نقوس المهدي
كاتب
1) نظام الحكم والإدارة
لم تكن روما راغبة في فتح الشمال الإفريقي على ما يظهر، لولا منافسة قرطاجة، ثم خوفها من تكرار الهجوم على سواحل إيطاليا كما فعل هانيبال الذي غزا الرومان في عقر دارهم. وقد استغرق الحكم الروماني المباشر زمنا طويلا من الاحتلال الروماني. وقد تقدم أن موريطانيا الطنجية أصبحت خاضعة من الوجهة الإدارية لاسقفية إسبانيا ابتداء من عهد دوليكتيان (285-305م)، ومعنى ذلك أن هذه المنطقة لم تعد تنال من رعاية الأباطرة ما نالته إفريقية التي كان حاكمها دائما تابعا للإمبراطورية مباشرة. وحتى خلال هذا الحكم المباشر نعمت موريطانيا الطنجية بنوع من الاستقلال الذاتي، وكان الحكم الداخلي يقوم على نظام البلديات الكبرى، إذ كانت المدينة في النظام الروماني تلعب دورا عظيما في الحياة البشرية. وأشهر المدن التي حظيت في موريطانيا الطنجية باهتمام الرومان هي طنجة ووليلي. ولسوء الحظ، فإن الآثار الرومانية التي عثر عليها في طنجة قليلة، إذ في دراسة هذه الآثار ما يساعد كثيرا على التعرف على نظام الحكم بهذه المنطقة من خلال المباني الإدارية والمراكز العسكرية وغير ذلك.
وقد كانت المنطقة تعتبر مستعمرة رومانية إذا حظي أهلها بحقوق المواطنة الرومانية ومن ثم تحظى هذه المستعمرة أو المدينة بالاستقلال الذاتي عن طريق انتخاب مجلس بلدي، ورغما عن هذا النظام الديمقراطي، فقط كان شكليا أكثر منه فعليا، حيث كانت البلديات تخضع لضرائب مالية فادحة لصالح الحكومة المركزية، أما في خارج المدن، فقد كانت هناك مجالس قروية عرفها البربر قبل دخول الرومان بزمن طويل وكانت هذه المجالس في أيام الرومان تخضع لسلطة الحاكم الروماني عن طريق رؤساء يسميهم هذا الحاكم. وفي الواقع لم تتمتع لا المدن ولا القرى الخاضعة للرومان في المغرب بقوانين كافية تحدد حقوق ووجبات السكان المحليين الذين كانوا ينالون الحظوة من لدن السلطة تبعا لما يبدونه نحوها من إخلاص.
على أن المستعمرات الرومانية نالت من رعاية الرومان في عهد الأباطرة أكثر مما نالته في عهد الجمهوريين، فقد منح الأباطرة حق المواطنة لكثير من سكان المستعمرات خصوصا في عهد كلود الذي منح حق المواطنة جماعيا سكان الغال. إلا أن التاريخ لا يسجل شخصيات كثيرة من مواطني الشمال الإفريقي نالوا مناصب عالية في الحكومة المركزية، مع أن هذه المنطقة تحتل موقعا استراتيجيا هاما بالنسبة لروما.
ومن المؤكد أن المغرب لم يشهد تغييرا ملموسا في نظم الحكم البلدي إذا استثنينا بعض المدن، أما خارج المدن، فقد ظلت المجالس الجماعية والنظام القبلي معمولا به كذي قبل، ولم يفعل الرومان شيئا لتطوير هذا النظام.
أما معلوماتنا عن التنظيم العسكري بالمغرب وسائر الشمال الإفريقي، فهي أوسع من المعلومات التي تقدمها المراجع عن نظم الحكم الأهلي بهذه البلاد أيام الرومان.
وكان أول من انشأ جيشا نظاميا قارا، الإمبراطور أغسطس. وبلغ مجموع الجيش الروماني خلال القرن الثاني ما يناهز 350 ألفا، وكانت الإطارات العليا تتكون من الإيطاليين، ويتم الانخراط في الجيش تطوعا، ويحق للجندي الحصول على حق المواطنة الرومانية بمجرد انخراطه. غير أن نظام التطوع سمح لكثير من المقاطعات التي تمت رومنتها بالتخلي عن الانخراط في الجيش فقلت بذلك أهميته وضعف عدده.
ولم يكن الجيش في الشمال الإفريقي خاضعا لسلطة الحاكم، بل كان القائد العسكري يخضع مباشرة لسلطة الإمبراطور ابتداء من عهد كاليكولا. وفي المغرب على الخصوص كان الجيش النظامي يتألف من القوات المساعدة التي بلغ عددها 14 ألفا في عهد هادريان وثمانية آلاف في عهد طراخان. ولعبت سبتة دورا كبيرا كمركز لتجمع الجيوش الرومانية. وكانت الحاميات توزع على المدن والمراكز الستراتيجية.
وكانت القوات المساعدة تتشكل من السكان المحليين واللفيف الأجنبي الذي لا يتمتع أفراده بحقوق المواطنة وفيها فرسان ومشاة، أما القيادة العامة للجيش الإفريقي فكانت شرقي الجزائر بحيدرة ثم نقلت إلى تيبة فلمبيزيا.
وكان الجيش يتركز خصوصا في الحدود، ويتم تدريبه أيام السلم بواسطة المناورات العسكرية وإنشاء التحصينات التي لم تكن تكتسي أهمية كبيرة في المغرب إلا في مواقع خاصة كضفة أبي رقراق ومراكز بوهلو بين تازة وفاس. وما عدا ذلك، فإن الجيش يعمل في بناء الطرق والقناطر أيام السلم.
وكانت التحصينات تمتد من طرابلس إلى سواحل المحيط الأطلسي على طول التخوم الصحراوية. وكان الجند قارين في هذه المواقع. وكانت تعطاهم قطعة من الأرض يفلحونها لحسابهم الخاص حتى يشجعوا بذلك على الدفاع عن أرضهم وأسرهم وبالتالي عن المستعمرات الرومانية.
وكان الاهتمام بتحصين المدن بالغا، حيث تحاط بأسوار ضخمة وأبراج دفاعية. وكان من سياسة الأباطرة ابتداء من أغسطس أن لا تمتد حدود المملكة الرومانية أكثر مما كانت عليه، إذ كانت تنقلات الجيوش وبعهد المسافات يكلف الحكومة مصاريف باهضة. وقد عثر في لمبيزيا بالجزائر على خطاب ألقاه هادريان في جيشه بإفريقيا، ومما جاء فيه قوله: (لقد حفرتم خندقا في أرض صلبة، وبمجهودكم تمكنتم من تمهيدها وتسويتها. وعندما رضي قادتكم عن عملكم وعدتم إلى معسكركم بمنتهى السرعة تناولتم عن عجل طعامكم وبادرتم إلى أسلحتكم، ثم جريتم هاتفين نحو الفرسان تطاردونهم حتى ارجعتموهم معكم. إني لأهنئ قائدكم على تعليمكم هذه الأعمال التي هي صورة من صور المعارك وعلى تدريبكم الذي استحق ثنائي).
وقد أنشأ الرومان طرقا للمواصلات تبدأ من طنجة إلى ليكسوس (العرائش) ومن ثم تتفرع إلى طريقين أحدهما يمتد إلى باناسا وسلا من الداخل والثاني يمر عبر القصر الكبير إلى وليلي وطوكولوميدا (Tocolosida) وهناك طريق يصل بين طنجة وتمودا (تطوان) حيث كانت تمتد مجموعة من المراكز العسكرية وبينها مركز (Duga) الذي تدعى اليوم اطلاله بالبنيان، وهو في جبل وادراس.
2) الحياة الاجتماعية
من الصعب أن نعرف شيئا عن كثافة السكان في عهد الرومان، على أن المدن مهما بلغ من كبرها في الشمال الإفريقي لم تكن تتجاوز 40 ألفا، إذا استثنينا قرطاجنة. وكان سكان المدن في معظمهم فلاحين يشتغلون في الأراضي المجاورة للمدينة، ثم يروحون إلى مساكنهم مساء، على أن المهاجرين من الأقطار الخاضعة للاحتلال الروماني، كان بينهم سوريون وفينيقيون وعرب وغيرهم من العناصر. ومن البديهي أن يكون بينهم عدد من المهاجرين الإسبانيين نظرا لقرب شبه الجزيرة الإيبرية من المغرب.
وكانت المدن مجهزة أتم تجهيز، بحماماتها وفنادقها وأسواقها وغير ذلك من مرافق الحياة وكان الأغنياء يملكون القصور الفخمة التي كانت بدورها مجهزة بأفخر المرافق والأثاث. وبما أن الحياة العامة كانت تعتمد أكثر ما تعتمد على خدمة الأرض، فقد نعم السكان بفترات من الاستقرار تطول أو تقصر بحسب موقف الحكام وسياسة الحكومة. وقد أدخلت العوائد اللاتينية في حياة كثير من البربر القاطنين في موريطانيا الطنجية، إلا أن هذه العوائد قد اختفت بدخول الإسلام وكان السكان يشاركون في الاحتفالات الشعبية وفي مشاهدة الألعاب الرياضية والمصارعة التي كانت تجري في ميادين خاصة وقد شكل الفلاحون الكبار نوعا من المجتمع الارستقراطي بما كانوا يتوفرون عليه في المدن من قصور شامخة وحياة رغدة.
3) الحياة الاقتصادية
إذا كان اهتمام الرومان بالفلاحة يشكل أكبر حظ في الميدان الاقتصادي، فقد كانوا يهتمون كذلك باستغلال المناجم وإنشاء المصانع خصوصا معاصر الزيتون التي كان في وليلي عدد كبير منها كما تدل على ذلك الآثار الباقية هناك وقد أخذ البربر عن الرومان كثيرا من الوسائل الزراعية كغرس أشجار الزيتون وآلات الحرث والحصد ولاشك أن الامبراطورية الرومانية شهدت أحسن فترة من ازدهارها الاقتصادي في القرنين الأولين. وكانت المنتجات الزراعية الإفريقية تصدر في البواخر إلى إيطاليا إلى جانب الصوف والمواشي والمعادن.
على أن الفضل في رقي الرومان الفلاحي يرجع إلى القرطاجيين الذين سبقوهم في هذا الميدان إلى أن الرومان توسعوا في استغلال الأراضي الشاسعة وغرسوا الكروم وغابات الزيتون في مختلف أجزاء الشمال الإفريقي، وإن ناحية زرهون لتشهد بذلك الماضي الذي كان لمقاطعة وليلي في إنتاج الزيتون وعصره. وكان الزيتون يصدر إلى إيطاليا كما أن الحكومة كانت توزع الأراضي على الأهالي المحظوظين بالإضافة إلى الجنود النظاميين وتحتفظ بالأراضي التي تدخل في إطار الأملاك العامة، حيث تشغلها جمعيات أو شركات رأسمالية تكتريها بالمزايدة. أما المستنقعات أو (المرجات) وكذا الأراضي ذات الأعشاب البرية فكان يسمح باستغلالها لأول من احتلها من غير حق الحصول على ملكيتها، ومن الطبيعي أن يكون هذا النظام خاصا بالقسم الذي تحتله الدولة الرومانية وأما خارجه، فقد كان نظام الملكية الجماعية منتشرا في إطار الحياة القبلية.
أما نظام الري فكان متقنا، ولا يزال الأثر الروماني متجليا في المناطق الزراعية التي لم تأخذ بعد بطرق الري الحديثة. وهكذا كان ماء العيون والأنهار والأمطار يستغل عن طريق السواقي والمطافئ والنواعير وقد ساعد تعبيد الطرق على تسهيل المواصلات الداخلية. وكانت هناك مصانع متعددة في المدن لصهر الحديد وتكييفه ودبغ الجلود ونسج الملابس وصنع الأثاث وغير ذلك من لوازم الحياة وكمالياتها.
وكانت الطرق بين المدن تتوفر على فنادق لاستراحة المسافرين، كما كانت هناك نصب تبين المسافات وكان لدخول الجمل أثر كبير في تيسير أسباب النقل ورواج الحركة التجارية.
4) الحياة الدينية
دخلت المسيحية إلى المغرب عن طريق قرطاجنة، ولكنها لا تعرف بالضبط متى وكيف دخلت. وقد كانت اليهودية عرفت طريقها إلى المغرب في وقت مبكر من تاريخها، غير أن انتشار المسيحية في شمال إفريقيا بدأ خلال القرن الثاني، وكان معتنقوها من المدن خاصة، وقد كانت والدة القديس أغسطس بربرية، ويجهل التاريخ الطريقة التي تم بها اعتناق بعض البربر للمسيحية، ولكن المهم أن كثيرا من آلهة روما المعروفة قبل المسيحية ظلت إلى وقت طويل موضع تقديس في كثير من مدن الشمال الإفريقي إلى جانب بعض الآلهة التي كان يقدسها القرطاجنيون حتى أن بعض الكهنة من هؤلاء في القرن الثاني كانوا يلحون على أتباعهم في تقديم ذبائح من أبنائهم إلى الآلهة بعل مولوخ، مما أدى بالحاكم الروماني إلى مطاردتهم وصلبهم.
وقد شهدت موريطانيا الطنجية بدورها اضطهاد المسيحيين كما دلت على ذلك الحفريات بطنجة حيث تأكد من النقوش الأثرية أن مسيحيا يدعى مرسيل قتل سنة 298 وآخر يدعى كاسيان قتل حوالي 305م.
ولم تنتشر المسيحية في قسم كبير من مويطانيا الطنجية فحسب، بل تعدتها إلى باقي أجزاء المغرب كما تشهد بذلك حروب العرب ثم الأدارسة مع البربر. ومن غير شك كانت بعثات تبشيرية تنطلق من طنجة ووليلي غير القبائل البربرية حيث ثبت أن المسيحية بلغت ناحية الحوز عند المحيط الأطلسي.
وكانت تقام حفلات موسمية دينية لتقديس الأباطرة الذين كانت لهم سلطة سياسية وروحية حتى لقد كانت المجالس البلدية تبلغ جماعيا اعترافاتها للإمبراطور ولو في النطاق السياسي. ومع ذلك، فلا شيء يؤكد مطلقا أن موريطانيا الطنجية قد اعتنقت كلها المسيحية كما تخيل ذلك المؤرخ طيراس، حتى أن العرب عندما دخلوا إلى المغرب وجدوا الوثنية في جبال الريف وغمارة أقوى منها في أي مكان آخر، مع أن هذه المنطقة كانت داخلية من الوجهة السياسية ضمن حدود موريطانيا الطنجية.
وإذا فإن إفريقيا الشمالية قد عاشت فيها المسيحية جنبا لجنب مع اليهودية والوثنية، وكان إيمان كثير من البربر بالسحرة والمنجمين شديدا، وما شخصية الكاهنة في صدر الفتوح الإسلامية وشخصية حاميم المتنبي بعدها إلى بعض الأمثلة على النفوذ الذي تمتع به السحرة والمنجمون. كما اعتنق البربر كثيرا من الديانات الشرقية التي دخلت الشمال الإفريقي عن طريق قرطاجنة، حتى أن هذه المدينة نفسها قد استمر فيها تقديس الآلهة كالستيس إلى وقت متأخر جدا من الحكم الروماني لا من طرف الوثنيين فحسب، بل حتى من طرف بعض المسيحيين.
ولما كانت المسيحية قد انتشرت في الشمال الإفريقي. وكان للمذهب الكاثوليكي خصومه في أوربا وآسيا الجوبية على السواء، فإن النزاع المذهبي والطائفي قد دب إلى إفريقيا الشمالية نفسها، حتى لقد نشأ في نوميديا مذهب نسب إلى Calestis المتوفى سنة 355 وكل اتباع هذا المذهب يعتقدون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في تسيير شؤون القداس مما أحدث نزاعا خطيرا بين ضونا والكنيسة الرومانية، وأدى الأمر إلى اضطرابات دموية كان ضحاياها عدة أتباع لضونا الذين طردوا من الكنائس الكاثوليكية ورغما عن محاولة القديس أغسطس في وضع حد سلمي لهذا النزاع، فقد ظلت هناك مجموعة كبيرة من البربر الخاضعين للنفوذ الروماني ضد المسيحية بشهادة عدد من المؤرخين كبوسكي وبيلكران وكان يهود البربر من الذين يحرضون الوثنيين على الثورة ضد المسيحيين، وكان اليهود يدعون بدورهم للديانة اليهودية وقد كان مجيئهم إلى الشمال الإفريقي في هجرات متقطعة كانت أولاها صحبة الفينقيين .
والواقع أن اليهود تمكنوا من معايشة البربر المسالمين في أجزاء كثيرة من المغرب بل واستطاعوا أن يجلبوا إلى دينهم عددا من البربر الذين لا يزال أعقابهم يعيشون جبنا لجنب مع المسلمين في الأطلس وتافيلالت وغيرها. وكانوا يشكلون أحيانا دويلات مستقلة كما فعلوا في كورازا شمال تسوات حيث أنشأوا دولة استمرت إلى نهاية القرن الخامس عشر.
لم تكن تختلف مباني الرومان في المغرب عنها في باقي أجزاء الإمبراطورية من حيث الشكل العام وقد ترك الرومان بالمغرب آثارا يمكن اعتبارها قليلة بالنسبة للمدة التي استغرفها حكمهم في هذه البلاد ويمتاز الفن الروماني الإغريقي بكثرة صوره الجدرانية والتماثيل التي تزين أبواب المباني خصوصا الضخمة منها. وضمن الفن الروماني وجدت مجموعة من القناديل التي تزدان بصور حيوانية وغيرها. وتغطي الفسيفساء صحون المنازل مشتملة أحيانا على صور بشرية ونباتية وحيوانية.
وتمتاز الجدران بضخامتها ونقوشها النباتية. ومن أهم المدن التي تحتفظ بآثار رومانية:
1- طنجة: وقد كانت أكبر مدينة مغربية في عهد الرومان، إلا أن الآثار المتبقاة في هذا العهد قليلة، وقد شاهد البكري في القرن 11م عددا كبيرا منها.
وقد عثر على قناة كانت تمتد من مصب واد اليهود إلى المدينة حيث يستغل ماء هذا النهر لحاجيات السكان كما عثر على فسيفساء في الكنيسة الإسبانية وتمثل الشاعر ورفي (Orphée) وهناك وهو يغني بالناي وسط مجموعة من الحيوانات جملة أعمدة وتيجانها، بالإضافة إلى ضريح تعلوه قبة ويتوصل إليه بواسطة بئر ويشتمل الضريح على مجموعة من الأواني الطينية. ومن أهم الآثار المكتشفة فيما بين 1908 و 1909 مجموعة أخرى من القبور التي تعلوها صور نباتية ومناظر مختلفة بينها منظر جندي بين حصانين ويحمل في يده اليمنى سوطا وفي ساعده الأيسر ترسا وقد اكتشفت إحدى البعثات العلمية بعض النقوش الرومانية التي ترجع إلى عهود مختلفة وحماما عموميا في (عين الحمام) كما اكتشف كهف يدعى كهف الأصنام جنوب رأس سبارتل .
ومن المؤسف حقا أن لا نعرف بعد هذا ما يكفي عن حياة طنجة العمرانية أيام الرومان بيد أنه من المؤكد أن الحروب المتوالية التي عرفتها هذه المدينة، مع موقعها الستراتيجي كممر إلى جبل طارق والمحيط الأطلسي كل ذلك قد عرضها لخراب الغزاة، كما أن السكان المحليين لم يكونوا قد تشبعوا من الحضارة بما يكفي لمواصلة العناية بمخلفات الرومان وتجديدها. والظاهر أن المدن الرومانية هجرها السكان من تلقاء أنفسهم في ظروف غامضة وكانوا يبنون قريبا أو على أنقاضها مدنا جديدة ولكنها أقل روعة ومتانة من مباني الرومان. وعلى كل، فقد كان للحروب والزلازل وغيرها أثر في ضياع هذه الآثار.
2 – وليلي: تعطي صورتها الحالية نظرة حقيقية عما كانت عليه هذه المدينة التي كانت على أي حال دون طنجة أهمية وهي محاطة بسور يبلغ محيطه 2530م وقد بنيت بقربها بعض الأحياء في وقت متأخر من الحكم الروماني، وهي دون أحياء المدينة قيمة أثرية.
وتشتمل مبانيها على منازل وحمامات وسواقي، كما كان يوجد بها ساحة عمومية لتجمعات السكان (Forum) ومسرح ومسبح ودكاكين وأسواق. وقد وجد بها تمثال لهرقل وآخر يمثل كلبا منحوتا من البرنز، بالإضافة إلى معاصر الزيتون وأفران الخبز ومخازن لإيداع المنتجات الزراعية. ومن أهم آثار المدينة قوس النصر الذي يوجد بشرقه مجموعة من القصور التي ترجع إلى مطلع القرن الثاني م. وقد جلب الماء إلى المدينة من منحدرات زرهون عن طريق ساقية تستمد ماءها من عين قريبة من زرهون.
ويرجع الفضل في اكتشاف وتقديم المعلومات الأولى عن المدينة إلى شارل تيسو (Charles Tissot) ممثل فرنسا بطنجة الذي زار وليلي قبل سنة 1889م.
وقد جمعت كثيرا من القطع التي عثر عليها الباحثون الأثريون وضمت في متحف وليلي وبينها قطع من النقود وقطع من الرخام وتمثال الآلهة فيتوس والكلب البرونزي الذي اكتشف في أحد القصور.
وتقع المباني الرسمية في الساحة العمومية خصوصا الكنيسة الكبيرة التي كانت تعقد فيها جلسات القضاة والحكام وأعضاء المجلس البلدي. ويتجلى من بعض النقوش التي ترجع إلى سنة 196م أن الإمبراطور سيفير Septième Sévère قد زار المدينة وكانت زيارته مناسبة لتجميل الساحة أما قوس النصر فقد بني في القرن الثالث م لاستقبال كاراكالا (Caracalla) الإمبراطور الروماني الذي حكم بين 188-217م، وهو الذي منح حق المواطنة لجميع الأحرار في الإمبراطورية وكان بناء القوس على يد حاكم موريطانيا الطنجية آنذاك وهو مارك اور (Marc Aurèle Sébastène)
3 – سلا: كان موقعها مكان شالة الحالية ويرجع عهدها إلى القرطاجنيين الذين لم تكتشف حتى الساعة آثارهم بها، وحتى الرومان الذين يبدو أنهم جددوها لم يبق من آثارهم إلا شيء قليل جدا. وتقع المدينة في أقصى الحدود الجنوبية للمستعمرة الرومانية بالمغرب على أن موقعها الستراتيجي لا يمثل أهمية بالغة في الميدان الحربي حيث لا توجد جبال معينة تحميها وقد بدأ اكتشاف الأطلال الرومانية بها منذ سنة 1930 وأهمها الساحة العمومية وقوس النصر. أما المنازل التي عثر عليها شرقي الساحة العمومية فقد وقع تجديدها خصوصا في العصر المريني ويبلغ طول سورها 500م في عرض 300م. وكما يقول المؤرخ (Bline)
فإن المدينة قد أخذت اسمها من نهر أبي رقراق الذي كان يدعي سلا. من المحتمل أن يكون العكس وقد استعمر الرومان سلا في وقت مبكر من حكمهم لأي في مطلع القرن الأول، وقبل أن يبسطوا نفوذهم المباشر على ( موريطانيا الطنجية.)
وكان لقوس النصر ثلاثة أبواب كما اكتشفت بها آثار بعض الطرق، ومقبرة في المكان الذي بنيت به السفارة الفرنسية (الإقامة العامة) وعثر على أعمدة حجرية تدعم قناة كان يجري فيها الماء من عين بسلا (شالة) والظاهر أن اختيار موقع هذه المدينة كان من أجل هذه العين أو العيون التي كانت تتدفق مياهها هناك.
ومن مكتشفات تيسو صورة منقوشة تمثل يهوديا من أصل اسكندري، وكذا بعض الحلي، وأوان طينية وقد لعبت شالة دورا هاما في تاريخ البربر خصوصا في أيام الزناتيين حيث قطنها بنو يفرن، ولكن المرابطين خربوها في عهد يوسف ابن تاشفين، أما الموحدون فقد بنوا بها ثكنات ومستشفى شبيها بمستشفى مراكش وقصرا ومسجدا، بينما كانت أحياء سلا الحالية قد بدأت تتسكع كذلك في عهدهم إلا أن الحفريات لم تؤد إلى اكتشاف شيء من آثار الموحدين بشالة وتقول بعض الروايات القديمة أن بناء سلا يرجع إلى سنة 1500ق.م. وهذا يدل على أن الفنيقيين قد دخلوا إلى المغرب في هذا الزمن السحيق.
وإلى جانب هذه المدن الشهيرة توجد مدن أخرى من أهمها:
1) تمودا على مقربة من تطوان، والظاهر أنها بنيت على أنقاض مدينة قرطاجنة على أن اسم "تمودا" يرجع إلى العهد القرطاجني نفسه.
2) ياتاسا على ضفة واد سبو، وقد كانت ذات أهمية كبيرة، ولا تزال بعض أطلالها قائمة، ومن جملتها خرائب حمامات ومنازل. ولعلها كانت مدينة تجارية تباع فيها منتجات ناحية الغرب واكتشف فيها قطع من البرونز وآثار قصور أنيقة مما يدل على أن سكانها كان بينهم طبقة من الفلاحين الأرستقراطيين.
وفي عين المكان الذي أنشأ به الأدارسة مدينة البصرة كانت هناك مدينة تريمولا التي لا يفيدنا التاريخ عنها شيئا يستحق الذكر، وهناك مدينة تاموسيدا (Thamuside) التي تقع في الضفة العليا لسبو مقابل القنيطرة.
أما القيمة المعمارية للمباني الرومانية فتتجلي في تناسقها وملاءمتها للبيئة والمجتمع المحلي. وكانت المنازل تتكون في أغلب الأحيان من طابق واحد، ويستعمل في البناء الحجر المنحوت والجير والطين والغالب أن يستعمل الحجر أسفل البناء ثم يعلوه الآجر. أما المباني الرسمية فقلما يستعمل فيها غير الحجر، وتبلط الحجرات في منازل الأغنياء بالفسيفساء، أما منازل الطبقة الفقيرة فبالجبص والجير. ولا يعرف ما إذا كانت هذه الفسيفساء تصنع محليا أو تجلب من خارج المغرب.
وكان المنزل يحتوي على صحنين أحدهما صغير ينفذ منه إلى حجرات السكنى، ووراء المنزل الصحن الثاني الذي يوجد به الحمام ومعصرة الزيتون، ولهذا الصحن الثاني منفذ إلى الطريق.
وتكثر الزخرفة الهندسية إلى جانب الزخارف النباتية، ولا يوجد في الأولى تنوع يستحق الذكر ويرجح طيراس وهو خبير بالآثار المغربية، أن هذه الزخارف الهندسية من التأثير البربري المغربي والنوميذي (بالجزائر) وهكذا يتفاعل الفن البربري والروماني في مباني وليلي على الخصوص ولو أن أثر الثاني أقوى وأبرز.
أما النحت فيبدو فيه الطابع الاسكندري (اليوناني) فيما يخص التماثيل، كما تشاهد في الكلب البرونزي وتمثال الشيخ الأجرد بوليلي، وبعض قطع الأثاث ببناسا.
وقد تأثر الفن المغربي ولاشك بالفن الروماني والبيزنطي فيما يخص هندسة الحصون والأسوار بل حتى في بعض أنواع الزخارف النباتية التي استمدها مباشرة أو عن طريق أمويي الأندلس الذين نقلوا الفن البيزنطي إلى هذه البلاد.
5) الحياة الفكرية
أجمع الذين أرخوا من الإفرنج لحياة سكان موريطانيا الطنجية، على أن اللغة اللاتينية قد انتشرت انتشارا واسعا بين البربر، وإذا كان هذا أمرا طبيعيا في بلد استمر الاحتلال الروماني فيه عدة قرون، فإن الأثر اللغوي اللاتيني لم يكتب الصمود له أمام اكتساح اللغة العربية التي بدأت اللاتينية تختفي لحسابها بمجرد العقود الأولى للفتح الإسلامي. ومهما يكن من شيء فإن انتشار اللغة اللاتينية بين البرير يدل على تقبلهم للحضارة وأسبابها. ولكن المغرب لم ينتج من المفكرين البارزين في عهد الرومان أحدا أو على الأقل من الذين انتجوا في حقل الفكر شيئا مشرقا. وعلى العكس من ذلك عد الفتح الإسلامي ببضعة عقود حيث ظهر علماء بارزون من البربر، والظاهر أن الثقافة اللاتينية تركزت على الخصوص في قرطاجنة لقربها من إيطاليا، ولأنها كانت في إقريقيا الشمالية بمثابة الحارس لهذه المنطقة ومنفذا سياسيا لها. وعلى كل، فإن المدن الرومانية بالمغرب لم تكن تخلو من نشاط ثقافي، بدليل المسارح التي عثر عليها.
ومن المعلوم أن اللغة البونيقية ظلت تكتب أحيانا إلى جانب اللغة اللاتينية كما أثبتت ذلك الحفريات. هذا إلى أنها ظلت لغة التعامل لدى بعض السكان إلى وقت متأخر من حكم الرومان.
وأهم أثر تركته اللغة الرومانية، في أسماء الشهور الفلاحية سواء بالبربرية أو العربية، وكذلك في بعض المصطلحات الفلاحية.
* دعوة الحق - ع/66
لم تكن روما راغبة في فتح الشمال الإفريقي على ما يظهر، لولا منافسة قرطاجة، ثم خوفها من تكرار الهجوم على سواحل إيطاليا كما فعل هانيبال الذي غزا الرومان في عقر دارهم. وقد استغرق الحكم الروماني المباشر زمنا طويلا من الاحتلال الروماني. وقد تقدم أن موريطانيا الطنجية أصبحت خاضعة من الوجهة الإدارية لاسقفية إسبانيا ابتداء من عهد دوليكتيان (285-305م)، ومعنى ذلك أن هذه المنطقة لم تعد تنال من رعاية الأباطرة ما نالته إفريقية التي كان حاكمها دائما تابعا للإمبراطورية مباشرة. وحتى خلال هذا الحكم المباشر نعمت موريطانيا الطنجية بنوع من الاستقلال الذاتي، وكان الحكم الداخلي يقوم على نظام البلديات الكبرى، إذ كانت المدينة في النظام الروماني تلعب دورا عظيما في الحياة البشرية. وأشهر المدن التي حظيت في موريطانيا الطنجية باهتمام الرومان هي طنجة ووليلي. ولسوء الحظ، فإن الآثار الرومانية التي عثر عليها في طنجة قليلة، إذ في دراسة هذه الآثار ما يساعد كثيرا على التعرف على نظام الحكم بهذه المنطقة من خلال المباني الإدارية والمراكز العسكرية وغير ذلك.
وقد كانت المنطقة تعتبر مستعمرة رومانية إذا حظي أهلها بحقوق المواطنة الرومانية ومن ثم تحظى هذه المستعمرة أو المدينة بالاستقلال الذاتي عن طريق انتخاب مجلس بلدي، ورغما عن هذا النظام الديمقراطي، فقط كان شكليا أكثر منه فعليا، حيث كانت البلديات تخضع لضرائب مالية فادحة لصالح الحكومة المركزية، أما في خارج المدن، فقد كانت هناك مجالس قروية عرفها البربر قبل دخول الرومان بزمن طويل وكانت هذه المجالس في أيام الرومان تخضع لسلطة الحاكم الروماني عن طريق رؤساء يسميهم هذا الحاكم. وفي الواقع لم تتمتع لا المدن ولا القرى الخاضعة للرومان في المغرب بقوانين كافية تحدد حقوق ووجبات السكان المحليين الذين كانوا ينالون الحظوة من لدن السلطة تبعا لما يبدونه نحوها من إخلاص.
على أن المستعمرات الرومانية نالت من رعاية الرومان في عهد الأباطرة أكثر مما نالته في عهد الجمهوريين، فقد منح الأباطرة حق المواطنة لكثير من سكان المستعمرات خصوصا في عهد كلود الذي منح حق المواطنة جماعيا سكان الغال. إلا أن التاريخ لا يسجل شخصيات كثيرة من مواطني الشمال الإفريقي نالوا مناصب عالية في الحكومة المركزية، مع أن هذه المنطقة تحتل موقعا استراتيجيا هاما بالنسبة لروما.
ومن المؤكد أن المغرب لم يشهد تغييرا ملموسا في نظم الحكم البلدي إذا استثنينا بعض المدن، أما خارج المدن، فقد ظلت المجالس الجماعية والنظام القبلي معمولا به كذي قبل، ولم يفعل الرومان شيئا لتطوير هذا النظام.
أما معلوماتنا عن التنظيم العسكري بالمغرب وسائر الشمال الإفريقي، فهي أوسع من المعلومات التي تقدمها المراجع عن نظم الحكم الأهلي بهذه البلاد أيام الرومان.
وكان أول من انشأ جيشا نظاميا قارا، الإمبراطور أغسطس. وبلغ مجموع الجيش الروماني خلال القرن الثاني ما يناهز 350 ألفا، وكانت الإطارات العليا تتكون من الإيطاليين، ويتم الانخراط في الجيش تطوعا، ويحق للجندي الحصول على حق المواطنة الرومانية بمجرد انخراطه. غير أن نظام التطوع سمح لكثير من المقاطعات التي تمت رومنتها بالتخلي عن الانخراط في الجيش فقلت بذلك أهميته وضعف عدده.
ولم يكن الجيش في الشمال الإفريقي خاضعا لسلطة الحاكم، بل كان القائد العسكري يخضع مباشرة لسلطة الإمبراطور ابتداء من عهد كاليكولا. وفي المغرب على الخصوص كان الجيش النظامي يتألف من القوات المساعدة التي بلغ عددها 14 ألفا في عهد هادريان وثمانية آلاف في عهد طراخان. ولعبت سبتة دورا كبيرا كمركز لتجمع الجيوش الرومانية. وكانت الحاميات توزع على المدن والمراكز الستراتيجية.
وكانت القوات المساعدة تتشكل من السكان المحليين واللفيف الأجنبي الذي لا يتمتع أفراده بحقوق المواطنة وفيها فرسان ومشاة، أما القيادة العامة للجيش الإفريقي فكانت شرقي الجزائر بحيدرة ثم نقلت إلى تيبة فلمبيزيا.
وكان الجيش يتركز خصوصا في الحدود، ويتم تدريبه أيام السلم بواسطة المناورات العسكرية وإنشاء التحصينات التي لم تكن تكتسي أهمية كبيرة في المغرب إلا في مواقع خاصة كضفة أبي رقراق ومراكز بوهلو بين تازة وفاس. وما عدا ذلك، فإن الجيش يعمل في بناء الطرق والقناطر أيام السلم.
وكانت التحصينات تمتد من طرابلس إلى سواحل المحيط الأطلسي على طول التخوم الصحراوية. وكان الجند قارين في هذه المواقع. وكانت تعطاهم قطعة من الأرض يفلحونها لحسابهم الخاص حتى يشجعوا بذلك على الدفاع عن أرضهم وأسرهم وبالتالي عن المستعمرات الرومانية.
وكان الاهتمام بتحصين المدن بالغا، حيث تحاط بأسوار ضخمة وأبراج دفاعية. وكان من سياسة الأباطرة ابتداء من أغسطس أن لا تمتد حدود المملكة الرومانية أكثر مما كانت عليه، إذ كانت تنقلات الجيوش وبعهد المسافات يكلف الحكومة مصاريف باهضة. وقد عثر في لمبيزيا بالجزائر على خطاب ألقاه هادريان في جيشه بإفريقيا، ومما جاء فيه قوله: (لقد حفرتم خندقا في أرض صلبة، وبمجهودكم تمكنتم من تمهيدها وتسويتها. وعندما رضي قادتكم عن عملكم وعدتم إلى معسكركم بمنتهى السرعة تناولتم عن عجل طعامكم وبادرتم إلى أسلحتكم، ثم جريتم هاتفين نحو الفرسان تطاردونهم حتى ارجعتموهم معكم. إني لأهنئ قائدكم على تعليمكم هذه الأعمال التي هي صورة من صور المعارك وعلى تدريبكم الذي استحق ثنائي).
وقد أنشأ الرومان طرقا للمواصلات تبدأ من طنجة إلى ليكسوس (العرائش) ومن ثم تتفرع إلى طريقين أحدهما يمتد إلى باناسا وسلا من الداخل والثاني يمر عبر القصر الكبير إلى وليلي وطوكولوميدا (Tocolosida) وهناك طريق يصل بين طنجة وتمودا (تطوان) حيث كانت تمتد مجموعة من المراكز العسكرية وبينها مركز (Duga) الذي تدعى اليوم اطلاله بالبنيان، وهو في جبل وادراس.
2) الحياة الاجتماعية
من الصعب أن نعرف شيئا عن كثافة السكان في عهد الرومان، على أن المدن مهما بلغ من كبرها في الشمال الإفريقي لم تكن تتجاوز 40 ألفا، إذا استثنينا قرطاجنة. وكان سكان المدن في معظمهم فلاحين يشتغلون في الأراضي المجاورة للمدينة، ثم يروحون إلى مساكنهم مساء، على أن المهاجرين من الأقطار الخاضعة للاحتلال الروماني، كان بينهم سوريون وفينيقيون وعرب وغيرهم من العناصر. ومن البديهي أن يكون بينهم عدد من المهاجرين الإسبانيين نظرا لقرب شبه الجزيرة الإيبرية من المغرب.
وكانت المدن مجهزة أتم تجهيز، بحماماتها وفنادقها وأسواقها وغير ذلك من مرافق الحياة وكان الأغنياء يملكون القصور الفخمة التي كانت بدورها مجهزة بأفخر المرافق والأثاث. وبما أن الحياة العامة كانت تعتمد أكثر ما تعتمد على خدمة الأرض، فقد نعم السكان بفترات من الاستقرار تطول أو تقصر بحسب موقف الحكام وسياسة الحكومة. وقد أدخلت العوائد اللاتينية في حياة كثير من البربر القاطنين في موريطانيا الطنجية، إلا أن هذه العوائد قد اختفت بدخول الإسلام وكان السكان يشاركون في الاحتفالات الشعبية وفي مشاهدة الألعاب الرياضية والمصارعة التي كانت تجري في ميادين خاصة وقد شكل الفلاحون الكبار نوعا من المجتمع الارستقراطي بما كانوا يتوفرون عليه في المدن من قصور شامخة وحياة رغدة.
3) الحياة الاقتصادية
إذا كان اهتمام الرومان بالفلاحة يشكل أكبر حظ في الميدان الاقتصادي، فقد كانوا يهتمون كذلك باستغلال المناجم وإنشاء المصانع خصوصا معاصر الزيتون التي كان في وليلي عدد كبير منها كما تدل على ذلك الآثار الباقية هناك وقد أخذ البربر عن الرومان كثيرا من الوسائل الزراعية كغرس أشجار الزيتون وآلات الحرث والحصد ولاشك أن الامبراطورية الرومانية شهدت أحسن فترة من ازدهارها الاقتصادي في القرنين الأولين. وكانت المنتجات الزراعية الإفريقية تصدر في البواخر إلى إيطاليا إلى جانب الصوف والمواشي والمعادن.
على أن الفضل في رقي الرومان الفلاحي يرجع إلى القرطاجيين الذين سبقوهم في هذا الميدان إلى أن الرومان توسعوا في استغلال الأراضي الشاسعة وغرسوا الكروم وغابات الزيتون في مختلف أجزاء الشمال الإفريقي، وإن ناحية زرهون لتشهد بذلك الماضي الذي كان لمقاطعة وليلي في إنتاج الزيتون وعصره. وكان الزيتون يصدر إلى إيطاليا كما أن الحكومة كانت توزع الأراضي على الأهالي المحظوظين بالإضافة إلى الجنود النظاميين وتحتفظ بالأراضي التي تدخل في إطار الأملاك العامة، حيث تشغلها جمعيات أو شركات رأسمالية تكتريها بالمزايدة. أما المستنقعات أو (المرجات) وكذا الأراضي ذات الأعشاب البرية فكان يسمح باستغلالها لأول من احتلها من غير حق الحصول على ملكيتها، ومن الطبيعي أن يكون هذا النظام خاصا بالقسم الذي تحتله الدولة الرومانية وأما خارجه، فقد كان نظام الملكية الجماعية منتشرا في إطار الحياة القبلية.
أما نظام الري فكان متقنا، ولا يزال الأثر الروماني متجليا في المناطق الزراعية التي لم تأخذ بعد بطرق الري الحديثة. وهكذا كان ماء العيون والأنهار والأمطار يستغل عن طريق السواقي والمطافئ والنواعير وقد ساعد تعبيد الطرق على تسهيل المواصلات الداخلية. وكانت هناك مصانع متعددة في المدن لصهر الحديد وتكييفه ودبغ الجلود ونسج الملابس وصنع الأثاث وغير ذلك من لوازم الحياة وكمالياتها.
وكانت الطرق بين المدن تتوفر على فنادق لاستراحة المسافرين، كما كانت هناك نصب تبين المسافات وكان لدخول الجمل أثر كبير في تيسير أسباب النقل ورواج الحركة التجارية.
4) الحياة الدينية
دخلت المسيحية إلى المغرب عن طريق قرطاجنة، ولكنها لا تعرف بالضبط متى وكيف دخلت. وقد كانت اليهودية عرفت طريقها إلى المغرب في وقت مبكر من تاريخها، غير أن انتشار المسيحية في شمال إفريقيا بدأ خلال القرن الثاني، وكان معتنقوها من المدن خاصة، وقد كانت والدة القديس أغسطس بربرية، ويجهل التاريخ الطريقة التي تم بها اعتناق بعض البربر للمسيحية، ولكن المهم أن كثيرا من آلهة روما المعروفة قبل المسيحية ظلت إلى وقت طويل موضع تقديس في كثير من مدن الشمال الإفريقي إلى جانب بعض الآلهة التي كان يقدسها القرطاجنيون حتى أن بعض الكهنة من هؤلاء في القرن الثاني كانوا يلحون على أتباعهم في تقديم ذبائح من أبنائهم إلى الآلهة بعل مولوخ، مما أدى بالحاكم الروماني إلى مطاردتهم وصلبهم.
وقد شهدت موريطانيا الطنجية بدورها اضطهاد المسيحيين كما دلت على ذلك الحفريات بطنجة حيث تأكد من النقوش الأثرية أن مسيحيا يدعى مرسيل قتل سنة 298 وآخر يدعى كاسيان قتل حوالي 305م.
ولم تنتشر المسيحية في قسم كبير من مويطانيا الطنجية فحسب، بل تعدتها إلى باقي أجزاء المغرب كما تشهد بذلك حروب العرب ثم الأدارسة مع البربر. ومن غير شك كانت بعثات تبشيرية تنطلق من طنجة ووليلي غير القبائل البربرية حيث ثبت أن المسيحية بلغت ناحية الحوز عند المحيط الأطلسي.
وكانت تقام حفلات موسمية دينية لتقديس الأباطرة الذين كانت لهم سلطة سياسية وروحية حتى لقد كانت المجالس البلدية تبلغ جماعيا اعترافاتها للإمبراطور ولو في النطاق السياسي. ومع ذلك، فلا شيء يؤكد مطلقا أن موريطانيا الطنجية قد اعتنقت كلها المسيحية كما تخيل ذلك المؤرخ طيراس، حتى أن العرب عندما دخلوا إلى المغرب وجدوا الوثنية في جبال الريف وغمارة أقوى منها في أي مكان آخر، مع أن هذه المنطقة كانت داخلية من الوجهة السياسية ضمن حدود موريطانيا الطنجية.
وإذا فإن إفريقيا الشمالية قد عاشت فيها المسيحية جنبا لجنب مع اليهودية والوثنية، وكان إيمان كثير من البربر بالسحرة والمنجمين شديدا، وما شخصية الكاهنة في صدر الفتوح الإسلامية وشخصية حاميم المتنبي بعدها إلى بعض الأمثلة على النفوذ الذي تمتع به السحرة والمنجمون. كما اعتنق البربر كثيرا من الديانات الشرقية التي دخلت الشمال الإفريقي عن طريق قرطاجنة، حتى أن هذه المدينة نفسها قد استمر فيها تقديس الآلهة كالستيس إلى وقت متأخر جدا من الحكم الروماني لا من طرف الوثنيين فحسب، بل حتى من طرف بعض المسيحيين.
ولما كانت المسيحية قد انتشرت في الشمال الإفريقي. وكان للمذهب الكاثوليكي خصومه في أوربا وآسيا الجوبية على السواء، فإن النزاع المذهبي والطائفي قد دب إلى إفريقيا الشمالية نفسها، حتى لقد نشأ في نوميديا مذهب نسب إلى Calestis المتوفى سنة 355 وكل اتباع هذا المذهب يعتقدون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في تسيير شؤون القداس مما أحدث نزاعا خطيرا بين ضونا والكنيسة الرومانية، وأدى الأمر إلى اضطرابات دموية كان ضحاياها عدة أتباع لضونا الذين طردوا من الكنائس الكاثوليكية ورغما عن محاولة القديس أغسطس في وضع حد سلمي لهذا النزاع، فقد ظلت هناك مجموعة كبيرة من البربر الخاضعين للنفوذ الروماني ضد المسيحية بشهادة عدد من المؤرخين كبوسكي وبيلكران وكان يهود البربر من الذين يحرضون الوثنيين على الثورة ضد المسيحيين، وكان اليهود يدعون بدورهم للديانة اليهودية وقد كان مجيئهم إلى الشمال الإفريقي في هجرات متقطعة كانت أولاها صحبة الفينقيين .
والواقع أن اليهود تمكنوا من معايشة البربر المسالمين في أجزاء كثيرة من المغرب بل واستطاعوا أن يجلبوا إلى دينهم عددا من البربر الذين لا يزال أعقابهم يعيشون جبنا لجنب مع المسلمين في الأطلس وتافيلالت وغيرها. وكانوا يشكلون أحيانا دويلات مستقلة كما فعلوا في كورازا شمال تسوات حيث أنشأوا دولة استمرت إلى نهاية القرن الخامس عشر.
لم تكن تختلف مباني الرومان في المغرب عنها في باقي أجزاء الإمبراطورية من حيث الشكل العام وقد ترك الرومان بالمغرب آثارا يمكن اعتبارها قليلة بالنسبة للمدة التي استغرفها حكمهم في هذه البلاد ويمتاز الفن الروماني الإغريقي بكثرة صوره الجدرانية والتماثيل التي تزين أبواب المباني خصوصا الضخمة منها. وضمن الفن الروماني وجدت مجموعة من القناديل التي تزدان بصور حيوانية وغيرها. وتغطي الفسيفساء صحون المنازل مشتملة أحيانا على صور بشرية ونباتية وحيوانية.
وتمتاز الجدران بضخامتها ونقوشها النباتية. ومن أهم المدن التي تحتفظ بآثار رومانية:
1- طنجة: وقد كانت أكبر مدينة مغربية في عهد الرومان، إلا أن الآثار المتبقاة في هذا العهد قليلة، وقد شاهد البكري في القرن 11م عددا كبيرا منها.
وقد عثر على قناة كانت تمتد من مصب واد اليهود إلى المدينة حيث يستغل ماء هذا النهر لحاجيات السكان كما عثر على فسيفساء في الكنيسة الإسبانية وتمثل الشاعر ورفي (Orphée) وهناك وهو يغني بالناي وسط مجموعة من الحيوانات جملة أعمدة وتيجانها، بالإضافة إلى ضريح تعلوه قبة ويتوصل إليه بواسطة بئر ويشتمل الضريح على مجموعة من الأواني الطينية. ومن أهم الآثار المكتشفة فيما بين 1908 و 1909 مجموعة أخرى من القبور التي تعلوها صور نباتية ومناظر مختلفة بينها منظر جندي بين حصانين ويحمل في يده اليمنى سوطا وفي ساعده الأيسر ترسا وقد اكتشفت إحدى البعثات العلمية بعض النقوش الرومانية التي ترجع إلى عهود مختلفة وحماما عموميا في (عين الحمام) كما اكتشف كهف يدعى كهف الأصنام جنوب رأس سبارتل .
ومن المؤسف حقا أن لا نعرف بعد هذا ما يكفي عن حياة طنجة العمرانية أيام الرومان بيد أنه من المؤكد أن الحروب المتوالية التي عرفتها هذه المدينة، مع موقعها الستراتيجي كممر إلى جبل طارق والمحيط الأطلسي كل ذلك قد عرضها لخراب الغزاة، كما أن السكان المحليين لم يكونوا قد تشبعوا من الحضارة بما يكفي لمواصلة العناية بمخلفات الرومان وتجديدها. والظاهر أن المدن الرومانية هجرها السكان من تلقاء أنفسهم في ظروف غامضة وكانوا يبنون قريبا أو على أنقاضها مدنا جديدة ولكنها أقل روعة ومتانة من مباني الرومان. وعلى كل، فقد كان للحروب والزلازل وغيرها أثر في ضياع هذه الآثار.
2 – وليلي: تعطي صورتها الحالية نظرة حقيقية عما كانت عليه هذه المدينة التي كانت على أي حال دون طنجة أهمية وهي محاطة بسور يبلغ محيطه 2530م وقد بنيت بقربها بعض الأحياء في وقت متأخر من الحكم الروماني، وهي دون أحياء المدينة قيمة أثرية.
وتشتمل مبانيها على منازل وحمامات وسواقي، كما كان يوجد بها ساحة عمومية لتجمعات السكان (Forum) ومسرح ومسبح ودكاكين وأسواق. وقد وجد بها تمثال لهرقل وآخر يمثل كلبا منحوتا من البرنز، بالإضافة إلى معاصر الزيتون وأفران الخبز ومخازن لإيداع المنتجات الزراعية. ومن أهم آثار المدينة قوس النصر الذي يوجد بشرقه مجموعة من القصور التي ترجع إلى مطلع القرن الثاني م. وقد جلب الماء إلى المدينة من منحدرات زرهون عن طريق ساقية تستمد ماءها من عين قريبة من زرهون.
ويرجع الفضل في اكتشاف وتقديم المعلومات الأولى عن المدينة إلى شارل تيسو (Charles Tissot) ممثل فرنسا بطنجة الذي زار وليلي قبل سنة 1889م.
وقد جمعت كثيرا من القطع التي عثر عليها الباحثون الأثريون وضمت في متحف وليلي وبينها قطع من النقود وقطع من الرخام وتمثال الآلهة فيتوس والكلب البرونزي الذي اكتشف في أحد القصور.
وتقع المباني الرسمية في الساحة العمومية خصوصا الكنيسة الكبيرة التي كانت تعقد فيها جلسات القضاة والحكام وأعضاء المجلس البلدي. ويتجلى من بعض النقوش التي ترجع إلى سنة 196م أن الإمبراطور سيفير Septième Sévère قد زار المدينة وكانت زيارته مناسبة لتجميل الساحة أما قوس النصر فقد بني في القرن الثالث م لاستقبال كاراكالا (Caracalla) الإمبراطور الروماني الذي حكم بين 188-217م، وهو الذي منح حق المواطنة لجميع الأحرار في الإمبراطورية وكان بناء القوس على يد حاكم موريطانيا الطنجية آنذاك وهو مارك اور (Marc Aurèle Sébastène)
3 – سلا: كان موقعها مكان شالة الحالية ويرجع عهدها إلى القرطاجنيين الذين لم تكتشف حتى الساعة آثارهم بها، وحتى الرومان الذين يبدو أنهم جددوها لم يبق من آثارهم إلا شيء قليل جدا. وتقع المدينة في أقصى الحدود الجنوبية للمستعمرة الرومانية بالمغرب على أن موقعها الستراتيجي لا يمثل أهمية بالغة في الميدان الحربي حيث لا توجد جبال معينة تحميها وقد بدأ اكتشاف الأطلال الرومانية بها منذ سنة 1930 وأهمها الساحة العمومية وقوس النصر. أما المنازل التي عثر عليها شرقي الساحة العمومية فقد وقع تجديدها خصوصا في العصر المريني ويبلغ طول سورها 500م في عرض 300م. وكما يقول المؤرخ (Bline)
فإن المدينة قد أخذت اسمها من نهر أبي رقراق الذي كان يدعي سلا. من المحتمل أن يكون العكس وقد استعمر الرومان سلا في وقت مبكر من حكمهم لأي في مطلع القرن الأول، وقبل أن يبسطوا نفوذهم المباشر على ( موريطانيا الطنجية.)
وكان لقوس النصر ثلاثة أبواب كما اكتشفت بها آثار بعض الطرق، ومقبرة في المكان الذي بنيت به السفارة الفرنسية (الإقامة العامة) وعثر على أعمدة حجرية تدعم قناة كان يجري فيها الماء من عين بسلا (شالة) والظاهر أن اختيار موقع هذه المدينة كان من أجل هذه العين أو العيون التي كانت تتدفق مياهها هناك.
ومن مكتشفات تيسو صورة منقوشة تمثل يهوديا من أصل اسكندري، وكذا بعض الحلي، وأوان طينية وقد لعبت شالة دورا هاما في تاريخ البربر خصوصا في أيام الزناتيين حيث قطنها بنو يفرن، ولكن المرابطين خربوها في عهد يوسف ابن تاشفين، أما الموحدون فقد بنوا بها ثكنات ومستشفى شبيها بمستشفى مراكش وقصرا ومسجدا، بينما كانت أحياء سلا الحالية قد بدأت تتسكع كذلك في عهدهم إلا أن الحفريات لم تؤد إلى اكتشاف شيء من آثار الموحدين بشالة وتقول بعض الروايات القديمة أن بناء سلا يرجع إلى سنة 1500ق.م. وهذا يدل على أن الفنيقيين قد دخلوا إلى المغرب في هذا الزمن السحيق.
وإلى جانب هذه المدن الشهيرة توجد مدن أخرى من أهمها:
1) تمودا على مقربة من تطوان، والظاهر أنها بنيت على أنقاض مدينة قرطاجنة على أن اسم "تمودا" يرجع إلى العهد القرطاجني نفسه.
2) ياتاسا على ضفة واد سبو، وقد كانت ذات أهمية كبيرة، ولا تزال بعض أطلالها قائمة، ومن جملتها خرائب حمامات ومنازل. ولعلها كانت مدينة تجارية تباع فيها منتجات ناحية الغرب واكتشف فيها قطع من البرونز وآثار قصور أنيقة مما يدل على أن سكانها كان بينهم طبقة من الفلاحين الأرستقراطيين.
وفي عين المكان الذي أنشأ به الأدارسة مدينة البصرة كانت هناك مدينة تريمولا التي لا يفيدنا التاريخ عنها شيئا يستحق الذكر، وهناك مدينة تاموسيدا (Thamuside) التي تقع في الضفة العليا لسبو مقابل القنيطرة.
أما القيمة المعمارية للمباني الرومانية فتتجلي في تناسقها وملاءمتها للبيئة والمجتمع المحلي. وكانت المنازل تتكون في أغلب الأحيان من طابق واحد، ويستعمل في البناء الحجر المنحوت والجير والطين والغالب أن يستعمل الحجر أسفل البناء ثم يعلوه الآجر. أما المباني الرسمية فقلما يستعمل فيها غير الحجر، وتبلط الحجرات في منازل الأغنياء بالفسيفساء، أما منازل الطبقة الفقيرة فبالجبص والجير. ولا يعرف ما إذا كانت هذه الفسيفساء تصنع محليا أو تجلب من خارج المغرب.
وكان المنزل يحتوي على صحنين أحدهما صغير ينفذ منه إلى حجرات السكنى، ووراء المنزل الصحن الثاني الذي يوجد به الحمام ومعصرة الزيتون، ولهذا الصحن الثاني منفذ إلى الطريق.
وتكثر الزخرفة الهندسية إلى جانب الزخارف النباتية، ولا يوجد في الأولى تنوع يستحق الذكر ويرجح طيراس وهو خبير بالآثار المغربية، أن هذه الزخارف الهندسية من التأثير البربري المغربي والنوميذي (بالجزائر) وهكذا يتفاعل الفن البربري والروماني في مباني وليلي على الخصوص ولو أن أثر الثاني أقوى وأبرز.
أما النحت فيبدو فيه الطابع الاسكندري (اليوناني) فيما يخص التماثيل، كما تشاهد في الكلب البرونزي وتمثال الشيخ الأجرد بوليلي، وبعض قطع الأثاث ببناسا.
وقد تأثر الفن المغربي ولاشك بالفن الروماني والبيزنطي فيما يخص هندسة الحصون والأسوار بل حتى في بعض أنواع الزخارف النباتية التي استمدها مباشرة أو عن طريق أمويي الأندلس الذين نقلوا الفن البيزنطي إلى هذه البلاد.
5) الحياة الفكرية
أجمع الذين أرخوا من الإفرنج لحياة سكان موريطانيا الطنجية، على أن اللغة اللاتينية قد انتشرت انتشارا واسعا بين البربر، وإذا كان هذا أمرا طبيعيا في بلد استمر الاحتلال الروماني فيه عدة قرون، فإن الأثر اللغوي اللاتيني لم يكتب الصمود له أمام اكتساح اللغة العربية التي بدأت اللاتينية تختفي لحسابها بمجرد العقود الأولى للفتح الإسلامي. ومهما يكن من شيء فإن انتشار اللغة اللاتينية بين البرير يدل على تقبلهم للحضارة وأسبابها. ولكن المغرب لم ينتج من المفكرين البارزين في عهد الرومان أحدا أو على الأقل من الذين انتجوا في حقل الفكر شيئا مشرقا. وعلى العكس من ذلك عد الفتح الإسلامي ببضعة عقود حيث ظهر علماء بارزون من البربر، والظاهر أن الثقافة اللاتينية تركزت على الخصوص في قرطاجنة لقربها من إيطاليا، ولأنها كانت في إقريقيا الشمالية بمثابة الحارس لهذه المنطقة ومنفذا سياسيا لها. وعلى كل، فإن المدن الرومانية بالمغرب لم تكن تخلو من نشاط ثقافي، بدليل المسارح التي عثر عليها.
ومن المعلوم أن اللغة البونيقية ظلت تكتب أحيانا إلى جانب اللغة اللاتينية كما أثبتت ذلك الحفريات. هذا إلى أنها ظلت لغة التعامل لدى بعض السكان إلى وقت متأخر من حكم الرومان.
وأهم أثر تركته اللغة الرومانية، في أسماء الشهور الفلاحية سواء بالبربرية أو العربية، وكذلك في بعض المصطلحات الفلاحية.
* دعوة الحق - ع/66