة إلى مجالات للحياة تبعا لانتقال فئات من الناس كانت لهم نشأة حضارية أصلية، ومن الطبيعية أن تنقل هذه الفئات معها إلى أي مكان آخر أشكال حضارتها وتقاليدها لتتمكن من متابعة نشاطها دون أن تنفصل عن شيء من تراثها القديم. وقد تؤثر الشروط الجغرافية الجديدة في هذه الحضارة، إلا أنها مع ذلك تظل ذات وشائج روحية مع الحضارة الأصلية، وذلك نظير ما حصل للحضارة الأندلسية التي قامت على أساس تعريب البلاد وطبعها بالطابع الشرقي، وهو ما حصل بالنسبة للحضارة الأمريكية ذات الطابع الأوربي.
3) حضارة مقتبسة، وهي التي تنشأ من نقل مجموعة من الأساليب نشأت بحكم عوامل حضارية وثقافية أجنبية إلى مجتمع جديد، لابد له في إنشاء هذه الأساليب بتاتا، وإنما آثر التعامل بها والاستفادة منها، وأبرز ما في هذه الحضارة المقتبسة أنها حضارة آلية، يصطنع أصحابها (تقنية) جافة من كل مضمون ثقافي لديهم، وبينما تمتاز الحضارتان الأوليان بالإبداع والاستجابة النفسية لمعطياتهما(1) تظل الأخيرة مجرد طلاء خارجي للمجتمع. فمن أي أنواع هذه الحضارات حضارتنا المغربية؟
في الحضارة المغربية:
إن بحث مقومات هذه الحضارة، وعوامل البيئة فيها، وبالتالي شروط نشأتها هو الذي سيلقي الضوء على هذه الحضارة في أبعاد الماضي، ونحن نعتقد سلفا أننا بهذا البحث المجرد إنما نضع المحاولة مكان الاختبار، وقد لا تقوم النتائج النهائية إلا من خلال أبحاث طويلة متنوعة الاختصاص.
لقد قامت في المغرب حضارة ازدهرت وتكاملت عبر العصور، وكانت تزداد ثراء وتفتحا بمرور الأجيال وتعاقب الدول لتجد مصداق هذا القول في الآثار الباقية، والتقاليد العريقة والتراث الثقافي والروحي والقيم الأخلاقية والنفسية التي تطبع الشخصية المغربية بطابع خاص.
معطيات المصادر والآثار:
إن تاريخ المغرب السياسي والحضاري لم يكتب بعد بشكل موضوعي وكل ما هنالك من مصادر ومراجع
1) كتب تاريخية قصد بها إلى تدوين حركات الإمارات والدول.
2) كتب الرحلات ووصف المدن والبقاع.
3) كتب الأنساب والعائلات والقبائل والطبقات والتراجم.
4) كتب حديثة تتفاوت قيمتها من حيث الموضوعية والنزاهة ولكنها لا تهتم بالتعليل للحوادث التاريخية.
5) دراسات قيمة في شؤون الحضارة والتاريخ السياسي والثقافي ولكنها لم تنتظم بعد في شكل متصل الحلقات أو دراسة شاملة.
إن معطيات هذه المراجع والوثائق تنتهي بعد التمحيص إلى استخلاص الظاهرة المميزة للحضارة المغربية وهو أنها حضارة أندلسية فقد اتصل المغرب بالأندلس منذ وقعة الزلاقة 479هـ اتصالا مباشرا خلال ثلاثة قرون، وأصبحت الأندلس مندمجة في المغرب سياسيا. وخلال هذا الاتصال تم انصهار المجتمع الأندلسي في المجتمع المغربي، وأدى الأمر إلى التأثير في الحضارة المغربية حيث انتقلت إلى المغرب الأساليب الاقتصادية والصناعية والتقاليد والعادات في الأعياد والمواسم والأطعمة والألبسة والحفلات، ولم يكن المغرب ليحتفظ بطابعه الأصيل إلا في بعض الآثار المحدودة التي لن تغير من قيمة الحكم العام(2) فإذا ذهبنا نبحث في أصول الحضارة الأندلسية وجدناها حضارة شرقية في كل تفاصيلها لأن العرب الذين كانوا قد انتقلوا من الشرق إلى الأندلس حاولوا إقامة عالم شرقي في تقاليده وأخلاقه وعاداته ونظامه، وبوسعنا أن نتتبع جميع مظاهر الحضارة الأندلسية لندل على ذلك الطابع الشرقي الإسلامي الذي عملت على تركيزه الخلافة الأموية أو الدولة الأموية بالأندلس بفضل أعمال التعريب واقتفاء آثار الشرقيين فيما أبدعوا أو انتهجوا من خطط وأعمال. ومن الواضح أن كل حضارة تسبقها نشأة ثقافية تمهد لقيامها وترسم مخططاتها، ومن روح هذه الثقافة تستمد الحضارة القائمة عليها غذاءها. والثقافة الأندلسية إنما كانت ثقافة عربية إسلامية، فالحضارة التي صدرت عنها لن تكون إلا ذات طابع شرقي إسلامي عربي(3).
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الحضارة المغربية امتداد للحضارة الأندلسية أو للحضارة الغربية الإسلامية، وهذه بدورها امتداد للحضارة الإسلامية في الشرق.
مقومات الحضارة المغربية:
تقوم كل حضارة على مجموعة من المظاهر أو المقومات يتميز بعضها عن بعض. فهناك المظهر السياسي للحضارة، وهناك المظهر الاقتصادي، وهناك المظهر الاجتماعي، وهناك المظهر الثقافي والفني على أنه من وراء هذه المظاهر كلها يوجد كل متلاحم بالكيان الاجتماعي والنفسي للأمة. هذا الكيان القومي للذاتية المغربية أمر واقع وحقيقي، وهذه حقيقة يجب تقريرها قبل أي شيء آخر، لأنه قد يلتبس على البعض مفهوم كون الحضارة المغربية ليست حضارة أصلية بمفهوم آخر موهوم، يروجه بعضهم وهو أن المغرب لم تكن له شخصية أو كيان قبل الإسلام. فلقد عرف المغرب(4) عددا من الإمبراطوريات البربرية كانت لها قوة وسلطان سياسي وكانت لها آثار اندثرت على مر
العصور(5) والملاحظ أن الشخصية البربرية قوية حتى بعد الإسلام وهذا أمر لا يتنافى تقريره مع عروبة المغرب التي ظلت مستقلة عن كل التأثيرات التي أريد من ورائها القضاء على اتجاه البربر الوطني في عصور ما قبل الإسلام، كما ظلت الشخصية البربرية قوية حتى بعد الإسلام وهذا أمر لا يتنافى تقريره مع عروبة المغرب التي ظلت تتحقق عبر التاريخ، فمن المعلوم أن هذه العروبة لم تكن أكثر من تراث ولغة، وأن السلالة البربرية وجدت في العروبة تآخيا وانسجاما نظرا لوحدة الارومة بينهما، وأن المبادئ الإسلامية تغلغلت في الكتلة البربرية من برقة إلى الصحراء المغربية. وكيف يمكن تفسير ظاهرة انبثاق إمبراطوريات بربرية إسلامية كإمبراطورية المرابطين والموحدين والحفصيين والمرينيين، وكلها عمل على نشر العربية وتركيز شريعة الإسلام، وإقامة حضارة إسلامية زاهرة، كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة إن لم تكن دليلا على وجود كيان مغربي وجد في الإسلام واللغة العربية مقومات التطور والتقدم، فاندمج فيهما دون أن يفقد شيئا من خصائصه الإنسانية نظير ما حدث بالنسبة لغيره من الشعوب التي شملها الإسلام فغدت قوة للإسلام وفخرا لتاريخه.
نعود الآن إلى الحديث عن مظاهر الحضارة المغربية ومقوماتها البارزة، ففي المظهر السياسي كان قوام إنشاء الدول وقوام اتجاهها دافعان اثنان: (1) دافع ديني فحواه الدفاع عن قيم الإسلام وشعائره وتجديد رسومه، وكلما كان هذا الدافع عميقا وصادقا إلا ولقي الاستجابة الجماعية من جميع القبائل. نجد ذلك في نشأة دولة الأدارسة حيث التف حولهم البرابرة، وقد ذكر منهم ابن خلدون زواغة وغياتة ونفزة ومكناسه وغمارة، ولم يكن مع المولى إدريس سوى نفر من العرب اخترق بهم تامسنا وتادلة إلى الأطلس الكبير ونجده أيضا في نشأة المرابطين ونشأة الموحدين. (2) دافع وطني فحواه توحيد البلاد والدفاع عنها ضد أي خطر أو فوضى تتربص بها، وربما كان هدف توحيد البلاد المغربية من أبرز أهداف كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة حتى العصر الحديث، وليس ذلك مما يعد من طموح الساسة والملوك في التوسع، وإنما هو الشعور الوطني ومصداق هذا القول هو الواقع. وقد اندهش المؤرخون الغربيون للسرعة الخارقة التي كان المغرب يسترجع بها وحدته السياسية في ظرف سنوات معدودة بحيث تمتد المملكة بمجرد انبثاقها في مركز من المراكز إلى أقصى التخوم. مثال ذلك أن بعض أمراء نوميديا مثل سيفاكس ملكوا من قرطاجنة إلى راسكو (تلمسان) كما امتد نفوذ الفاطميين من القيروان إلى فاس وابن تاشفين من قلب الصحراء إلى قلب الجزائر وعبد المومن إلى طرابلس وأبي الحسن المريني إلى حدود برقة(6) فهذا الذي اندهش له المؤرخون الغربيون كان تقليدا من تقاليدنا في سياسة الدول التي مرت على مسرح تاريخنا، وهو ناطق بالوحدة السلالية والجغرافية والتاريخية للوطن المغربي الكبير.
وفي المظهر الاقتصادي للحضارة المغربية تتجلى على مر العصور شخصية المغرب النامية، فمنذ عصر الموحدين عرف المغرب التجارة واستغلال الثروة المعدنية، والاستفادة من الأساليب الصناعية الجديدة، وإنشاء الحواضر لتركيز الحياة الاقتصادية، والمظهر المعبر عن الرخاء الاقتصادي الذي عرفه المغرب خلال عهود الازدهار، وباستثناء فترات خاصة ـ هي الحياة الاجتماعية والعمرانية التي يحدثنا عنها الرحالة كالشريف الإدريسي والبكري وابن خرداذبه والمؤرخون كابن خلدون وعبد الواحد المراكشي. وإذا كانت الحياة الاقتصادية تتدهور أحيانا وتنتكس بفعل أحداث سياسية أو فترات انتقال فإنها سرعان ما كانت تستعيد نشاطها وفي القرن الأخير عرف المغرب كثيرا من النشاط الاقتصادي، وأول مقوماته التبادل التجاري بين المغرب والدول الأجنبية، ويكفي أن 223 باخرة أجنبية دخلت عام 1851م إلى المراسي المغربية مثقلة بالقطنيات والحرائر والفولاذ والحديد والسكر والشاي والقهوة والمواد المصنوعة.
ويبدو أن ملوك المغرب على عهد السعديين والعلويين عملوا على الاستفادة من حركة التجارة الخارجية المتزايدة فوضعوا أساليب لتخضيم الموارد الجمركية لاستغلال الميزان التجاري الدولي والاستغناء عن إثقال كاهل الشعب بمختلف الجبايات، إلا أن هذه الأساليب الجبائية لم تخل من اضطراب وعسف أحيانا فلم يتحقق بها التوازن الضروري بين مختلف الطبقات الاجتماعية وتلك ظاهرة لم تنفرد بها السياسة الاقتصادية المغربية بل عرفتها كل الدول القديمة ولاتزال تعرفها شعوب أخرى حاليا.
أما عن المظهر الثقافي والفني لحضارتنا فينطوي تحته سجل ضخم حافل بالأعمال في ألوان مختلفة من العلوم والفنون والآثار. وأولى بنا أن نستعرض مساهمة المغرب في الثقافة العربية الإسلامية ونشاط أبنائه في تنمية التراث الفكري والعلمي على الصعيد الإسلامي والعربي، والمؤسسات العلمية التي نهضت بهذه الرسالة، والمظاهر التي تدل على ذلك، ومقومات هذه الحياة العلمية والأدبية. ثم نولي عناية خاصة للفنون المغربية وطابعها ودلالتها على الشخصية الوطنية ثم نفرغ إلى الجانب الروحي لنتحدث عن حركة التصوف وتطورها ومعطياتها وآثارها، إلا أننا في بحث قصير كهذا لا يسعنا إلا أن نشير إلى رؤوس المسائل دون تحليل أو تبسيط، على أن الجانب الثقافي والفني من حضارتنا اتسم بالطابع التقليدي للأندلس وللشرق العربي.
وصفوة القول في مقومات الحضارة المغربية أنها حضارة امتدادية للحضارة الإسلامية في نشأتها وتطورها وفلسفتها، أما انها امتدادية فلكون النشأة الثقافية التي ترعرعت واستمدت منها هي الثقافة العربية والعقيدة الإسلامية، واما أنها إسلامية فلأن الإسلام طبعها بروحه وتقاليده وقيمه الإنسانية، ولأنه بعزل العنصر الإسلامي من كل آثارها يجعلها خلوا من كل هدف ومضمون إنساني. وهي دليل يضع في مكانه من أدلة معجزة هذا الدين الذي حرر كثيرا من الشعوب وحقق لها التطور والإبداع.
(1) فلسفة في الثقافية ـ منوال يونس ص 56 ـ 60 بيروت 1955.
(2) مظاهر الحضارة المغربية عبد العزيز بنعبد الله ص 38 – 42 ج 1.
(3) الآثار الشرقية في الحضارة الأندلسية ليفي بروفنصال.
(4) نتحدث عن المغرب في مدلوله الواسع أي أقطار أفريقيا الشمالية.
(5) البربر: عثمان الكعاك ص 67 – 69 سلسلة كتب البعث.
(6) معطيات الحضارة المغربية ج 1 ص 7 عبد العزيز بنعبد الله. والمسند لابن مرزوق عن مجلة هيسبريس ج 5 ص 1925.
* دعوة الحق - ع/ 66
كلمة الحضارة مشتقة من الحضر أي الحياة في المدن حيث الإقامة والاستقرار، وارتباطها بهذا المعنى يلقي الضوء على سر نشوءها وازدهارها. ففي المدينة حيث تتلاقح العقول وتلتقي الثروات، ويقوم تبادل اقتصادي منظم، وتنشأ علائق إنسانية تتحول إلى تقاليد وقوانين وأعراف محترمة، في هذا الجو يتاح للإنسان قدر من الأمن والفراغ يمارس به مختلف ألوان المتعة والابتكار وتنمية الثقافة، وتلك أهم مظاهر الحضارة.
وإذا نظرنا إلى منشأ الحضارة فإننا نستطيع أن نتبين من خلال التاريخ أنها لم تكن وقفا على شعب دون شعب أو جنس دون جنس، بل كانت ترتبط بعدة عوامل لا دخل فيها للعامل السلالي. إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نتبين من خلال التاريخ أيضا أن منشأ الحضارات لم يكن متمثلا، وأن المستويات التي بلغتها تلك الحضارات لم تكن متساوية كما أن الطابع الذي اتسمت به كل منها لم يكن دائما طابعا أصيلا. وعلى ضوء هذه الظاهرة يمكن تقسيم الحضارات الإنسانية إلى ثلاثة أنواع:
1) حضارة أصلية، وهي التي تنشأ مباشرة من مجال حيوي واجتماعي انبثقت منه أساليب وأشكال ساهمت تدريجيا ـ وبحكم عوامل محلية ـ في إنشاء تلك الحضارة. وطابع هذه الحضارة أنها تمثل مع أهلها وحدة متلائمة، لأنها أي الحضارة تنبثق من نفوسهم تلقائيا في مظاهر وأشكال تستجيب لشروط حياتهم وذلك كالحضارة اليونانية والحضارة العربية.
2) حضارة امتدادية، وهي الحضارة التي تمتد بفعل الهجرة إلى مجالات للحياة تبعا لانتقال فئات من الناس كانت لهم نشأة حضارية أصلية، ومن الطبيعية أن تنقل هذه الفئات معها إلى أي مكان آخر أشكال حضارتها وتقاليدها لتتمكن من متابعة نشاطها دون أن تنفصل عن شيء من تراثها القديم. وقد تؤثر الشروط الجغرافية الجديدة في هذه الحضارة، إلا أنها مع ذلك تظل ذات وشائج روحية مع الحضارة الأصلية، وذلك نظير ما حصل للحضارة الأندلسية التي قامت على أساس تعريب البلاد وطبعها بالطابع الشرقي، وهو ما حصل بالنسبة للحضارة الأمريكية ذات الطابع الأوربي.
3) حضارة مقتبسة، وهي التي تنشأ من نقل مجموعة من الأساليب نشأت بحكم عوامل حضارية وثقافية أجنبية إلى مجتمع جديد، لابد له في إنشاء هذه الأساليب بتاتا، وإنما آثر التعامل بها والاستفادة منها، وأبرز ما في هذه الحضارة المقتبسة أنها حضارة آلية، يصطنع أصحابها (تقنية) جافة من كل مضمون ثقافي لديهم، وبينما تمتاز الحضارتان الأوليان بالإبداع والاستجابة النفسية لمعطياتهما(1) تظل الأخيرة مجرد طلاء خارجي للمجتمع. فمن أي أنواع هذه الحضارات حضارتنا المغربية؟
في الحضارة المغربية:
إن بحث مقومات هذه الحضارة، وعوامل البيئة فيها، وبالتالي شروط نشأتها هو الذي سيلقي الضوء على هذه الحضارة في أبعاد الماضي، ونحن نعتقد سلفا أننا بهذا البحث المجرد إنما نضع المحاولة مكان الاختبار، وقد لا تقوم النتائج النهائية إلا من خلال أبحاث طويلة متنوعة الاختصاص.
لقد قامت في المغرب حضارة ازدهرت وتكاملت عبر العصور، وكانت تزداد ثراء وتفتحا بمرور الأجيال وتعاقب الدول لتجد مصداق هذا القول في الآثار الباقية، والتقاليد العريقة والتراث الثقافي والروحي والقيم الأخلاقية والنفسية التي تطبع الشخصية المغربية بطابع خاص.
معطيات المصادر والآثار:
إن تاريخ المغرب السياسي والحضاري لم يكتب بعد بشكل موضوعي وكل ما هنالك من مصادر ومراجع
1) كتب تاريخية قصد بها إلى تدوين حركات الإمارات والدول.
2) كتب الرحلات ووصف المدن والبقاع.
3) كتب الأنساب والعائلات والقبائل والطبقات والتراجم.
4) كتب حديثة تتفاوت قيمتها من حيث الموضوعية والنزاهة ولكنها لا تهتم بالتعليل للحوادث التاريخية.
5) دراسات قيمة في شؤون الحضارة والتاريخ السياسي والثقافي ولكنها لم تنتظم بعد في شكل متصل الحلقات أو دراسة شاملة.
إن معطيات هذه المراجع والوثائق تنتهي بعد التمحيص إلى استخلاص الظاهرة المميزة للحضارة المغربية وهو أنها حضارة أندلسية فقد اتصل المغرب بالأندلس منذ وقعة الزلاقة 479هـ اتصالا مباشرا خلال ثلاثة قرون، وأصبحت الأندلس مندمجة في المغرب سياسيا. وخلال هذا الاتصال تم انصهار المجتمع الأندلسي في المجتمع المغربي، وأدى الأمر إلى التأثير في الحضارة المغربية حيث انتقلت إلى المغرب الأساليب الاقتصادية والصناعية والتقاليد والعادات في الأعياد والمواسم والأطعمة والألبسة والحفلات، ولم يكن المغرب ليحتفظ بطابعه الأصيل إلا في بعض الآثار المحدودة التي لن تغير من قيمة الحكم العام(2) فإذا ذهبنا نبحث في أصول الحضارة الأندلسية وجدناها حضارة شرقية في كل تفاصيلها لأن العرب الذين كانوا قد انتقلوا من الشرق إلى الأندلس حاولوا إقامة عالم شرقي في تقاليده وأخلاقه وعاداته ونظامه، وبوسعنا أن نتتبع جميع مظاهر الحضارة الأندلسية لندل على ذلك الطابع الشرقي الإسلامي الذي عملت على تركيزه الخلافة الأموية أو الدولة الأموية بالأندلس بفضل أعمال التعريب واقتفاء آثار الشرقيين فيما أبدعوا أو انتهجوا من خطط وأعمال. ومن الواضح أن كل حضارة تسبقها نشأة ثقافية تمهد لقيامها وترسم مخططاتها، ومن روح هذه الثقافة تستمد الحضارة القائمة عليها غذاءها. والثقافة الأندلسية إنما كانت ثقافة عربية إسلامية، فالحضارة التي صدرت عنها لن تكون إلا ذات طابع شرقي إسلامي عربي(3).
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الحضارة المغربية امتداد للحضارة الأندلسية أو للحضارة الغربية الإسلامية، وهذه بدورها امتداد للحضارة الإسلامية في الشرق.
مقومات الحضارة المغربية:
تقوم كل حضارة على مجموعة من المظاهر أو المقومات يتميز بعضها عن بعض. فهناك المظهر السياسي للحضارة، وهناك المظهر الاقتصادي، وهناك المظهر الاجتماعي، وهناك المظهر الثقافي والفني على أنه من وراء هذه المظاهر كلها يوجد كل متلاحم بالكيان الاجتماعي والنفسي للأمة. هذا الكيان القومي للذاتية المغربية أمر واقع وحقيقي، وهذه حقيقة يجب تقريرها قبل أي شيء آخر، لأنه قد يلتبس على البعض مفهوم كون الحضارة المغربية ليست حضارة أصلية بمفهوم آخر موهوم، يروجه بعضهم وهو أن المغرب لم تكن له شخصية أو كيان قبل الإسلام. فلقد عرف المغرب(4) عددا من الإمبراطوريات البربرية كانت لها قوة وسلطان سياسي وكانت لها آثار اندثرت على مر
العصور(5) والملاحظ أن الشخصية البربرية قوية حتى بعد الإسلام وهذا أمر لا يتنافى تقريره مع عروبة المغرب التي ظلت مستقلة عن كل التأثيرات التي أريد من ورائها القضاء على اتجاه البربر الوطني في عصور ما قبل الإسلام، كما ظلت الشخصية البربرية قوية حتى بعد الإسلام وهذا أمر لا يتنافى تقريره مع عروبة المغرب التي ظلت تتحقق عبر التاريخ، فمن المعلوم أن هذه العروبة لم تكن أكثر من تراث ولغة، وأن السلالة البربرية وجدت في العروبة تآخيا وانسجاما نظرا لوحدة الارومة بينهما، وأن المبادئ الإسلامية تغلغلت في الكتلة البربرية من برقة إلى الصحراء المغربية. وكيف يمكن تفسير ظاهرة انبثاق إمبراطوريات بربرية إسلامية كإمبراطورية المرابطين والموحدين والحفصيين والمرينيين، وكلها عمل على نشر العربية وتركيز شريعة الإسلام، وإقامة حضارة إسلامية زاهرة، كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة إن لم تكن دليلا على وجود كيان مغربي وجد في الإسلام واللغة العربية مقومات التطور والتقدم، فاندمج فيهما دون أن يفقد شيئا من خصائصه الإنسانية نظير ما حدث بالنسبة لغيره من الشعوب التي شملها الإسلام فغدت قوة للإسلام وفخرا لتاريخه.
نعود الآن إلى الحديث عن مظاهر الحضارة المغربية ومقوماتها البارزة، ففي المظهر السياسي كان قوام إنشاء الدول وقوام اتجاهها دافعان اثنان: (1) دافع ديني فحواه الدفاع عن قيم الإسلام وشعائره وتجديد رسومه، وكلما كان هذا الدافع عميقا وصادقا إلا ولقي الاستجابة الجماعية من جميع القبائل. نجد ذلك في نشأة دولة الأدارسة حيث التف حولهم البرابرة، وقد ذكر منهم ابن خلدون زواغة وغياتة ونفزة ومكناسه وغمارة، ولم يكن مع المولى إدريس سوى نفر من العرب اخترق بهم تامسنا وتادلة إلى الأطلس الكبير ونجده أيضا في نشأة المرابطين ونشأة الموحدين. (2) دافع وطني فحواه توحيد البلاد والدفاع عنها ضد أي خطر أو فوضى تتربص بها، وربما كان هدف توحيد البلاد المغربية من أبرز أهداف كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة حتى العصر الحديث، وليس ذلك مما يعد من طموح الساسة والملوك في التوسع، وإنما هو الشعور الوطني ومصداق هذا القول هو الواقع. وقد اندهش المؤرخون الغربيون للسرعة الخارقة التي كان المغرب يسترجع بها وحدته السياسية في ظرف سنوات معدودة بحيث تمتد المملكة بمجرد انبثاقها في مركز من المراكز إلى أقصى التخوم. مثال ذلك أن بعض أمراء نوميديا مثل سيفاكس ملكوا من قرطاجنة إلى راسكو (تلمسان) كما امتد نفوذ الفاطميين من القيروان إلى فاس وابن تاشفين من قلب الصحراء إلى قلب الجزائر وعبد المومن إلى طرابلس وأبي الحسن المريني إلى حدود برقة(6) فهذا الذي اندهش له المؤرخون الغربيون كان تقليدا من تقاليدنا في سياسة الدول التي مرت على مسرح تاريخنا، وهو ناطق بالوحدة السلالية والجغرافية والتاريخية للوطن المغربي الكبير.
وفي المظهر الاقتصادي للحضارة المغربية تتجلى على مر العصور شخصية المغرب النامية، فمنذ عصر الموحدين عرف المغرب التجارة واستغلال الثروة المعدنية، والاستفادة من الأساليب الصناعية الجديدة، وإنشاء الحواضر لتركيز الحياة الاقتصادية، والمظهر المعبر عن الرخاء الاقتصادي الذي عرفه المغرب خلال عهود الازدهار، وباستثناء فترات خاصة ـ هي الحياة الاجتماعية والعمرانية التي يحدثنا عنها الرحالة كالشريف الإدريسي والبكري وابن خرداذبه والمؤرخون كابن خلدون وعبد الواحد المراكشي. وإذا كانت الحياة الاقتصادية تتدهور أحيانا وتنتكس بفعل أحداث سياسية أو فترات انتقال فإنها سرعان ما كانت تستعيد نشاطها وفي القرن الأخير عرف المغرب كثيرا من النشاط الاقتصادي، وأول مقوماته التبادل التجاري بين المغرب والدول الأجنبية، ويكفي أن 223 باخرة أجنبية دخلت عام 1851م إلى المراسي المغربية مثقلة بالقطنيات والحرائر والفولاذ والحديد والسكر والشاي والقهوة والمواد المصنوعة.
ويبدو أن ملوك المغرب على عهد السعديين والعلويين عملوا على الاستفادة من حركة التجارة الخارجية المتزايدة فوضعوا أساليب لتخضيم الموارد الجمركية لاستغلال الميزان التجاري الدولي والاستغناء عن إثقال كاهل الشعب بمختلف الجبايات، إلا أن هذه الأساليب الجبائية لم تخل من اضطراب وعسف أحيانا فلم يتحقق بها التوازن الضروري بين مختلف الطبقات الاجتماعية وتلك ظاهرة لم تنفرد بها السياسة الاقتصادية المغربية بل عرفتها كل الدول القديمة ولاتزال تعرفها شعوب أخرى حاليا.
أما عن المظهر الثقافي والفني لحضارتنا فينطوي تحته سجل ضخم حافل بالأعمال في ألوان مختلفة من العلوم والفنون والآثار. وأولى بنا أن نستعرض مساهمة المغرب في الثقافة العربية الإسلامية ونشاط أبنائه في تنمية التراث الفكري والعلمي على الصعيد الإسلامي والعربي، والمؤسسات العلمية التي نهضت بهذه الرسالة، والمظاهر التي تدل على ذلك، ومقومات هذه الحياة العلمية والأدبية. ثم نولي عناية خاصة للفنون المغربية وطابعها ودلالتها على الشخصية الوطنية ثم نفرغ إلى الجانب الروحي لنتحدث عن حركة التصوف وتطورها ومعطياتها وآثارها، إلا أننا في بحث قصير كهذا لا يسعنا إلا أن نشير إلى رؤوس المسائل دون تحليل أو تبسيط، على أن الجانب الثقافي والفني من حضارتنا اتسم بالطابع التقليدي للأندلس وللشرق العربي.
وصفوة القول في مقومات الحضارة المغربية أنها حضارة امتدادية للحضارة الإسلامية في نشأتها وتطورها وفلسفتها، أما انها امتدادية فلكون النشأة الثقافية التي ترعرعت واستمدت منها هي الثقافة العربية والعقيدة الإسلامية، واما أنها إسلامية فلأن الإسلام طبعها بروحه وتقاليده وقيمه الإنسانية، ولأنه بعزل العنصر الإسلامي من كل آثارها يجعلها خلوا من كل هدف ومضمون إنساني. وهي دليل يضع في مكانه من أدلة معجزة هذا الدين الذي حرر كثيرا من الشعوب وحقق لها التطور والإبداع.
(1) فلسفة في الثقافية ـ منوال يونس ص 56 ـ 60 بيروت 1955.
(2) مظاهر الحضارة المغربية عبد العزيز بنعبد الله ص 38 – 42 ج 1.
(3) الآثار الشرقية في الحضارة الأندلسية ليفي بروفنصال.
(4) نتحدث عن المغرب في مدلوله الواسع أي أقطار أفريقيا الشمالية.
(5) البربر: عثمان الكعاك ص 67 – 69 سلسلة كتب البعث.
(6) معطيات الحضارة المغربية ج 1 ص 7 عبد العزيز بنعبد الله. والمسند لابن مرزوق عن مجلة هيسبريس ج 5 ص 1925.
* دعوة الحق - ع/ 66